ويبقى الجدل محتدما في الشقيقة الكويت، على الرغم من أنها ليست وحدها في هذا الجانب بكل تأكيد، فبعد أن استكملت حلقات ومناوشات منع السيد محمد باقر الفالي من دخول الكويت العام الماضي، وما ثار حولها من زوابع لم يهدأ أوارها بعد، سواء تلك ما كان منها تحت قبة مجلس الأمة أو ما كان خارجها، لازالت إرهاصات تلك القضية مستمرة وسط جدال عقيم لم يهدأ حتى اللحظة، لكنه يبقى عنوانا لطبيعة العلاقة التي اصطبغ بها المشهد العام في أكثر من بلد خليجي وليس في الكويت لوحدها خلال السنوات الأخيرة. ويمكن إرجاع ذلك في جزئية منه إلى ما سمحت به طبيعة الممارسة الديمقراطية في الكويت، والتي أعطت بدورها لتلك الظاهرة القدرة على البروز بشكل اكبر، علاوة على أنها أصبحت تمثل حالة ارتداد ورجع الصدى لما يحدث في محيطها.
الجدل يتجدد مرة أخرى بعد أن تراجعت الجهات الأمنية في الكويت عن قرار سبق أن اتخذته منعت بمقتضاه الداعية السعودي محمد العريفي من دخول أراضيها، إثر تصريحات مسيئة بحق المرجع الديني السيد علي السيستاني وما أثارته من ردود فعل غاضبة في العالم الإسلامي.
لا نريد أن نناقش هنا قرارات سيادية للكويت هي حق لها كما هي لغيرها من الدول في حرية اتخاذ ما يتماشى مع ظروف وطبيعة أوضاعها الداخلية فهي ملك للكويت وللكويتيين. كما أننا لا نريد أبدا الدخول إلى متاهة الوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، فتلك مسألة لا اعتقد أننا بحاجة للخوض فيها، على الرغم من كونها عنوانا لطبيعة ما أنتجته سنوات من السماح بتسميم العلاقات التي مارستها بعض القوى المهيمنة على المشهد العام في محيطنا الخليجي، وهي علاقات ليست بريئة أو أنها عارضة بل أنها بدأت تتخذ لنفسها وجوها وأشكالا تتباين بحسب طبيعة العلاقات البينية وتباينات المواقف السياسية بين دول محورية في المنطقة لها الباع الطولى فيما يحصل لتلك العلاقات من حالات شذ وجذب، ومن تشوهات لم تكن يوما قائمة بمثل هذا الزخم الذي يصل أحيانا إلى حد الجنون والإسفاف، وهي توظيف لتشنجات ستظل قائمة على الدوام طالما لم تهتدِ دول المنطقة جميعها وما يحيطها من مؤثرات، إلى وسيلة تعايش سلمي حقيقي بين مختلف مكوناتها بدلا من السعي لتأجيجها وبوسائل شتى، وبما يدفع نحو تحقيق مصالح شعوبها، ويؤسس لحالة من الانسجام الداخلي في كل دولة على حدة وليؤسس لعلاقات ثنائية بين دول المنطقة تقوم على التكامل والتعاون القائم على المصالح الاقتصادية المباشرة لشعوب دول المنطقة وحسن الجوار.
باعتقادي أنه كثيرا ما يستفاد من حالات الاحتقان والخصومة المستمرة بين دول المنطقة بعضها ببعض أو تلك التي هي بين الشرائح والمكونات الداخلية لدولنا، ولا اركن هنا إلى ما يمكن أن يفهم أنه تسليم بنظرية المؤامرة، وإنما السعي لتوظيف ما يشوب العلاقات البينية والعلاقات السياسية بين بعض دول المنطقة بين فترة وأخرى من خلافات عن طريق الاستفادة من التباينات المذهبية والطائفية والعرقية، وأحيانا كثيرة استدعاء حالة الصراع السياسي القائمة إقليميا، كتلك التي تجري في العراق أو لبنان أو اليمن أو حتى إيران، والذهاب في ذلك إلى ابعد مدى ممكن بحيث تنخلق نتيجة لها حالات متجددة من الشد والتوتر بين القوى الداخلة في الصراع. بكل أسف كثيرا ما نجد أن ذلك هو الأمر الوحيد المتاح تقريبا أمام تلك القوى المتصارعة، على الرغم من وجود بدائل إيجابية كثيرة تعلم محاور الصراع قبل غيرها أنها السبيل الأجدى لحل ما يمكن أن يبرز من تداعيات وخلافات، لكن كثيرا ما يتم تجاهلها وعدم محاولة تجريبها.
المهم أن أدوات التوظيف تكون أدوات محلية الصنع، هي عبارة عن تيارات متصارعة ومنقسمة سياسيا وعقائديا، بل هي أجنحة ومراكز قوى تعتاش على بقاء حالات الاحتقان والتوتير، يحدث ذلك بكل أسف على حساب إعاقة مسيرة التنمية في أكثر من بلد من بلدان المنطقة، لتظل رهنا لصراع لا يراد له أن يهدأ، بل عليه أن يظل هكذا مشتعلا على الدوام، ربما حتى لا تحين ساعة المساءلة أو مجرد الحديث حول بدائل أكثر موضوعية ومنفعة، وهي أحيانا حالة تنفيس لأوضاع داخلية شديدة التداخل والتعقيد الملازمة لمسار دولنا السياسي والتنموي، لنجد تخندقا وحالة انعزال ومسيرة من الشك الدائم تبقى معها دولنا وشعوبنا تمثل حالة استثنائية بين مختلف دول العالم وأقاليمها، ليصار إلى توظيف قضايا عارضة كتلك التي تحدث في الكويت أو غيرها من دول المنطقة بين فترة وأخرى، لتصبح عناوين مثيرة تقوم تلك القوى المهيمنة على المشهد بالنفخ فيها لتقطف شعوبنا بعدها ثمارا هي بطعم العلقم بل أشد.
صحيفة الايام
25 يناير 2010
جدل الكويت… بل جدلنا الدائم!!
عن آليات الفساد
مرةً، وعلى خلفية تقرير للمنظمة الشفافية الدولية المعنية بمراقبة الفساد والحث على محاربته، والذي أعطى الدول العربية معدلات عالية في انتشار الفساد في أداء أجهزتها الحكومية أجرت شبكة “بي بي سي” على الانترنت استطلاعاً لزوارها حول رؤيتهم لاستشراء ظاهرة الفساد في بلدانهم، وكان مثيراً ولافتاً للنظر قراءة شهادات المواطنين العاديين حول هذا الموضوع، الذي عزوه للعديد من الأسباب بوسعنا أن نستعرض هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
– غياب العدالة الاجتماعية التي تحقق المساواة في الفرص بين المواطنين.
– فساد القضاء وعدم استقلاليته، خاصة وأن القضاء بالذات هو المعني بتطبيق التشريعات التي تحارب الفساد والفاسدين، فإذا كانت جهة الرقابة ذاتها فاسدة، فكيف لنا أن نتوقع إمكانية القضاء على هذا الفساد أو الحد منه على أقل تقدير.
– فساد الهياكل البيروقراطية والحزبية الحاكمة في العديد من البلدان العربية، التي أصبحت هي ذاتها مضخة للفساد وبيئة ملائمة لتعميمه وإشاعته في المجتمع برمته.
– تفشي مظاهر غسيل الأموال والعمليات المالية غير المشروعة والاستثمارات المزيفة واختلاس أموال البنوك بالغش الإداري، مما يؤدي إلى إهدار أموال صغار المستثمرين والفئات محدودة ومتوسطة الدخل.
– غياب تداول السلطة وبقاء كبار المسؤولين والوزراء في مناصبهم لسنوات طويلة وأحياناً لعقود متوالية، مما يخلق شبكات من المنافع الراسخة العصية على الرقابة والمساءلة، ويؤدي إلى تراكم الثروات غير المشروعة ويغري بالتطاول على المال العام واستنزاف ميزانيات الدول في أعمال ومصالح خاصة.
– عدم اعتماد معايير الكفاءة ونظافة اليد ونزاهة الضمير والحرص على المصالح الوطنية العليا في التعيينات الإدارية، وتفضيل القرابات العائلية والولاءات الشخصية في اختيار العناصر المسؤولة، خاصة في المواقع الإدارية الرفيعة، مما يُثقل الجهاز الإداري بالأشخاص الفاسدين ويعمم شبكات الفساد القائمة على الولاء وتبادل المنافع.
– غياب حرمة القانون، والتطاول الصريح عليه علانية والتحايل على بنوده، خاصة مع ضعف أو حتى غياب المؤسسات البرلمانية ذات الصلاحيات التشريعية والرقابية، وتفشي الرشاوى والعمولات، بل إن كثيراً من الدول العربية تعاني من نقصٍ في التشريعات الصارمة للتضييق على الفساد والمتورطين فيه، وفي الغالب فإن الفساد يبدأ من أشخاص متنفذين غالباً ما يكونوا “فوق” القانون ويعجز القضاء عن ملاحقتهم، مما يسهم في جعل الفساد ممكناً في الحلقات الأدنى.
طبعاً بوسعنا أن نسهب في هذه الأسباب والعوامل بحيث لا يعود بوسع مساحة هذه الزاوية أن تغطيها، ولكن لو دققنا فيها لأمكننا حصرها في غياب الهياكل الديمقراطية الحقيقية التي تؤمن الرقابة الشعبية والبرلمانية على الأداء الحكومي وطرق التصرف بالمال العام، فمع غياب فصل السلطات وضعف المؤسسات البرلمانية ومحدودية صلاحياتها أو حتى غيابها بالكامل، وفساد القضاء أو هشاشته، يصبح المال العام مهدراً، وتصبح الموازنات العامة للدول عرضة للنهب الدائم منها بأساليب شتى، فضلاً عن تلك العوائد المالية الكبرى التي لا تُرصد أصلاً في الموازنات وتذهب في مسارات أخرى خاصة.
إحدى المشاركات في الاستطلاع المشار إليه ذكرت بأحد التقارير الذي يشير إلى أن أرصدة كبار رجال الدول في بعض الدول العربية تساوي مجموع القروض والمساعدات المقدمة للدولة!
صحيفة الايام
25 يناير 2010
تفاوت الوعي الديمقراطي بين دول مجلس التعاون
مع احترامنا وتقديرنا الشديدين لشعوبنا العربية الشقيقة في دول مجلس التعاون الخليجي إلا أننا لا نذيع سرا إذا ما قلنا ان شعبنا البحريني هو أكثر هذه الشعوب تميزاً بالوعي الديمقراطي، بما في ذلك ادراكه أهمية دمقرطة النظام السياسي وتعميقها فضلاً عن الحياة السياسية وهو، شعبنا، أكثر شعوب دول المجلس أيضاً في الحراك السياسي والأنشطة السياسية وبطبيعة الحال ثمة اسباب تاريخية وسياسية وتعليمية لهذه الخاصية التي يتميز بها الشعب البحريني عن سائر اشقائه الشعوب العربية الخليجية ليس هنا موضع تناولها.
وعلى الرغم من وجود نخبة سياسية واخرى مثقفة متعلمة وبضمنها شريحة لا بأس بها من التكنوقراط في كل بلد خليجي وان بنسب متفاوتة من بلد إلى آخر، فإن الوعي السياسي بأهمية الديمقراطية كضرورة ملحة لم يتعمق أو يتجذر بما فيه الكفاية، لا لدى النخبتين السياسية والمثقفة بدرجة ما، ولا لدى اعرض قاعدة شعبية بوجه خاص، ولعل الاستثناء من هذه الدول الكويت إلى حد ما وذلك بالنظر إلى تشابه ظروف وخصائص تطورها السياسي والتعليمي والثقافي المعاصر مع ظروف البحرين، وان كانت هي الاخرى لا تشعر بدرجة معينة بفداحة تغييب الديمقراطية او الحياة النيابية بعمق شعور البحرينيين.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا بالرغم من التطور الثقافي والسياسي الهائل الذي مرت به معظم دول الخليج لا نلحظ على نحو ملموس لدى نخبها وشعوبها ذلك الاهتمام بالديمقراطية والاصلاحات السياسية كالذي يلاحظه العالم لدى شعبنا البحريني؟
في تقديرنا ان معظم بلدان مجلس التعاون لم يبدأ التطور التعليمي والثقافي والسياسي لديها إلا متأخراً اثر اكتشاف النفط، وعلى وجه الخصوص فإن هذا التطور قد برز مع ظهور ما بات يُعرف بـ “الطفرة النفطية” في مطالع سبعينيات القرن الماضي، حيث ادت هذه الطفرة الى صعود معظم شرائح المجتمعات الخليجية من فقر وتدن في مستوى الحياة المعيشية الى إما ثراء فاحش وإما الى ثراء عادي وإما الى ارتفاع عادي معقول في مستوى الحياة المعيشية بما يعبر عنه بمستوى الطبقة الوسطى قبل تدهور أوضاعها.
وجاء هذا الحراك الاجتماعي سريعاً اشبه بالقفزة بالتوازي مع القفزة في التطور التعليمي من دون تدرج كما في البحرين التي كان التعليم النظامي فيها وبدايات التطور الاداري والسياسي الحديث أسبق من اكتشاف النفط في مطالع الثلاثينيات، وحيث مثلت الخمسينيات علامة مميزة من علامات ما قطعه الشعب البحريني من شوط في تطور نضجه السياسي قبل ان يظهر التعليم في غالبية بلدان مجلس التعاون، وبالتالي فإن تلك الطفرة النفطية التي نقلت مجتمعات معظم بلدان المجلس من حال إلى حال مختلف تماماً لم تسمح بنمو وتطور تدريجيين في الوعي السياسي والحراك الاجتماعي بل الأهم من ذلك لم تسمح بوجود طبقة وسطى واضحة المعالم تشكلت على نار هادئة وفق تدرج اقتصادي تعليمي كما هو في البحرين.
ويمكن القول: ان هذه الخصائص من التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت اغلب طبقات وشرائح المجتمعات الخليجية تعيش في بحبوحة من العيش الرغيد أسهمت موضوعيا في اعاقة تطور الوعي الديمقراطي وعدم الاحساس، بشكل أو بآخر، بالضرورة الملحة لنيل الحقوق السياسية او النضال من اجل دمقرطة انظمتها السياسية حتى بدت مثل هذه الحاجة اشبه بالترف او الحاجة الزائدة التي لا لزوم لها او لا ضرورة ملحة لها مادامت غالبية فئات المجتمع قد أمنت لهم الدولة إما مستوى رغيدا من الحياة المعيشية الكريمة وإما فتحت لهم “الطفرة” اوسع ابوابها لضرب ارقام قياسية عالمية للثراء السريع الاسطوري.
حتى على الرغم من الازمة المالية العالمية التي القت بظلالها الكئيبة على اقتصادات دول المجلس فإن المستويات المعيشية للطبقات الوسطى في الدول الخليجية وكذا ذوي الدخل المحدود لم تتأثر كما تأثرت وضربت المستويات المعيشية للطبقة الوسطى في البحرين، ناهيك عن ذوي الدخل المحدود وغيرهم من فئات قاع الهرم الاجتماعي الاخرى بمن في ذلك المعدمون والعاطلون او ممن يصنفون انهم تحت خط الفقر.
اكثر من ذلك فإن هذه الدول شرعت جميعها، باستثناء البحرين، في رفع مرتبات موظفي القطاع العام أكثر من مرة بنسب سخية تتراوح بين الـ 25% والـ 30% وبعضها قيل إنها بلغت 100% وذلك على اثر الازمة المالية وارتفاع اسعار السلع.
فهل من غرابة والحال كذلك الا يترتب على الازمة المالية وغلاء الاسعار أي شعور لتلك الشعوب بالرغبة في التظاهر والمطالبة برفع الاجور؟ وهل لو كان شعبنا، حتى بالرغم مما قطعه من شوط كبير في الوعي والنضج السياسيين، يتمتع بما يتمتع به اشقاؤه شعوب دول مجلس التعاون سيكون مغرماً الى حد الهوس بالمسيرات والعرائض السياسية او ان يكون مثلاً شديد القلق لأي زيادة في اسعار السلع الاساسية؟ ثم الى متى سيظل البحرينيون محرومين من الزيادة الفعلية في رواتبهم اسوة بالزيادات المتتالية التي نالها اشقاؤهم الخليجيون كافة؟
صحيفة اخبار الخليج
24 يناير 2010
هايتي بلد الغناء والألم
جاءت الهزة الكارثية لشعب وحكومة هايتي صدمة عميقة بلغت حد الرثاء التراجيدي، تلك الجزيرة الكاريبية التي ظلت تسبح في أرخبيل ممتلئ بالأعاصير والانقلابات العسكرية والفقر، وأخيرا لم يرحمها الزلزال، الذي لم تعرف مثله لما يقرب القرنين . الكارثة هزت المجتمع الدولي والمشاعر الإنسانية في زمن مازال هناك بشر يغنون بطريقتهم «لا احد يبكي على هايتي !» وبذلك تكون الأغنية تصلح لماساتنا العربية فلا احد اليوم يبكي على اليمن ولا غزة أو العراق والسودان، ولا احد يبكي على موريتانيا ولا على أفغانستان والصومال، ولن يبكي أيضا احد على كل الجرعات الأليمة التي يبتلع ريقها الناس صبحا ومساء وهم يشاهدون كارثة تلو الكارثة ودم ينزف كالأنهر الصغيرة في حروب أهلية ونصف نظامية .
ربما لا يبدو الموت غير متوقعا لإنسان يعيش حالة إرهاب وحرب وتفجيرات مستمرة كأفغانستان والصومال وباكستان وغيرها من البلدان المتفجرة ببؤر الإرهاب، ولكن الإنسان يمتلئ ذعرا ورعبا عندما تحل الكارثة المميتة عليه فجأة ودون توقع، فيصبح أمام مشهد يومي مريع للغاية ومشاهد بائسة وبشعة للأجساد البشرية وهي ممتدة في الخلاء، وكأنها قطع من الأقمشة المزرية وفي انتظار شاحنة القمامة. بيوت ودمار وجوع وعطش ومصابون في كل مكان من العاصمة، بعد أن دمر الزلزال كل البنى التحتية وترك حلقة الاتصالات مقطوعة مما عقد عملية الإنقاذ والتواصل والإغاثة العاجلة . في مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة نقف أمام ضمائرنا ماذا تفعل الإنسانية لنفسها عندما تدخل محنة بيئية؟ فنموذج هايتي ليس إلا نموذج واحد ينتظرنا في الأعوام القادمة، مثلما تركت لنا أجراس التسونامي والعواصف المتتالية في دول كبرى كالولايات المتحدة حيث دمر إعصار كاترينا الولاية تدميرا ضخما لم تستنهض بعدها كاملة حتى ألان . في ظل هذا الدروس الإنسانية، نلمس باستمرار الحس اليقظ أحيانا عند الدول والشخصيات والزعماء والمنظمات المدنية، المجتمعية أو الرسمية، المحلية أو الإقليمية والدولية، فكلها تستنفر طاقاتها وتتحرك بأسرع ما يمكن، لكي تنتشل قدر المستطاع من الأرواح المهددة بالموت، والتي تقف على مسافة قريبة منه، ففي كل ساعة تأخير يموت شخص لا يسعفه الرمق ولا يسعفه جسده المريض والواهن ولا يسعفه الوضع الكارثي الذي يعيشه، لهذا يصاب السكان المحليون في تلك اللحظة بذعر مضاعف وتشل الدهشة قواهم وقدراتهم، ويكتشفون أنهم يودون تقديم المساعدة والعون للضحايا، ولكن خبرتهم وإمكانيتهم تحول تقديم ما هو ممكن أكثر من حمل طفل صغير أو امرأة عجوز أو إزالة ركام بسيط من الخشب، غير إن من في إمكانهم إزالة تلك القطع الإسمنتية الضخمة، وتقديم المواد الغذائية والأدوية والاحتياجات الضرورية والعلاج والخيام، هم وحدهم المنظمات الدولية والدول، هم وحدهم من يمتلكون الطائرات والفرق والبواخر والمعامل الميدانية والمستشفيات المتحركة، كلها كانت أمامنا في هذه اللحظة من لحظات هايتي المرعبة. إن يفقد بلد فيه ثلث السكان مساكنهم وثروتهم القومية، وتفوق أرقام الموتى الخمسين ألف إنسان، وهناك رقم مضاعف، لم يتم بعد تأكيده، ففي مثل هذه اللحظة تصاب القدرات الإنسانية بالشلل في تقدير حجم الخسائر.
في هذا المشهد التراجيدي يفتح لنا الساسة معاركهم الجانبية، فتبدأ الصحافة الأمريكية والمحافظين وغيرهم من توجيه اللوم على الرئيس الأمريكي لتكتب الصحافة بكل وضوح «إن كارثة هايتي هي امتحان لباراك اوباما، ففي الماضي كان من المنتقدين لسياسة بوش في كيفية تعامله مع إعصار كاترينا» فهل نرى شيئا شبيها بذلك؟ محاولة الصحافة الأمريكية التركيز على حادثة وصول الفرقة الصينية قبل الأمريكية لهايتي بساعات رغم فرق المسافة والإمكانيات .
في هذه اللحظة يتشابه الساسة والجماعات المرتزقة المهووسون بالنهب والسلب فيضيفون لجريمتهم جرماً إنسانياً آخر، وما بين ابتزاز رجل السياسة ورجل النهب هناك مجرد مسافة أخلاقية وقيمية، ففي لحظة هايتي المرعبة علينا أن نركب قاربا إنسانيا واحدا عند الكارثة، وعلى الجميع أن ينقذوا شعبا ووطن من كارثته. الأمريكيون يفتشون عن رعاياهم في الجزيرة، والذين يبلغ عددهم ما بين 40 و45 ألف أمريكي وحتى لحظة مقالتنا هذه لم يستطيعوا تقديم القوائم، فيما راح الفرنسيون يبحثون أيضا عن رعاياهم، أما الكوبيون الذين لديهم 300 طبيب في هايتي بشكل مساعدات دائمة يفكرون مع البرازيليين كيف يبعثوا بإمدادات طبية عاجلة تشاركهم نفس المشاعر والموقف دول ومنظمات عدة .
وإذا ما نجحت فرق الإنقاذ الأمريكية في نقل بعض دبلوماسييها للعلاج في قاعدة غوانتانامو الكوبية القريبة، فان المجتمع الدولي والأمم المتحدة تستنجد العالم بحاجتها العاجلة لمائة مليون دولار لإنقاذ الوضع الطارئ على ميزانيتها المستنزفة بكوارث ومصائب العالم المتنوعة . يبدو إن الأمين العام حظه عاثرا مع العام 2010، والذي يحمل في طياته ما هو أصعب، فهناك مليار جائع مهددين بالموت هم أكثر انتظارا للقمة والعلاج في قاربنا الإنساني، وما يحتاجه المجتمع الدولي لإنقاذ جياع العالم وليس جياع هايتي مبلغ قدره ستة مليار دولار فيما الدول المانحة لم تدفع إلا المليارين، ومعنى ذلك إن الآخرين أمامهم خيار الموت جوعا بطريقة بطيئة.
صحيفة الايام
24 يناير 2010
الشحن الطائفي.. و” الفوضى الخلاقة “
ما كادت الكويت تتجاوز أزمة الفتنة الفئوية، التي أججتها بعض قنوات الإعلام الفاسد، ومعها ما كان يثار حول «يوم عاشوراء»، حتى انطلقت قبل أيام تصريحات نواب الشحن الطائفي المتبادل حول الشيخ محمد العريفي… وهذا ما يكشف أمرين بالغي الخطورة، أولهما أنّ هناك حالة غير مسبوقة من الاستقطاب الفئوي والطائفي يمر بها المجتمع الكويتي تتطلب الانتباه والحذر، وثانيهما أنّ هناك أطرافاً تتعمّد التأجيج الفئوي والطائفي لابد من تسليط الضوء على أجنداتها وأغراضها.
إنّ المشكلة ليست مشكلة وجود فئات اجتماعية مختلفة أو مشكلة التعدد الطائفي داخل المجتمع الكويتي فهذه تقسيمات طبيعية في أي مجتمع إنساني، ولكن المشكلة أنّ هناك مَنْ يدفع في اتجاه تحويل هذه التقسيمات القائمة إلى انقسامات دائمة، ويستثير مشاعر المواطنين البسطاء ويؤجج النعرات الفئوية والطائفية لفرض حالة من الاستقطاب الحاد داخل المجتمع، ويسعى إلى إبراز الهويات الجزئية من مناطقية وقبلية وطائفية وعائلية ويعمل على تحويلها إلى بدائل عن الهوية الوطنية الكويتية الجامعة.
والخطورة أنّ بعض المتحمسين من حسني النوايا من غير المغرضين، بل حتى بعض الأطراف التي تعتاش على الاستقطاب الفئوي أو الطائفي، أو تلك التي تحركها أهداف ومصالح سياسية ذاتية أو حسابات واعتبارات انتخابية آنية، تشارك بوعي أو بدون وعي في مثل هذا الشحن الفئوي والطائفي من دون أن تدرك أنّ هناك مخططات معلنة للصهاينة ولعصابة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية كانت ولا تزال تستهدف تفتيت المجتمعات العربية والإسلامية وإلهاءها بصراعات فئوية وطائفية، وتحويلها إلى كيانات منقسمة ومتعادية، وإعادة تركيبها على نحو مختلف، وذلك ضمن ما يسمى «نظرية الفوضى الخلاقة»، وهذا ما نجحت بتحقيقه في السودان، وأنجزته في العراق، وبدأت به أخيراً في اليمن… وكانت قد أعلنت أنّها تسعى إلى افتعاله في المملكة العربية السعودية… وبالطبع فإننا في الكويت لن نكون استثناءً غير مشمول بمثل هذه المخططات الخبيثة، بل إنّ وضعنا كبلد صغير؛ وموقعنا الاستراتيجي الهام؛ ومقدراتنا النفطية الهائلة تمثّل إغراءات إضافية لشمولنا بها.
وإزاء وضع كهذا، فإنّ القوى الحيّة والعناصر الواعية داخل المجتمع الكويتي معنية بأن تدرك خطورة هذه المخططات والأجندات، وتنبّه إلى انعكاساتها علينا، وأن تحاول تدارك الحالة الخطرة، التي يُخشى أن ينزلق مجتمعنا الكويتي نحوها، وبالتالي فعلى هذه القوى والعناصر أن تبادر إلى التحرك لكشف هذه المخططات، وأن تبرز أمام الرأي العام مخاطر الانجرار إلى حالة الاستقطاب الفئوي والطائفي وتداعياته الوخيمة، وأن تسعى ما استطاعت إلى إعادة الاعتبار مجدداً إلى أولوية الانتماء الوطني؛ وإلى الهوية الوطنية الكويتية السابقين على أي انتماء أو هوية أخرى.
وبالطبع فإنّ الملاذ الوحيد، وأكرر الوحيد، لنا ككويتيين من الانجرار نحو حالة التفتيت الفئوي والطائفي هو نظامنا الديمقراطي الدستوري، الذي يمثّل المشروع الوطني الجامع، ويضع الأساس، الذي يجب أن يتحقق بصورة ملموسة للمواطنة الدستورية القائمة على الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص… وغير هذا اندفاع متسارع لا رجعة فيه نحو هاوية الفوضى الخلاقة.
نفاق الغرب في افتراق القول عن الفعل
قبل أيام أصدرت الأمم المتحدة تقريراً حول قطاع غزة لمناسبة مرور سنة على العدوان المجرم الذي شنته إسرائيل على القطاع، وقد حمَّلَ التقرير إسرائيل جزءاً من مسؤولية الكارثة التي حلت بسكان القطاع ومعاناتهم الإنسانية جراء ذلكم العدوان الهمجي الذي كبد القطاع خسائر تناهز أربعة مليارات دولار.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أصدر أوائل شهر ديسمبر الماضي بياناً طالب فيه بجعل مدينة القدس عاصمة لإسرائيل وللدولة الفلسطينية وذلك من خلال آلية التفاوض بين الجانبين. وكان المقترح الأصلي الذي تقدمت به الرئاسة السويدية (الدورية) للاتحاد الأوروبي، قد طالب باعتماد القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية قبل أن تلتف عليه فرنسا وألمانيا وتحبطانه من خلال إعادة صياغة مائعة ومُرْسَلة (لا على التعيين) أفرغت مقترح القرار الأصلي من محتواه.
فما الذي استفادته القضية الفلسطينية من هذه التقارير والبيانات والقرارات؟
بل ما الذي استفاده الشعب الفلسطيني من كل هذه ‘المخطوطات’ و’الإقرارات’ الخطية - والشفهية أيضاً - سوى المزيد من الخذلان والمزيد من الشقاء والمعاناة.
يقول تقرير الأمم المتحدة الأخير بهذا الصدد إن إسرائيل تمنع دخول مواد البناء إلى القطاع اللازمة لإعادة بناء ما هدَّمته ودمرته آلة الحرب الصهيونية، ما أبقى آلاف العائلات الفلسطينية في حالة تشرد في العراء.
طبعاً المسكن هو أحد شروط الحياة الإنسانية الثلاثة التي أنشأت الحضارة الإنسانية وهي المسكن والمشرب والملبس. وانطلاقاً من هذه الحقيقة التاريخية فقد اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها (وما قبل إنشائها أيضاً على يد العصابات الصهيونية الإرهابية مثل الهاجانا وشتيرن وغيرهما) سياسة الأرض المحروقة ضد أبناء الشعب الفلسطيني لتشريدهم من ديارهم حتى غدت سياسة هدم المنازل الفلسطينية وطرد أهالي القدس الشرقية من منازلهم وتمكين عائلات يهودية من الاستيلاء عليها، أحد العناوين الرئيسية للعقيدة الصهيونية.
ولكن التشريد وحده لا يشفي غليل ساسة إسرائيل لكي يضمنوا تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق. فهم يمنعون مرضى السكري وأمراض العضال الأخرى من تلقي العلاج اللازم لمنع تدهور حالتهم الصحية، وهم يحرمون القطاع بأكمله من إمدادات الكهرباء على مدى ساعات طويلة، لاسيما ساعات الظهيرة في الصيف القائظ. وهم يمنعون أنبوبات (سلندرات) غاز الطبخ فيضطر أهالي القطاع لتهريبها عبر الأنفاق من مصر. وهم يمنعون الصيادين من الصيد في بحرهم، بحر غزة، بتحديدهم مسافة ستة أميال فقط للإبحار.
كل هذا وأكثر بات معروفاً للعالم أجمع، ومع ذلك فإنه لم يحرك ساكناً يضع به حداً لمسلسل الجرائم الإسرائيلية المستمر ضد أبناء الشعب الفلسطيني منذ ستة عقود، اللهم هذه ‘التعويذات’ التي يتمنى فيها ‘مشعوذوها’ أن ‘ترأف إسرائيل بحال المساكين الفلسطينيين وأن تخفف حصارهم وتسهل تحركاتهم عبر طوق حواجزها المضروب عليهم بإحكام وأن تمكنهم من الحصول على الكهرباء والوقود لقضاء حاجاتهم المعيشية الأساسية’!
وهل التقرير الأممي الجديد سالف الذكر سوى ‘تعويذة’ جديدة تضاف إلى سابقاتها التي تزدحم بها أرفف مكاتب الجهات المصدرة لها؟
ما الذي استفدناه من حكم محكمة لاهاي القاضي بعدم شرعية الجدار العنصري الفاصل الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية بدواعٍ أمنية أثبت حكم المحكمة بطلانها؟
وما الذي استفدناه أو سنستفيده من تقرير جولدستون الذي أكد أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الفلسطينيين خلال عدوانها على قطاع غزة قبل حوالي عام؟
إسرائيل لم توقع على اتفاقية إنشاء محكمة الجزاء الدولية وفلسطين ليست دولة عضو في المحكمة، وبالتالي فإن الأمر يتطلب تصويت مجلس الأمن على التقرير لإنفاذه. وهذا من رابع المستحيلات، لأن الفيتو الأمريكي بانتظاره!
قبل ذلك والأهم منه، كانت هنالك قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن نفسه أبرزها قرار 242 الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في حرب حزيران/يونيه ,1967 وقرار 338 الصادر في أعقاب حرب 1973 بين العرب وإسرائيل والقرار 194 الذي يؤكد على حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شُرِّدوا منها. وهي قرارات ظلت حبراً على ورق إذ لم تُنفذ حتى اليوم، بسبب إرادة القوى الغربية التي تعتبر إسرائيل دولة فوق القانون الدولي.
وكي لا يبدو كلامنا هاهنا نوعاً من الندب واللطم والمناحة التي نتقن لغتها ونستعذبها من فرط تعلقنا بأهدابها، فإننا نقترح على أركان الدبلوماسية العربية أن لا ينخدعوا بمعسول لفظيات العلاقات العامة لنظرائهم أركان الدبلوماسية الأوروبية والأمريكية وأن لا يصدقوا كلمة واحدة يتلفظون بها أو يدبجوها تقاريرهم وبياناتهم بشأن القضية الفلسطينية، بأن يبادروا، حينها، إلى لفت انتباه نظرائهم الأوروبيين والأمريكيين بأن الكلام إذا لم يقترن بالفعل فهو هباء منثور، والفعل المطلوب هنا هو وجود خطط عمل تنفيذية (Action Plans) لتقاريرهم ومبادراتهم الزائفة، خطط تتضمن إجراءات عملية تجبر الصهاينة على التسليم بكامل حقوق الفلسطينيين والعرب التي نصت عليها قرارات مجلس الأمن آنفة الذكر. وهنا حذار ثم حذارِ من تصديق الكذبة الجديدة التي يراد اليوم تسويقها وتمريرها تحت مسمى ‘الضمانات الأمريكية’ من أجل دفع الفلسطينيين صاغرين للتفاوض مع نتنياهو وعصابته.
طريق استعادة الحق معروف - وهو لا يتطلب سوى استخدام جزء صغير جداً من أوراق الضغط العربية المتاحة على نحو ما تفعل الدول المستقلة في دفاعها عن مصالحها.
صحيفة الوطن
23 يناير 2010
“عزازيل” دينيا وروائيا (1 – 2)
تتوجه رواية “عزازيل” لمؤلفها المصري يوسف زيدان لعرض الحقبة المسيحية المصرية التي جرى فيها الانتصار على الوثنية الرومانية والمناطقية عموماً.
إن المؤلفَ متبحرٌ في التاريخ تبحرا تقنيا، فلديه خريطة المدن المصرية والمدن المشرقية عموماً بأسمائها القديمة والحديثة، ويمتلك خرائط كبيرة عن الأشياء المادية والنباتية ومعارف العصر ومذاهبه الفكرية والدينية، بحيث إنه دخل هذا العصر بتعقيداتهِ التقنية والظاهرية.
استطاع أن يعرضَ الأديرة المسيحية وتشعباتها وتضاريسها المكانية وأجواءها الداخلية والحركات المذهبية التي عصفتْ بها، وغير هذا كثير مما يدلُ على موهبةٍ روائيةٍ وتبحر دراسي للفترة المروي عنها.
إن الإشكالية التي تعصفُ بهذه الرواية انه يعرضُ تاريخِ مواطنيه المصريين المسيحيين بشكلٍ قاسٍ غريب، وعبر رؤى مجردة رغم كل هذه العدة الكبيرة التي دخل بها ليرسم صورة روائية للعصر.
فهو يلغي تاريخَ اضطهاد المسيحيين من قبل الدولة الرومانية، وهو تاريخٌ طويلٌ ومرير، واستمر قروناً، ويفصلهُ عن جذورِ شخصياتهِ وأحداثه، فندخلُ زمنَ الانتصار المسيحي المصري المجرد، ولكن لنرى اضطهاد المسيحيين للوثنيين، بطرائقٍ وحشية.
هذا الاضطهادُ غيرُ المبررِ هو الجسمُ التاريخي للرواية، وهو اضطهادٌ يظلُ محدوداً في لقطاتهِ، فهو يتمظهرُ في ثلاثِ لقطاتٍ متعددة الأحجام، متقطعة في الزمان والمكان.
ولأن هذه اللقطات الكبيرة هي جسمُ الرواية الحقيقي، وهي الفكرة الفنية الروائية التي استولتْ على وعي المؤلف، فقام بعرضِها بوسيلةِ الراوي الساردِ الحاضر من خلالِ هذه اللقطات رغم تباعد الأمكنة والأزمنة، وصعوبة جمعها عبر هذا التباعد الزمني الذي يستمر عشرين سنة، وتنأى فيه الأمكنة بلا مبرر حقيقي.
يلخصُ الراوي الساردُ هذه اللقطات الكبيرة في حواره الداخلي وهو في خشيةٍ من أن يعودَ لبلده مصر بعد أن اقترح عليه الأسقف نسطور الذهاب للإسكندرية والحوار مع أسقفها الخطر المسيطر”العدواني” كما يصفه، يقول:
“لو نجوتُ منه فهل سأنجو من العوام، ومن جماعة محبي الآلام، وهم يعلمون أنني جئتُ ممثلاً لنسطور الذي يرونه مهرطقاً؟ أهلُ الإسكندرية لا يرحمون، ولا يخشون عقاباً على أفعالهم. قتلوا هيباتيا على مرأى من سكان المدينة، ولم يُعاقبوا وقتلوا قبلها أسقف مدينتهم جورج الكبادوكي، ومزقوه في الشارع الكبير”، ص 253، دار الشروق.
هذه السطور تعطينا ملخصاً لـ “المجازر” التي قام بها المسيحيون، وقد عُرضت قبلاً في الرواية على نحو واسع.
أما حواشي الرواية، أي ما هو خارج البؤرة الروائية، فهو يحكي عن جولات الراوي السارد “هيبتا” هذا، وأعماله الدينية العامة، وتصرفاته الشخصية التي يدور كثيرٌ منها خارج تلك البؤرة المركزية.
ما هو خارج البؤرة الروائية، يملأ أغلبها فهناك تلك الأوصاف المطولة للأمكنة: المدن، والأديرة، والأسواق، والصحارى، والحيوانات، والأدوية الخ. وهناك اللحظات الحميمية كقصص الرهبان وحياتهم الخاصة وطبائعهم، وعلاقات الراوي الخاصة كعلاقته بـ “أوكتافِيا” وهي قصة حبٍ تنعطفُ بحياةِ الراهب نحو جوانب أخرى. وتأخذ الأديرة وما يجري فيها وتواريخها السابقة وعلاقاتها بالحيوانات والطيور حيزاً آخر.
إن بؤرة المشكلة تكمنُ في شخصية الراوي السارد، فهو راهبٌ متنقل، تدفعهُ الحبكةُ في الواقع للمرور حول المشهديات الصراعية المسيحية، وهو راوٍ عليمٍ متبحر، لكنه راو يظل هو بؤرة السرد، فعدستهُ هي الوحيدةُ التي ترى وتصور، وهذا الشكلُ من الراوي، يعودُ لأزمنةٍ روائية عربية سابقة، كراوي جورجي زيدان، الحاضر في أمكنةِ الحروب والصراعات، لا يحيدُ عنها قيد أنملة، وينشئ إضافة لقصص الحروب والصراعات السياسية، قصة حب تكون مبررةً لوجوده. لكن راوي يوسف زيدان أكثر تطوراً بكثير بسبب الثقافة التي تغلغلت في المرئيات التاريخية والجغرافية والتي امتلكها المؤلف، وهو يؤلف قصتي حب خلال عشرين سنة، وكلتاهما من الحواشي.
وبؤرة المشكلة تكمنُ في كونهِ فتىً تعرض أبوه لحادث مأساوي مرير من قبل الثيمة (الشيطانية) نفسها وهي ثيمة المسيحيين العوام المفترسين، الذين قتلوا أباه، فكيف يمكن بعد هذا الحدث الدامي الجلل أن يكون مسيحيا بل راهبا متبحرا في المسيحية؟
إن كونه راويا مُخصصا من قبل المؤلف لعرض المشهديات التاريخية الكبيرة الدموية أكبر من إنسانيته، أي من كونه نموذجا فنيا متماسكا.
فهو من أجل أن يستخدمه لتلك العروض مضطر إلى أن يجعله مسيحيا وراهبا كذلك، وهو ليس راهبا ولا مسيحيا، لأن تلك المشهديات الكبيرة المطلوب عرضها، تقعُ في الأوساط المسيحية بل في عمقها كما سنرى بعد هذا.
إن دورَهُ التصويري أكبر من صدقه الداخلي، وبطبيعة الحال لابد للمؤلف من عرض بعض السببيات الصغيرة لكي يعقلن مثل هذه الحالة المستعصية على التصور، ككون أبيه القتيل كان المحبوب لديه، وأمه لم تكن محبة حقيقية له، وأن هذه الذكريات تنبثُ في وعيه بشكل ومضات قليلة عبر تلك السنوات الطويلة تؤكد حضورها وعدم اختفائها، وتجعله في حيرة وقابلاً لمواقف متعددة غامضة، لكن كانت تلك الومضات صغيرة جدا لا تدعوه لكي يترك تاريخ هذا الدين “الدامي”. ورغم ان عدوه يبقى مجسداً في هؤلاء المسيحيين العوام فهو يمضي لهم بشكل مستمر طلباً في الواقع لتصوير الأحداث التاريخية الصراعية الدامية التي ظهرت بينهم.
صحيفة اخبار الخليج
23 يناير 2010
تونـــس
ثمة مدن تثير فضولك حتى قبل أن تراها. غالباً ما تحاط مثل هذه المدن بسمعة أو بحكايات وأحياناً بأساطير. أظن أن تونس واحدة من هذه المدن، فمنذ المدرسة ومنذ أغنية فريد الأطرش الشهير نحن نعرف أن تونس خضراء، وما أن يذكر اسمها حتى تلحقه الصفة تلك.
تونس، إلى ذلك، تذكرك دائماً بقرطاج، لا أعني مهرجان قرطاج الشهير، وإنما أعني تلك الحاضرة المزدهرة منذ القرن الثامن قبل الميلاد، يوم فرت الأميرة المشرقية الشهيرة “أليسا” من مدينة صيدا بلبنان واجتازت مياه البحر المتوسط لتؤسس على ضاف قريبة من تونس المدينة اليوم، حضارة بلغت شأوا في الفنون والآداب والعمارة، لقد صور عبالحليم كركلا حكاية هذه الأميرة الشهيرة في عمله الجميل عنها.
وتونس أيضاً هي ابن خلدون، العلامة العربي الشهير الذي ولد في تونس في القرن الرابع عشر الميلادي، ومن هناك بدأت حياته الفكرية الثرية التي ما زالت تثير الجدل حتى اليوم، ووضع قواعد منهج متكامل في دراسة تاريخ الشعوب وتطور مجتمعاتها ما زال علم الاجتماع الحديث ممتنًا إليه في الكثير من أحكامه واستنتاجاته. وما زال تمثال ابن خلدون في وسط الشارع الرئيس في العاصمة تونس أمارة اعتزاز التونسيين بانتساب هذا الاسم المضيء إلى بلادهم.
المسافة بين المخيلة والواقع هي دائمة مسافة يعتد بها، ولكن الصورة التي في الذهن عن تونس إنما تتأكد بالمشاهدة، هذا على الأقل ما شعرت به شخصيا وأنا أقضي أياماً في تونس .. البلد الوديع الذي ينبسط طويلاً على البحر الأبيض المتوسط وتغتسل ضفافه بمياهه اللازوردية التي تزداد توهجًا وإشراقًا تحت أشعة الشمس التي تتمنى المكوث تحتها وهي تبعث شعاعها الدفيء الرحيم.
هو نفس البحر الذي اجتازته “أليسا” بقرون ثمانية قبل ميلاد المسيح لتؤسس قرطاجانة التي مجد “أرسطو” لاحقًا دستورها الديمقراطي واعتبره أرقى من دستور أثينا. وهو نفس البحر الذي اجتازه القائد الإسلامي “عقبة ن نافع” في طريقه إلى القيروان في القرن السابع الميلادي ومن هناك اجتاز أراضي المغرب العربي واصلاً حدود المحيط.
وفي القيروان مازال الجامع الكبير الذي يحمل اسم هذا القائد العربي الذي بناه جامعاً فيه التناسق البديع بين الفنون المعمارية الشرقية والغربية. والبحر المتوسط هو نفسه البحر الذي اجتازه العرب الفارون من الأندلس بعد سقوط الدولة الإسلامية هناك، فجاءوا إلى تونس وسواها من بلدان المغرب العربي حاملين معهم العناصر الحضارية المدهشة التي أثرت التكوين الحضاري والثقافي المحلي.
كانت تونس بالنسبة للعرب باباً إلى أفريقيا المزدوج الكلمة، بالمعنى الجغرافي المباشر، وبالمعنى المجازي لأن تسمية “أفريكا” التي تطلق على القارة بكاملها اليوم إنما كانت في الأساس اسم تونس.
ولكن جمال وفرادة تونس إنما يكمنان في ذلك التزاوج بين العناصر الحضارية والثقافية القادمة من أفريقيا وأوروبا ومن الحضارة العربية الإسلامية ومن حضارات فينيقية ورومانية تضرب بجذورها بعيداً.
تونس مدينة مثيرة للفضول قبل الرؤية، ومثيرة للدهشة بعدها.
صحيفة الايام
23 يناير 2010
تحديات التنمية في الدول العربية
تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 الذي اعدته الامانة العامة للجامعة العربية بالتعاون مع برنامج الامم المتحدة الانمائي ومجموعة من الخبراء العرب وجه له انتقادات لكونه كما يقول البعض يشكو من علل هيكلية في بنائه ومنهجيته وفي ابتعاده عن مفهوم التنمية البشرية وعن وظائفه المفترضة، ولكونه ايضاً لا يرتبط بشكل مباشر بأمن الانسان، والشيء الآخر انه تكرار لقائمة التوصيات نفسها التي نقرأها في التقارير الاقليمية والدولية العامة.
ومع ذلك، مهما اختلف هؤلاء مع مضمون هذا التقرير ربما لاعتقادهم انه “مؤامرة” على الامة العربية، او ربما يمس مصالح معينة، فان نتائجه وملاحظاته ومنطلقاته الاساسية مرتبطة بشروط التنمية البشرية الحقيقية التي ما لم يكن جوهرها الانسان فلا فائدة منها ولاسيما اذا ما ابتعدت هذه الشروط والمقاييس عن حماية البيئة، ودولة القانون والقضاء على الفقر والجوع، وتنويع النشاط الاقتصادي، والنهوض بالخدمات الصحية والتعليمية والاسكانية، ومكافحة التمييز، والعنف ضد المرأة والاتجار بالبشر، وتطور المجتمع المدني، وترسيخ حقوق المواطنة.
وبالرغم من الجدل الدائر حول نتائج هذا التقرير فان التحديات والمعوقات التي تعترض التنمية البشرية من الدول العربية كثيرة، وبالتالي التغلب عليها هي من مسؤولية الحكومات العربية. ولكن نستطيع ان نقود بنجاح هذه التنمية يجب علينا الاخذ بالنتائج التي كشف عنها التقرير من اهمها ان هناك ما يزيد على 140 مليون مواطن في هذه الدول يعيشون تحت خط الفقر المدقع، اي ان معدلات الفقر تصل الى 40٪ والمؤشرات على هذه الظاهرة تشير الى انه لم يحدث اي انخفاض في متوسطات الفقر على المستوى العربي خلال السنوات العشرين الماضية قياساً بمعدلات 1990 ورغم الارقام العديدة التي تدعي زيادة في نسب النمو في عدد من الدول الا انها تبقى بعيدة عن المواطن؛ لان المشكلة في اعادة توزيع الدخل. وحول البطالة كشف التقرير ان نسبة الشباب من اجمالي السكان العاطلين تزيد على 50٪ بالنسبة لمعظم الدول العربية مما يجعل معدل البطالة بين الشباب في الدول العربية الاعلى في العالم كله، واما بالنسبة لمشكلات الامن الغذائي اوضح التقرير انه لا يزال تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء حلماً صعب المنال، وان نجحت بعض الدول في ذلك، فلم تشهد نسب السكان الذين يعانون من نقص التغذية اي تحسن يذكر عن معدلات عام 1990 وعلى هذا الاساس حذر التقرير من خطورة اوضاع نقص التغذية خاصة في الدول العربية الاقل نمواً، والتي تعاني من ازمات سياسية وبيئية، كما في الصومال والسودان واليمن، في ظل الازمات العالمية في الغذاء والوقود يمثل التحدي الرئيسي في ان الدول العربية التي يقطنها غالبية السكان الفقراء هي دول مستوردة للغذاء، وهي كذلك مستوردة للوقود او لديها صادرات وقود محدودة ومتناقصة، ومن ثم يكمن التحدى في اقرار سياسات الاقتصاد الكلي التي تعمل على المحافظة على استقرار الاقتصاد وتحد من تأثير ارتفاع الاسعار على المستهلكين الفقراء، وهنا دعا التقرير الدول العربية الى اعتماد نهج اقتصادي جديد يعتمد على عنصرين اساسين هما التحول من نموذج نمو قائم على البترول والمواد الاولية لا يحقق التنمية الى نموذج الدولة التنموية الذي يتوقف مقياس النجاح فيه على اداء القطاعات المنتجة والحد من الفقر وعدم المساواة، وايجاد فرص عمل الى جانب ضمان حق الغذاء لكافة الشعوب العربية من خلال عقد اجتماعي عربي تتعهد بموجبه الدول الغنية بدعم عملية القضاء على الجوع في المنطقة كلها، خاصة في الدول الاقل نمواً، ويكون ذلك من خلال تحالف تنموي تساعد فيه الدول العربية الغنية بالبترول شقيقاتها الاقل نمواً في الخروج من الركود الذي تعاني منه، والشروع في تنفيذ خطط تنموية تقوم على النمو الشامل، وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
على العموم، هذا التقرير ليس الاول من نوعه، بل هناك عدة تقارير مختلفة لها علاقة بحقوق الانسان والتنمية والمرأة والطفولة وغيرها، والسؤال .. الى اي مدى يؤخذ بتوصيات ونتائج هذه التقاير؟ هذا هو المهم.
صحيفة الايام
23 يناير 2010
إصلاح التعليم مرهون بإنصاف المعلم ..
المهمومون بالتعليم ، والمهتمون بأمره والمتطلعون الى تطوير مسيرته أحسب بأنهم قد يجدون في حديث وزير التربية والتعليم المنشور في هذه الجريدة ( 4 يناير الحالي ) ما يستحق التوقف عنده ملياً ولاسيما فيما يخص أوضاع المعلمين مهنياً ووظيفياً .
الوزير في اشارة طيبة يقر بأن المعلم هو العمود الفقري الذي يقوم عليه التعليم ، وعليه يؤكد بأن خطة تطوير التعليم قامت أولاً على أساس الارتقاء بالمعلم ، وفي إشارة لافتة يقول بأن زيادة رواتب المعلمين لوحدها ليست كافية للارتقاء بعملية التعليم .
جيد أن ندرك بأن إصلاح التعليم مرهون بإنصاف المعلم ، وبأنه الأساس في العملية التعليمية وأهم عنصر من عناصرها ، واذا صلح التعليم صلحت واذا فسد فسدت ، وحسناً بأن يحظى ملف التعليم وسبر أغوار واقعه وما اعتراه من سلبيات والوقوف على مفاصل حساسة في مسرته اهتماماً استثنائياً نحسب أنه غير مسبوق ، وادراكاً نحسب أيضاً بأنه غير مسبوق بأن التعليم يعني المستقبل للمجتمع والدولة والمواطن ، والتهاون الذي مورس طيلة العقود التي مضت في حماية المستقبل ندفع ثمنه غالياً اليوم ، ويكفي أن ننظر الى مخرجات التعليم طيلة السنوات الماضية وانعكاسات ذلك على الوضع التنموي والاجتماعي والاقتصادي ، وعلى الرغم من المؤتمرات والندوات والحوارات واللقاءات واللجان التي شكلت واجتمعت وانفضت وبحثت في أوضاع المعلمين وقضايا التعليم ، وكانت خلاصتها كما هائلا من التوصيات والتصريحات والخطط والبرامج والمشاريع التي قيل لنا بأنها تؤذن بإصلاحات جذرية في النظام التعليمي .
بالرغم من ذلك فإن الحديث عن تحسين أوضاع التعليم ، والاعتراف بأوجه الخلل والقصور في منظومة التعليم ظل يتكرر من عام لآخر دون أن نرى خطوات عملية ملموسة في الجوهر وبالمستوى الذي يتناسب مع التوقعات بدليل أننا لازلنا نتحدث عن تحسين أوضاع المعلمين وعن التحديات التي خلنا بأننا تجاوزناها والتي من بينها ما يتصل بالتدريب والتمهين والرضا الوظيفي ، كما لازال الحديث مستمراً عن مستوى ونوعية مخرجات التعليم ومؤامتها مع سوق العمل ، وحتى التعليم العالي والجامعات فقد قيل فيه وعنه الشيء الكثير على النحو الذي تم تداوله خاصة في ضوء قرارات مجلس التعليم العالي، وهذه مشكلة لا يمكن أن تعالج بمعزل عن أزمة التعليم بكل مراحله ولابد من التصدي للمشكلة من كافة الجوانب والأبعاد.
واذا كان مشروع تطوير التعليم وتحسين جودته ومخرجاته الذي انطلق ضمن رؤية البحرين الاقتصادية 2030 ، قد رفع راية جعل هذا التطوير أساساً للتقدم والتطور، وركز على أربع مبادرات هي تطوير مهارات المعلمين من خلال تأسيس كلية البحرين للمعلمين ، وتأسيس هيئة مستقلة لضمان الجودة لمراقبة المؤسسات التعليمية ، ووضع امتحانات وطنية للمدارس ، وتأسيس بوليتكنيك البحرين لتلبية احتياجات سوق العمل ، وتطوير برامج التعليم الثانوي المهنية لتوفير تعليم تطبيقي وعملي لطلاب ، وأخيراً برنامج لتطوير المدارس يركز على تحسين أداء المدارس الحكومية، فإن هذه المبادرات والمشاريع رغم أهميتها لن تؤتي ثمارها اذا لم يؤخذ في الحسبان وعلى الدوام ، إن إصلاح التعليم مرهون بإنصاف المعلم ، وإعادة الهيبة والاعتبار والتوقير له وخلق بيئة تعليمية وتربوية صحية من أجل قيام المعلم برسالته وجعله أكثر تحفزاً للعمل والإبداع والبذل والعطاء والإنجاز، فالمعلم هو الركن الأهم في العملية التعليمية ، ولو خيرت بين معلم جيد ومنهاج جيد وبيئة تعليمية جيدة وسياسات جيدة لاخترنا المعلم الجيد لأنه حجر الأساس في عقول النشء، وكم منا يدين لمعلم أو معلمة بفضل ما هو عليه أو بسوء ما هو عليه الآن ، ومن هنا على المعنيين بأمر التعليم الوصول الى أفضل المدرسين المؤهلين والمؤمنين برسالة التدريس ، بقدر ما عليهم أن يعوا بأن أي تقنين في ميزانية الدولة يجب أن لا يمس التعليم بل العكس هو الصحيح لاعتبارات أحسبها معلومة للجميع.
مفتاح تطور أداء المعلمين يأتي تحسين رواتبهم في المقدمة ، واذا كان وضع المعلمين في هذا المجال هو أفضل مما هو عليه قبل سنوات، لكن يبقى الأمر ملحاً لمزيد من التحسين لرفع دافعية المعلم والنأي به عن أي إحباط أو عدم اكتراث الى التغيير والتطوير ، لأن ما عدا ذلك من تدريب وتأهيل وتطوير المهارات المهنية ومبان مدرسية حديثة وتجهيزات متطورة ووسائل تكنولوجية حديثة وأساليب إبداعية مبتكرة ليس إلا إجراءات مكملة ، فإن غاب الدافع ، غاب التدريس الجيد حتى وإن امتلك المعلم كل المهارات المطلوبة .
يبقى السؤال الملح .. هل بمقدور المعالجات القائمة والمنشودة فيما يخص اصلاح التعليم أن تعالج ما انكسر من الأساس .. هنا الإجابة ربما تبدو صعبة عند البعض وسهلة عن البعض الآخر ، لكن تخيلوا معي كيف يكون وضع ومستقبل البلاد ، المواطن والتنمية والمجتمع والاقتصاد ، لو كنا قد باشرنا في الإصلاح والتطوير المدروس للتعليم من سنوات طويلة …
صحيفة الايام
23 يناير 2010