لا يتأسس تحالف ما، ناهيك عن كتلة ديمقراطية بأفق استراتيجي كالتي ندعو اليها، دون برنامج سياسي – اجتماعي واضح، وإلا فسيكون كل هذا الحديث ضرباً من العبث، أو في أحسن الأحوال حلماً رومانسياً، لكنه لا يملك حظاً في أن يكون واقعاً.
صحيح أن الكتلة الديمقراطية المنشودة هي أوسع من التنظيمات الثلاثة التي جرى عنها الحديث في الحلقات السابقة والتي بينا الأسباب الموضوعية التي تجعل منها نقطة الارتكاز الرئيسية لهذه الكتلة، التي يجب أن تتسع لكافة التكوينات ذات الأفق الوطني – الديمقراطي، من قوى وشخصيات.
ولكن ذلك لن يتم دون استعداد هذه التكوينات للانخراط في برنامج كفاحي للتمسك بمهام الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي، والدفاع الجريء عن مصالح الناس وحقوقها، وحماية المال العام من أوجه العبث به، ومناهضة الفساد المالي والإداري.
هناك مشتركات تجمع ما بات يطلق عليه اليوم، على سبيل المجاز وليس الدقة، بالتيار الليبرالي، كالموقف من حقوق المرأة ومن الحريات الشخصية ومن ضرورة صون مناخ الانفتاح في المجتمع، الذي سبق أن ذكرنا بأن أجيالاً من البحرينيين كابدت في سبيل بلوغه، وهي مشتركات مهمة وتؤسس لأرضية جيدة لعمل مشترك لصد الهجمة على هذه المنجزات، وفي الأمس القريب جداً كانت هناك وقفة موحدة من القوى والأفراد الذين يجدون موقعهم ضمن هذا الفضاء”الليبرالي” الواسع، كما تجلى ذلك أثناء الهجمة الرجعية على مهرجان ربيع الثقافة منذ نحو عامين أو أكثر.
لكن ليس كل منهم تحت هذه المظلة على الاستعداد نفسه في تبني قضايا أكثر سخونة، حين تأخذ الطابع السياسي المباشر، وتتطلب درجة من الاصطدام مع موقف الدولة تجاه أي قضية من القضايا ذات الصلة بالاستحقاقات السياسية والمعيشية التي تشكل جوهر عملية البناء الديمقراطي، الذي لن يتحقق من تلقاء ذاته، وإنما بالمزيد من العمل والكفاح لنيل الحقوق وتثبيتها والبناء عليها في اتجاه المزيد، لأن أية مراوحة في المكان تنطوي على مخاطر التراجع إلى الوراء، فالحياة لا تقف عند نقطة واحدة، وإنما تتقدم إلى الأمام.
ولو أخذنا الشق المعيشي على سبيل المثال لقلنا انه لا يمكن للتنمية أن تؤخذ معزولة عن بعدها الاجتماعي، فما جدوى الخطط الاقتصادية إذا لم تنتبه كفايةً إلى أن التنمية معزولة عن هدفها الأساس في الاستثمار في الإنسان، وتوفير احتياجاته الحيوية، التي تزيد ولا تنقص، يمكن أن تقود إلى أوخم العواقب والهزات الاجتماعية.
هناك من يرى أن الحداثة أمران لا ثالث لهما: اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، وإنهما قد بنيا على قيم ومبادئ ثقافية لا توجد في غير ثقافة الغرب، وبالتالي فلا حوار ممكناً مع ثقافة أخرى لا تأخذ بحرفية هذه الأفكار.
لكن المعضلة ليست هنا، وإنما في رفض هؤلاء لفكرة التضامن وازدرائهم لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي تبدو بالنسبة لهم موروثا فقد شرعيته لأنها تنتسب إلى عصر الأيديولوجيات والقيم المثالية التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم.
فكرة العدالة الاجتماعية ضرورة ليس من زاوية البر والإحسان وحدهما، وإنما لأنها ضرورة سياسية في واقع بلغ مستوى غير مسبوق من التمايزات والتفاوتات بين الشرائح الاجتماعية.
غداً نكمل.
صحيفة الايام
20 يناير 2010
بناء الكتلة الديمقراطية – 6
الاستقواء بالمراجع الدينية في الخارج
عرفت البحرين قبل بضعة قرون بريادتها في بروز كبار المرجعيات الدينية الفقهية الشيعية العربية من بين ابنائها الذين كانوا مرجعية ليس لأهل المذهب الجعفري بالبحرين فقط بل بعدد من بلدان المنطقة، دار الزمن دورة تاريخية كاملة وتبدلت الاحوال والظروف السياسية والاجتماعية والدينية، فأضحت البحرين تفتقر إلى كبار المراجع الدينية الفقهية الشيعية المعروفين بتبحرهم الفقهي والفلسفي والأدبي الذي كان عليه اسلافهم المراجع في العصور الخوالي، وزاد من الطين بلة انغماس معظم الرموز المؤهلة لمثل هذين الريادة والتبوؤ في التراتبية الفقهية في الانشطة والحركات السياسية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بوجه خاص وبعد انتصار الثورة الإيرانية بزعامة المرجع الديني آية الله العظمى الامام الخميني.
وشاءت الظروف الجديدة التي أوجدها ذلك الانتصار أن يكون عدد من المراجع الفقهية ممن يمتلكون تبحرا في الفقه أو الشريعة هم في الوقت ذاته يمتلكون قدرا من “الكاريزما” السياسية والدينية معا: (الخميني، محمد حسين فضل الله، الامام الخوئي، مطهري، حائري، بهشتي، محمد باقر الصدر – قبل استشهاده -، محمد صادق الصدر… إلخ).
وفي ظل خلو الساحة السياسية الشيعية المحلية من مراجع كبار لهم شعبيتهم المشهود بها في الداخل والخارج دينيا وسياسيا، هيمنت على هذه الساحة المرجعية الدينية السياسية الرسمية للنظام الإيراني التي كان يمثلها الامام الراحل الخميني على امتداد عشر سنوات (1979 – 1989)، ومن بعده خلفه مرشد الثورة الحالي الامام خامنئي وان بدرجة كاريزمية أقل.
وبعد سقوط النظام السابق في العراق وجد المرجع الديني المستقل السيد علي السيستاني الذي لم يعرف عنه قبلا انغماسه في الانشطة السياسية والمعروف عنه معارضته لنظرية ولاية الفقيه.. وجد نفسه في الظروف الجديدة مضطرا إلى لعب دور سياسي حذر ازاء ظروف واوضاع العراق الجديدة الدقيقة المعقدة تحت الاحتلال الأمريكي وتفجر أعمال العنف الطائفية المتواصلة يوميا، لكن من أسف كثيرا ما يتم اقحامه للإفتاء في شئون وقضايا محلية بحرينية عادية ليست اشكالية وذات طابع سياسي فحسب بل ليست بحاجة إلى الإفتاء أصلا من الخارج، على اعتبار ان أهل البحرين أدرى بشعابها. وهذا الاقحام غالبا ما يتم للأسف بغرض ترجيح وجهة نظر طرف من قوى الاسلام السياسية المحلية على طرف آخر، بحكم ما يتمتع به السيستاني من احترام وشعبية دينية طاغية في الشارع الديني الشيعي المحلي. فكأنما هذه القوى أو الاطراف المستعينة به سياسيا عاجزة عن استنباط وتقرير الاحكام السياسية العقلانية بنفسها لتقرير الموقف الصحيح فيما يتعلق بشئون وأوضاع وظروف بلادهم الداخلية السياسية ومن ثم لا تستطيع استنباطها إلا بمساعدة المراجع الدينيين الكبار في الخارج، كأن هؤلاء هم الأقدر على معرفة احوال وظروف شيعة البحرين السياسية المتغيرة من مراجعها وقياداتها السياسية المحلية، حتى لو لم يكن من بينهم مراجع كبار، لكأنما هذا الشيخ الجليل المسن القابع في صومعته العلمية والحوزوية في النجف خلا من كل المشاكل والقضايا الدينية والسياسية والاجتماعية الكبرى الجمة البالغة التعقيد التي يفيض بها عراق اليوم الواقع تحت الاحتلال الامريكي والغارق في بحر من الدماء ولم يتبق للشيخ الجليل المسن الوقور الامام السيستاني بعدما فرغ من كل تلك المشاكل سوى النظر والفصل في ادق تفاصيل قضايا وانشقاقات شيعة جزيرة البحرين السياسية المحلية الداخلية.
ولما كان الامام السيستاني يقيم في العراق ومعروفا بمواقفه العقلانية المعتدلة فقد أصبحت الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى لإبعاد شبهة التبعية لإيران، ولاسيما ان المرجعية الإيرانية الموثوق بها هي في الوقت نفسه تقود دولة كبرى بحجم إيران لها سياساتها المثيرة للجدل والانقسامات على الساحتين الاقليمية والدولية.
وهكذا بات واضحا ان الامام السيستاني انما يستعان به في الغالب لتقوية أو ترجيح وجهة نظر طرف أو فريق من اطراف وقوى الاسلام السياسي الشيعي البحريني على موقف أو وجهة نظر طرف آخر أو أكثر. الأمثلة على ذلك عديدة وواضحة وضوح الشمس وذلك منذ بروز نجم السيستاني بُعيد سقوط نظام البعث في العراق.. ولعل آخر مثال على ذلك ما أعلنه مؤخرا الاستاذ عبدالوهاب حسين بأن السيستاني يؤيد ويبارك الجهود المبذولة لتشكيل الهيئة المشتركة التي تضم الرموز الاساسية العلمائية والسياسية مبينا ما يراه بما يحيط نصيحته – السيستاني – بالمشاركة في انتخابات عام 2006 من التباسات بما مؤداه ان السيستاني لم يؤيد المشاركة في الانتخابات البرلمانية في البحرين تحديدا، وانما – والكلام لعبدالوهاب – للمشاركة الانتخابية في كل البلدان الاسلامية مع مراعاة ان لكل منها استثناء من ذلك، حسب الظروف الموضوعية، بمعنى تجويز المقاطعة إذا ما رأى أهلها ذلك، وان السيستاني يحترم المشاركين والمقاطعين في البحرين، وان القرار متروك لثلاث شرائح: علماء الدين، المثقفين، ذوي الخبرة السياسية.
والسؤال هنا – ومع احترامنا الكامل للأستاذ حسين – إذا كان يقر بأن الامام السيستاني يرى ان قرار المقاطعة أو المشاركة متروك لأبناء البلد انفسهم، وانه – السيستاني – يقف على مسافة واحدة من الفريقين: المقاطع والمشارك، فلماذا إذًا يتم اللجوء إليه لدعم ما يعرف بمشروع “الهيئة المشتركة العلمائية السياسية” التي يفهم ويستخلص من تصريح الاستاذ حسين انها مشروع اصطفاف جديد لمقاطعة الانتخابات المقبلة باسم توحيد قوى المعارضة؟
من حق كل الجهات والقوى الدينية ان تستفتي وأن تتبع من تشاء في الخارج في الشئون الدينية والعَقَدية والمذهبية الخاصة بها.. لكن نرى بأنه آن الاوان ان تحترم قوانا الدينية السياسية الشيعية رغبة المراجع الكبار الخجول في الخارج في النأي بأنفسهم عن غسيلنا المحلي وتقرير شؤونها السياسية الداخلية لنفسها، وان ترحم هؤلاء المراجع الكبار وعدم زجهم سياسيا في كل شاردة وواردة.. ويكفيهم ما عندهم.
صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2010
الولادة العسيرة لليسار الديمقراطي الشرقي (1)
إن تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية الشرقية فيها أدى إلى مشكلات في تطور اليسار نفسه وفي قضايا أخرى كالعقلانية والديمقراطية، فقد حدث التباسٌ تاريخي كبير.
كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية، وذات إشكاليات متعددة، تضافر فيها اليسار الغربي مع الشمولية الشرقية، والرغبة في القفزة النهضوية مع الاستبداد، وتسريعُ الحداثة مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة، وتم جلب أحدث الأفكار التقدمية لوعي شعوب دينية تعيش في قرون سابقة!
أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه الاشكاليات، جعلت من ذلك مصدراً نضالياً حماسياً مهماً وشفرة سحرية لحل القضايا كافة التي تحتاج إلى قرون من التطور البطيء العقلاني.
تداخل الموديل التاريخي العابر مع اطلاقيات مقدسة وجعل نفسه بديلاً يؤدي إلى زوال الرأسمالية في العالم ككل، وتوجه لإزالة الأديان والقوميات (الشوفينية) وإحلال لغة قومية لشعوب أخرى.
إن الطريق الرأسمالي الحكومي الشرقي عامة وصل إلى طريق مسدود، وعادت الرأسمالية السوداء والفوضوية وعادَ الدين المحافظ ليتبوأ مكانة مقدسة، وعجزت اللغة القومية أن تكون لغة عالمية للشعوب التي عادت للغاتِها وتقاليدها العتيقة.
وهذا ليس سوى النتيجة للبناء الأول، فما تم تشكيله بسرعة ينهار بسرعة وعبر فوضى غير عقلانية! ومن النقيض للنقيض، لصعوبة تكوين البدائل الوسيطة التي لا تتشكل إلا من خلال تطور تاريخي متدرج وموضوعي.
أخذ اليسار الشمولي ينهار وينعزل ويتفتت إلى قوى كثيرة، ولم يقدم إجابات على الأسئلة المعقدة والمركبة للشعوب الشرقية، واستمرت أصوات يسارية قليلة ونادرة في مثل هذا الزحام بين يسار شمولي متآكل تاريخياً وقوى رأسمالية بيروقراطية امتلأت بالفساد وبنهج العصابات، وبين قوى شعبية عاملة يئست أو تجمد وعيها واضطربت أفكارها بين يسار شمولي وعد بالجنة، وبين جنان رأسمالية في الغرب تهفو إليها! ورجع بعضها للأفكار القديمة وقفز آخر نحو المجهول، يتشبث بليبرالية واهنة في بلدانه أو يلتحق.
كان نجاح اليسار الشمولي في تصعيد التنمية الهائلة لهذه البلدان وبين اخفاقات الديمقراطية والتطور الاجتماعي المتكامل، بين خلق نهضة كبرى لا أحد قادر على إنكارها، وبين دهس الشعوب ورفض حرياتها وتعبيرها عن ذواتها، تناقضات ضخمة استعصت على الحل التاريخي الملموس في ظرف زمني قصير قياساً لعمر الحضارات!
وكان غياب التطور المتكامل الجامع بين النهضة الصناعية والتحديث والديمقراطية، له ثمن فادح، في قفزة القوى الدكتاتورية الحكومية العسكرية والاستخباراتية إلى سدة الحكم، وفي تدمير الكثير من إنجازات القطاعات العامة، وتصعيد مليونيرات من الأقبية السرية للبيروقراطية، وفي انهيار المؤسسات العامة للثقافة ودعم الدول للمفكرين والمبدعين.
كان السؤال الخطير هو لماذا عجزت هذه التجارب العالمية الهائلة عن إنتاج يسار يجمع بين التنمية والديمقراطية، بين تقدير الأديان ونقد جوانبها المحافظة السلبية، بين قيادة القوى الاشتراكية المفترضة واحترام المؤسسات الديمقراطية التي تكونت في بدء الثورات؟
ولماذا تم مجاملة القوى الحاكمة وعدم نقدها وتسلق قنواتها السياسية؟
كانت هزيمة الاشتراكية الديمقراطية التعددية وسيطرة النموذج (الشمولي) علامة خطيرة في تطور شعوب الشرق، رغم أنه كان في خلال عقود نموذج الحلم المسقبلي.
لابد من بحث نتائج هذه العملية الآن، بعد سنوات من الصراع بين الموديلات السياسية المختلفة، خاصة بين اليسار الشمولي واليسار الديمقراطي، ماذا حدث؟ وما هي نتائج الانهيار؟ وهل ظهر يسار ديمقراطي يجمع بين التنمية والديمقراطية؟ بين احترام الأديان والتقاليد وشق الطريق لصعود قوى الكادحين؟
ماذا تقول الأحزاب الشيوعية عن تجاربها؟ وهل ظهرت أحزاب اشتراكية ديمقراطية؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها؟ وهل ثمة صيغ متقاربة ومتداخلة؟ أليست الأحزاب القومية والدينية سوى نسخ مختلفة بعض الشيء عن سابقاتها؟
كان الانقسام بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب الشيوعية يعود للانقسام بين الغرب والشرق، بين الأمم الغربية التي شكلت تطورها، ولم تعد بحاجة إلى التسريع، سوى أمم معقدة في التاريخ الغربي كالأمتين الألمانية والإيطالية اللتين تطورتا ولكنهما تأخرتا عن اللحاق بركب الاستعمار وعن تصيد مستعمرات كان قد انتهى تقسيمها. إن الأصل في الصراع بين الفريقين السياسيين الاشتراكيين هو تعبيرهما عن أمم مختلفة ذوات تطور قاري مختلف. وليس هو الصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة.
كانت الاشتراكية في كل من العالم الشرقي الاستبدادي والعالم الغربي الديمقراطي، تأخذ لونـَها وسماتها من الأبنية القارية هذه، ومن تلوينات الشعوب حسب درجاتِ تطورِها وتعبيرها عن نضالها في كل من التقسيمين القاريين المختلفين.
كان لا يمكن للأمة الصينية أن تأخذ الاشتراكية الديمقراطية لأنها تقع في التقسيم الشرقي الاستبدادي، كان عشرات الملايين من الفقراء والقلة من العمال تريد إجراءات سريعة للعيش، وللحصول على العمل والأكل، وللسلامة من الأمراض الفتاكة، وللحصول على قطع أرض للزراعة وبيت متواضع، في حين كان العمال البريطانيون يأكلون بشبع، ولديهم مساكن، وأحزاب علنية حوارية منذ عقود طويلة، فكان لا يمكن أن يتوافقوا مع (الشيوعية) والثورة على الرأسمالية، كانوا يريدون استمرار عيشهم الطيب رغم كل المنغصات والسلبيات، كانوا يريدون الإصلاحات الصغيرة المضمونة وليست الثورات الخطرة!
ولكن ماذا سوف يخسر الفلاحون الروس من الثورة؟
إن الأمم الشرقية والأمم الغربية تركت بصمات أوضاعها على المنحى الاشتراكي العالمي، وكان غياب الممارسة السياسية الديمقراطية وسيطرة العامية المتحمسة والأوضاع السيئة الرهيبة والغزو الاستعماري كلها تجعل أغلبية هذه الأمم الشرقية تسلكُ طريقاً مختصراً سريعاً نحو (الاشتراكية) بكل ما فيه من حوادث عنيفة، وهو طريق مختصر فيه إنجازات وتحولات وفيه كوارث كذلك، ولكنه ليس طريق الاشتراكية بل طريق التقدم القومي!
صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2010
من الجيل الجديد وعنه
جرت العادة أن الجيل الأكبر ينظر إلى الجيل، أو الأجيال التي تليه على انها أقل شأنا منه. وغالبا ما يقول الكبار موجهين الحديث لمن هم اصغر سنا: “ كنا أكثر جدية منكم وأكثر مثابرة، ولو توفرت لنا الفرص المتاحة لكم اليم لكنا… وكنا…” الخ.
والحق أن هذه الروح الأبوية تبدو لازمة لدى الأجيال الأسبق عادة، لأننا في صغرنا سمعنا كلاماً مشابهاً من آبائنا. لكن الحياة تقدم برهانها ان الأجيال الجديدة، كقاعدة، هي أجيال أكثر ذكاء وأكثر معرفة، وان ما توفر لها من ظروف تنشئة أفضل يجعلها، في الإجمال، أكثر قابلية للتعاطي مع مسائل الحياة فيما لو قُورن الأمر بقدرة الجيل، أو الأجيال الأسبق.
إننا لا نتذكر كل تفاصيل طفولتنا، ولكننا بالتأكيد قادرين على ملاحظة أن أبناءنا اليوم هم افضل منا يوم كنا صغارا في أمور كثيرة. وما زلت اذكر رسالة من قارئةٍ شابة، طالبة في الجامعة، تحدثت فيها عن ذات المقارنة، ولكن في اتجاهٍ معاكس تماما.
فهي رأت أن الجيل الجديد من الشباب والشابات ينشأ في فترة انعدام المثال أو الفكرة التي يتبناها، وهي أكثر من ذلك تغبط جيلنا لأنه كان برأيها أكثر تألقا وانسجاما مع ذاته، وان الفترة التي عاشها مأخوذاً بهدفٍ تثير لدى الجيل الجديد نزوعاً من حنين، لأن هذا الجيل، جيلها، أفاق على الهزائم والخيبات والانكسارات، لذا فانه يعاني من التمزقات والاحباطات.
وربما وجب التدقيق بالقول أن الجيل الأسبق بدوره لم يعش فترة انتصارات باهرة، ولكن الفارق الجوهري أن الجيل الجديد أبصر الدنيا وقد أصبحت الهزائم مشروعاً مُنجزاً، انه بتعبير آخر تجرع نتائجها المرة، فيما كان الجيل الأسبق شاهداً على الحدث نفسه قبل أن يتحول إلى نتائج وتداعيات.
رسالة هذه الطالبة نموذج أو عينة بين نماذج وعينات أخرى كثيرة تدل على أن الجيل الجديد، على خلاف الفكرة الشائعة عنه، هو الآخر جيل مسكون بالقلق وبالبحث عن مثال ومنظومة قيم، ومعنيٌ أن يجعل لحياته هدفاً ورؤية، وفي كل الأحوال فان الرهان أو التعويل هنا إنما يدور عن شريحة أكثر حساسية تجاه الجديد وتجاه القضايا العامة، وان كل الخراب الذي عشناه ونعيشه لم يفلح في إطفاء جذوة الوعي، لأن هذا الخراب ذاته فيه من العناصر ما هو كاف لإيقاد هذه الجذوة حتى إن أوشكت على الانطفاء.
هذا الجيل بحاجة لمن يأخذ بيده، لمن يرهف السمع لقلقه وهواجسه وطموحاته، أن يرى فيه المستقبل الذي، مهما غالبنا السواد، نطمح في أن يكون نيراً ومضيئاً.
يحضرني هنا ما كتبه مبدع من زماننا هو الراحل الكبير سعد الله ونوس في إهداء أعماله الكاملة إلى ابنته “ديمه”، ومن خلالها إلى جيلها والأجيال التي تليها، حين تمنى أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقهم أقوى من الهزيمة، ومن يدري، فقد يجدون الجملة السحرية التي يغدو بها الزمن جميلا والوطن مزدهرا .
صحيفة الايام
19 يناير 2010
الدرس التركي
رغم أن العالمين العربي والإسلامي أدميا الأسبوع الماضي الأيدي تصفيقاً لتركيا على موقفها الصارم إزاء الصلف الإسرائيلي، إلا أن تركيا كانت بذلك قد لقنت العرب والمسلمين والإسرائيليين، وكذلك الغرب دفعة واحدة درساً قاسياً، لكنه ضروري لكل الأطراف. مفاد هذا الدرس للعرب والمسلمين: قبل أن تقرروا هدفاً ما أحسنوا إيجاد الأدوات المحركة لبلوغه، وإذا قررتم فلا تهنوا وامضوا حتى النهاية. وبالنسبة إلى الإسرائيليين: نحن لسنا كالعرب ولا كبقية العالم الإسلامي. نحن نستطيع أن نجعل أية محاولة إسرائيلية عدائية لمعاقبتنا على مواقفنا ترتد عقاباً قاسياً لـ «إسرائيل» ذاتها وحصاراً لمصالحها. أما للغرب: فسواء قبلنا في الاتحاد الأوربي أم لا، نحن نعرف كيف نشق طريقنا ونحتل موقعنا كدولة كبرى شرقاً وكبرى غرباً باعتبارنا جسراً موصلاً بين الغرب والشرق. وسيأتي إلينا الغربيون كما الشرقيون، وبينهما «إسرائيل»، بحثاً عن حلول لمشكلاتهم.
صباح يوم الأربعاء كان أفيغدور ليبرمان قد اعتبر الاعتذار الإسرائيلي الملتوي مقابل الإهانات التي وجهت للسفير التركي نهائياً، وأنه لن يكون هناك اعتذار صريح حتى لو سحبت تركيا سفيرها. أما في المساء فقد سرب راديو «كول إسرائيل» خبراً يفيد بأن نتنياهو هاتف ليبرمان مناشداً «افعل شيئاً ما.. أنت تعرف كيف». وفسرت الإذاعة الأمر بأنه بين الصباح والمساء مورس على رئيس الوزراء الإسرائيلي ضغط كبير من جانب القوى القلقة من تضرر مصالحها الاقتصادية من جراء تدهور العلاقات مع تركيا. كما أشارت مصادر أخرى إلى أن وزير الدفاع باراك قد ترجى الرئيس بيريز ليضغط الأخير على نتنياهو. رغم الأزمة كان لايزال في فلسطين المحتلة وفد تركي للتفاوض بشأن صفقة لشراء 10 طائرات بلا طيار من طراز «نيرون» الإسرائيلية بقيمة 180 مليون دولار، كما كان قد أشار إلى ذلك وزير الدفاع التركي.
وعلى مستوى آخر، كان السيد أوردغان الذي كان يقوم بزيارة إلى موسكو في الفترة نفسها يبحث مع الروس أوجه التعاون بين الطرفين والتي شملت أيضاً مشروع بناء فرع جديد لخط «التيار الأزرق» لأنابيب نقل الغاز، وهو أحد أهم مسارات نقل المواد الهيدروكربوهيدراتية الروسية إلى تركيا. أما عبر «التيار الأزرق – 2» فسوف يتم ضخ الغاز الروسي إلى الشرق الأوسط، وإلى «إسرائيل» بالدرجة الأولى.
على هذه الخلفية بدا الوجه الإسرائيلي مساء الأربعاء أشد اسوداداً عما كان عليه صباح ذلك اليوم. فالمحاولة الإسرائيلية لإهانة تركيا انتهت بالنسبة إلى «إسرائيل» بمهزلة كما بدأت. ذلك لأن الحسابات الاستراتيجية التركية أضبط من الإسرائيلية بكثير. وكما أشار خبير معهد التقدير والتحليل الاستراتيجي الروسي سيرغيي ديميدينكو في مقابلة مع صحيفة الـ دبرافدا.آر يو» في 23 ديسمبر/ كانون الأول ,2009 فإن القيادة التركية الحالية ماضية من دون أن تحيد في الخط الاستراتيجي التركي ذاته لتحويل تركيا ليس فقط إلى دولة إقليمية عظمى، بل وقائد إقليمي للمنطقة. وعلى هذا الطريق، فهي تنخرط بنشاط في لعب دور نشط في تسوية قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ورغم الرصيد التاريخي الطويل للعلاقات التركية الإسرائيلية، إلا أن تركيا، ومن أجل هذا التحول الاستراتيجي تسعى بشكل حثيث إلى تطوير علاقاتها مع كبار اللاعبين في المنطقة كإيران وسوريا، وربما السعودية غداً. وحتى بعد تسوية الأزمة الأخيرة أكد الأتراك من جديد مضيهم في الوقت نفسه مذكرين الإسرائيليين بما يتوجب عليهم عمله من أجل التسوية العادلة. وفي السياق نفسه يمكن أيضاً فهم الموقف المشرف للقيادة التركية أثناء العدوان الصهيوني على غزة العام 2008 ونقد أوردغان الحاد لـ «إسرائيل».
غير أنه لا يجب أن يساور الوهم أحداً أبداً في أن الاستراتيجية التركية المشار إليها ستُسقط من حساباتها يوماً ما ارتكاز الاستراتيجية التركية في الضفة الغربية من العالم، وبقوة على محور أنقرة – واشنطن – تل أبيب، الذي أعطى لتركيا حتى هذا الوقت المكانة التي يجب أن تستكملها حالياً بمحور تركيا – إيران – سوريا شرقاً لكي تلعب الدور الذي ترسمه لنفسها في المنطقة والعالم. وإلا فأين الجسر؟
ما نريد أن نقوله هو إن تركيا كدولة، بغض النظر عن تعاقب حكوماتها، تعرف بالضبط ما تريد، وكيف تسعى إلى ما تريد، بعكسنا نحن. أليس في هذا درس لنا؟ وعسى ألا يستفيد الإسرائيليون من هذا الدرس أفضل منا – نحن العرب.
صحيفة الوقت
18 يناير 2010
الطريق إلى سلامة موسى
مرةً، منذ سنوات، في مدينة الإسكندرية الرائعة، قاطعاً طريق صفية زغلول آتياً من محطة الرمل المطلة على البحر الأبيض المتوسط، في امتداد الكورنيش المُدهش الذي يبدو كأنه يطوق البحر، المبتهل إلى السماء، بذراعين ممتنتين، حانيتين، رُحت أحدق في المباني الجميلة على جانبي الشارع، أو في شارع فؤاد المتقاطع معه.
في ذلك الزمن، الذي يبدو الآن بعيداً، أتى أمهر المهندسين والبنائيين ليصمموا هذه العمارات البديعة المتساوية في ارتفاعها، بفنون العمارة التي جعلت منها إعلان حداثة، في هندسة عمرانية بديعة لمدينة تملك سحر الإغواء لقاصديها، الذين لا يمكن إلا أن يقعوا في حبها.
وأنا أمشي الهوينا استوقفتني فترينة مكتبة، وككل المرضى بالكتب، تسمرت مكاني هنيئات أطالع ما ظهر من العناوين، قبل أن يباغت نظري اسم المكتبة: سلامة موسى!
كان ذلك وحده سبباً جديراً بأن يحملني حملاً على الدخول وأنا شغوف بمعرفة السبب الذي جعل صاحبها يختار لها هذا الاسم، الذي من عباءة كتبه خرجنا كلنا، إذا ما استعرنا عبارة تولستوي الشهيرة: “كلنا خرجنا من معطف غوغول”، في إشارة إلى العمل الشهير “المعطف” للكاتب الروسي غوغول.
وأعني بـ “كلنا” ذلك الجيل الذي إليه أنتسب الذي لسعتْهُ كتب سلامة موسى بـ “حرقة الأسئلة”، إذا ما استعرنا، مرة أخرى، عنوان كتاب الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي، وهذا حديث لا تتسع المساحة هنا لشرحه.
واجهتُ عناوين كتب سلامة موسى، وبعضها بأغلفة الكتب القديمة التي رأيتها حين قرأتها أول مرة قبل عقود، والتي لكثرة ما تداولتها الأيدي، يومذاك، كادت أن تُبلى. وعلى أحد الرفوف وقعت عيني على كتاب لصديقي الباحث والناقد المغربي كمال عبداللطيف بعنوان: »سلامة موسى وإشكالية النهضة«، وعلى ما قرأت لكمال لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع به، لأفاجأ بأن انشغال كمال بسلامة موسى قديم، منذ أن سجل أطروحته الجامعية عن الفكر السياسي للرجل.
ولكي يكتب كمال عبداللطيف عن سلامة موسى لم يعد فقط إلى كتب هذا الأخير، وما أكثرها، وإنما عاد إلى نصوص فرح انطون ولطفي السيد وطه حسين، ليرى أن ما فكر به سلامة موسى في حينه يندرج في إطار منظومة فكرية واسعة ومتعددة الاهتمامات، يوم كانت الاسكندرية وبيروت وسواهما من المدن المفتوحة على البحر، والمنفتحة على المستقبل ترسم لنا خريطة الطريق للخروج من دائرة التخلف.
اشبع البائع الفضول الذي انطوى عليه سؤالي عن السر في اسم المكتبة، انها لا تحمل اسم سلامة موسى تيمناً بفكره فحسب، وانما هي مكتبة عائدة له شخصياً وان ابنه الدكتور رؤوف سلامة موسى ورثها عنه، وواصل الحفيد الذي اسمه سلامة بالمناسبة تقليد جده وأبيه فاستمر في جعلها مكتبة، ولم يحولها إلى “بوتيك” أو يؤجرها إلى شركة ماكدونالدز أو بيتزا هت أو سواهما، هي التي تقع في شارع استراتيجي في قلب الإسكندرية.
من تلك المكتبة اقتنيت كتابين أو ثلاثة لسلامة موسى سبق لي أن قرأتهما بين نهاية الستينات ومطالع السبعينات الماضية، واليهما أعود مراراً إيماناً، بيقين الصديق كمال عبداللطيف، أن كتب سلامة موسى تجعلنا نزداد اقتناعا بأهمية تعزيز دوائر الوعي النقدي الذي يمكن أن “يساهم في وقف مسلسل العودات”.
صحيفة الايام
18 يناير 2010
سعيد حسين .. الإنسان والمحبة والتواصل الاجتماعي
سعيد الإنسان ..
ذلك سعيد عبدالله أو ما يطلق على نفسه هو ( سعيد حسين) الذي انتقل إلى جوار ربه قبل أيام إثر حادث سير بليغ، فكان رحيله صدمة كبيرة في الوسط الاجتماعي والسياسي وخصوصا عائلته ومحبيه وأصدقاءه الذين أحبوه كثيرا.
كنت حائراً كثيراً أن أكتب في سعيد، وفيمَ أكتب، فعلاقتي معه تمتد لسنوات طويلة، وتحديدا منذ طفولتي وحتى الآن، وكل ما رأيت في سيرة حياته أنه كان رجل عطاء غير محدود، وأخلاق حميدة عالية، وقبل ذلك إنسان صادق ومخلص، فقد كانت حياته بحق تجسيدا لمفهوم التعاون والترابط والتآلف والمحبة بينه وبين الناس.
كنت أقصد منزله في (حيِّنا) بالنعيم منذ أن كنت طفلا مع أخي (بحكم صداقته بأخي الأكبر عدنان) إبان السبعينات، ومنذ ذلك الوقت تعرفت على سعيد وتأثرت بشخصيته كثيرا، فقد كان شخصية متميزة بين أقرانه وأصدقائه في كل شيء، فهو شخص يشدك منذ أول وهلة تتعرف عليه، ويحتويك بقوة من خلال عباراته ومنطقه وقدرته على إيصال الرسائل للآخرين بسرعة، البشاشة دائمة في وجهه، وحب الطرافة يحمل بين جنبيه حسا إنسانيا راقيا، ويختزن في رأسه ثقافة واسعة من العلم والمعرفة والخبرة، يبحر بك سريعا إلى الشرق والغرب من العالم، لديه إصرار وعزيمة للنجاح، حياته مليئة بالتجارب والعبر المهمة التي يمكن أن تشكل دروسا مهمة لهذا الجيل من الشباب خصوصا.
شخصية سعيد اجتماعية وودود ومحبوبة، متواصل اجتماعيا، لديه خيط رفيع من المحبة مع كل الناس يغمرهم به دائما وخصوصا أهله وأقاربه، أحبه الجميع من أصدقاء وجيران في المنطقة وحتى خارج منطقته، مجلسه في (قرية سار) مفتوح لهم طوال أيام الأسبوع يستقبلهم ويكرمهم دون كلل أو ملل، ويستأنس برأيهم ويشاورهم حول ما يعتزم التخطيط له ويغمره ذلك سعادة كبيرة في نفسه.
سعيد كان رجلا عصاميا بنى نفسه بنفسه، وكان محبا للعلم ولكل جديد في عالم والمعرفة والاختراع، وفوق كل ذلك كان صاحب مبادئ وطنية راسخة، ومناضل سياسي صلب وعنيد، ومتابع سياسي دؤوب لم يتخلَ يوما عن قناعاته السياسية أبدا.
ذلك هو سعيد كما عرفته عن قرب.
سعيد الوطني والمناضل ..
كان الحس السياسي الغامر لديه مؤثرا على المحيطين حوله، فلديه روح وطنية وثابة وحراك سياسي واجتماعي فاعل، ما يشهد له جميع من عرفه بوطنيته المخلصة، وهي الصفة التي تركت تأثيرا كبيرا في نفسي فيما بعد وطبعت بعد ذلك على شخصيتي العامة، وشكلت جزءاً كبيراً من اهتماماتي وتوجهاتي السياسية في الحياة، فكانت النقاشات والتنظيرات والأفكار السياسية التي يتداولها سعيد مع الآخرين في الشأن السياسي هي إحدى التأثيرات الكبيرة التي ألقت بظلالها على تفكيري وتوجهي ومبادئي السياسية لاحقا.
لم يكن تصدى سعيد للعمل السياسي رغبة في منصب أو ظهور إعلامي أو ترف سياسي، بل جاء كل ذلك من خلال شخصيته الميالة للدفاع عن حقوق الناس ومطالبهم، والتصدي لرفع الحيف عنهم، ومن هنا فقد بدأ سعيد العمل عبر النقابات العمالية، وثم انتقل للعمل الحزبي السياسي (السري) في حقبة السبعينات والثمانينات، وتعرض جراء ذلك للاعتقال والمطاردة والملاحقة الأمنية، إلا أن كل ذلك لم يثنه عن أفكاره وآرائه ومبادئه السياسية التي آمن بها، فقد كان صاحب رأي صلبا وقناعة راسخة بما آمن به.
سعيد المثقف والمحب للعلم ..
كان شخصا مثقفا ومطلعا ومهتما كثيرا بالعلم والمعرفة منذ أن كان صبيا، كان رجلا شغوفا بالعلم والتعلم، ومثابرا ومحبا لمتابعة كل جديد في عالم المعرفة والتكنولوجيا.
جاهد كثيرا لتعليم نفسه، ودخل المدارس المسائية في إحدى مراحل حياته (يعمل نهارا ويدرس مساء)؛ من أجل تعلم كل جديد في العلوم واللغات وغيرها.
كان بغرفته في منزله القديم مكتبة عامرة بالكتب والمؤلفات والمجلات، وكل من دخلها غرف منها وتزوَّد علما.
تعلم سعيد، وتعلم، وحمل الشهادات حتى كان مهندسا مرموقا يشار إليه بالبنان، سطر تجاربه كلها في كتب ألفها وعمم فيها تجربته في الحياة، ليقول للعالم إن الحياة عقيدة وجهاد.
كان سعيد – رحمه الله – محبا للمغامرة والتجربة، وعبر عن ذلك الاهتمام بأنْ بنى أفكارا متقدمة ومتطورة في مجال الاختراع، ولم يكن ذلك فحسب، بل وابتكر الوسائل في عالم النقل، وأبدع في مجال (النجارة والهندسة والتصميم والديكور)؛ ولذا فقد جاءت لمسات يديه بارعة ومبدعة في مجال الهندسة المعمارية.
يبادر في الولوج في كل ما يجهله حبا في التعلم والمعرفة واكتساب الخبرة، ولذا استطاع أن يبتكر ويخترع الأفكار الجميلة، فكانت السيارة التي صنعها وأعدها وجهزها كمنزل متنقل، والتي يطلق عليها (الكرفان) مثار إعجاب الجميع في البحرين وتشهد له بمهارته وإبداعاته الكبيرة.
ولذا لم يكن مستغربا أن تخرج من منزله صحافية واعدة وهي ابنته ( نزيهة).
سعيد الأخلاق والتواصل ..
كان صاحب ( نخوة) ومبادرة، لا يتوانى عن تقديم أي مساعدة أو خدمة إذا طلب منه، ينجز الكثير من الخدمات والأعمال للناس دون أي مقابل، بل ويشعر دائما بالسعادة؛ لأنه قدم شيئاً للآخرين.
كريم وسخي ومعطاء، وفي هذا السياق يحفظ أصدقاؤه الكثير من القصص التي تزخر بالكرم والعطاء والتفاني والتضحية، يعتبر خدمة الناس عملا مقدسا.
يعاون ويساعد ويبادر الآخرين، ومن دون أدنى مِنّة، مترجما ذلك قول الإمام علي (ع) (الناس صنفان، إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق).
يتغنى سعيد كثيرا بهذا الحديث المروي عن النبي (الدِّين المعاملة)، فكان تجسيدا حقيقيا مارسها في حياته عند سؤاله لماذا تؤثر الآخرين وتبالغ في العطاء لهم، فكان جوابه (الناس معاملة، فعاملهم بمثل ما تحب أن يعاملوك).
قلت له في إحدى المرات (سعيد .. ما تفعله وتقدمه للناس في هذا الزمان ضرب من الأحلام، وهذا الحس الإنساني الراقي الذي تحمله بين جنبيك أعتقد أن شخصا مثلك ربما لا ينتمي لهذا الزمن المادي الأغبر الذي طغت فيه المادة على الأخلاق).
كان خلقا رفيعا وحسا إنسانيا راقيا وتواصلا مع الجميع من دون حواجز وحدود، عمله وأخلاقه رسم ثقافة إنسانية جميلة مفادها (أن الإنسان هو الإنسان بعيدا عن أي تصنيفات أو تجزيئات أو تقسيمات له). سعيد لم يكن ليحده حدود أو حواجز في علاقاته مع كل الأجناس والأطياف من البشر.
تلك حسنة كبيرة له ستؤسس ثقافة لمفهوم متقدم لدى المجتمع، ترتكز على قاعدة الإنسان هو الإنسان قبل كل شيء وبعد كل شيء.
فسعيد الإنسان هي الكلمة التي لا أستطيع أن أضيف أو أزيد عليها
ما كتبته في سعيد هو ما أرآه حقا عليَّ لابد أن أوْفيه له، وأتمنى أن أكون قد وفيْت.
رحمك الله يا أبا ناظم، وجعل مثواك الجنان، وستبقى في قلبنا وعقلنا سعيد الإنسان أبداً.
بلير وقد عافه الخجل بعد أن عافته الكياسة
لا يكل ولا يمل عن طلب الشهرة، فهو لازال مهووساً بها حتى خروجه منها ذليلاً كرئيس وزراء إثر تسببه في تآكل شعبية حزبه الحاكم وتزايد المطالبات داخل قيادة الحزب بتنحيه، وهو ما حدث بعد ضغط شديد وفقدانه لأقرب أصدقائه ومريديه ومنهم وزير الخزانة جوردون براون الذي تسلم العهدة من بعده كرئيس للحكومة البريطانية سيحاول خلالها -فيما بعد- استعادة ثقة الجمهور البريطاني في سياسات حزب العمال الحاكم الذي تحول نحو غريمه ‘بفضل’ سياسات بلير نحو حزب المحافظين، إلا أن الأزمة المالية العالمية لم تسعفه (جوردن براون) لإنقاذ الموقف المتدهور للحزب المتوقع -حسب استطلاعات الرأي- أن يؤدي إلى خسارة العمال للانتخابات البرلمانية المقبلة وعودة حزب المحافظين إلى السلطة.
ولأنه مهووس بالأضواء والشهرة فهو بعدما اضطُر للاستقالة من منصبه كزعيم لحزب العمال البريطاني ورئيس الحكومة البريطانية على مدى أحد عشر عاماً (1997-2007)، لم يشأ الانسحاب بهدوء من الحياة السياسية كما يفعل عادة معظم الساسة الغربيين وينصرفون إلى مزاولة حياتهم الاعتيادية والانكباب على القراءة والتأليف وكتابة المذكرات (وإلقاء المحاضرات أحياناً) بغرض إشغال أوقات الفراغ وتقديم عصارة تجربتهم للمهتمين بالإطلاع على تجارب الحكم المختلفة عبر التاريخ في العالم أجمع، وإنما سارع للقبول، ممتناً، بعرض الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن للعمل في وظيفة منسق عمل اللجنة الرباعية المشكلة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة والمعنية بمتابعة ملف تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك مكافأة له (من بوش) على موقفه الداعم لحد الانصياع لقرار بوش بشن الحرب على العراق رغم عدم موافقة الأمم المتحدة على قرار الحرب.
وهو منصب شكلي على أية حال، نظراً لأن اللجنة إياها شكلية أُنشئت من قبل صاحبة إرادة عدم تمكين العرب بشتى السبل، بما فيها المناورات التفاوضية المميتة، فهي لا تجتمع إلا في حال شب الحريق من جديد في الشرق الأوسط كما حصل عندما ارتكبت إسرائيل محرقة غزة قبل نحو عام تقريباً.
ونظراً لشكلية وعدم وجاهة وظيفتها (وظيفة منسق اللجنة الرباعية) فقد طمع الرجل فيما هو أكثر منها هيلماناً ووجاهةً (وامتيازات أيضاً).. لقد طمع في الوظيفة الجديدة التي أنشأتها معاهد لشبونة الخاصة بعمليات التكامل والاندماج بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الـ 27 (بديلاً للدستور الأوروبي الذي فشل في اختبارات الرأي العام التي أجريت عليه في ثلاث من الدول الأعضاء)، وهي وظيفة رئيس الاتحاد الأوروبي.
هو لم يراع ولم يلق بالاً لنداءات العقل بتخليه عن مثل هذا المطمع في تقلد منصب رئاسة الاتحاد الأوروبي اعتباراً بأن غالبية دول الاتحاد لا ترغب في ربط سمعة أول رئيس للاتحاد الأوروبي بسمعة رجل تم إخراجه من ‘الباب الخلفي’ للمؤسسة السياسية الرسمية البريطانية بسبب ما علق بسمعته من وحل نتيجة لارتكابه مخالفات جسيمة ربما كان أشهرها الكذب الفاضح في قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية وتوريط بريطانيا في حرب العراق انسياقاً لمغامرات ‘العم’ بوش.
ولاشك أن المعاملة التي لقيها بلير من معظم الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وذلك بمقابلة رغبته بالصدود وعدم الاكتراث، قد خلف حسرة ومرارة في نفسه.
ثم جاءت التحقيقات التي انفتحت في بريطانيا بتشكيل لجنة للتحقيق في الكيفية التي تم فيها إدخال بريطانيا وتوريطها في عملية غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين الحاكم آنذاك في بغداد، والتي تتمحور أساساً حول الدور الخفي الذي لعبه توني بلير بصفته رئيساً للحكومة في هذه القضية، جاءت لتشدد الخناق النفسي والمعنوي على بلير باعتباره المتهم الأول من قبل غالبية البريطانيين بأنه المسؤول عن زج البلاد في تلك الحرب، والتسبب في قتل وإصابة آلاف الجنود البريطانيين، خصوصاً وإن التحقيقات التي أُجريت مع بعض الشهود قبل استدعائه شخصياً للتحقيق، قد وجهت أصابع الاتهام إليه.
فكان لابد وأن تفقده كل هذه الصدمات والمنغصات بعض توازنه النفسي والمعنوي، فلا يجد له منفذاً من هذا ‘الحصار’ سوى مناطحة ‘طواحينه’ في لحظة اندفاعية انفعالية كالتي وضعته فيها القناة الأولى للتلفزيون البريطاني (بي.بي.سي1) في المقابلة التي أجرتها معه السبت 12 ديسمبر ,2009 حين توجهت إليه بالسؤال المحوري الذي يوجز كل تلك الشبهات والاتهامات التي ظلت تحوم حوله حول مسؤوليته عن الزج ببلاده في الحرب ضد العراق عام ,2003 ومؤداه: ‘هل كنت ستزج بالبلاد في الحرب عام 2003 حتى وإن لم يكن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل’؟
فأجاب على الفور: ‘كنت سأستمر في التفكير أن إطاحته أمر صائب. بالتأكيد لكنا استعملنا وأعددنا حججاً مختلفة حيال طبيعة التهديد’!
ماذا عسى المرء أن يسمي هذا؟
هل هي الروح الهجومية ‘العدوانية’ (The aggressive spirit) التي طالما ميَّزت أسلوب ‘توني بلير’ الذي يعبر به عادة عن نفسه وعن آرائه؟
أم هو الانهيار أمام الضغوطات التي تحاصره فيما يتصل بالقضية؟
أم هي المقامرة التكتيكية التحوطية في الترافع عن نفسه استباقاً للتحقيق الذي سيُجرى معه عما قريب؟
مع الأخذ بعين الاعتبار شخصية توني بلير التي قد تبدو أحياناً صفقة (وربما وقحة بعض الشيء) في تعبيراتها عن ذاتها، خصوصاً في لحظات التوتر واشتداد الضغط الناجم عن تضاد ما أو مأزق سياسي ما، فإننا نستبعد أن تكون تلك الروح الوثابة، كي لا نقول المتغطرسة، المتلازمة، مؤخراً وحسب، مع منغصات تواري وأفول نجم شخصية الرجل، يمكن أن تفل تماسكها وعزيمتها. هي قد تؤذيها وتخل بتوازنها، لكنها لا تفضي بالضرورة إلى انهيارها واستسلامها ‘لحصار الضغوط’، خصوصاً في حالة شخصية ‘بلير’ التي نحن بصددها، وهي شخصية حادة الذكاء ومتمرسة في خوض الصراعات وتجاوزها.
من ثم فإن الراجح أن توني بلير أراد بهذا الإقرار الاستباقي إفساد اتجاهات التحقيق والتهوين من الصدى الإعلامي والسياسي - ناهيك عن الجنائي - للأدلة التي يعتزم المحققون مواجهته بها.
وإلى ذلك أيضاً، فإن الذي هو غير مستبعد أن لا تتجاوز حدود صلاحيات (Mandate) اللجنة، الجانب التحقيقي المتعلق بتحديد وتوثيق عملية اتخاذ قرار دخول بريطانيا الحرب، من دون توجيه أية اتهامات مباشرة لأحد بالمسؤولية عن اتخاذ مثل هذا القرار كأساس لتأسيس وتشكيل دعوى جنائية من قبل الادعاء العام البريطاني.
واللجنة بتشكيلتها المعروفة لا تنبئ، على أية حال، بالخروج بنتائج تتجاوز ذلك الحد المرسوم الذي يروم فقط غلق هذا الملف بشكل رسمي ووضع حد للغط الدائر حول تحميل مسؤولية قرار دخول الحرب لرموز في النظام السياسي البريطاني والحيلولة دون المساس بهيبته وقواعده الأساسية.
ولكن.. ومهما كان من أمر ملابسات وتفسيرات تلك ‘النفحة’ النادرة من نفحات ‘بلير’ ‘اللامعة’، فإنها إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم اكتراثه في الكثير من الأحايين بقيم إنسانية (حضارية) مثل الكياسة والتواضع المقرون بالخجل النبيل.
صحيفة الوطن
16 يناير 2010
الرأسمالية الخاصة في البحرين (2)
رأينا كيف بدأ الرأسمال التجاري صنع العلاقات البضاعية الجديدة، حيث لم يستطع الغوصُ أن يشكلها، ودخلتْ بضاعةُ النفط في أوائل الثلاثينيات بشكلين سياسي واقتصادي، فمداخيل النفط خضعت لتوزيع حددته السلطة البريطانية، بأن يكون ثلاثيا: “الثلث الأول للأسرة الحاكمة، الثلث الثاني للميزانية العامة، الثلث الثالث للاحتياط”، ولكن الرأسمالية الخاصة لم تكن لها حصة إلا من خلال الاستفادة من فوائض النفط الموظفة في مختلف جوانب الاستهلاك الشخصي والعام.
أي أن جوانب الاستهلاك الشخصي تعني شراء سلع من السوق، سواءً كانت بضائع مادية مباشرة كالملابس والأحذية والأسمنت وغيرها، وهي التي ستتنوع كثيراً مع تبدلات الاستهلاك العادية أو الباذخة، أو كانت بضائع على شكل خدمات نقل، وشحن وصرافة وغيرها.
هذا يعتمد على السوق وكيفية مجيء الفوائض النقدية النفطية إليها، ونقول النفطية حصراً، لأنها ستكون أكبر الفوائض النقدية المحركة لعجلة التغييرات الاقتصادية، وستبقى الفوائضُ النقديةُ الأخرى تصب في مجرى السوق، وبالتالي تقومُ بتغييرِ طابعِ الرأسمالية الخاصة، وتفتحُ لها قنواتٍ جديدةً، توسعُ ما كان سابقاً من رأسماليةٍ تجاريةٍ سائدة.
نلاحظ في هذه السنوات الأولى من آثار فوائض السلعة النفطية مجموعة من التغييرات والمشروعات، فكما أن الرأسمالية الخاصة تزدهر، كذلك فإن الرأسمالية الحكومية تظهر وتبدأ نشاطها.
من جهة الرأسمالية الخاصة تبدأ السلع الاستهلاكية “المعمرة” بالظهور والإتساع، كبضاعة الدراجة والراديو.
“أصدرت حكومة البحرين إعلاناً تفرض فيه على عموم أصحاب الدراجات (السياكل) أن يمشوا في الطرق والشوارع العمومية طبقاً لقانون السيارات وأن يسلكوا جهة اليسار كما فرضت الحكومة في إعلانها هذا حمل فانوس مضاء من قبل سائق الدراجة من بعد غروب الشمس وأن من يخالف ذلك يعاقب”.
“في هذا العام وصلت الى أسواق البحرين أعداد قليلة من أجهزة الراديو الجديد ذات القطعة الواحدة، حيث كان الجهاز القديم ذا 4 قطع كبيرة مع الهوائي الأصغر نسبيا، فكانت البيوت المالكة لمثل هذه الأجهزة القديمة تخشى إفشاء سر وجوده لكي لا يتهم أصحابها بالكفر والشعوذة ومن ثم مقاطعة الناس لهم، غير أن هذا الجهاز الجديد لقي طلباً كبيراً من قطاع كبير من الأهالي”.
نشرت جريدة “البحرين” في عددها رقم 46 إحصائية بعدد أجهزة الراديو في البحرين، حيث بلغ عدد الأجهزة الإذاعية (الراديو) حسب ذلك الإحصاء 511 راديو، لذلك بسبب الاهتمام بالاستماع لأخبار الحرب العالمية الثانية من إذاعة برلين “العربية” والإذاعة العربية الإيطالية في مدينة باري(سنة 1940).
هذه البضائع لاتزال تتداول في سوق ذات طلبيات محدودة، تعبر عن ضيق ذات اليد للقوى العاملة، التي راحت تنتقلُ من أعمالِ الغوص بدرجةٍ أساسية إلى الأعمالِ الجديدة، فيما لاتزال الزراعة ذات أساسٍ مهم في الاقتصاد، وبهذا فإن الدخُولَ لم تكن كبيرة ومؤثرة في تعميق السوق المتخلفة، ولهذا فإن عائلة كانو وغيرها من العائلات التجارية تقوم بالتوجه إلى أسواق أخرى في البلدان المجاورة، مما يعبر عن توسع رأسمالها وتناميه.
في حين أن عائلة تجارية أخرى كعائلة المؤيد تركز في السلع الاستهلاكية المعمرة الجديدة الداخلة في السوق بشكلٍ بطيء.
إن سلع الدراجات، وأجهزة الراديو المُفكّكة ثم المُجمعّة، والمراوح والمكيفات، ستكون من السلع التي تنمو جنباً لجنب مع تطور المعيشة وبناء البيوت الجديدة والتخلص من بيوت الأكواخ تغييرا سلميا أو حرقا.
فيما ستنمو السلع الأكثر قيمة وبذخاً بشكلٍ أقل بالنسبة إلى العامة، أما بالنسبة إلى الخاصة فستكونُ جنباً لجنب مع تغيير طابع البيوت القديمة إلى الفلل والقصور.
ولهذا فإن طابع الشركات الخاصة سوف ينمو تبعاً لحاجات السوق وتنوع الطلب، ومن هنا سنرى العديد من البيوتات التجارية تتوجه إلى تلك البضائع الاستهلاكية المعمرة المهمة للمنازل والخدمات المختلفة التابعة لها، وكذلك ما يتلوها من سلع ذات قيمة في التصنيع والتصليح والتطور الاجتماعي عامة.
“المؤيد: من العائلات الشهيرة في البحرين والخليج العربي، فقد تأسست مجموعة يوسف خليل المؤيد وأولاده قبل ستة عقود، وتمتلك المجموعة أنشطة منوعة من بينها مجموعة يوسف خليل المؤيد وأشرف ومجموعة المؤيد للمقاولات.
وتشتمل الأنشطة التي تعمل فيها عائلة المؤيد على تجارة السيارات والأنشطة التجارية والعربات والمعدات الثقيلة ومعدات المقاولات والمقاولات الصناعية ومقاولات التكييف والتكنولوجيا الطبية وتجارة الأجهزة الالكترونية والمنزلية والأثاث وغيرها.أسس المجموعة الوجيه يوسف خليل المؤيد ويقودها اليوم الوجيه فاروق يوسف المؤيد”.
“فخرو: مازالت مجموعة فخرو تعمل في البحرين منذ عام 1888، ولديها اليوم نشاطات في مجالات متعددة في البحرين وبقية دول الخليج العربي. هذه النشاطات تتضمن التجارة، بيع محركات الديزل، الكيماويات، الإطارات، البطاريات، معدات الحماية من الأشعة، التأمين، الشحن، النقل، الأغذية.
وقد توارث المرحوم الحاج يوسف عبدالرحمن فخرو الأعمال من والده، وقام بتحقيق توسعات كبيرة في أعمال المجموعة خلال النصف الأول من القرن الماضي. وبوفاته عام 1952 تطورت أعمال المجموعة من التعامل في مواد البناء التقليدية والتمور إلى مؤسسة تجارية نشطة في عالم التصدير والاستيراد وتمتلك أسطولاً من البواخر. كما تمتلك المجموعة فروعاً في البحرين والعراق والإمارات والهند.
وفي الجيل التالي، تولى المرحوم عبدالله يوسف فخرو القيادة وقام بإعادة تنظيم الأعمال من خلال تأسيس الشركات الفرعية والأقسام المتخصصة، وتمتلك المجموعة اليوم مجموعة من الشركات المتخصصة في مجالات تجارة السيارات والأجهزة الالكترونية وأجهزة الاتصالات والمطاعم والخدمات التأمينية والمقاولات والمواصلات وأجهزة الكمبيوتر وغيرها”.
“الزياني: تعود مشاركة عائلة الزياني في النشاط التجاري الحديث إلى ما يزيد على ثلاثة أجيال، فقد تأسست استثمارات الزياني في عام 1977 كإحدى الشركات النشطة والفاعلة في البلاد. وللشركة أنشطة متنوعة تشمل تجارة السيارات، الرعاية الصحية، الأنشطة الصناعية، العقارات، الخدمات.
ففي أعقاب إنشاء شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) في عام 1971 كأول مصهر للألمنيوم في منطقة الشرق الأوسط كانت استثمارات الزياني أول مجموعة شركات خاصة تعمل على الاستفادة من المزايا الضخمة لإنشاء الصناعات التحويلية واستغلال الألمنيوم المصهور.
وفي عام 1987 تأسست ميدال للكابلات المحدودة بطاقة إنتاجية مبدئية قدرها 20 ألف طن متري (زادت لاحقا إلى 90 ألف طن) لإنتاج كابلات وقضبان الألمنيوم من الفئة المقررة لدى الاتحاد الأوروبي وقضبان وسبائك الألمنيوم اللازمة للتطبيقات الميكانيكية والكهربائية وجميع أنواع موصلات الألمنيوم المقواة بالصلب والموصلات المصنوعة من سبائك الألمنيوم اللازمة لخطوط نقل الكهرباء.
وفي عام 1998 انطلقت السيارات الأوروبية كوكالة لسيارات بي إم دبليو قبل أن تحصل على توكيلات كبرى السيارات الشهيرة مثل رولز رويس، فيراري، مازيراتي، ميني، لاندروفر، روفر، إم جي في إطار أنشطتها”.
“العالي: تعد شركة أحمد منصور العالي إحدى الشركات الكبرى في البحرين التي تعمل في مجال المقاولات والبنية التحتية الصناعية، معدات البناء، التجارة، التطوير العقاري.
تأسست الشركة في عام 1948 على يد أحمد منصور العالي، وهي شركة عائلية، تحقق اليوم عائدا سنويا يتجاوز 300 مليون دولار أمريكي، وبها أكثر من 20 قسما، بالإضافة إلى الشركات التابعة والمشاريع المشتركة، التي توظف أكثر من 5 آلاف موظف، وتلبي احتياجات العملاء في كل من القطاعين العام والخاص”.
(أسواق، العائلات الثرية في الخليج تجلس على أكثر من تريليون دولار. د.حسن العالي، نزيهة سعيد، 16 أغسطس، 2009).
هذه العائلات التجارية تقارب عائلة كانو في البدء بالتجارة البسيطة ثم في نمو الأعمال المختلفة المتوازية مع التطور النفطي، وتطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية عامة.
لكن لتراكم العوائد من التجارة احتاج الأمر إلى عقود طويلة، ولدور عوائد النفط في تطور السوق، ولحراك الرأسمال التجاري في أسواق أخرى غير سوق البلد، ولتدني مستوى الأجور للعاملين.
صحيفة اخبار الخليج
16 يناير 2010
إشكالية الديمقراطية العربية
اشكالية الديمقراطية العربية مقال لجورج طرابيش نشر في كتاب “الحقوق والحريات العامة” وهو مجموعة مقالات جمعها وحررها محمد كامل الخطيب.. ويتألف هذا الاصدار من ثلاثة اجزاء تحتوي على اربعة اقسام وهي الحرية والحريات العامة، والتعصب والتسامح، مسألة الديمقراطية، حرية التفكير والتعبير.
يستعرض طرابيش في هذه المقالة الغنية شروط تطبيق او ممارسة الديمقراطية في العالم العربي، اذ يعتقد ان هذه الشروط تشير الى تباين الهويات القطرية في هذا العالم وعلى تفاوت درجات تطور (او تخلف) المجتمعات العربية، وبالتالي على اللاتساوي في درجات تقبل هذه المجتمعات للديمقراطية.
وعلى صعيد هذه الشروط يقول: ان أول ما يمكن ملاحظته ان الديمقراطية في العالم العربي هي موضوع طلب ايديولوجي شديد ولكن بدون عرض على صعيد الواقع الفعلي وبدون تأسيس نظري على صعيد المفهوم.
ومن هذه الاستنتاج يصل الى اهمية الوعي النقدي لا للمسلمات، ومن هذا المنطق يعتقد ان أولى اشكاليات الديمقراطية العربية قابلة ضمن التسمية المجازية: اشكالية المفتاح والتاج.
وملخص ذلك كما يقول: الموقف الايديولوجي يرى في الديمقراطية مفتاحًا لحل مشكلات المجتمعات العربية، وهذا المفتاح هو بالضرورة من طبيعة سحرية مثله في ذلك مثل سائر “المفاتيح العجائبية” التي اناطت بها الايديولوجيا العربية معجزة النقلة الفجائية بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن من واقع التأخر الى مثال التقدم، ففكرة الديمقراطية تضطلع اليوم بالوظيفة نفسها التي اضطلعت بها في طور فائت فكرة الاشتراكية، وفكرة الثورة ومن قبلها فكرة الوحدة او حتى فكرة النهضة. وعلى هذا الاساس تحدث طرابيش عن الديمقراطية قائلا: لا يعني ان الديمقراطية لا تصلح لان تكون نقطة انطلاق، ولكن ذلك بقدر ما تشكل في الوقت نفسه نقطة وصول، واذا كان لها ان تدشن تطوراً بعينه فليس يجوز ان يغيب عن الوعي انها تتوج التطور، وقبل ان تكون الديمقراطية مفتاحاً لجميع الابواب فإنها هي نفسها بحاجة الى مفتاح ولعل بابها لا يفتح الا بعد ان تكون جميع الابواب الاخرى قد فتحت او بالتواقت معها على الاقل وحتى اذا امكن تصور الديمقراطية كسابقة لا كلاحقة فليست هي عصا الجنية بل معول فعله التاريخ الذين هم بشر من لحم ودم وعرق وليس الهدف من هذا التوكيد على مشروطية الديمقراطية تسفيه من يرفعون شعارها كشرط بل فقط التحذير من وهم المعجزة، هل الديمقراطية هي مجرد صيغة للحكم ام هي ايضا ثقافة؟
سؤال يطرحه لقناعته بأن الديمقراطية وفي الحالة العربية اذا كانت مجرد اجرائيات فإن ذلك سيقتل بذرتها في مهدها وبالتالي فالثقافة الديمقراطية هنا هي شرط تخصيب التربة وشرط النماء وبدون ثقافة الديمقرطية فإن الاجرائية او الشكلانية الديمقراطية قد تنقلب وبالًا على الديمقراطية نفسها.
ومن بين هذه الاشكاليات يرى ان اشكاليات الديمقراطية العربية لا تكمن فقط في النظم العربية بل حتى ايضا في المعارضات العربية التي تضيق من ممارسة الديمقراطية في احزابها وخاصة اذا كانت هذه الاحزاب طائفية او احزاب الاسلام السياسي.
ومن هنا يشير الى السيطرة المتصاعدة للحركات الاصولية على الشارع في العالم العربي قائلا: صحيح ان بعض التيارات الهامشية في الحركة الاصولية نفسها تؤكد شعاريا على تمسكها بالقيمة الديمقراطية ولكن سواد الحركة الاصولية لا يخفي مجانبته لها، فالديمقراطية كما يدل اسمها بالذات قيمة “غربية” والحضارة الغربية بأسرها مرفوضة. وحتى لو استولى الاصوليون على السلطة بطريقة ديمقراطية فإن اول عمل لهم إلغاء الديمقراطية نفسها بوصفها نظاما مستورداً ودخيلاً.
ومن هنا يقودنا الى اشكالية اخرى هل تباح حرية النشاط السياسي لقوى سياسية لا تؤمن بالديمقراطية ولا تتوسل بها إلا بهدف إلغائها؟
الجواب على ذلك هو ان الديمقراطية هي عقد، وكما في كل تعاقد فان التزام جميع الاطراف بشروط العقد شرط لقيامه وسريان مفعوله والحال ان العقد الديمقراطي لا يقبل زغلاً او تدليسا.
حقيقة هناك اشكاليات كثيرة وقف عندها طرابيش وخاصة تلك التي لها علاقة بحقوق المرأة السياسية والنظم الانتخابية والتعليم والامية والطائفية والقبلية ويضاف الى ذلك المال السياسي وشراء الذمم والتزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات.
صحيفة الايام
16 يناير 2010