قبل أسبوعين، احتفلت جنوب إفريقيا بالذكرى السنوية العشرين
لإطلاق سراح الزعيم
الأسود نيلسون مانديلا من المعتقل، بإقامة الاحتفالات في مختلف مناطق البلاد… وأمس تم تشييع مجيد
مرهون، الذي اشتهر بـ «مانديلا البحرين»، لطول مكثه في السجن.
إطلاق سراح مانديلا كان خطوة مهمة على طريق إنهاء نظام الفصل العنصري
(الأبارتهايد) في جنوب إفريقيا، وقد أصبح
أحد أيقونات النضال ضد العنصرية والظلم الذي يمارسه
الإنسان ضد أخيه الإنسان. فالرجل الأبيض الذي فرّ بدينه من مذابح أوروبا العنصرية قبل
ثلاثة قرون، أقام دولة
تميّزه عن الأفارقة السود، ولاحقا ضد الملونين الذين جاء
بهم من شبه القارة الهندية. واستمر النضال المدني طوال
قرن كامل، حتى سادت القناعة لدى البيض بضرورة تغيّر هذا النظام العنصري الشاذ، باتجاهٍ
أكثر إنسانية وعدلا.
كان النظام العنصري دولة نووية، تسندها كل القوى الكبرى التي تساند «إسرائيل» اليوم، ولم
يثنِ ذلك الأفارقة عن استمرار المسيرة الطويلة المطالِبة بالتغيير. ولعلنا نتذكّر أن المهاتما غاندي
إنما تلقى أول دروس
مقاومة الظلم في جنوب أفريقيا، بعدما تعرّض إلى مواقف
مهينة، غيّرت مجرى حياته، ليتحوّل ذلك المحامي الفاشل،
إلى زعيم الحركة المناهضة للاحتلال البريطاني، حتى نالت بلاده الاستقلال.
مانديلا كان أحد النشطاء الذين قاوموا التفرقة العنصرية، وكانت تراودهم أحلام العدل والإنصاف والمساواة، وحُكم عليه بالسجن
المؤبّد العام 1964، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم. وقضى أغلب سنوات سجنه في جزيرة «روبن»، التي أصبحت
محجّا للزوار، وأصبحت
زنزانته الصغيرة رمزا ترفرف عليه نسمات الكرامة والشموخ.
في 11 فبراير/
شباط 1990 أطلق سراحه تحت ضغوط محلية ودولية، بعدما تخلى عن
دعم النظام حلفاؤه حتى الإنجليز والأميركان. وفي العام
1994 انتخب رئيسا لجنوب إفريقيا، وقاد بلاده على طريق المصالحة مع الذات. لم يظلم
ظالميه، ولم
يفكّر بمنطق الثأر، شأن النفوس الكبيرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولقي ذلك صدى عالميا، وكُرّم بمنحه جائزة نوبل
للسلام.
في الذكرى العشرين
لإطلاقه، وقد بلغ سن الحادية والتسعين، احتفل مع عددٍ من
أصدقائه القدامى الذين قضوا زهرة شبابهم في السجون ضد الظلم والعنصرية والاضطهاد. ودعا
إلى حفل العشاء زوجته
السابقة ويني، وابنته زيندي، وحارسه الأبيض الذي أقام معه
علاقة سوية عزّزت من رؤيته الإنسانية الناضجة.
في الاحتفال الأخير،
قال مانديلا إنه يشعر بأنه يكبر، ولكنه ليس خائفا… ومن
حقّه ألا يخاف بعد أن ترك بلدا متحرّرا من العقد، يسير على نهج سياسي آمنٍ وسليم. وفي السنوات السابقة قبل رحيله، كلما شاهد
والدي (ره) مانديلا على التلفزيون، قال بعفوية: «مسكين مانديلا، سجنوه 27 سنة»، فقد كان يحبّه كثيرا. ولم
يكن مسكينا، فقد عاش
حرا، وأنجز الحرية لشعبه ببيضه وسوده وملونيه، والمساكين
من يؤمنون أنهم عبيد، ويجب أن يبقوا عبيدا.
أمس رحل مانديلا البحرين،
السجين اليساري مجيد حميد مرهون، الذي حُكم بالمؤبد أيام
الاستعمار البريطاني،
بعد إدانته بمحاولة اغتيال أحد رجال الحامية البريطانية. وظل
يتقلب بين السجون من جزيرة جدا حتى انتهى إلى سجن «جو»
جنوب البحرين، حيث ألف الكثير من المعزوفات الموسيقية، التي نالت تقديرا دوليا في الخارج، بينما ظل يحمل لقب «سجين سابق» في بلادٍ
لا تسقي أو تكرّم غير الغريب.
الوسط 24 فبراير 2010