المنشور

ماركس الرمزي وشبحية دريدا (1 – 6)

إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تـُسمى “التفكيكية”. ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه “أطياف ماركس”، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك “البيان الشيوعي” بعبارة “شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!”.
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ “البيان” على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
“حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين”.
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية “الحديثة”، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
“الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان”.
وتـُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لاحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
“وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ “الفصائل” بإسقاط النظام المجتمعي القائم”.
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تـُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.

صحيفة اخبار الخليج
10 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

سماء أقل ارتفاعا

جلس الفتى أمام شباك الغرفة وقد أزيحت الستائر عنه، الجو في الخارج غائم: مطر ناعم، خفيف يهبط متناثراً على إسفلت الشارع المحاذي للشباك تماماً، فيبدو الشارع مغسولاً، ندياً، حميماً أكثر من العادة، وعلى زجاج الشباك بعض قطيرات المطر. سلك لخطوط الهاتف يمتد في الخارج وفوقه وقف عصفور صغير يذكر بقصة جميلة ليوسف إدريس. في تلك القصة حكى الكاتب عن عصفور صغير أرهقه الطيران الطويل فقرر أن يستريح فوق سلك لخط الهاتف، المصادفة وحدها هي من ساقت هذا العصفور نحو هذا السلك بالذات، والعصفور السادر في حلمه لم يكن يعلم إن داخل هذا السلك ذبذبات كبيرة تحمل أصوات نساء ورجال يتبادلون الأحاديث، أحصى الكاتب عدة مكالمات في الآن ذاته. كانت ذبذبات الحب في السلك هي نفسها ذبذبات الكراهية، وذبذبات الحزن هي نفسها ذبذبات الفرح، وذبذبات السعادة هي نفسها ذبذبات البؤس. يحدث لمشهد صغير نصادفه في الحياة أو نراه من خلف شبابيك غرفنا أن يوقظ في نفوسنا ذكرى مشاهد عشناها أو أمور قرأناها، كما فعل في نفسه مشهد هذا العصفور الجميل الذي راح يزيح بمنقاره الصغير قطرات المطر العالقة على ريشه. أتراه يشعر بالبرد ويهفو للدفء في هذا العالم الماطر، أيثير المطر لديه السعادة والبهجة أم يبعث في داخله الحزن، أي درب، طويل أم قصير، ينتظر هذا العصفور الذي اختار مجاورة الشباك الذي جلس الفتى بمحاذاته ليرتاح بعد طول تعب قبل أن يواصل الطيران نحو وجهته المجهولة ؟ أسعد الفتى هذا النهار الغائم، الماطر، الكسول الذي يأتي مِنةً من السماء. أن يجلس بذهنٍ صافٍ قرر أن يتحرر ولو لهنيهة من همومه، وأن يطلق العنان للمخيلة وحدها. يدع صوت فيروز يحلق في الفضاء الصغير الذي يشكل عالمه الآني، وهي تنشد عن وجهٍ يُذكر بالخريف، عن مطرٍ “بعده يبلش عالخفيف “، وأن يستحضر سوناتات محمود درويش في “سرير الغريبة” وهو يُمجدُ “حُباً صغيراً فقيراً يُبللهُ مطرٌ عابرٌ فيفيض على العابرين”، أو “حُبا يمر بنا دون أن ننتبه، فلا هو يدري ولا نحن ندري، لماذا تشردنا وردة في جدار قديم”، أو “حُباً يطيل التأمل في العابرين ويختار أصغرهم قمراً: أنت في حاجة لسماء أقل ارتفاعاً”. المطر، هو الآخر، يجعل السماء أقل ارتفاعاً، كأنها تختار أن تهبط قليلاً رأفة بالأمطار كي لا تخدشها أحجار أرضنا، كأنها تصطفي يوماً كسولاً، لذيذا مثل هذا فتهبط كأنها تحرضنا على الصعود نحوها، كما العصفور الجميل، الصغير على سلك الهاتف الذي رمقه الفتى وهو يمارس كسله قبل أن يواصل الطيران نحو وجهته البعيدة، المجهولة في الأعالي.
 
صحيفة الايام
10 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

القطاع الخاص والأجور!!

إزاء الاجور المتدنية في معظم مؤسسات القطاع الخاص ما الذي تستطيع ان تفعله وزارة العمل؟ هل بأمكانها ان تدفع نحو تعديل الاجور المنخفضة؟ واذا كان كذلك هل تتجاوب تلك المؤسسات مع اعادة النظر وبشكل دوري في رفع حدها الادنى؟. تلك هي الاسئلة التي تدور او تتداولها شريحة كبيرة من العاملين في القطاع الخاص. نعم .. ولماذا لا تتداولها والحد الادنى للأجور في هذه المؤسسات الخاصة اقل بكثير او لم تعد منسجمة مع تكاليف الحياة المعيشية المرتفعة جدا!! حقيقة رغم كل الجهود التي تبذلها وزارة العمل في سبيل تحسين مستويات الاجور في القطاع الخاص وهذا ما يفسر لنا ارتفاع الحد الادنى الى 230 دينارا، الآن وبكل اسف لا تملك هذه الجهة ما يلزم هذا القطاع بتحقيق التوازن الحقيقي بين متطلبات الحياة الملحة وبين الاجور ويعود ذلك كما تدعي الى اسباب عديدة اهمها السوق المنفتحة وبالتالي فلا غرابة اذا ما وجدنا بعض مؤسسات هذا القطاع غير مهتمة بواقع اجور عمالها المتدنية؛ لانه ليس هناك ما يلزمها وهذا ما يعكس لنا سياسة “التطنيش” التي تتبعها !! احصاءات الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية التي نشرت مؤخرا يجب الوقوف عندها باهتمام؛ لانها تشير الى ان نحو 39 في المئة من البحرينيين العاملين في القطاع الخاص يتقاضون رواتب تقل عن 250 دينارا بينهم اكثر من 10 آلاف مواطن اجورهم تقل عن 200 دينار، وبشكل دقيق تقول هذه الاحصاءات ان عدد البحرينيين الذين يتقاضون اجورًا بين 200 و 249 بلغ وفقًا للأسماء المسجلة في الربع الثاني من هذا العام 20 الفًا و943 بحرينيًا فيما بلغ عدد البحرينيين الذين يتقاضون اجورًا بين 150 و193 دينارًا اكثر من سبعة آلاف بحريني. اذن .. ما هو الطريق للخروج من مأزق الاجور المتدنية في هذا القطاع؟ سؤال مازال مطروحًا وباصرار على وزارة العمل وكل جهة معنية. الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين ينبغي ان تكون له مساهمات كبيرة على هذا الصعيد وبكلمات اخرى ينبغي منه ان يقدم الدراسات ويعقد الندوات ويدعو الى الاحتجاجات السلمية التي تدعو لتحسين الاجور ومع ذلك لا ننكر مقترحاته التي تطلب بوضع حد ادنى للاجور وقدره 500 دينار كمتوسط دخل الاسرة البحرينية الامر الذي لم توافق عليه وزارة العمل بحجة ان هذا المقترح سيؤدي الى اغلاق نصف المؤسسات في البحرين!! اذن .. ما العمل؟ هل من المعقول ان تظل الاجور متدنية الى هذا الحد؟ في حين ان احصاءات التأمينات تؤكد لنا ان 39% من البحرينيين في القطاع الخاص رواتبهم تقل عن 250 دينارا!! على اية حال، اذا كنا نطالب وزارة العمل ان تعمل جاهدة في سبيل تحريك وتعديل الحد الادنى للاجور في القطاع الخاص بحيث تتماشى مع المستويات المعيشية المرهقة فان اللائحة تقع على النواب الذين الى الآن لم نسمع عن اية رؤية متكاملة تقدموا بها حول الاجور او بالاحرى لم نسمع سوى مقترحات او رغبات لا اكثر، بمعنى انهم لم يتعاملوا مع هذه المسألة بقدر كبير من التفاعل والجدية وكذلك الحال بالنسبة لملفات عديدة لاتزال لم تناقش بعد!! ولنكن اكثر وضوحًا وصراحة ان نوابنا الافاضل الذين يعملون على تحسين الصور وخاصة في هذه الفترة التي يكثر الحديث فيها عن الاستعدادات للانتخابات البرلمانية القادمة وعن “التفنن” في كسب ثقة الناخب الذي لاتزال قناعته تقول ان المنجزات النيابية المحدودة تكشف عن خلل في الاداء ان ينشغلوا في الدورة المقبلة بقضايا الناس وان كنا نشك في ذلك فإن الاهتمام بكافة الملفات الساخنة من بينها الاجور هي تمنيات واحلام ذوي الدخل المحدود وبالتالي هل يفعلها النواب هذه المرة كما فعلوها حينما حققوا الانجاز التاريخي الكبير عندما اقروا في لمح البصر القانون الخاص بتقاعدهم .. هذا ما نتمناه ونأمله.
 
صحيفة الايام
10 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

هل نحرث في البحر .. ؟!

يبدو أن البحرين لا تحارب آفة الفساد كما يجب في قطاعها العام والخاص على حد سواء، وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته البحرين في التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2009 والصادر مؤخراً والذي وضع البحرين في المرتبة الرابعة عربياً في الدول الأقل فساداً، والمرتبة 43 على المستوى الدولي متقدمة بثلاث مرتبات مقارنة بالعام الماضي. على الرغم من ذلك، فإن ملف الفساد سيظل يبقى أحد أهم وأخطر الملفات التي يفترض أن نتعاطى معها بمنتهى الجدية والحسم والسرعة، خاصة اذا كانت الدولة عاقدة العزم حقاً على تطبيق الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 التي بات الكل – من له علاقة ومن ليس له علاقة – يدعي وصلاً بها والتزاما بمبادئها ومحاورها وأهدافها، فالرؤية كما هو معلوم تركز ضمن ما تتبناه على اصلاح حال الإدارة الحكومية ومحاربة الفساد، وهي مهمة ومسؤولية لاشك أنها معقدة ومتداخلة في أمور واعتبارات وحسابات كثيرة، ولكننا كما قلنا تبقى واجبة الى درجة أن تصبح أمراً مقدساً من منظور ديني واخلاقي واجتماعي وسياسي، ولن يكون بمقدورنا تطبيق تلك الأهداف والمبادئ والمحاور اذا لم تكن هناك أساسًا رؤية حقيقية تجاه هذا الملف الذي لم يولى حتى الآن حقه من الاهتمام. نعود الى تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي كان محوره هذا العام “الفساد في القطاع الخاص” وهو التقرير الذي ستحتفي الجمعية البحرينية للشفافية بإطلاقه يوم الاثنين القادم، هذا التقرير تناول الفساد وتجلياته في قطاع الشركات الوطنية والعالمية والمتعددة الجنسيات، وهو يكشف بأن العالم ينفق ما بين 20 و 30 مليار دولار سنوياً على الرشاوى في القطاع الخاص في العالم، واصفاً الفساد بالمشكلة المعقدة وأن المدمرة في قطاع الأعمال أن محاربته تعتبر أكبر تحدٍ بالنسبة للشركات، كما اعتبر الرشوة بأنها ليست سوى وجه واحد من الفساد في الشركات، وفي الوقت الذي حذر التقرير من مسائل عدة مترابطة منها المحسوبية والعلاقات المشبوهة بين الملاك واعتبر ذلك من أسوأ أنواع الفساد، ويشير الى الفساد داخل الشركات مما يضر بالأداء والحسابات، ويتطرق الى الفساد في الأسواق مما يؤدي الى تغييب العدالة في المنافسة والأسعار، فإنه أيضاً ينبه من مخاطر الفساد في لوبي الشركات التي قد تنقلب الى فساد قانوني يؤثر في مسار عمل الحكومات ويخلق مخاطر على البزنس بشكل عام. ويلفت التقرير الى قضية غائبة عن أذهان الكثيرين هي الشفافية والحوكمة في صناديق الثروات السيادية حول العالم، ويقول إن سرعة نمو هذه الصناديق في الأعوام الخمسة الماضية غيّر الخريطة العالمية لملكيات الأصول، وجعل عدداً من الأسواق الناشئة لاعبين مؤثرين في الأسواق المالية العالمية، وينبه التقرير وهنا بيت القصيد الى ضآلة المعلومات المتوافرة عن السياسات الاستثمارية لهذه الصناديق وضعف هيكليات حوكمتها، ويذكر بأن النرويج والإسكا هما فقط يصدران تقريراً محاسبياً مدققاً وتنشرانه أمام الرأي العام، وهذه القضية تطرح اسئلة بالنسبة للصناديق التي انطلقت من البحرين وحول طبيعة التشريعات التي تحكمها وحول تضارب مصالح محتملة خاصة في غياب شفافية تعاملات هذا الصندوق. التقرير فيما يخص البحرين لم يشر الى التفاصيل ولعلها مهمة جمعية الشفافية التي ستطلق التقرير بعد أيام، ولكننا وحتى ذلك الوقت وبعده سنظل نطالب بكل ما يحد من انتشار الفساد الضارب في كل المفاصل، في القطاعين الخاص والعام وفي اوساط النواب وحتى مؤسسات المجتمع المدني، لم تسلم من الفساد فهو يعشعش بمظاهر شتى في كثير منها وهو ملف هو الآخر لا يجب أن يكون غائباً عن أذهان ذوي العلاقة، ويجب أن يفتح بكل جرأة وشفافية. إن البحرين وإن كانت قد تقدمت عربياً ودولياً في المؤشر المذكور، فإننا نستغرب بأن أي جهة من الجهات الرسمية التي الفناها تحتفي بالتقارير الدولية على أكثر من صعيد، قد تجاهلت تقرير منظمة الشفافية وما أحرزته البحرين من تقدم، ربما للحساسية المفرطة من موضوع الفساد وربما لأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله. على أية حال، ما يهمنا أن نؤكد أن ذلك التقدم لا يبهرنا، وما أن ما يبهرنا حقاً هو أن يلمس المواطن أن هناك جهوداً حقيقية ملموسة قد بدأت تؤتي ثمارها على صعيد مكافحة الفساد وتفعيل سيادة القانون، ونحسب أن مجلس التنمية الاقتصادية كونه المعني بالشأن الاقتصادي، والمعني بالرؤية الاقتصادية، والمعني بتعزيز ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال والاستثمار في البلاد، والمعني بتحقيق الإصلاح الاقتصادي، نحسب أن عليه مع كل من يجد نفسه معنياً بأن يأخذ زمام المبادرة لجعل محاربة الفساد عنواناً للمرحلة المقبلة، وجيوب الفساد وعنوانه معروفان للصغار قبل الكبار، ولابد من التعامل مع الفساد ووضع حد لتغول مافيات الفساد بكل حزم وحسم وعلانية، وإلا سنظل دوماً كمن يحرث في البحر.. !!
 
صحيفة الايام
10 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

«صنع في لبنان».. ولقاء «س ـ س»


قبل أكثر من عشرين عاماً كنا على موعد مؤتمر صحافي للنائب اللبناني السابق ‘’نجاح واكيم’’ في لقاء ‘’منتجع الطائف’’ الذي جمع اللبنانيين للخروج (من عنق القارورة ـ الزجاجة)، أي، من أزمته الطاحنة للحرب الأهلية ‘’آنذاك’’، وكنا نحن معشر الصحافيين نلهث من أجل اقتناء معلومة شاردة جديدة لما يجري هناك (في الطائف) تضاف إلى تقاريرنا اليومية عن اجتماعهم وتزويدها بالتالي إلى صحفنا التي بعثتنا لتغطية هذا الحدث الكبير.. وفي غمرة انشغالاتنا لـ’’مطاردة المعلومات بطرح التساؤلات’’ حول الأشياء التي تدور في ‘’الحجر المغلقة المملوءة بالدخان’’، وشحت المعلومات، مسك بيدي صحافي لبناني تولدت بيننا بطاقة تعارف للتو، وأخذني على جنب، ثم سرّني بقولٍ مفيدٍ: اسمع يا البحراني. لا عليك من الذي يجري هنا في الطائف. القرارات تأتي من ثلاث عواصم: بيروت، دمشق وطهران. تعال لي بعد الساعة السادسة والنصف مساءً كل يوم لتزويدك بالجديد.. اتفقنا؟!. أومأت له بعلامات الرضا وافترقنا، وكان هذا الصحافي عند وعده والتزامه وصدق ما قاله.

تذكرت هذه الجزئية خلال متابعاتي الصحافية للعلاقات ‘’السورية ـ السعودية’’، وزيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق الأربعاء الماضي وتأثيراتها على معظم الأطراف اللبنانية لتسهيل ولادة حكومة لبنانية جديدة قد ترضي، أو لا ترضي أطرافا داخل لبنان أو خارجه، غير أن الملاحظ بشكل عام سيادة أجواء متفائلة لبنانياً بقرب انفراج الأزمة، وإن اعترى ذلك تفاؤل حذر عند الذين يطمحون بتشكيل حكومة لبنانية، ولو لمرة واحدة تصنع محلياً، وبالتالي ليست خاضعة لتقلبات العلاقات العربية ـ العربية، أو العربية ـ الإقليمية، أو الدولية ليأتي من بعدها الفرج!!.

 ما يلاحظ، إنه عندما تكون العلاقات متوترة بين الرياض ودمشق ترتعد الأطراف اللبنانية وترتجف، وإن كان جل هذه الأطراف يدعي تفضيله لـ’’حكومة تصنع في لبنان’’، ويزايد بـ’’استقلالية القرار الوطني’’، لكنه على الجانب الآخر، تنفرج لأي تطور في العلاقات ‘’السين ـ سين’’، فينشر قصائد المديح لانعكاساتها الإيجابية على الوضع اللبناني الداخلي والعمل العربي المشترك، وفي المعنى نفسه، نتذكر قول النائب محمد رعد بعد زيارته ووفداً من كتلة الوفاء للمقاومة رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وذلك عشية زيارة العاهل السعودي إلى دمشق، والتي يراها المراقبون بأنها ‘’مفصلية تاريخية’’، إن أيّ لقاء عربي – عربي ‘’وخصوصاً بين دولتين شقيقتين وعزيزتين على اللبنانيين ويهمهما أمر لبنان، لا بد من أن ينعكس إيجاباً تجاه الوضع اللبناني’’.

وكالة ‘’يو بي آي’’ نقلت الأحد 4 أكتوبر/ تشرين الثاني عن مصادر مطّلعة، أن وفد المملكة يضم رئيس الاستخبارات مقرن بن عبد العزيز، وزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجة، وزير العمل غازي القصيبي ومستشار الملك السعودي نجله عبد العزيز، الذي زار وخوجة دمشق وبيروت مرات عدة إبان مرحلة التكليف الأول للحريري بتأليف الحكومة… فهل هذا يعني شيئاً للبنانيين؟.. فلنتظر لنرى.

 
الوقت 9 أكتوبر 2009
 

اقرأ المزيد

منذ دهشة «ترميم الذاكرة».. وانتظار الرواية التي نسمع


عن نفسي.. كنتُ أتمنى أن أرى هذا العام في مهرجان الأيام الثقافي 17 كتاباً جديداً للكاتب البحريني الجميل الدكتور حسن مدن، كنتُ متحفزاً جداً لدى سماعي أنه سيحاول كتابة رواية تقترب من مناطق سيرته الذاتية التي لمسناها في كتابه الرائع (ترميم الذاكرة) والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وما أزال أمنّي نفسي أنني في العام القادم من المهرجان سأكون على موعد وهذه الرواية المنتظرة، ربما لأن ما لحظناه جميعاً في (ترميم) ذاكرة مدن كان أسلوباً في الكتابة خارجاً عن كل ما قرأناه سابقاً، كان لغة نامية وحية بكل معنى الكلمة، وربما لأن حسن مدن هو اختصار حقيقي لحقبة مهمة من تاريخ هذا الوطن، وأن يختصر هذا التاريخ بهكذا قلم فهو أمر يستحق كل هذا الترقّب.
 
ما أزال حين الرجوع مرة بعد أخرى لترميم الذاكرة لأقرأ فصلاً هنا، أوراقاً من هناك أرى بوضوح كيف صنع مدن باللغة، وهي الكائن الذي يعنيني أكثر بالرغم من أنني معني أيضاً بكائنات الكتاب الأخرى من تاريخ وذاكرة وشخوص وقراءة وتفكيك، ولكني ما أن أبدأ القراءة حتى أذهل عن كثير من هذا لأدخل إلى عوالم لغة بقدر ما تبدو بسيطة وغير معقدة ولا تحاول أن تتفذ عليك كقارئ بقدر ما هي حية وحيوية ونشطة ومتحركة، كأنما هي شخصية داخل الكتاب وليست أداة من أدواته، وما أزال (كشاعر أولاً وكصحفي ثانياً) أتلصص على هذه اللغة وأحاول أن أفككها لأعرف كيف يجعل مدن لغته تبدو هكذا؟ ما الذي يستخدمه بالتحديد من أساليب ليجعلها هكذا نشطة وعفوية كطفل وعميقة ودالة كنبي.
 
 البحث في لغة مدن سواء في كتاباته اليومية والأسبوعية عبر أعمدته في الأيام أو غيرها، أو في هذا الكتاب بالتحديد يحتاج إلى قراءة متأنية للحصول على أجوبة عن بناء اللغة لديه، فبناؤها لدى حسن مدن يعتمد بحسب ما أرى اقتراباً من الموضوع ومن ذات الكاتب ومن ذات القارئ، وهو أمر بالغ الصعوبة لدى لحظة الاقتراب من شكل اللغة التي نريد، غير أن مدن بسهولة يستطيع أن يقدّم هذا الاقتراح اللغوي وبسهولة يقدّم مثالاً رائعاً عليه هو (ترميم الذاكرة).
 
وبين اللغة وكاتبها ثمة أيضاً الذاكرة نفسها، أي ذاكرة هذا الرجل الذي تمثّل جزءا مهما من ذاكرة أرض، وذاكرة تاريخ من خلاله يمكن فهم واستيعاب وقراءة هذا الواقع الذي نعيشه، ومدن في هذا الكتاب كان منتبهاً تماماً لهذا الأمر، لذلك فهو حين يسرد الحوادث ويقرأها، هو يفتح من كل لحظة سردية باباً للتناول مرة النفسي وأخرى الاجتماعي وثالثة السياسي، وفي كل ذلك كان الأدبي والفلسفي يحوطان تلك اللحظة بهالة من الدهشة قادرة على أن تفضي بك الى اللحظة التالية بحماس شديد.
 
ترميم الذاكرة كتاب يستحق فعلاً أن يُقرأ وأن يُحتفى به، غير أننا نحن أيضاً -قراء حسن مدن- نستحق بعد كل هذا الترقب أن لا يخذلنا الكاتب، وأن لا يطول انتظارنا لكتابه القادم، وأن نكون على موعد ورواية تبحث مثل هذا البحث الجميل، وتحفر مثل هذا الحفر المدهش في اللغة والسرد والذاكرة والتاريخ، وأن يكون مهرجان الأيام الثقافي 18 العام القادم موعداً لكي نتحدث أطول عن ذلك القادم الجميل.
 
الأيام 8 أكتوبر 2009

اقرأ المزيد

إبحار فوزية في محيط الشملان المتلاطم


 
فيما كنت أتجول بين أروقة معرض الكتاب السابع عشر، لمحتهما في جناح مؤسسة الدراسات العربية، مستغرقين في نقاش مع صاحب المؤسسة د. ماهر الكيالي.
 
استغربت الأمر بعض الشيء، فلم تكن، على حد علمي، تربط أي منهما أية علاقة مع الكيالي. اقتربت من الجناح، ولم أكد أن انتهي من تبادل التحية مع الكيالي، حتى اقتربت مني السيدة فوزية مطر، وبادرت إلى إدخال يدها في كيس كانت تحمله لتخرج منه كتابا عليه صورة زوجها أحمد الشملان، الذي كان إلى جانبها.
 
انتابتني الدهشة. كنت أعرف أن للشملان الكثير من الكتابات، لكنها لا يمكن، حتى إذا جمعت، أن تصل إلى كتاب يقع فيما يزيد على الألف صفحة.
لم تطل دهشتي فقد ساعد العنوان «أحمد الشملان سيرة مناضل وتاريخ وطن»، يعلوه اسم المؤلفة «فوزية مطر»، في كشف المكنون.
تناولت الكتاب، فإذا هو سفر يؤرخ لمسيرة الشملان النضالية، ويؤثث لبيت فترة مهمة من تاريخ البحرين المعاصر.
 
تصفحت الكتاب، لم تتمكن فوزية من إهدائي نسخة من الكتاب، إذ لم يكن بحوزتها حينها أكثر من نسختين، إحداهما كانت من نصيب إدارة المطبوعات لنيل فسح التوزيع في البحرين.
حملت نفسي وغادرت المعرض، وتحاملت عليها في المساء، وقررت الاتصال بفوزية كي أطلب منها إعارتي النسخة التي بحوزتها. لكنها اعتذرت بحياء، واقترحت، عوضا عن ذلك، أن تبعث لي بنسختها الإلكترونية. قرأتها بنهم… أخذتني من دون وعي أو قرار إلى سنوات وأحداث تكاد السنون أن تمحوها من الذاكرة. اتخذت قرارا بكتابة مراجعة للكتاب، على أن تكون مختلفة نوعيا عن المراجعات التقليدية، تماما كما جاء الكتاب متميزا عن كتب سبقته، حاولت أن تؤرخ للحقبة ذاتها.
 
تناولت الهاتف وقررت أن تكون المراجعة حوارا مع المؤلفة فبادرتها بسؤال، كان يلح علي وأنا أنهل من مادة الكتاب الغنية والممتعة في آن، ما هي التحديات أو ربما العقبات التي واجهتك وأنت تدونين مادة الكتاب. وكم استغربتُ حين جاءني جوابها، كمن كان يتوقع مثل هذا السؤال، سلسا على النحو التالي:
أول العقبات كانت ذات طابع منهجي، بمعنى هل أتناول الأحداث بمدخل تحليلي، أم أصوغها بشكل سردي. بالطبع لكل منهما حسناته ومثالبه.
 
كان القرار أن أنتظر لحين الانتهاء من جمع المادة. لكن لا أخفيك أن طبيعة المادة فرضت عليّ اختيار منهج متداخل بعض الشيء، ففي بعض المحطات كان لابد لي من التوقف والاستعانة بمسحة من التحليل الذي لابد منه، في حين وجدت نفسي في حالات أخرى أكتفي بأن أصف الأحداث وأترك القارئ يستمتع باستخلاص النتائج عبر تحليلاته الذاتية، آخذة بعين الاعتبار أن نسبة عالية ممن سيقرأون الكتاب، كانوا عنصرا من عناصر الأحداث ذاتها.
 
ثاني التحديات التي واجهتها، وبصدق، كانت حالة أحمد الصحية، فمن جهة أنا لم أكن أكتب سيرة شخصية، غادرتنا، لا قدر الله، لكنها في الوقت ذاته، تعاني من ضريبة نضالية أدت إلى تقليص قدرتها على المساهمة في سرد بعض الأحداث أو تأكيد بعضها الآخر.
 
الوضع الصحي لأحمد، عندما كنت أدون الكتاب، ولا يزال بالطبع، لم يكن يعينه، ومن ثم يساعدني على التأكد من صحة بعض الأحداث أو وضعها في سياقها التاريخي الدقيق، الأمر الذي كان يضاعف من جهود البحث والتقصي، من أجل تحاشي أي تشويه لتاريخ البحرين، ومن بين ثناياه تاريخ مناضلين من أمثال الشملان.
بالطبع، كان لأحمد القدرة على تأكيد الأمور حينما تقترب من صيغتها النهائية.
 
ثالث العقبات نابعة من تاريخ أحمد الشملان ذاته، الذي لم يكن خطا مستقيما، نظرا لانضمام الشملان لأكثر من تنظيم سياسي وطني، بدءا من حركة القوميين العرب، مرورا بالجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل ومعها «الحركة الثورية»، انتهاء بتنظيم «جبهة التحرير الوطني»، ووصوله إلى مراتب قيادية فيها، جميعا جعلته في صلب صنع القرارات التاريخية التي اتخذتها هذه التنظيمات.
 
هذا يحول سيرة الشملان إلى قصة ثلاثية الأبعاد، تجعل من يدونها ينتابه شعور من يسير في حقل من الألغام نظرا لطبيعة العمل السري الذي يكتنف عمل تلك التنظيمات من جهة، وخشيتي من أن يؤدي سرد هذه الحكاية أو تلك، على نحو مغاير للظروف التي وقعت فيها، إلى الإساءة، غير المقصودة، لأي من تلك التنظيمات التي لايزال الشملان، وأنا معه نكن لها، ولكل أفرادها، الاحترام والتقدير.
 
رابع التحديات، مصدره، تداخل العلاقة التي تربطني بالشملان كإنسانة، قبل أن أكون رفيقة نضال، أو زوجة. فقد شدني للشملان الكثير من الخصال والسلوكيات التي تجسدت في ممارساته النضالية. وجدت الكثير من الصعوبات في التقيد بالموضوعية والأمانة المهنية التي تستطيع أن تميز بدقة بين تلك العلاقات الثلاث، دون أن تفقد مادة الكتاب بعدها الإنساني النابع من علاقة أحمد المميزة مع زوايا مثلث حياته، والتي هي: الوطن، التنظيم، الأسرة. لا أخفيك القول إن تداخل زوايا هذا المثلث أضافت إلى الكتابة عن أحمد بعض المشقة، لكنها كانت مشقة ممتعة بالنسبة لي، وخاصة إذا نجحت، وإنا بانتظار ردود فعل القراء، في الاحتفاظ بالتوازن الموضوعي المطلوب لإنجاز مثل هذا العمل.
 
خامس التحديات، كان جمع المادة، والتي يمكن تقسيمها إلى أربع فئات، الأولى علنية قام أحمد بنشرها موقعة باسمه أو أسماء مستعارة في أوعية معلومات مصرحة. الثانية تلك التي كتبها، ومن دون أثر يدل عليها في المطبوعات السرية للتنظيمات التي انتسب لها، فهناك صعوبة في الوصول إلى تلك النشرات السرية أولا، ومعرفة إسهامات أحمد فيها ثانيا، أما المصدر الثالث، وهو تلك الأدبيات الحزبية، العلنية منها والسرية، التي صيغت بشكل جماعي، وكان لأحمد إسهامات أساسية فيها، أما المصدر الرابع، وهو الأكثر تحديا، فهي الشهادات الحيّة من رفاق أحمد الذين عايشهم، وهم منتشرون من مصر، مرورا بلبنان وفلسطين، تعريجا على اليمن وعُمان قبل أن نحط الرحال في البحرين. إقناع بعضهم بالحديث كان مهمة صعبة ومعقدة في آن. لكني لا أنكر أن شهاداتهم كانت هي أساس هذا الكتاب.
 
سادس تلك التحديات، وقد واجهتني بعد الانتهاء من كتابة المادة، وهو القدرة أو النجاح في الموازنة بين ما يستحق النشر دون الإطالة، وما يستدعي الحذف دون التشويه، وقد بذلت الكثير من الجهد كي أحقق المعادلة الصحيحة.
 
أنهينا المكالمة الهاتفية، وانصرفت إلى الحاسوب بعد ان قررت أن أكتفي بنقل التحديات التي واجهت المؤلفة، دون أن أتناول محتويات الكتاب لسببين: الأول لكي لا أحرم القارئ متعة قراءة عذبة لكتاب دُوّن بأسلوب سلس، وحوي مادة غنية فجمع بين جمالية الشكل وغنى المضمون. والثاني لأني وجدت في لفت نظر القارئ إلى التحديات التي واجهت المؤلفة، قيمة لا تقل عن قيمة ما ورد في الكتاب، الذي جاءت مادته بأحداثها المتلاطمة شبيهة بأمواج محيط عاتية، لكن فوزية نجحت في الإبحار فوقها فأوصلت الشملان ومعه تاريخ البحرين سوية مع القارئ إلى بر أمان تظلله أمانة مؤلفته وصدق نضال من كتبت سيرته.
 
الوسط  الخميس 08 أكتوبر 2009م
 

اقرأ المزيد

غربة البنفسج


 
 
 

 

 


  
 
غربة البنفسج
 
 
         (1)       


أنَا الحَيُّ الميّتُ

الميّتُ الحيُّ

القَاتِلُ المَقتُولُ

الغَرِيبُ المُتَغرِّبُ

النَاصِرُ


 المُنتَصِرُ المَهزُومُ

أنا صَانِعُ الفِخَاخِ لقلبي

قَلبِي وَرَقَةٌ مُستَبَاحَةٌ

تُظَلِّلُهَا لَعَنَاتُ الفِضَّةِ

آهٍ من الفِضَّةِ التي قَتَلَتْني

وزُرقةِ السَماءِ التي طَرَدَتني

أنا البَنفسجُ المَحمُولُ

على أسرِجةِ خُيولٍ

تَائهةٍ في البَرَارِي

تَنتَظرُ فُرسَانَها المُتعَبِينَ

على سَحابةٍ تبحثُ عن نيزكٍ



والريحُ لا تهِبُّ إلاَّ قَاسيةً. 

  




             (2)            

 

أنَا الحَيُّ الميِّتُ

السَاحِرُ المَسحُورُ



القَاهِرُ المقهُورُ

أَرْدَتنِي شَهوتيِ الجَاهِليةُ

لَيسَ قَتِيلاً

ولا مَيّتاً

تَلحَقُنيِ رَائِحةُ الكَافُورِ

أينما يَمَّمْتُ وَجهِي

مَحمُولاً على مَخدّةِ الجُنُونِ

تَطردني الكَوابيسُ من نَومِي

يَفترسُ التيقّظُ يَقظَتي

فَلا أرَى سِوى الدُخَانَ

يُغيِّبُ الكَونَ

والطَرِيقُ


في السَديمِ يَضِيعُ 


  

          (3)         

أنَا الحيُّ الحيُّ

النَازلُ الصَاعِدُ

المُطيعُ المتمرّدُ

المُسَالـمُ المُستَلِمُ العَاصِي

الدَاخلُ، الخارجُ من قَبوِ التغرُّبِ والغربةِ

العرَّافُ حَامِلُ القَنَادِيلِ

أنَا الحيُّ المُتجَددُ

عَلى الرَصِيفِ أَرَحتُ رأسِي

مُتعباً في انتظارِ شَمسٍ

ورأسيَ

ليسَتْ سَلةً للقُمَامةِ

ولا مَغَارةً مَهجُورةً

رأسِي حَديقةٌ للعَصَافِيرِ

هامةٌ تَعلُو

يُخُبرني المدى

بأنَ النَجمةَ التي سَقَطَتْ في النَهرِ

لم تحَتَرِقْ 

سَتَنبَجِسُ من دَاخِلِ القَلبِ

وتَضوي

 

أبريل 2009

اقرأ المزيد

دروس هزيمة فاروق حسني (2-2)

في العمود الذي تناولت في هذه الزاوية قبل ما يقرب من عامين وتحديدا غداة ترشيح القاهرة لوزير الثقافة فاروق حسني إلى انتخابات مدير عام “اليونسكو” قلت انه آن الاوان لأن تعيد القاهرة النظر في النهج الذي سارت عليه طوال عقود خلت بترشيح واحد من وزارئها المزمنين إلى المناصب القيادية في المنظمات العربية أو الدولية، وعلى وجه الخصوص منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث أرست القاهرة تقليدا بترشيح احد وزراء خارجيتها المتعاقبين الموشك على التعاقد إلى هذا المنصب.
فالشخص المزمن في بقائه على كرسي وزارته مهما كانت كفاءته فانه قد استنفد حتما جزءا كبيرا من طاقاته وقدراته في كرسي الوزارة، علاوة على ذلك فان اسمه سيظل مقرونا بكل المشاكل الكبرى التي واجهها اثناء تقلده ذلك المنصب، بما في ذلك اتهامه بأخطر هذه المشاكل، كقضايا الفساد والمحاباة سواء صح هذا الاتهام أم لم يصح.
ولعل هذه هي واحدة من ابرز الاشكاليات المرتبطة بمؤهلات وشخصية وزير الثقافة المصري فاروق حسني (22 عاما ونيفا في منصبه)، فكإنما مصر، “أم الدنيا”، والمعروفة بمئات أو عشرات الكفاءات الثقافية الجديرة بهذا المنصب تريد ان تقول للعالم أجمع:
“ما في البلد إلا هذا الولد”.
وكانت صحيفة “أخبار الأدب” المصرية من الصحف التي أعادت الى الاذهان ان من أسباب عدم تحمس ادارة بوش السابقة للمرشح المصري لانه “وزير لا يجيد الانجليزية، ويذهب الى مكتبه في الوزارة متأخرا ولا يمكث سوى ساعة ونصف، كما انه تجاوز الواحدة والسبعين، كما رددت مصادر امريكية، بينما تحتاج المؤسسات الدولية الى طاقات شابة”.
واضافت الصحيفة ذاتها في سياق عرضها لرؤى وانطباعات سلبية من قبل اطراف وقوى اوروبية اخرى عن شخصية الوزير حسني ان هذه الانطباعات كان لها مفعولها حتى اللحظات الاخيرة في الحملات الانتخابية الشرسة التي شنت عليه “كمتواطئ على قمع الحريات في بلاده، وكمسؤول يغازل المشاعر اللاسامية ويهدد باحراق الكتب وواجه أشرس الانتقادات في بلاده حيث يستأثر بوزارة الثقافة منذ 22 عاما، وجاء في بعض التعليقات الصحفية الفرنسية ان اندريه مالرو نفسه كان سيصبح عدو الثقافة رقم واحد في فرنسا، لو بقي في فرنسا كل هذه المدة”، (أخبار الأدب، العدد 846، 27/9/2009).
ومن المؤسف ان لا وزير الثقافة، الذي يفترض انه ملم ولو قليلا بخواص لغته العربية واساليبها البلاغية، ولا أحد من مثقفي ولغويي مصر والعالم العربي قد انبرى لغويا للأراجيف الاسرائيلية المبتذلة التي برعت فيها اسرائيل منذ انشائها بتحميل كل تصريح عربي يطلق بلاغيا على رسله محمل الجد وتحميل معناه اكثر مما يحتمل.
فحينما اطلق الوزير حسني تصريحه في برلمان بلاده دفاعا عن نفسه بأنه يسمح بدخول الكتب الاسرائيلية بأنه سيحرق أي كتب اسرائيلية لو وجدت في مكتبة الاسكندرية لم يكن ذلك إلا على سبيل المجاز والبلاغة في اللغة العربية في القطع بمنع أو مصادرة أي كتب اسرائيلية وليس حرقها حرقا فعليا بالكبريت او بأفران الهولوكوست. فشاعرنا الكبير أبوتمام يقول “الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك” لكن الوقت لا يقطعنا بمعنى النحر.
ولو ان الشرطة في كل بلد عربي لاحقت كل من يهدد ابناءه او طلبته او معارفه بأنه سيقطعهم أو يحرقهم لما بقيت لها وللقضاء قضية اخرى تشغلهما غير هذه القضية ولعجزا عن المضي فيها.
وكان الكاتب الصحفي المصري انيس منصور من الكتاب العرب الذين تنبهوا لهذه الإشكالية البلاغية اللغوية التي لطالما استغلتها اسرائيل بابتذال في دعايتها ضد العرب وكتب عنها في عموده اليومي بالشرق الأوسط (عدد 21/9/2009)، في حين كان الوزير مستهدفا من اسرائيل في الاساس ليس بسبب ذلك التصريح بل لدوره، بإيعاز من حكومته، في ابعاد اسرائيل عن المشاركة في معرض الكتاب السنوي وفعالياته بمصر لكي لا يتعرض المعرض للفشل الذريع مصريا وعربيا بسبب وجود اسرائيل فيه.
والى جانب تأثير كل من العامل الدعائي الاسرائيلي الامريكي الاوروبي والعامل المتعلق بمؤهلات وسيرة الوزير حسني الادارية الحكومية اللذين تم توظيفهما في الحملة الدعائية لاسقاط المرشح المصري حسني ثمة عوامل اخرى مارست تأثيرها أيضا بدرجات متباينة، منها ما يتعلق بعدم تحرك القاهرة قبل وقت كاف في حملتها التعبوية الدعائية الدولية لحشد اكبر تأييد عربي ودولي لمرشحها، وبخاصة في افريقيا التي كان لأصوات مندوبي عدد من دولها الكفة الراجحة في تسقيط حسني لصالح المرشحة البلغارية ايرينا بوكوفا.
ومن المفارقات ان هذه الأخيرة كانت ابنة رئيس تحرير صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم في بلغاريا الاشتراكية السابقة الدولة التي كانت متهمة بالعداء للسامية لتحالفها مع العرب ضد اسرائيل والصهيونية، ثم أضحت هذه الصحفية بعد ذلك ليبرالية مقربة للغرب، وكان من عوامل نجاحها المفاجئ في الجولة الخامسة ما لعبته الحملة الدعائية لهذه الجولة الأخيرة من دور في الدعاية للسيدة الفائزة البلغارية لترجيحها كأول امرأة تتقلد قيادة واحدة من منظمات الامم المتحدة، كما استفادت بوكوفا في ذلك ايضا من كونها ذات خبرة وجدارة ادارية داخل اليونسكو كعضو في المجلس التنفيذي، وتجيد الى جانب لغتها (البلغارية) الانجليزية والاسبانية والفرنسية والروسية بطلاقة.
ونسيت القاهرة ان من اهم عوامل فوز محمد البرادعي بمنصب مدير عام الوكالة الذرية كونه كفاءة أقرب الى التكنوقراط والتحق بها بمحض ارادته للعمل في هذه الوكالة تاركا عمله الرسمي في الخارجية المصرية قبل ان يتدرج في الوصول إلى قمة هرم الوكالة الاداري. ورغم خطورة منصب هذه الوكالة الذرية فإنه ظل متربعا عليه طوال اكثر من عقد ونيف لانتخابه بما يشبه الاجماع لعدة ولايات متعاقبة.
وأخيرا فإن الانقسام العربي وتهافت عدد من الدول العربية على المنصب، حتى لو تم التنازل بعد ذلك للمرشح المصري، ألقى بظلاله على تفكك وحدة الموقف العربي المشترك وفتور حماسة الدول العربية التي سحبت على مضض مرشحيها بعدئذ من أجل الحملة الدعائية العربية المشتركة المتأخرة لصالحه بعد التماسات مصرية مضنية وهذا الانقسام يعكس بدوره غياب التنسيق العربي المشترك في اطار الجامعة العربية للاتفاق على مرشح عربي مشترك لادارات وامانات المنظمات الدولية، لا بل نفور رغبة الدول العربية من هذا التنسيق أصلا وايثارها التفرد الذاتي أو الاقليمي.
وما لم تتعظ هذه الدول من أسباب فشل المرشح المصري فاروق حسني في انتخابات اليونسكو الاخيرة، كدروس مفيدة جديرة بالعبر، فانها كلها معرضة دوليا للمصير نفسه الذي تعرض له المرشح المصري، مصداقية لمقولة: “انما اكلت يوم أكل الثور الأبيض”.+

صحيفة اخبار الخليج
8 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

الوعي الديني والرأسمالية الحكومية (2 – 2)

لا يمكن للوعي الديني الإسلامي المحافظ أن يتم تغييره كليا ودمجه في الخطط الرأسمالية الحكومية أو الخاصة أو الاشتراكية. هو وعي تكونَ خلالَ عشرة قرون وشكلتهُ قوى اجتماعية مغايرة لفترة الثورة المحمدية.
حاولتْ القدريةُ والزيديةُ والمعتزلةُ والإسماعيليةُ وغيرُها ذلك في تمرداتٍ معينة، خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة ولم تنجح، وهذا يعود لبُنى اجتماعية موضوعية وليس لإرادة الأفراد والجماعات، وقد رأينا الماركسية الروسية تحاولُ تغييرَ الأرثوذكسية بالإزالة من دون جدوى.
ولم يحدثْ تغييرٌ للمذاهب السنية والشيعية رغم جهود الرموز المخلتفة، فلماذا ذهبت جهود الأفغاني ومحمد عبده سدى؟ وليس فعلُ الخميني تغييراً للمذهب الشيعي، بل هو طرحُ شعاراتٍ سياسية فوقية فقط، فشعار ولاية الفقيه لا يمثل تطويراً أو هدماً للمذهب، بل هو شعارُ قوى سياسية رُكب فوق جسم المذهب، وربما يبقى أو يزول لكن المذهب لا يتغير.
إن تركيبَ شعار ولاية الفقيه فوق الجسد المذهبي أملتهُ صراعاتٌ سياسيةٌ وخيارٌ سياسي هو صعودُ الدولةِ الفارسيةِ القوميةِ المهيمنة فوق القوميات الأخرى والطبقات الكادحة المختلفة. أما أن يكون الشعارُ متغلغلاً في جوانب الفقه ومحولاً له باتجاه مزيد من الماضي أو للقفز في المستقبل، فهولا علاقة له بذلك. وتحول إلى حكم للمحافظين الدينيين، ولماذا لم تؤثر الثورةُ وتضحياتهُا المذهلةُ في أحكامهِ وتمت معاملة القضايا كما عُوملت قبل قرون مديدة؟ إن هذا يعود إلى كون الجسم الديني المحافظ لا يتأثر بتضحيات المسلمين وتحولاتهم.
هو شعارٌ سياسي فوقي، ومن هنا نجد أن الشيعة في العراق لم يطرحوا ذلك، حيث لا توجد الأمة الكبيرة الموحدة التي تريد أن تنشىء حكما قويا قومياً مركزيا بهيمنة معينة، بل هنا نجد الشعب المتعدد القوميات والمذاهب المفكك المحتاج إلى عالم تعددي ديمقراطي، أي هنا حالةٌ سياسيةٌ مغايرةٌ فغابَ الشعار. لكن هل يستطيع الدينيون في العراق أن يسايروا التحولات الديمقراطية في فقههم ونظراتهم؟ هذا لا يحدث.
إن الفقه يحتاج لتطوره إلى قرون، والناس لا تنتظر. الفقه يعبر عن علاقات اجتماعية تقليدية متجذرة تشكلت في ذلك الماضي، والعلاقات الاجتماعية لا تتغير الآن بسهولة وسرعة.
إن المذاهب تبقى بأجسامِها الاجتماعية الفكرية خارج العصر الحديث، ويمكن إحداث مرونة في الأحكام الجزئية، لكن المحتوى الجوهري يبقى مُصوغاً في عصر آخر.
سنجد مظاهر متوحدة بين الصين وإيران، بين هذين البلدين المختلفين المتباعدين في التجربة السياسية خاصة.
في الصين تتلكأ الماركسية الماوية (البنغية) عن التطور، إنها تفقدُ علاقاتها بالكادحين، وتتغربُ عنهم، لكنها لا تقبلُ بالبوذية، لا تقبل بهذا المستوى الفكري العتيق، وهو مستوى لم تستطع تطويره ككلِ دينٍ صِيغَ خلال عدة القرون، بعد أن صاهرتْ الرأسمالياتُ العالميةُ على مستويات البضائع والمصانع واقتصاد السوق. فماذا تفعل؟ لا تستطيع أن تعود للماركسية ولا للبوذية معاً، فتقومُ بتقويةِ الأفكار الليبرالية الغربية ومظاهرِها المختلفة، مثل اللباس (وخاصة ربطة العنق “الكرفتة”) ونشر الفنون الغربية حتى الاحتفالات بالأعياد الغربية كرأس السنة على نطاق واسع وهائل! ولكن على مستوى الكادحين الصينيين ذوي الظروف السيئة والمعارضين فإنهم يتمسكون إما بالماركسية التقليدية وإما يتعصبون للبوذية، دفاعاً عن مصالحهم الضائعة في اقتصاد السوق المندفع لمصلحة الدولة الرأسمالية العامة والرأسماليين الأفراد.
إن ذلك تمهيد لمجتمع رأسمالي على الطراز الغربي، وهذا ما يجري في إيران، حيث أصبحت ولاية الفقيه عقبات سياسية وبيروقراطية لتطوير الاقتصاد، فهي تجعلُ مجموعةً صغيرةً تتحكمُ في الخططِ الاقتصادية باتجاه معين، والقوى العسكرية والاستخباراتية تريدُ بقاءَ مستويات معيشتها المميزة، ممانعةً من توجيه التوظيفات نحو التصنيع السلمي المتطور تقنيا. ومن الممكن أن يحدثَ تضفيرٌ بين دولةٍ عسكرية وبين الابتعاد عن ولاية الفقيه، مستقبلاً، مع تنامي سيطرة العسكر، وتـُحلُ مسائلُ تغييرِ التقاليد واختلالاتِ الاقتصاد البنيوية، عبر هذه القوة، فمسألة الجمع بين الديمقراطية والحداثة الدينية مسألة صعبة.
الاقتصاد الإيراني الراهن المأزوم الذي يريد إعادة تكوين الأمة المأزومة، يتطلب إعادة تشكيل المجتمع وعودة الملايين من الإيرانيين المبعدين في الخارج، وتقوية المدن بقيادات حداثية ووضع حد لسيطرة الريف الإيراني بقياداته الدينية المحدودة الادراك. ومن هنا نرى النماذج الليبرالية والغربية تنتشر في الثقافة الشعبية والحراك السياسي، بعكسِ فترةٍ سابقة. لكن هذا لن يزيلَ المذهبَ الشيعي، ولن يغيرَ فيه شيئاً، فهذه الشعاراتُ السياسيةُ الليبرالية تظلُ فوقية، لا تغوصُ في الأعماق، مثل شعار ولاية الفقيه، لم يغصْ في أعماق المذهب ولم يطوره. إن الشعب يتطلع لإعادة تشكيل النظام نحو آفاق حداثية ذات توحد وطني أوسع، وحياة سلمية مع الشعوب لكي يضعَ ثمارَ اقتصاده في تطوره.
تبقى المذاهب كتلاً متماسكة في تكويناتها تعود لعصر تقليدي سابق، كما تبقى آراء الفقهاء المعاصرين مجرد مناوشات عصرية فوق جسم تقليدي انتهى بناؤه، ولن تنفع فيه هذه المناوشاتُ إلا إذا كانت حداثية ديمقراطية ومرتبطة ببناء وطني طويل الأمد يمتد إلى عشرات السنين ويوزعُ الخيراتَ بشكلٍ عقلاني على الجماهير الفقيرة، ومن هنا تغدو العلمانية عملية إبعاد سياسية فقط عن استغلاله في صراعاتٍ سياسية تقليدية وطائفية وقومية هي مضيعةٌ لوقتِ المسلمين الثمين ولقواهم وقدراتهم.
من هنا نرى كيف أن الفلسفات العصرية والمذاهب السياسية الساحقة للأديان والآراء السياسية المصعدة لهذه الأديان إلى الذرى، كلها لم تغيرْ شيئاً في بُنى الأديان هذه، وحين ذهبت العواصفُ السياسيةُ عادتْ إلى أجسامِها “الماضوية” نفسها.
سنجدُ هنا ان عدمَ نشاط غاندي في سحق الأديان أو الدعاية لها، أفيد من الجهد الذي بُذل في قاراتٍ عديدة في أنشطة السحق والترفيع. لقد اختصر الرجلُ الموقفَ وتركَ الأديانَ تنمو أو تزول كما هي طبائعها الداخلية، وجعل للسياسة ممرا وطنيا موحدا يجتمعُ كل الهنود فيه، ويفرض نفسه كذلك على كل الأديان. وكرس الموقف السياسي في التوحيد والنهضة وتعددية الأصوات فكسب التطورَ وأرواحَ الناس معاً.

صحيفة اخبار الخليج
8 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد