لما كانت حرية التعبير والنشر في عالمنا العربي ما برحت تمر بمحنة منذ فجر الدولة العربية الحديثة، وإن خفت بدرجة نسبية ضئيلة في عدد من الدول العربية خلال السنوات القليلة الماضية، فإن كثيرة هي الروايات والقصص الملحمية المثيرة والمؤلمة والمشوقة في آن واحد التي خاض مؤلفوها مع أجهزة الرقابة الاعلامية ببلدانهم معارك ضارية، حول اصداراتهم، من كتب وافلام وروايات ومسرحيات وصحف ومقالات، لكن القليل من أصحاب هذه الاصدارات الاعلامية، وعلى الأخص مخرجو الافلام وكتّاب الروايات والقصص والمسرحيات ومؤلفو الكتب ومترجموها وأصحاب الصحف وكتّاب المقالات الدائمة المنتظمة، هم الذين دوّنوا قصصهم التي تروي ملاحم معاناتهم المريرة مع أجهزة الرقابة العربية على الرغم من من انها لا تخلو من طرائف وعبر، بعضها اكثر فائدة من مؤلفاتهم نفسها، وبخاصة الانتاجات التي أطبقت شهرتها الآفاق في بلدان الرقابة الاعلامية المتشددة، وأثير من حول منعها ضجات كبرى متواصلة ظلت تتجدد بين حين وآخر، وبضمنها تلك الاصدارات الثقافية التي ولدت بفعل الرقابة ولادة خديجية مشوهة، سواء أكانت عملا نثريا أم ادبيا ام فنيا، كأن يكون سينمائيا أم مسرحيا أم مؤلفا مترجما أم غير مترجم في مختلف مجالات المعرفة.
ان تدوين قصص المخاضات العسيرة لولادة تلك الانتاجات والاصدارات لا تخلو، كما ذكرنا، من دروس وعبر ومغزى مفيدة لمعرفة العقلية السائدة في ظل تقلص هامش حرية التعبير إلى ادنى حد ولاسيما حينما يكون المنع او التعديل او حذف اجزاء من الانتاج الصادر يأتي عبثيا او اعتباطيا مضحكا مبنيا على فهم مغلوط من قبل الرقيب او فوبيا تتملكه من عواقب تمرير العمل فيما لا ينطوي هذا العمل الصادر ذاته على أي محاذير او محظورات حقيقية حتى بمعايير تابوهات النظام نفسه السياسية والأخلاقية والدينية.
ولربما يعد المترجم والقاص البحريني مهدي عبدالله هو واحد من القلة بين المثقفين البحرينيين الذين دونوا تجاربهم مع الاصدارات العسيرة لمؤلفاتهم، والمتمثلة تحديدا في اصدار واحد من أهم المصادر والمراجع المهمة لتاريخ البحرين المعاصر الا هو كتاب “مذكرات بلجريف” الذي يتناول فترة تاريخية مفصلية بالغة الأهمية يبلغ مداها 30 عاما (1926-1956)، وهي الفترة ذاتها التي قضاها المستشار البريطاني السابق في عهد الحماية البريطانية للبحرين بصفته مستشارا لحكومة هذه الأخيرة. وقد حاضر بحصيلة تدوينه في محاضرة استضافته فيها جمعية تاريخ وآثار البحرين.
على ان الحكاية التي سردها المترجم مهدي عبدالله عن قصته مع اصدار الكتاب في المحاضرة ليست كلها تدور عن الرقابة، بل ما تحدث عنه في هذا الشأن ليس سوى شذرات واشارات سريعة عابرة وذلك لان الرقابة البحرينية، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهي فترة ترجمة الكتاب على حلقات في مجلة “صدى الاسبوع” ثم جمع هذه الحلقات واصدارها في كتاب، نقول لأن الرقابة البحرينية لم تتدخل بصورة مباشرة، بل كان التدخل بحذف فقرات وفصول من الكتاب يتم إما بفعل الرقابة الذاتية للمترجم نفسه وإما بفعل الرقابة الذاتية لرئيس تحرير المجلة التي كان ينشر فيها الكتاب مترجما على حلقات.
وبالتالي فإن المحاضر اختار ان يشمل حديثه حول قصته مع اصدار الكتاب مترجما قضايا ومسائل أخرى، مثل تناول أهمية الكتاب، وأبرز موضوعاته المهمة، وأهم احداث الخمسينيات التي تناولها بلجريف في مؤلفه، وأسماء قيادة الهيئة، واهم مطالبها، وانطباعات المترجم عن الكتاب نفسه الذي ترجمه، وأخيرا تبيانه الفرق بين الأصل الانجليزي للكتاب مقارنة بالنسخة المترجمة التي قام باصدارها في الكتاب موضوع المحاضرة.
وفي تقديري فان الفقرات التي ألقاها المحاضر عما تم حذفه من صفحات وفصول وفقرات في الكتاب، وانطباعاته عن الكتاب، وكذا مقارنته بين الأصل الانجليزي والنسخة المترجمة، كل ذلك كان أهم موضوعات المحاضرة التي حبذا لو توسع فيها وركز فيها، لربما جاءت أعظم فائدة من سرده موضوعات الكتاب وبضمنها سرد أحداث الخمسينيات وان بصورة مختصرة معروفة سلفا.
مهما يكن فان كتاب “مذكرات بلجريف” أو “العمود الشخصي” حسب الترجمة الحرفية هو أهم الكتب التي ترجمها المترجم مهدي عبدالله على الاطلاق من بين كل أعماله المترجمة، سواء التي جاءت في مقالات منشورة او في كتب، وهو ما اكده المحاضر نفسه مبينا ان مبعث اعتزازه بالكتاب يكمن فيما حققه له من نجاح ورواج كبير، ولما حققه له كذلك من شهرة مدوية حتى بات يعرف لدى الكثيرين ممن لا تربطه علاقة بهم بـ “مهدي صاحب ترجمة بلجريف”، وهذا بلا شك يدل على ما يكنه البحرينيون من عشق كبير لتاريخهم وعلى الأخص صفحاته المجهولة المثيرة الأشبه بالاسرار والالغاز، ككتاب بلجريف باعتباره شخصية مهمة كانت ليست مجرد شاهدة على احداث تلك الفترة التاريخية الفاصلة فحسب، بل مؤثرة فيها لما كانت تملكه من دور وتأثير كبيرين في صنع القرار السياسي الرسمي لتلك الفترة ذاتها.
وإذ جاءت أسئلة ومداخلات الحضور خصبة اثرت موضوع المحاضرة، فإن أهم تلك المداخلات وأعظمها قيمة كانت للدكتور عيسى أمين رئيس جمعية الذي فجّر خلالها عدة مفاجآت صاعقة من العيار الثقيل، كرفضه وصم بلجريف بالشر المطلق وتجريده من أي ايجابيات، وككشفه عن وجود صفحات من يوميات بلجريف طوال سني اقامته في البحرين وتخص عامين محددين مفقودة أو منزوعة، وكتبرئته بلجريف من مسؤولية الأحكام التي صدرت بحق قادة حركة الهيئة، وكدحضه خطورة المرض الذي ألم ببلجريف عشية مغادرته البحرين عام 1957 مؤكدا ان مرضه كان عاديا وليس ذا خطورة، وغير ذلك من الامور والمعلومات المجهولة الاخرى المهمة عن بلجريف التي كشفها الدكتور أمين في مداخلته المطولة.
ولربما سنحت لنا الفرصة في المستقبل القريب لتناول هذه القضايا أو جانب منها.
صحيفة اخبار الخليج
21 نوفمبر 2009