المنشور

صراعُ الرأسماليتين في إيران


تتمثلُ إشكالية تطورِ العالمِ الإسلامي في إيران، وهي هنا تظهرُ فاقعة حادةً ثورية.
إن صراعَ الرأسماليةِ الحكومية المسيطرة والرأسماليةِ الخاصةِ المتواريةِ الزاحفةِ تحت الأردية الحكومية وتحت عُرُشها الواسعة والمستقلةِ في العديدِ من الأحيان، وصلَ إلى لحظةٍ حرجة.

للتجارِ والرأسمالِ الخاص تاريخٌ عريقٌ في إيران، لكن الهيمنةَ الحكوميةَ تسارعتْ منذ عهد الشاه، ثم تفاقمتْ في عهد الدينيين، واصبحتْ في عهدِ الحرسِ الثوري قوةً اقتصادية وعسكرية هائلة، وتتمثلُ في الأخير ذروتَها المخيفة.

تسعى الرأسماليةُ الخاصةُ لتغييرِ منحى إيران الاقتصادي، لتوقيف زحفِ الدولةِ على الاقتصاد وعلى الحياة الاجتماعية والحياة الثقافية، وهو الأمرُ الذي يتمظهرُ بشكلِ الأوامر الدينية التي هي عمليةُ تزييفٍ للوعي، بغرضِ تصوير الهيمنةِ الحكومية كشكلٍ مقدسٍ لا دخلَ للبشر فيه.

لكن زحفَ القطاعِ الخاص بدأ من داخلِ الحكم، فالثرواتُ العامةُ الهائلةُ تضيع، فتسارعتْ خطواتُ التخصيص في ينابيعَ مهمةٍ للثروةِ من دون أن تبلغَ ينابيعَها الأساسيةَ في النفط والغاز:
(مر شهر تقريباً منذ أن قرر مجلس صيانة الدستور إلغاء المادتين 43و44 من الدستور. ويسمحُ القرارُ لكلِ الصناعات الأساسية وقطاعات الخدمات والصناعة- عدا صناعات النفط والغاز- بالتحول إلى القطاع الخاص. ويتوقع أن يتم قريباً فتح قطاعات التجارة الخارجية والمصارف والتأمين والاتصالات والخدمات البريدية والسكك الحديدية والخطوط الجوية والنقل البحري أمام القطاع الخاص)، وقد ظهرَ هذا القرارُ سنة .2004

لكن التخصيصَ لم يجرِ بصورةٍ شفافة، فالإداراتُ الحكوميةُ والعسكريةُ لم تزلْ مهيمنةً على أغلبيةِ الاقتصاد، وهذه من إحدى المسائلِ الجوهريةِ التي جرى فيها نقدُ رئاسةِ نجاد الأولى، وفجرتْ الصراعَ ضد رئاستهِ الثانية.

إن التخصيصَ بطيءٌ والبنوكُ الحكوميةُ تهيمنُ على تداولِ الثروة:

(قال مسؤولٌ في بورصة طهران للأوراق المالية أمس الأول السبت إن إيران تعتزم عرض 5 في المائة من بنك ملت على مستثمرين من القطاع الخاص في 18 شباط (فبراير) الجاري وذلك في أول عملية تخصيص جزئية لبنك إيراني مملوك للدولة)، جرى ذلك في هذه السنة .2009
إن الحوزات الدينيةَ وأشكال الوعي الدينية عامةً في إيران ارتبطَتْ بالتجار وبالعلاقةِ معهم، لكنها كذلك تداخلت والوعي القومي الفارسي الحكومي، فهي منقسمةٌ لجانبين؛ جانب تأييد التجارة الحرة والحرية السياسية عامة، وجانب آخر مؤيد للشمولية السياسية الحاكمة ما دامتْ معلية للمذهب.

ولهذا انقسمَ رجالُ الدين بين هذين المنحيين، لكن جانبَ غلبةِ الدولةِ مسيطرٌ بطبيعة القوة والموارد الواسعة. وقامت جماعةُ الثورةِ الخضراء بطرحِ شعاراتٍ سياسية محددة، من دون أن تقومَ بنقدِ الواقع ومظاهرهِ المختلفة بعمق، حذراً من انفضاض المؤيدين، وتجريداً للمعركة وجعلها غائمة ومفتوحة مستقبلاً، وجعلت من وصولها للسلطة هو الهدف الواضح المباشر، وهو أمرٌ يترك خطواتها القادمة في غموض. وتسارعتْ قوتها في الآونةِ الأخيرة، وبدت السلطة معزولة والقمع الذي تفرضهُ يفقدُ دورَه.

لا شك انها لو وصلت للحكم لوسعت حضور القطاع الخاص وقوّت الحريات، لكن إلى أي مدى؟ نحن لا نعرف ذلك. في برنامج موسوي الانتخابي هناك توجهٌ لدعم القطاع الخاص بدرجة أساسية. وثمة غموضٌ كبيرٌ فيما عدا ذلك. لكن لن يكون ثمة انتصار كاسح للقطاع الخاص، بل توازنات جديدة بين القطاعين الرأسماليين العام والخاص.


صحيفة اخبار الخليج
9 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

الفخاخ الطائفية


في كل قضية من القضايا الماثلة أمامنا يكمن فخ طائفي. أنها ظاهرة آخذة في التمدد الأخطبوطي بحيث باتت تطال كل شيء. والأمثلة أكثر من أن تحصى. يمكن لمشروع إسكاني  أن يتحول بقدرة قادر إلى موضوع تنازع طائفي، أيذهب للسنة أم للشيعة. الإسلام السياسي عندنا بارع في تحويل الأمر بهذه الصورة، حين يتبارى المتبارون من قادته على المكاسب الانتخابية، فيحولوا الموضوع من قضية معيشية وحياتية حيوية إلى نزاع بين أصحاب المذاهب.

يمكن أيضاً  لإجراءات إدارية، أياً كان موقفنا منها،  كما حدث في التسريحات التي تمت في شركة ألمنيوم البحرين”ألبا”، وطالت عدداً من كبار المدراء أن تتحول، هي الأخرى، إلى قضية مذهبية وطائفية بامتياز، فينحرف النقاش عن جوهره الأساس، من حيث هو إجراء إداري خاضع للمجادلة، أصحيح هو أم خطأ، إلى نقاش فحواه أن الموضوع  يستهدف أبناء طائفة بعينها، وفي هذا تُغيب كل الملابسات والتعقيدات المحيطة بالموضوع.

الأمر نفسه يصح على ملف اجتماعي كبير ومعقد هو موضوع التجنيس، ورغم موقفنا النقدي الواضح والمعروف من هذا الموضوع، الا أننا ما انفكينا نحذر من تحويل الموضوع إلى مسألة طائفية صرفة، بحيث لا يسلط الضوء المطلوب على الأبعاد الاجتماعية والتنموية، وحتى الأمنية، للظاهرة.

متى يدرك المتصدون لهذا الملف أنهم سيظلون عاجزين عن إقناع المواطن السني بالموضوع، إذا كان المدخل المطروح في المعالجة هو إظهار الموضوع على انه انتصار للشيعة  ضد مساعي زيادة أعداد السنة، بدل أن يقال له أن التجنيس يحمل أضرارا على الجميع وبدون استثناء، وأن القضية ليست في الغلبة العددية لهذه الطائفة أو تلك، وليست، في المقابل، توكيد على عروبة البحرين، كما قال الأخ النائب غانم البوعينين، كأن البحرين ناقصة العروبة، وبحاجة لاستكمالها، وكأن البحرينيين من مختلف التحدرات والانتماءات لم يقفوا وقفة واحدة منتصرين لعروبة البحرين واستقلالها وسيادتها على أراضيها.

للأسف الشديد هناك جهات تغذي هذه الميول وتشجع عليها وتدفع بها، وتريد لها أن تتحول إلى نسق عام في التفكير والسلوك يسود المجتمع برمته، فيصبح كل ملف من الملفات التي نتناولها ملغوماً بقنبلة طائفية أو مذهبية ما.

سقى الله تلك الأيام التي وحدت الجميع سنة وشيعة في الانتفاضات والتحركات الشعبية والعمالية، ومنها تلك التي كانت ضد تسريحات شركة النفط، حين التحم العمال في المصانع، والطلبة في المدارس، سنة وشيعة كتفاً إلى كتف في النضال الوطني والطبقي بأبعاده الاجتماعية الواضحة بين فقراء محرومين وشركات احتكارية أو أصحاب أعمال  يستغلونهم، ويومها لم يقل أحد للشيعي كُف عن أن تكون شيعياً، وبالمقابل لم يقل للسني كُف عن أن تكون سنياً، لكننا والجيل الأسبق منا من الوطنيين والتقدميين دأبنا على توعية الجميع بأن هناك قضية أكبر وأوسع وأشمل توحدهم في مسار وطني – اجتماعي واحد يترفع على تخندقات الطوائف والمذاهب.

هاهنا نحن اليوم شهود عيان على الفخاخ الطائفية التي نصبت في كل زاوية و”داعوس”، وما من قضية الا ومستها يد الطائفيين والمذهبيين الذين حولوا المجتمع إلى ساحة مبارزة بينهم. كم من الفخاخ علينا أن ننزع، كم من الجهد علينا أن نبذل لنعيد للبلاد بعض عافيتها التي كانت؟

 
صحيفة الايام
9 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تحديات العلمانية البحرينية ( 9 -9)

إن تسليم القيادة للمذهبيين السياسيين بشكلٍ عملي كان تعبيراً عن تلاقي يمينين، فلا يمكن لليسار أن يسلمَ القيادةَ لليمين الديني، بغض النظر عن أخطاء الأخير.
اليمين الديني لا يستطيع أن يسايرَ العصر، فهو يبعثُ علاقات قديمة لا تتعايشُ مع العلاقات الجديدة وتحديات العصر ونموه. وما يفعلهُ هو العودةُ للوراء وهي عودةٌ مكلفةٌ رهيبةٌ ثقيلة من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
تنشأ بالضرورة وعبر هذا الصدام بين يمين محافظ مضاد للعصر وتطورات الحياة، علمانيةٌ عفويةٌ لدى الجمهور وخاصة الشباب، في رفض مثل هذه العودة للماضي التقليدي. ويتمسكُ الجمهورُ بدينهِ ولكن لا يقبلُ هذه النسخةَ الجامدةَ المشوهةَ من فهم الدين.
لكن العلمانية العفوية لا تستطيع أن تكونَ قوةً سياسيةً مؤثرة، وكذلك فإن الحياةَ الاجتماعية بظروفها واحتمالاتها لا تعطيه علمانية سياسية قوية توحدُ شعبَهُ وتحلُ مشكلاته، سواءً من قبل الفئات الغنية العليا أو من قبل جماعات البرجوازية الصغيرة المتحكمة في إنتاج السياسة.
إن اليسار الذي يسلم التاريخ السياسي لليمين الديني يكون هو قد انهار من الداخل عن اليسار وعن العلمانية. لقد تآكلتْ أدواتُ تحليله وطرائق نضاله.
ليس من محض المصادفات هذه التحولات والتلاقي: التآكل في اليسار والتداخل مع اليمين الديني. اليسارُ العالمي الشرقي (المعسكر الاشتراكي)، كان في حالاتِ احتضار، والبيروقراطياتُ الرأسمالية الحكومية كانت قد أبعدتْ العمالَ ومؤسساتهم، وذابتْ أصواتُ العمال، ولهذا رأينا الانهيارات التالية وصعودَ الحكوماتِ الرأسمالية بشكل واضح، وهذا ما حدث في التنظيمات اليسارية العربية عموماً، فقد حدث التآكل والجمود في القيادات، وفقدتْ التنظيماتُ العمالَ الذين ضحوا وتعبوا وانقطعت علاقاتهم بالتيارات، وتبدلت الحياة الاجتماعية في البلد ولم تعدْ المدنُ “النهضوية” هي التي تزخ أغلبية العمال، بل صار الريف، وأعطت هذه القواعد العمالية الريفية أجواءَ أخرى، وتداخلتْ مع الآراء السياسية المذهبية.
إن البنية الاجتماعية تبدلت، وأخذت الفئات الوسطى تلعب الأدوار الرئيسية في الحراك الاجتماعي السياسي، الذي نحا من المدن للريف، وتعملقت مؤسساتُ الرأسماليات الحكومية ووجهت البلد في مركزية شديدة.
إن ثوابت التنظيمات اليسارية الفكرية من علمانية وعقلانية وديمقراطية تآكلت على مدى السنين السابقة، لغيابِ أسسها الموضوعية والذاتية، فاستخدام الدين سياسيا كان يجري بشكل عفوي ولمجاملة الجمهور في مناسباته الدينية، وبعضها يتحول إلى مشاركة ايديولوجية فيها، فُرئيت التنظيمات الدينية كجزءٍ من ظاهرة طبيعية، لكنها كانت امتداداً لصعود الرأسمالية الحكومية الإيرانية، بشكل الثورة القومية الفارسية خاصة، التي جعلت الشعارات المذهبية أداتها في السيطرتين الداخلية والإقليمية، فحل تأثيرُ رأسمالية حكومية صاعدة محل رأسمالية حكومية ثورية شرقية آفلة، وضعفت المدنُ في مقابل صعود الأرياف، وتقزمتْ العلمانية كاتجاهاتٍ سياسية قوية، تنادي بفصلِ الدين عن الحكم، وعن السياسة.
وكانت التنظيماتُ السنية كذلك امتداداً لرأسماليات حكومية مناطقية محافظة، وتركزت في المدن، وتغلغلت في الفئات الوسطى وبعض العامة، خاصة الموجودين في المؤسسات العامة.
وكل يوم تُقرأ هذه الأزمة: “معاناة حادة من شرخ طائفي يقسم المجتمع التجاري إلى قسمين رئيسيين، لا يمكن القفز فوقه أو تحاشي إفرازاته السلبية. هذا الانقسام العمودي للمجتمع البحريني، الذي أحدثته تطورات تاريخية – ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها – ينبغي لمن يريد أن يحدد دور هذا القطاع أن يتوقف عنده، عوضاً عن القفز فوقه أو دفن رأسه في الرمال تحاشيا لرؤيته. هذا الجرح الطائفي النازف بغزارة، والمنهك لإمكانات هذا القطاع، يضع كل الخلافات الثانوية القائمة ضمن كل طائفة على حدة، في الصفوف الخلفية عند تحديد معالم التناقضات في ساحة العمل السياسي البحرينية”، (عبيدلي العبيدلي، الوسط، 13 أكتوبر، 2009).
“فالمشكلة التي تعانيها المملكة هي التخندق الطائفي ومن المؤسف أن يتحول مجلس النواب الذي من المفترض أن يكون بيتاً للشعب إلى كتل نيابية طائفية وكل كتلة تحارب هذا الوزير أو ذاك أو تدافع عنه لأسباب طائفية، ولكن ما هو خطير أن نجر الجمعيات السياسية وهي تجربة “وليدة” في البحرين إلى التخندق الطائفي”، (فاضل عباس، الأيام، 31 أكتوبر 2009).
وهكذا فإن الشرخ أخذ يتوسع ثم صار انقساماً عميقاً في الشعب وفي المؤسسات العامة وفي الحياة الاجتماعية وفي بقايا التنظيمات.
لكن المدى السياسي خلال العقود الثلاثة السابقة أوضح بجلاء ان هذه العودة للوراء مكلفة، وأخذت القطاعاتُ الرأسماليةُ الخاصة التحديثية تقوى، وأخذت هي التي تقودُ الحراكَ السياسي في عدةِ بلدان وخاصة في إيران كما نرى المشهد الراهن الساخن الآن، لظروف لا تتوافر بمثل هذا المستوى في بلدان أخرى.
إن عجز اليمين الديني عن مواكبة الحداثة والديمقراطية وصون الحرية الوطنية اصبح واضحا ويتسع في مجمل ظروف البلدان الإسلامية، بسبب العودة للماضي وتفكيك الصفوف وغياب التحليلات العميقة للمشكلات والقضايا، ومن هنا تنشأ مرحلةٌ جديدةٌ من الاصطفاف والتجميع للقوى السياسية والاجتماعية للتصدي للمهمات والمشكلات التي تفاقمت.
لقد تطورت قوى الرأسمالية الخاصة وغدت هي القوى الاقتصادية الفاعلة من أجل مجتمع ديمقراطي حديث، فاستعادت ما فقدته خلال عقود، وصارت هيئة الاتحاد الوطني المغيبة ضرورة جديدة ولكن من خلال تراكمات العقود التي تلت والأشكال السياسية الجديدة.
من الممكن تجميع خيوط القوى السياسية العلمانية المتفرقة المفتتة كافة لكي تكون جبهة موحدة، للعمل من أجل وقف التراجع للماضي وتوحيد الشعب وتطوير الحريات الديمقراطية لمستوى أعلى بعد زمن من التراكم والتعاون.

صحيفة اخبار الخليج
8 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

أسرة الأدباء (7) ودور الحركة الوطنية

لم تكن الاسرة قط معزولة عن البيئة السياسية للحركة الوطنية البحرينية «شخصيات او منظمات» ففي خضم هذه المعركة اليومية للادباء الشباب وفي مناخ علاقاتهم السياسية والشخصية بواقع الحل البحريني بين فترتي 69 ـ 79 وفترتي 80 ـ 1990 ففي تلك السنوات العشرين. وجدت الأسرة نفسها تعيش سلسلة من الضربات الخارجية القادمة لها من مناخ سياسي مضطرب ومتوتر وصراع داخلي بدأت مساحته تزداد ففي فترة التأسيس للأسرة وولادة المجلسين التأسيسي والتشريعي كان التوتر الداخلي للأسرة ناتجا عن توتر سياسي وفكري ’ أكثر من كونه ثقافيا وأدبيا ، ولكن التطورات اللاحقة ’الداخلية ستغمد سكيناً صغيرة في جسد الأسرة تجسدت في حدة الخلافات المنهجية والنظرية والإبداعية للمدارس والاتجاهات والتيارات الأدبية البنيوية والشكلانية بملامحها الادونيسية عربيا، باعتبارها طرحت نفسها كمدرسة مختلفة وجديدة مع تيار مناقض اعتبر نفسه الوريث التاريخي للواقعية، معتبرا الأشكال والصيغ الجديدة في التعبير لمدرسة الحداثة هروبية وذاتية. ودون الدخول في التفاصيل لعالم الشكل والمضمون واللغة والنص المفتوح في مواجهة التقليد والجمود والتفعيلة والسردية، الذي عاشته الواقعية، منغلقة على نفسها . فتداخلت عملية السياسي مع الأدبي لتشعل دائرة الاختلاف، وكأنما بدت الظاهرة للعيان إن من تبنوا اتجاه الحداثة والشكلانية يومها هم اقرب للجبهة الشعبية فيما كان دعاة الواقعية هم اقرب للتحرير هذا الانشغال والاشتعال في غابة الأسرة كان متلازما مع حدة وتوتر العلاقات السياسية أحيانا بين المنظمات، ولكن بصورة اقل حدة مما هو في داخل الأسرة، فهناك التكوين الشخصي والمزاجي يلعب دوره وله خصوصيته أيضا، ولكننا في النهاية أمام محصلات سلبية من عملية التماسك الداخلي، والذي وان لم يدفع في اتجاه التفكك، فانه ساعد على خلق مناخ فاتر وسلبي، أنتج بعض المواقف السيئة وأحيانا دفع البعض نحو العزلة والتلويح بفكرة الاستقالات الممكنة . كان المناخ المتوتر حاضرا لدى القوى الوطنية وشخصياتها، التي كانت خلف الكواليس حريصة على تماسك هذه المؤسسة، حيث حضورها الجماهيري مهما في نقل الرسالة السياسية للشارع، عكستها الأنشطة الطلابية والندوات والمشاركات الخارجية، بل وحرصت القوى الوطنية على فاعليتها وأهميتها كمؤسسة إبداعية، تقدم وجه البحرين الوطني من خلال تلك المشاركة، فهم الصوت الآخر للوجه السياسي في الإعلام الخارجي. وبنفس القدر كانت تحرص القوى الوطنية على الدفع بتأسيس منظمات حقوقية ومهنية كان من أبرزها، جمعية المهندسين والمحامين و مسرح أوال، فالأسرة المحصورة يومها في الداخل كانت بأمس الحاجة إلى قدرات واتصالات القوى الوطنية في الخارج، والتي لعبت دورا حيويا ومهما لإبراز الصورة الثقافية والإبداعية للبحرين خارج المحافل الرسمية. وإذا ما كان الأدب والأدباء في فترة ما مسجونين محاصرين، يسجل كليهما سطوره في وريقات سرية ويبعثها عبر قنوات متعددة، لكي ترى النور في الخارج، ويسمع العالم عن كيفية الحصار المضروب على أنفاس التعبير الثقافي، الذي كانت تمثله الأسرة. ونتيجة قلة الخبرة الحياتية وأحيانا تصلب الرأي والموقف. وعدم التمييز والفصل ما بين حالتي الارتباط والانتماء الأيدلوجي بحالة الإبداع والعلاقات الثقافية والإنسانية في الأسرة والقائمة على مثل الحرية ومبادئ الاختلاف. غير إن الوعي والحرص وامتصاص التوتر، ظل في ذهنية القوى السياسية والشخصيات الوطنية، بحيث لا تتطور الصراعات بأكثر من مظلة الأسرة وبحيث يتم احتواؤها بدلا من أن تتصرف بعض العناصر على هواها الشخصي وبمزاجها الأناني. وبما إن للأدباء مزاجهم وتكوينهم الخاص فان عنصري الاختلاف والوحدة ظلا دائما عنصري التجاذب والتماسك في داخل تلك العائلة الثقافية البحرينيةلأدباء شباب غالبيتهم كانت الوطنية والالتزام والتضحية شعارها الأسمى. قد تمر رياح مرعبة وقد تدخل البيت أفاعي لتفكيكه. وقد تأتي النصائح والألسن المريبة داعية الأسرة بالابتعاد عن «السياسة» والتدخل فيها ففي تلك الفترة كانت السياسة تعني للنظام والحكومة أموراً عدة أهمها نقد النظام سياسيا والتحريض ضده الانتماء لحركة ومنظمة سياسية محظورة والتعاطف مع توجهاتها وبرامجها تطويع وجر العمل الإبداعي والثقافي للحزبية الضيقة فلم يسمح هذا المناخ المتشابك حتى للأدباء «المعتدلين !!» بالتفكير في الاقتراب من حريق ونيران الأسرة . لم تمت الأسرة كمشروع تنويري وثقافي بسبب كل تلك الصراعات والاختلافات بقدر ما ظلت مظلة الأسرة للرعيل الأول 69 ـ 89 مكانا فسيحا للتعبير عن همومهم وأحلامهم كلما سنحت الفرصة فقد باتوا منشغلين بالوظيفة والعائلة والسن وما لها من تبعات عدة، ولكن القلب والضمير والوجدان والمشاعر بقت مسكونة في البيت الأول للإبداع. ستولد مجموعة من المبدعين مع الثورة الإسلامية ومجموعة مع انهيار جدار برلين ومناخ غزو العراق إلى الكويت وهبوب رياح الحريات والديمقراطية وبداية الانفراجات العالمية لهذا سنرى الخلفيات الفكرية المتنوعة للنسيج الثقافي المتشكل خلال العقود الأربعة فالرعيل الأول غلبت عليه المؤثرات الفكرية التقدمية والمناهج الإبداعية كالواقعية الجديدة والحداثة وما بعد الحداثة فيما سيتضاءل البعد الإيديولوجي والفكري والانتماءات المكشوفة للمنظمات اليسارية والتقدمية ’ إذ ستكون الأسرة بعد النصف الثاني من عمرها 1989 ـ 2009 مزيجا من الاختلافات والتناقضات ليس سياسيا وفكريا وحسب بل وبين الكاتب ونفسه فهو يميل إلى قراءة الإنتاج الحداثي المتطور ثقافيا ومعرفيا بينما مازال كمبدع واعد شاباً أو شابة في طور التشكل والاضطراب والحيرة والتساؤل والصراع العميق بين نظرتين للحياة كمن هو أكثر حداثة في الأدب والإبداع وأكثر تخلفا في الفكر والنظرية والسياسة. وبقدر ما تفرضه هذه المرحلة من التحولات في تاريخ البحرين فان مؤثراتها على الأسرة ومبدعيها سيدفع ليس للحوار والتأمل والتطور وحسب بل وبالبحث عن أسئلة أعمق للوجود والإنسان والمجتمع. واراني احرص على فكرة أن لا يتخلى الجيلان أو الرعيل الأول عن الثاني فالاحتكاك ونقل التجارب وخلق مناخات التفاعل يدفع بحركة الإبداع والأسرة إلى التقدم والأفضل من كل الجوانب فهناك فرص جديدة وعديدة وفرتها الألفية الثالثة للمبدعين الجدد لم تكن متوفرة على الإطلاق للرعيل الأول بل وللنواة المؤسسة لهذا الصرح الثقافي الجميل .
 
صحيفة الايام
8 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

كفى.. لن نترك البحرين نهباً لكم!

توجهات البعض السقيمة والممقوتة نحو تعزيز الفرز المذهبي وطأفنة قضايا الشأن العام في بلادنا عن طريق الدعوة لمؤتمرات للطوائف والمذاهب على غرار ما يجري في أقطار مجاورة، باتت عملا وانشغالا يوميا دؤوبا لبعض الأفراد والجهات ممن لم تعد أفعالها ومراميها خافية على احد، وحان لمن يعنيهم الأمر بأن يقف بوجهها بحزم ومسؤولية، بعد أن سمح لها كثيرا بالمرور وتسميم أجواء بلادنا في أكثر من مناسبة، دون أن نجد لها ما يبررها ودون أن نجد لسكوتنا القاتل حيالها ما يمكن أن يشفع لنا بالتمترس عند حكمة واهمة أو طول بال أو حتى أي معنى لحرية تعبير.

تلك الدعوات التي خرجت علينا مؤخرا لا ترمي لتوريط أفراد أو جهات أو حتى طائفة بعينها، بقدر ما تهدف إلى توريط وطن بأسره والزج به في متاهات ترسمها فئات لن نقول إنها جاهلة ولكنها مغامرة ومقامرة بحق، فهذا الوطن تعايشت فيه تلك الطوائف والفئات والأعراق والمذاهب على مدى قرون، وأفصحت عن تاريخ من التسامح والانسجام، بما عرف عن هذه الأرض التي هي مهد للخلود والجمال والوئام الذي لا يعرفه من يمتلكون تلك النوايا الشريرة.

لن نكرر الحديث حول الكثير من محطات تاريخنا الوطني الحافل والعصي على فهم من لا يفقهون من الوطن سوى مكاسبهم الشخصية والفئوية الضيقة ونواياهم المريضة وجهلهم المدقع وحقدهم الدفين، وهم الذين أقحموا واقتحموا واجهة المشهد العام في غفلة من الزمن والناس، ليستمرؤوا العمل بكل ما تيسر لهم من أدوات ووسائل ومواقع وحصانات لتمزيق نسيجنا الوطني والضرب في مكتسبات شعبنا التي بنتها الأجيال المتعاقبة بكثير من العرق والمكابدة حتى صنعنا وطنا يصعب على أمثال هؤلاء العيش في حياضه بمحبة ووئام كما جبلنا أن نتعايش فيه هكذا على الدوام.

لن نستند على التاريخ وحده لنقول أن دعوات الطأفنة وتجيير النزعات المذهبية والعرقية لن تفلح أو لن ينجح من يقفون وراءها، طالما ارتضينا جميعا السكوت على ما يرمون إليه، وانطلاقا من تلك الحقائق التاريخية الماثلة أمامنا بكل ما تعنيه من رعب وتمزيق للكيانات الوطنية المختلفة، يصبح معها الركون إلى التاريخ وحده غير مجدٍ، طالما ترك أصحاب تلك النوايا المريضة ليلعبوا بالنار متى وأين شاؤوا، بل أنهم لا يتورعون عن تسخير ما يستطيعونه من إمكانيات ومن تجهيل، وأحيانا من تراجع للقيم والأخلاق أيضا، علاوة على ما يستشعرونه من تشجيع في بيئات أصبحت بالفعل حاضنة لتلك التوجهات، فإنهم حتما سيصبحون أدوات تدمير ومعاول هدم وهم المتلحفون على الدوام بعباءات الدين والدين منهم براء، وهم من يظهرون كذبا حرصهم الممجوج على مصالح الوطن.

فعلا، أسعدنا الرد المسؤول الذي سارعت إليه وزارة العدل ممثلة في وزيرها الشاب، وقد حملت مضامينه عدة رسائل لا يمكن لأحد أن يخطئها، منها أن مجرد السماح بمرور تلك الدعوات المريضة ومأسستها يعني القبول بضياع الهوية ومعها الحاضر والمستقبل لا سمح الله، لصالح تكريس المذهبية والمشاريع الطائفية، ولن يجني منها الوطن سوى الضياع في أتون الحقد والكراهية، كما أن السكوت على ذلك سوف يشجع تلك الأطراف المتربصة بنا جميعا للخروج من عباءتها لتجاهر علانية بتقسيم ما هو مقسّم أصلا لدى أولئك النفر دون خوف أو وجل أو حتى مجرد حياء. كذلك هي محاولة الزج باسم وسمعة رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني، فلم تكن خطأ غير مقصود، بقدر ما كانت ملعوبا كريها وثقيل الظل سارعت فطنة «أبو محمد» لتداركه سريعا. قبل أن يستفحل خطر تلك الجماعات يجب أن يقال لهم ولأمثالهم كفى ابعدوا عنا حقدكم وجهالتكم فلن نترك البحرين نهبا لنزعاتكم المريضة، فشعبنا أولى أن يعيش حرا متحابا ومتسامحا كما كنا دائما.
 
صحيفة الايام
8 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

الأمــــــم المتحــــدة ليســــت استثنــــاءً

إعلان الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون بأنه أمر بتسريح‮ ‬200‮ ‬من مراقبي‮ ‬الانتخابات التابعين للأمم المتحدة الذين شاركوا في‮ ‬مراقبة الانتخابات الأفغانية في‮ ‬جولتها الأولى،‮ ‬وذلك بعد أن نجحت الضغوط الأمريكية والأوروبية في‮ ‬إقناع الرئيس الأفغاني‮ ‬حامد كرزاي‮ ‬بالتراجع عن اعتبار نفسه فائزاً‮ ‬بغالبية الأصوات الساحقة في‮ ‬الانتخابات أمام منافسه وزير الخارجية الأسبق وعضو تحالف الشمال عبدالله عبدالله الذي‮ ‬شارك في‮ ‬إطاحة حكم طالبان،‮ ‬والقبول بخوض جولة ثانية وحاسمة من الانتخابات قبل أن‮ ‬يعود ويعلن رفضه خوض الجولة الثانية احتجاجاً‮ ‬على إصرار كرزاي‮ ‬على الاحتفاظ برئيس اللجنة الانتخابية وطاقمه‮ -‬بعد أن تحولت طبخة تعويم كرزاي‮ ‬إلى مضخة للأمريكيين والأوربيين المتورطين جميعاً‮ ‬في‮ ‬عملية تزوير الانتخابات‮.‬
وكما صار معروفاً‮ ‬أيضاً‮ ‬فإن الأمم المتحدة هي‮ ‬الأخرى متورطة في‮ ‬فضيحة التزوير لصالح الرئيس كرزاي،‮ ‬وهو ما فضحه أحد كبار مسؤولي‮ ‬الأمم المتحدة الذين أشرفوا على جولة الانتخابات الأولى والذي‮ ‬دفع ثمناً‮ ‬لذلك بإطاحته على‮ ‬يد الأمين العام بان كيمون من منصبه‮.‬
ولذلك‮ ‬يأتي‮ ‬قرار بان كيمون باستبدال‮ ‬200‮ ‬رئيس لجنة انتخابية في‮ ‬إطار عملية‮ ‘‬استدارة رشيقة‮’ ‬ترمي‮ ‬إلى رفع آثار تواطؤ أجهزة الأمم المتحدة في‮ ‘‬عملية تعويم‮’ ‬الرئيس كرزاي‮ ‬وذلك رغم ما علق بمصداقية بان كيمون من شكوك جراء إقالته للمسؤول الأممي‮ ‬الذي‮ ‬كشف فضيحة تورط الأمم المتحدة في‮ ‬عملية التزوير‮.‬
في‮ ‬الوقائع فإن نائب بعثة الأمم المتحدة المكلفة الإشراف على الانتخابات الأفغانية بيتر جالبريث‮ ‬‭(‬Peter Galbraith‭)‬‮ ‬اتهم علناً‮ ‬في‮ ‬مؤتمـر صحافي‮ ‬عقـده في‮ ‬كابول في‮ ‬الأسـبوع الأول من أكتوبر المنصرم،‮ ‬اتهم رئيسه،‮ ‬أي‮ ‬رئيس البعثة الأممية‮ ‘‬كي‮ ‬إيدي‮’ ‬‭(‬Kai Eide‭)‬‮ ‬بأنه أخفى أدلة دامغة على وجود تزوير واسع النطاق في‮ ‬الانتخابات الأفغانية،‮ ‬وأن هذا التزوير الضالعة فيه الأمم المتحدة قد جُيِّر لصالح الرئيس الأفغاني‮ ‬حامد كرزاي‮.‬
وبعد أيام قام أمين عام الأمم المتحدة الكوري‮ ‬الجنوبي‮ ‬بان كيمون بإقالة بيتر جالبريث من منصبه عقاباً‮ ‬له على‮ ‘‬كشف المستور‮’.‬
وفي‮ ‬الثاني‮ ‬عشر من أكتوبر‮ ‬2009‮ ‬عقد‮ ‘‬كي‮ ‬إيدي‮’ ‬رئيس بعثة الأمم المتحدة المكلفة مراقبة سير الانتخابات الأفغانية،‮ ‬مؤتمراً‮ ‬صحافياً‮ ‬اضطرارياً‮ ‬لدفع هذه الاتهامات والشبهات عنه وعن المجموعة التي‮ ‬يأتمر بأمرها في‮ ‬المنظمة الدولية‮ ‬‭(‬UN‭).‬‮ ‬حيث اضطر للإقرار بوجود‮ ‘‬تزوير ذي‮ ‬شأن‮’ ‬‭(‬Significant fraud‭)‬‮ ‬في‮ ‬الانتخابات الأفغانية التي‮ ‬جرت في‮ ‬العشرين من أغسطس الماضي‮. ‬مع التنويه هنا أنه استخدم مفردة‮ ‬‭”‬Significant‭”‬‮ ‬قبالة عبارة‮ ‬‭”‬Widespread fraud‭”‬،‮ ‘‬أي‮ ‬تزوير واسع النطاق‮’ ‬التي‮ ‬استخدمها نائبه المُقال بيتر جالبريث‮.‬
أما وقد انتهت لعبة التجاذبات التي‮ ‬سيطرت طوال الفترة التي‮ ‬أعقبت عملية الاقتراع على إعلان نتائجها،‮ ‬إلى إعلان الرئيس حامد كرزاي‮ ‬موافقته على خوض جولة إعادة لتحديد الفائز بينه وبين منافسه عبدالله عبدالله،‮ ‬فلا فضل للأمم المتحدة في‮ ‬ذلك إطلاقاً،‮ ‬فالفضل كل الفضل في‮ ‬إذعان الرئيس كرزاي‮ ‬وتوقفه عن اعتبار نفسه فائزاً‮ ‬في‮ ‬الجولة الأولى‮ ‬يعود إلى حلفائه الأمريكيين والأوروبيين الذي‮ ‬أُسقط في‮ ‬أيديهم نتيجة لفضيحة التزوير المدوية‮.‬
ومع ذلك إذا كان هنالك من فضل للأمم المتحدة في‮ ‬ذلك فهو‮ ‬ينسب حصراً‮ ‬إلى بيتر جالبريث الذي‮ ‬أقاله بان كيمون بعد أن فضح بشجاعة تورط الأمم المتحدة في‮ ‬عملية التزوير المدبرة‮.‬
ومن الطبيعي‮ ‬أن تصدم مثل هذه الوقائع أولئك الواقعيين المعولين على المنظمات الدولية وفي‮ ‬مقدمتها الأمم المتحدة،‮ ‬في‮ ‬التخفيف من‮ ‬غلواء كواسر النظام الدولي‮ ‬ومراكز قواه الاقتصادية النافذة‮. ‬وهذه فرضية مفهومة تماماً‮ ‬على أية حال،‮ ‬فالأمم المتحدة و‮’‬بناتها‮’ ‬المتفرعات عنها والمنظمات الدولية الأخرى القرينة والزميلة العاملة في‮ ‬مجالات تنموية مختلفة،‮ ‬هي‮ ‬القواسم المشتركة الوحيدة المتاحة أمام الأسرة الدولية للتعامل الجماعي‮ ‬برأفة وشهامة بشرية مع موارد الأرض وقاطنيها من البشر،‮ ‬وحمايتهما من بطش وبطر القوى الجشعة المتربصة بهما أبداً‮.‬
فإذا كانت هذه المنظمات هي‮ ‬الأخرى مخترقة من قبل لوبيات المال و‮’‬أغطيته السياسية‮’‬،‮ ‬فكيف للعالم أن‮ ‬يأمن على مستقبله،‮ ‬وكيف لأولئك‮ ‘‬المتعشمين‮’ ‬في‮ ‘‬حيادية‮’ ‬وجدية الأمم المتحدة وأربابها وربيباتها أن‮ ‬يضمنوا صدقيتها وحياديتها خصوصاً‮ ‬وأنها اليوم تتصدى لقضية عالمية كبرى في‮ ‬غاية الالتباس بقدر ما أنها في‮ ‬غاية الخطورة حسبما‮ ‬يذهب إلى ذلك الخبراء العالميون الذين انتدبتهم الأمم المتحدة لتشخيص وتقدير خطورتها،‮ ‬ونعني‮ ‬بذلك قضية تغير المناخ‮ ‬‭(‬Climate Change‭).‬
فما هي‮ ‬الضمانة بأن الحماسة‮ ‬غير العادية التي‮ ‬يظهرها أمينها العام‮ ‘‬بان كيمون‮’ ‬لقضية تغير المناخ،‮ ‬بالتمام والكمال على مقاس التوجهات والمواقف المعلنة للدول الصناعية المتقدمة،‮ ‬بينما لا‮ ‬يُظهر ذات الحماس و‮’‬النخوة‮’ ‬حين‮ ‬يتعلق الأمر بمشكلة حالّة وواقعة فعلاً‮ ‬مثل مشكلة الجوع‮ (‬هناك مليار جائع في‮ ‬العالم‮)‬،‮ ‬ومشكلة الفقر التي‮ ‬فاقمتها الأزمة المالية‮ – ‬الاقتصادية العالمية التي‮ ‬اندلعت في‮ ‬سبتمبر العام الماضي‮ ‬بإضافة‮ ‬200‮ ‬مليون إنسان إلى قائمة الذين‮ ‬يعيشون تحت خط الفقر الذي‮ ‬حددته الأمم المتحدة نفسها؟‮!‬
وحين نأتي‮ ‬للناحية العملية،‮ ‬أي‮ ‬لآليات وطبيعة عمل المنظمة الدولية سنجد أن الأمم المتحدة هي‮ ‬مجلس الأمن الذي‮ ‬تسيطر عليه القوى العظمى وتحديداً‮ ‬القوى الغربية الثلاث‮: ‬الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا التي‮ ‬تتمتع بحق الفيتو إضافة إلى روسيا والصين،‮ ‬تاركين الجمعية العامة‮ ‘‬لجمهرة‮’ ‬الدول النامية لاستخدام منبرها لإلقاء خطبهم الوعظية والبكائية مرة كل سنة،‮ ‬فيما لايزال الغربيون‮ ‬يختصون أنفسهم بالمراكز الهامة والحساسة في‮ ‬المنظمة ومؤسساتها المتفرعة‮.‬
ولذلك لسوف‮ ‬يبقى مطلب إصلاح الأمم المتحدة من وجهة نظر ومن زاوية مصالح الدول النامية التي‮ ‬تشكل الغالبية الساحقة للدول الأعضاء في‮ ‬المنظمة،‮ ‬مطلباً‮ ‬ملحاً‮ ‬يتعين طرحه وإبرازه من قبل قادة وكبار مسؤولي‮ ‬الدول النامية في‮ ‬كل المحافل الدولية التي‮ ‬تتوفر فيها الفرصة لإثارة موضوعه الذي‮ ‬يشكل أحد أهم عناصر عدم التوازن السائد في‮ ‬العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية‮.‬
 
صحيفة الوطن
7 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تحدياتُ العلمانية البحرينية (8)

إن محاولات دول الشرق إجهاض وإزالة الرأسمالية تحت دعاوى مشروعات كثيرة، انتهت بإظهار رأسماليات خاصة من باطن الدول، مع ما جرى في ذلك من فساد وهدم للديمقراطية والتنوير وإعلاء الاجرام.
ما سيحدثُ في دولنا خاصةً الكبيرة منها هو صعود القطاعات الرأسمالية الخاصة ومنافستها الحكومات في احتكارها السلطاتِ والثروات. إن نمو هذه القطاعات سوف يزعزعُ الطائفيةَ السياسية التي ظهرت ونُشرت مع هيمنة الرأسماليات الحكومية، إذا جرت بالتعاون مع قوى العلمانية والحداثة.
انتهى اليسار التقليدي إلى دعمِ قطاعاتٍ خاصة ملوثة بكل استبداد الماضي، فظل صعود القطاعات الخاصة هو المخرج في كل الأحوال، في التجارب “الاشتراكية” وفي الراهن القادم من التجارب “الوطنية”.
في كل دولنا الكبيرة تحاول هذه القطاعات الخروج من عنق الزجاجة، ولهذا فإن اليسار الديمقراطي يغدو مشروعه الراهن هو مساعدة هذه القطاعات الخاصة ونموها السياسي لتحجيم الاحتكار الحكومي للسلطات السياسية والاقتصادية والثقافية وإنهائه وتشكيل دول ديمقراطية علمانية.
إن حلم الاشتراكية يبقى لعصر قادم، وفي الراهن لايزال اليسار يغذي بذورَ الحلم، بالدفاع عن الطبقات العاملة، ونشر الحداثة، ودرس المنطقة والتغلغل في جذورها.
ليس التعاون مع القطاعات الخاصة ودعمها هما شكلٌ مطلقٌ، ووحدةٌ صوانية، بل هما تعاونٌ وصراع، لأن القطاعات الخاصة تتوجه حسب مصالحها، ولا تعترف ببرامج سياسية وايديولوجية من هذا الطرف أو ذاك، وتوجهُ الاقتصادَ بخياراتها، لكن الرأسماليات الحكومية تثقلُ عليها، وتحجمُ من تطورِها، ومسائلُ الاقتصاد محل نزاع، والخططُ الحكومية في الاقتصاد أكثرها بيروقراطي لا يخضع لدرس وطني عميق تحكمهُ البرلماناتُ المنتخبة والقوى الاجتماعية الأهلية.
ولهذا فإن العقود التالية سوف تشهد نموا كبيرا في الإرادة السياسية للقطاعات الخاصة، ويظهر من بينها قادة سياسيون ذوو بُعد نظر، ومن هنا فإن التعاون الديمقراطي العميق أساسي، لأنه سوف يترك بصماته الكبيرة على التاريخ.
حتى الجماعات الدينية خاصة القادة فيها والصفوف الأولى ستجدُ نفسَها مع نمو هذه القطاعاتِ الخاصة ومصالحها المشتركة، والأمر لا يجري في بلدنا وفي دول الخليج فحسب بل يجري في إيران ومصر وغيرهما من الدول المؤثرة في تشكيل النمط الاقتصادي العام، الذي عادة تقيمهُ الأممُ الإسلامية بأشكالٍ متفاوتةٍ تعكسُ طرائق تطورها الخاصة.
ليس غريباً أن يبدأ اليسار حياته بالصراع لإزالة الرأسمالية و”ينتهي” بدعمها، لقد كان هو يفعل ذلك من دون أن يدري، لكن الارتباط السياسي بالعاملين وتصور نشوء دولة يحكمونها وإزالة الاستغلال إلى الأبد، هذا مشروعٌ عالمي في الدول النامية لتصعيد الرأسماليات القومية والوطنية، ولهذا حين سقط “الحلم” فقد توازنه السياسي، لكن التشكيلة الرأسمالية مستمرة وكائنة في مشروعات “الاشتراكية” وما بعدها وما سوف ينقضُها حين تأتي الظروفُ التي لا نعلمُها حتى الآن، وهي لا تعني خدمة الرأسماليين فقط، بل إحداث تنمية واسعة، وتفعيل قوى الإرادات السياسية كي لا تكون هذه العمليات خدمةً لقوى عليا محدودة، وتقود المجتمعات لتنمية جيوبها، وتوزيع الخدمات على مناطقِها، وتصعيد طائفة ضد أخرى، ولا أن يتحول العمال إلى أنفار مستجلبين من الداخل والخارج مقذوفين في الأسواق بأرخص الأجور، وتنعدم الخطط الاقتصادية وتفرض مشروعات اقتصادية احتيالية وتضيع الثروات الهائلة على بذخ وفوضى عمرانية وتلوث الخ.
تقوية الإرادات السياسية لرجال الأعمال، وتصعيد أدوار العمال النقابية والسياسية، كقوى أساسية متعاونة لتطوير الأنظمة باتجاه الديمقراطية الحداثية العلمانية، يتطلبان الانتقال من سياسة الانتفاخ والاستعراض، والكم التنظيمي الكبير غير الفاعل، ومن لغات الشعارات إلى البحث الجدي، وإلى إنشاء الدراسات للواقع الراهن، وتنمية العناصر النضالية البشرية العميقة، وتكوين هذه التيارات الديمقراطية العلمانية الوطنية العقلانية بإرثها الإسلامي الإنساني، لإنشاء ذلك الانعطاف السياسي المحوري وألا تكون الدول هي المحتكرة للثروة.
لكن هل استطاعت تنظيمات اليسار أن تحافظ على الإيقاع المتوازن في الدعوة إلى الاشتراكية أو في اعتبار نفسها بديلاً لأنظمة تابعة ومقيمة للنظام الوطني الديمقراطي الناجز ثم في ضياعها السياسي؟ وفي تبدل أسمائها فجأة؟
ولماذا لم تتم عمليات التغيير في مؤتمرات يجرى فيها البحثُ العميق في الإرث السابق، ومعرفة ما سوف يأتي وتـُدرس فيه وثائق التحول وأبعاده واحتمالاته؟
لقد وقعَ البلدُ في ثنائيةِ الطائفيةِ التي غدت هي صانعة النظام والسياسة. إن القطبين الطائفيين يجران الجميع نحو ما يتوارى داخلهما من مضامين غامضة، ويغدو بقية اللاعبين السياسيين ثانويين.

صحيفة اخبار الخليج
7 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

موسيقى من البحرين

في الفترة من نوفمبر 1962 ويناير 1963 أتى إلى أبوظبي والشارقة الباحث الدنماركي بول روفسنغ أولسن. في الإمارتين تسنى له مشاهدة عروض موسيقية شعبية. كانت تلك واحدة من زيارات عدة قام بها هذا الرجل خلال عشرين عاماً امتدت بين عام 1958 حتى عام 1978، لأقطار الخليج العربي منطلقاً من البحرين التي كانت تعمل فيها البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار، وفي الإجمال قضى أولسن نحو سبعة شهور في المنطقة، نصفها كانت في البحرين التي منها أتى إلى الإمارات وسافر للكويت وعُمان أيضاً. وهيأت له تنقلاته بين أقطار الخليج ملاحظة تلك الفروق الدقيقة التي لا يلحظها سوى الباحث الرهيف المختص بين طريقة أداء الفنون الموسيقية في المنطقة، كما مكنته من دراسة المؤثرات الآتية من الثقافات المجاورة، خاصة الهندية والفارسية والأفريقية على الفنون وخاصة الموسيقى والغناء في الخليج، وكانت زيارة الإمارات بالذات قد أتاحت له الفرصة لعقد المقارنة بين رقصة “العيالة” ورقصة “العرضة” في البحرين، وكان لذلك وقعه الاثنوغرافي الخاص على نحو ما يعبر الدكتور عبدالله يتيم الباحث في الانثروبولوجيا. كان أولسن مولعاً بالموسيقى وبالبحث فيها، وآخر مسؤولية شغلها كانت رئاسته للمجلس العالمي للموسيقى التقليدية منذ عام 1977 حتى وفاته عام 1982، وتملكته الموسيقى ذات الأصول الثقافية غير الأوروبية وشغلته للدرجة التي جعلته يهجو مراراً ما يصفه بـ “عجرفة” الثقافة الغربية، داعياً إلى تقويض هذه العجرفة بالاستعانة بالوحي الشرقي والأفريقي. وهو يفسر انجذابه إلى الموسيقى في الشرق إلى ما يصفه بالاتصال المباشر وانعدام التغاير في الثقافات غير الأوروبية بين الموسيقى والموسيقي والمستمع، وكذلك إلى اللغة الموسيقية نفسها: حسيتها وعمقها وحدودها الدقيقة وحريتها في الارتجال وبساطتها الأخاذة وتعقيدها الطبيعي وشكليتها النغمية وطقوسها المنطوية على التكرار. في حصيلة ذلك، سيضع أولسن كتاباً مهماً عن “الموسيقى في البحرين” مع عنوان فرعي: “الموسيقى التقليدية في الخليج العربي”، ضمنه واحداً وأربعين مثلاً مسجلاً على أشرطة مدمجة توضح معظم الأنواع الموسيقية التي تعامل معها أولسن. مخطوطة الكتاب وضعت بالإنجليزية قبل وفاة الباحث بقليل وأودعت في متحف موسغارد الذي أدرك في العام 1998 قيمة هذه المخطوطة فأخذ الأذن من أرملته بتحريرها ونشرها، كما أعطيت البحرين أذن إصدار مجموعة من اسطوانات أولسن على أقراص مدمجة. وأصدرت مجلة “البحرين الثقافية” ترجمة للكتاب في العربية. فليمنغ هويلاند من متحف موسغارد في الدنمارك الذي قدم للكتاب، نقل عن مقالة كتبها أولسن عن “الغناء والرقص في الخليج العربي” هذه العبارة الجميلة، الموحية، الذكية: “من يسافر إلى الخليج العربي يلتقي بموسيقى أكثر نقاء.. أكثر بساطة، سوف يتمكن من تسجيل هذه الموسيقى، لكن لابد له أن يشعر بوخزٍ مؤلم في الوقت ذاته، فهو يعلم أنه إذا أدار تلك الأشرطة لأصدقائه الدنماركيين سيعجبون بالنقاء فيها، وسيهزون أكتافهم لا مبالين بالتكرار الرتيب في اللحن، لأنهم لن يتمكنوا من الإمساك بالمزاج البهيج الذي أزهر في الموسيقى التي يسمعونها. لكن وعلى الرغم من ذلك، تبقى المتعة البالغة هي الروح الحقيقية لكل أنواع الموسيقى هذه. فالغنــاء يجـــيء من الجســد، كل الجــسد وكل الروح”.
 
صحيفة الايام
7 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

مهرجـــان الشمـــــــــلان

بعد ايام قليلة يحتفى منبرنا الديمقراطي التقدمي باحمد الشملان احد الرموز الوطنية والسياسية في هذا الوطن الذي تسبح حكايات نضالية طويلة من اجل الاستمرار المضيء للحياة. الشملان الذي احتفظ بشموخ القامة الوطنية والانسانية كان في مقدمة المدافعين عن التحرر الوطني والحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية كان صوتا وطنياً مخلصاً حمل المسؤولية بامانة واخلاص دفاعا عن تطلعات هذا الشعب في العيش الكريم. فالحديث عنه يعني الحديث عن شخصية وطنية سياسية شفافة متعددة الاهتمامات الفكرية والادبية والابداعية والثقافية، وعلى هذا الاساس فسيرته الذاتية الحافلة بالمحطات النضالية لا يمكن قراءتها إلا في مسيرة الوطن الكفاحية، وبالتالي فالقراءة هنا جديرة بالبحث والدراسة والتحليل والنقد. حقيقة، لقد عرفت الشملان عن قرب عندما زار دمشق عام 1975 متوجهًا الى موسكو لدراسة الماجستير في القانون الدولي في حينها عرفت الكثير من صفات هذا الرجل ……. من بينها بل ومن اهمها انه مهما اختلفت معه حول بعض الرؤى الفكرية والسياسية العربية منها والدولية فان قلبه يتسع للرأي الآخر دون تعصب او تخوين.. نعم هكذا كانت صفاته وممارساته السياسية والاخلاقية في العمل السياسي والديمقراطي الذي انخرط فيه بتفانٍ ونكران ذات. وعلى الجانب الآخر، فهو يتملك فسحة واسعة من الثقافة والابداع اي لديه مساهمات ابداعية تتجلى في النقد الادبي والفن والمسرح وهناك اصدارات في ذلك. وعندما نتأمل ابداعاته فانه من المفيد ان نشير الى ما كتبه في مقاله عن المسرح تحت عنوان “عشرة على عشرة ولعبة الاسئلة” وهي في الحقيقة دعوة لنقد الذات التي يقول فيها اجمل ما في الحياة انها الحياة هكذا!! دون ألوان او نقوش تقدم لنا نفسها.. ونبقى مع ذلك مدفوعين بالشوق والحنين الى عالم غامض .. مختلف عن الآن اما بالرجوع الى الماضي او الهروب الى المستقبل وتبقى الطفولة التي عشناها دون ان نعيها قابلة للحضور كصورة لذكرى يلفها ضباب الغموض ولذة البراءة.. لكن الحياة كواقع.. اذا لم نهرب منه بمبتكرات عصرنا الداعية للهرب تبقى في جوهرها مشعة بالقدرة على امتاعنا دون الحاجة للهرب وقادرة على مساعدتنا لاكتشاف نواقصنا والجهر بها للتخلص منها فلا احد خالٍ من السلبية في جانب من جوانب شخصيته ولا يوجد مثال اعلى خالٍ من عيب ما ولا ينكسر امام المواجهة الصادقة مهما كانت قدرته ضعيفة ومحدودة مقابل جبروته. الشملان الذي اعتقل كثيرا طاف بشعره بين جدران الزنازن والمعتقلات والمنافي .. نعم طاف شعره وهو يردد للوطن: اراك بعيداً بعيداً اراك ألم تقترب قبله في المساء يساورك الورد موجاً لتسبح نحوي واسبح نحوك اصب لموجك نهري فتغسل مائي تعيد ولادة صوتي فكيف يظل رفيقي طريد الموانئ ويبقى فضاؤك صحواً كأن لا نجوم تحوم إليك كأن لا مطر! واخيراً نقول ما اجدرنا ان نجعل من هذا المهرجان محطة تعزز بين القوى الديمقراطية والتقدمية المزيد من التلاحم، وان نعمل على تعميق التيار الديمقراطي في هذا الوطن الذي يئن تحت وطأة القوى الاصولية المذهبية والطائفية. حسنًا فعل منبرنا التقدمي الذي خطا هذه الخطوة المميزة التي نأمل ان تصبح تقليدا رائدا في مسيرة التقدم والحداثة.. تحية “لابي خالد” الذي نزف بصمت طيلة عقود وعساه عالقوه تحية لكل من حفر ثقباً مضيئاً في جدار القمع والعتمة والتخلف.
 
صحيفة الايام
7 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

ماذا يعني لنا ذلك .. ؟!

ربما علينا أن نقر بادئ ذي بدء بأن هناك أسباباً وجيهة لا تخفى على فطنة القارئ تجعل من المتعذر إجراء أي مقارنة بين ما يحدث في فرنسا وبين ما يجري في بلداننا العربية عامة والتي تتغنى بسيادة القانون وبالديمقراطية وما الى ذلك مما هو ليس بحاجة الى شرح أو إثبات. ولكن أحسب أنه بمقدورنا أن نتوقف متأملين احتمالية أن يحاكم ويسجن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بتهمة ارتكابه شيئاً من الفساد المالي والإداري، وتصوروا التهمة تعود الى الفترة 1977 – 1995 إبان كان رئيساً لبلدية العاصمة الفرنسية، والتهمة استحداث وظائف وهمية لمصلحة مؤيدين سياسيين له ولحزبه.. وهو فساد من دون شك اذا ما ثبتت التهمة التي ربما أنسب عنوان لها: استغلال السلطات والصلاحيات. قلنا بمقدورنا أن نتوقف متأملين هذه القضية، بل وهي فرصة ثمينة للتأمل والتفكير، ولعلنا نجتهد بإثارة سؤال بريىء حول ما اذا كان هذا الذي حدث في فرنسا يعني شيئاً بالنسبة لنا وأن كان من زاوية الأسباب التي تدور في فلك الوقوف على تجارب الآخرين.. !! أول ما يعنيه ذلك برأينا هو أن الفرنسيين لا يؤمنون بمقولة “عفا الله عما سلف” وأن حق الدولة، وحق الشعب لا يسقط بالتقادم مهما مرت السنوات تلو السنوات، كما يعني أن قيمة المساءلة في ساحة الأداء العام لها من الحضور والفاعلية ما يكفي لتفعيل حق الشعب في محاسبة المسؤولين كباراًً وصغاراً اذا ما انحرفوا أو اخطأوا أو اهملوا سواء بقصد أو غير قصد. وثاني ما يعنيه ذلك أن حاكمية كل مجريات الأمور في فرنسا تعود الى القانون، فهو سيد الموقف في كل شيء وعلى أساسه تفعّل آليات المحاسبة والمساءلة في موقف يعبر عن حس بالمسؤولية، والعلاقة العضوية بينها وبين الشفافية والمساءلة واعتبارها شرطاً مركزياً لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، وذلك من قيم الديمقراطية الثمينة التي لم تشفع لشيراك لا شعبيته الخارقة في بلاده ولا ما حققه من إنجازات لها. ولعل ثالث ما يعنيه ذلك هو الاستقلالية الفعلية التامة للقضاء الفرنسي، وأن هناك فصلاً حقيقياً للسلطات، ولذا ليس غريباً أن يرفض الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي الإدلاء بأي تعليق على إحالة سلفه على القضاء بسبب مبدأ فصل السلطات حاسماًً الأمر بقوله: اذا كان هناك من شخص لا يستطيع الإدلاء بأي تعليق فهو أنا أياًَ تكن مشاعري حيال شيراك. وخامس ما يعنيه ذلك أن إحالة رأس الدولة السابق للمحاكمة لم يعتبر إهانة أو أذى بالرئاسة السابقة والحالية، ولم يوجه أحد اتهاماً بأن هناك مغرضين يحاولون تشويه صورة فرنسا في الخارج وما الى ذلك من كلام اعتدناه أن يثار في دولنا العربية حينما تثار شكوك أو اتهامات بأحد الكبار فيها. ولعل آخر ما يعنيه ذلك أننا في خضم القضية المثارة لم نجد أحداً احتمى بالحصانة أو تخندق بنافذ أو سلطة رادعة لحماية نفسه، ولم تبادر جهة ما لتخلق الذرائع والمبررات لتخفي الحقيقة أو لتنفي اتهاماً أو تغير واقعاً حدث، بل أن شيراك نفسه لم يفقد شجاعته السياسية، واعترف بأن التعيينات المتهم فيها تمت بأمر منه وبطلب منه، لم يحمّل معاونيه الأربعة الملاحقين معه في القضية المسؤولية أو يقذفها ليتحملها “أكباش فداء”، وهذا أمر في حد ذاته يستحق أن نمعن في دلالاته. ذلك كله حدث وبكل شفافية في فرنسا كما حدث في حالات أخرى مشابهة تقريباً في دول عريقة في الديمقراطية .. لم يعترض أحد ، ولم يتدخل أحد لوقف فكرة المحاكمة، ولم يقل أحد “انتبهوا أن وراء الأكمة ما وراءها “ ، وهو كلام نعلم بأنه يمكن أن يكون في بلداننا العربية كافياً لوقف أي شيء يراد عرقلته وتعطيله ووقفه عن التداول والمبررات والذرائع دائماً جاهزة والمهللون والمصفقون لها دائماً جاهزون . صحيح أن ما جرى في فرنسا لا يستغرب في أي دولة ديمقراطية لا تتردد في محاسبة كل من أخطأ أو تجاوز أو فسد وأفسد مهما مرت السنوات، لكننا معذورون اذا ما اعتبرناه من الغرائب والعجائب حين نقارنه بما يحدث في بلداننا العربية التي لازالت حتى قوانين من أين لك هذا وتقارير دواوين رقابتها المالية مجرد مشاريع مغيبة ومعطلة عن البحث والنقاش بفعل فاعل أو فاعلين!! 
 
صحيفة الايام
7 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد