يقولون إن من أزكى الورود رائحة في منطقتنا الورد الطائفي (نسبة إلى الطائف). ونقول إن أزكى العطر في مجتمعنا يفوحه اللاطائفيون. وعندما تستعر حمى الطائفية وتستشري في كل مناحي الحياة، فإن دائرة اللاطائفيين تضيق للأسف. وأن تصبح لاطائفيا ليس من منطلق الحياد بين الطوائف، بل مخترقا إياها بانحياز اجتماعي واضح لمصالح كادحي وفقراء كل الطوائف في وجه مستغليهم من كل الطوائف، فإن الدائرة تضيق أكثر. وأن تصبح لاطائفيا مناهضا للتمييز الطائفي وتقف إلى جانب ضحاياه وضد ممارسيه، فإن الدائرة تضيق أكثر فأكثر. وأن تربط بين هذه الأهداف في وحدة وطنية تصب في مجرى النضال الوطني الاجتماعي العام من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، فلن تجد في هذه الدائرة إلا قلة من الأبطال الحقيقيين. أما وأن يجمع بطل من هؤلاء بين إيمان عميق بالنظرية الثورية العلمية وبين الممارسة اليومية ممتشقا سلاح الكلمة ليهندسها مقروءة شعرا أو عمودا صحافيا، مسموعة غناء أو نشيدا أو خطابا جماهيريا ملهما أو دفوعات عن المظلومين في قاعات المحاكم، فهنا تضيق الدائرة وتضيق.. ولا متسع إلا لمثل البطل الأسطوري أحمد الشملان.
الكاتبة والصديقة فوزية مطر، زوجة المناضل أحمد الشملان ورفيقة دربه النضالي سكنت دواخل هذا البطل وعرفته أكثر من أي من رفاقه إنسانا رقيقا متواضعا وشاعرا رهيف الحس، ومحاميا نصيرا للعدالة، وحزبيا صارم الالتزام والمبادرات، ووطنيا غيورا ومناضلا شديد البأس، أتحفتنا بكتابها ‘’أحمد الشملان.. سيرة مناضل وتاريخ وطن’’. وقد بيع الكتاب بكثافة خلال ‘’أيام أحمد الشملان’’ التي أقامها المنبر التقدمي ما بين 14 و 25 نوفمبر/تشرين الثاني احتفاء بهذا المناضل الكبير. بما لأحمد وعليه من شهادات أهله وأصدقائه ورفاقه وضعت فوزية على رفوف المكتبة البحرينية والعربية مؤلفا موضوعيا رائعا يستحق أن نقرأه ويقرأه أبناؤنا من الغلاف إلى الغلاف. من هذه السيرة يتضح أن ليس كل إنسان يستطيع أن يكون بطلا. بهذا المعنى كتب الأديب والمترجم الروسي الشهير ألكسي بليشييف ( 1825 - 1839 ) أن ‘’لكل شيء في الكون حصته، ولا يمكن أن يتكون العالم كله من أبطال’’. لكن، هل الظروف هي التي ساقت الشملان ليصبح بطلا من هذا الطراز؟ هنا يقول الكاتب الهنغاري الشهير والثوري العالمي، بطل الحرب الأهلية في روسيا والحرب الإسبانية بيلا فرانكل (1896 – 1939)، المعروف باسم ماته زالكا، إن ‘’البطل هو ذلك الذي خطط نواياه بشكل مسبق، مدركا بأنه يخاطر بحياته، ومع ذلك فإنه يقدم على الخطوة الضرورية من أجل الصالح العام’’. كأني بالثوري الأصيل زالكا يشير ببنانه من ذاك الزمان إلى شملان حاضرنا. دفع الشملان على مدى عقود، وعلى أقساط وبالجملة ثمن نضاله الذي لم يعرف الهوادة يوما. لكنه كان يعرف الثمن مقدما. هدفه الدائم الصالح العام لشعبه ووطنه.
وإنك لتحتار حقا، بمن احتفل المنبر الديمقراطي التقدمي هذا الشهر.. برئيسه الفخري أم بفخر البلاد كلها؟ أليس هو الشملان الذي تطور في انتماءاته الحزبية من البعث إلى الشعبية إلى التحرير، مشكلا في كل مرحلة جسرا للتواصل بين هذه القوى التي خاضت مع شعبنا نضالاته منذ الخمسينات والستينات – ألا يشكل الشملان نداء طبيعيا لهذه القوى لإعادة تأصيل ذلك التراث النضالي بقيام التيار الوطني الديمقراطي الذي يجمعها والقوى والشخصيات الديمقراطية الأخرى في البلاد -ألم يشكل الشملان إلى جانب الشيخين الجمري والمحمود رمز الوحدة الوطنية أثناء أحداث التسعينات،ألا يشكل الاحتفاء به إلهاما لزعماء الطوائف اليوم كي يرأبوا صدع الوحدة الوطنية ويعيدوها إلى ما كانت عليه في فترات ناصعة من تاريخ شعبنا النضالي؟
بسبب الظروف الصحية سكت، أو أسكت الشملان زمنا طويلا. ورغم صمته كان حاضرا، فاعلا في أهم المنعطفات التي مر بها المنبر التقدمي منذ تأسيسه. وفي منزله تحديدا تم اتخاذ أخطر القرارات. أنصاف الكلمات التي يحاول إطلاقها زائدا ما يختزنه هذا الرجل من خبرات نضالية وثراء روحي وقوة إيحاء تجعلك على الفور تفقه أفكاره الحبيسة خلف عقدة لسانه.
كانت احتفالات أيام أحمد الشملان رائعة على كل المستويات. المناضلون الذين نظموها حاولوا الارتقاء بها قدر قامة الشملان نفسه. ولربما تولد انطباع لدى البعض أن كتاب فوزية وتلك المظاهر الاحتفالية قد بالغت في تصوير الشملان. الحقيقة ببساطة هي أن الشملان عاد من خلال الكتاب والاحتفالات فنطق من جديد، وتحدث بأعلى صوته ليذكر كلا بالأجندات الحقيقية التي ينتظرها منه شعبنا: للدولة – أن معضلات الديمقراطية لا تعالج إلا بمزيد من الديمقراطية، وإلا عدنا للوراء.. للديمقراطيين – أن رسالتهم اليوم قيام التيار الوطني الديمقراطي وطرح وتحقيق برنامج البديل الديمقراطي، وإلا عدنا للوراء.. للوطنيين عموما – السمو فوق الاعتبارات الطائفية البغيضة نحو بناء الوحدة الوطنية، وإلا عدنا للوراء.
إنه ذلك كله وأكثر.. إنه الشملان – شامل شملنا.
صحيفة الوقت
30 نوفمبر 2009