لم تتوقف رغبة الشعب البحريني في التعبير عن خوالجه السياسية والثقافية والإبداعية، غير أنها جميعها تعلقت تحت قبة ومشنقة »الطوارئ« بعد انتهاء زمن الهيئة ونهوضها المتعدد الأوجه. بين 1956 -1965 هناك عقد كامل من المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية، وكلها ستكون حاضرة في ذاكرة الإبداع البحريني الحديث، فمن حملوا ثقافة المواجهة والتغيير الثقافي هم الجيل الذي ولد وترعرع فيما بين حقبتين حقبة الحرب العالمية الثانية والحقبة المحلية، مخاض الهيئة وأحداث مارس، وإذا ما كانت الأولى تشكل للكتاب الشباب ذاكرة طفولية، فان أحداث مارس والتظاهرات منذ الستينات وغيرها ستشكل الخزان السوسيوثقافي لنظرتهم للحياة والصراع كقوة شبابية متحفزة وطموحة، وستشكل انطلاقتهم الجديدة في التاسيس للابداع البحريني المعاصر بعد نضوج »العنب«، والتي نستطيع ان نمحورها في مرحلتين هما مرحلتي ما قبل الاستقلال وبعده. كان على رائد من رواد صحافة الخمسينات الأستاذ محمود المردي، أن يصدر في شهر سبتمبر من عام 1965 صحيفته الأسبوعية »الأضواء« أي بعد ما يقرب من ستة شهور من انطلاقة انتفاضة مارس. وباعتبار ان المردي عنقود من عناقيد المرحلة الوطنية في شجرة الخمسينات، فان رؤيته ستتبلور في خدمة بلاده، من خلال حلمه القديم، ولكن في ظروف جديدة مختلفة. هذه الصحيفة التي خصصت صفحة ثابتة أسبوعية للفن والأدب، ستصبح الوعاء الحيوي الهام، لإبراز الوجوه المبدعة الشابة، وسيجد القراء أسبوعيا مجموعة من القصص والقصائد والمقالات، التي شكلت العمود الفقري للإبداع الجديد. كان كل يوم خميس من أسبوع الأضواء المنتظرة بمثابة يوم فرح، لحظة حب لتعطش شعب البحرين وجيله الشاب، خاصة الذين ظلوا مع القراءة الممنوعة وحدها دون وجود الجانب المكمل وهو الكتابة والتعبير. نستطيع أن نقول وبكل ثقة، إن مرحلة 1965 ستمهد لمرحلة 1969، بعد أن تراكمت الأحلام لدى أولئك الشباب، ووجدوا ان الضرورة واللحظة تستدعي وجود ذلك الإطار المؤسساتي الثقافي، المعبر عن تطلعاتهم الفكرية والثقافية، بل وجدوا في هذا الإطار، التعبير السياسي عن التزاماتهم الحزبية والوطنية بحيث تصبح الأسرة التعبير الثقافي والإبداعي لتلك اللحظة التاريخية السياسية من البحرين وهي تستعد للاستقلال السياسي من بريطانيا. وحده الأستاذ محمود المردي كان الأب الروحي – رمزيا – المجهول لتلك الإبداعات وحاضنها الحميم، فقد كان يرى فيها الوجه المضيء والجديد للبحرين القادمة. ومن كتب وعمل وعاش قريبا للأستاذ محمود المردي تلمس روحه وإنسانيته ومهنيته، برغم المسافة بين جيلين – يكملان بعضهما البعض – ثقافيا وسياسيا، جيل المردي في الخمسينات وجيل المبدعين الجدد في مطلع الستينات. وسيتلازم مع المردي بعدها بسنوات أربع، الأستاذ عراب الصحافة علي سيار بمجلة صدى الأسبوع، لتصبح لدى الأصوات الجديدة فضاءات تعبيرية أوسع في انطلاقة الإبداع والثقافة الحديثة، بل وستجد نفسها الإعلام في هذه الفترة تلتفت إلى إقامة مسابقات في القصة والشعر، والتي أخرجت المكنون الإبداعي لدى الشباب. وستشهد عملية التدفق الثقافي والكتابي في الأدب مع نشوء الأسرة ( 1969) بشكل ملحوظ وتنامي عملية الحوارات والكتابات والقراءات النقدية وهي تتواكب جنبا إلى جنب مع العملية الإبداعية، تارة بخطوة أمامها وتارة بخطوات بعيدة للوراء عنها. وإذا ما كانت الفترة ما بين 65-69 هي بروز مجموعة قصائد وقصص قصيرة تنشرها الأضواء وصدى الأسبوع، فان 69- 1972 سنتعرف على أول إصدارات كتب للمبدعين الأوائل (* أنين الصواري /1969 و إضاءة لذاكرة الوطن / 1971 لعلي عبد الله خليفة، البشارة لقاسم حداد / 1970 ثم علوي الهاشمي في كتابه من أين يجيء الحزن /1972)، والذين كانت باكورة إنتاجهم الأول عبارة عن قصاصات الصحف والمجلات، ثم جاءت المرحلة الثانية على شكل إصدارات كتب لهم معبرة عن حلمهم الإنساني في التعبير والإبداع عن تلك الكلمة المنشودة والموجهة من الإنسان للإنسان. أما في مجالات القصة القصيرة، فان المسار كان متقاربا مع العملية الشعرية للشباب كجيل واحد ومتقارب عمريا، ومن حيث التكوين الروحي والسياسي والفكري للمرحلة، فقد كتب القاص خلف احمد خلف قصته الأولى عام 1969 مع مقالة في الأضواء أيضا تدعو »استجابة القصة للواقع«(وفق التقرير الذي أعدته أسرة الأدباء والكتاب لمؤتمر الأدباء العرب في تونس في مارس 1973 ) وقد اشرف على التقرير الناقد الأستاذ احمد المناعي. وستكون قصتا ( مقاطع من سيمفونية حزينة) لمحمد الماجد و(موت صاحب العربة) لمحمد عبدالملك واللتان فازتا ضمن مسابقة القصة القصيرة في إدارة الإعلام والمنشورة في مجلة هنا البحرين ما بين عامي 1968-1969 ، حيث حصل الماجد على الجائزة الأولى ومحمد عبدالملك على الثانية. في هذه الفترة ستنطلق الإصدارات القصصية المتلاحقة مثل »سيرة الجوع والصمت« والمستوحاة من قصة القاص والمسرحي خليفة العريفي وهي عبارة عن ( 9 أصوات في القصة البحرينية / 1971 ثم مجموعة موت صاحب العربة لمحمد عبد الملك عام 1972، وهنا الوردة هنا نرقص لامين صالح /1973 )، وهناك أسماء أخرى أصدرت دواوين شعر وقصص في هذه الفترة، غير إنني لا ابحث في تاريخ ومسار الأدب في البحرين وإنما أسلط الضوء على الأسرة وأصواتها المحتجة في خندق المواجهة الوطنية بالتقاطع مع تداخل الإبداع والسياسة والفكر معا في تلك اللحظة الساخنة من تاريخ بلادنا. للمزيد بالإمكان الرجوع إلى كتاب (دراسات في أدب البحرين /1979 والصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ). هذه الخميرة الثقافية البكر من الشبيبة الواعدة إبداعيا، والسياسة وحراكها اليومي المحلي والعالمي، والتدفق الثقافي والتواصل الجديد مع الثورة التقنية التي أفرزتها الستينات، ستضع اللبنات الأولى لأدب البحرين المعاصر، والتي تحتفل به الأسرة بكل فخر واعتزاز فقد كانت وجهنا الثقافي البحريني في الداخل والخارج . لكل صوت إبداعي مهما كان حجمه، له الحق أن يعتز انه حجر في ذلك المعمار الجميل للبحرين، فكل ما التقيت في الخارج بفنان أو مثقف أو أديب، يسألونني عن تلك الأسماء، في الشعر والقصة والأغنية والرسم والنحت والموسيقى، يسألونني عن وجهنا المشرق المشاغب النبيل . (للحديث صلة).
صحيفة الايام
13 اكتوبر 2009
أسرة الأدباء (2).. أضواء محمود المردي
الخليج العربي… البحر الميت
تؤكد الكثير من الدراسات أن الثروة السمكية في البحرين تتعرض لاستنزاف جائر ما نتج عنه نقص في المخزون السمكي، في حين تؤكد دراسات أخرى أن عمليات الردم والدفان في البحر الناتجة عن الطفرة العمرانية وعمليات شفط الرمال من قاع البحر تشكل كارثة بيئية ستؤدي في نهاية الأمر إلى انقراض الكثير من أنواع الأسماك والأحياء البحرية في الخليج العربي.
ويؤكد صيادون ومختصون في الثروة السمكية «أن استمرار عمليات الدفان سيؤدي إلى انتهاء الثروة السمكية في البحرين خلال مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات». وانّ معظم الكميات التي يتم اصطيادها من الأسماك حاليا هي من مناطق غير بحرينية.
في ندوة عقدتها «الوسط» مؤخرا بشأن الثروة السمكية في البحرين أكد رئيس نقابة الصيادين حسين المغني «أنّ بحر البحرين لا توجد فيه أسماك إطلاقا». وقال: «إنّ الأسطول الموجود في الدير وسماهيج والمحرق يصطاد الأسماك من خارج المياه الإقليمية للبحرين»، في حين أنّ معدَّل الصيد لا يتعدّى 20 إلى 30 كيلوغراما للسفينة الواحدة.
تقرير صادر عن الإدارة العامة لحماية الثروة البحرية في الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية صدر مؤخرا يشير إلى أن عمليات الدفان «الردم » والتجريف كانت لها الحصة الأكبر في التأثير السلبي على البيئة البحرية، ما أدى إلى فقدان البحرين لــ 465 نوعا من الأسماك كانت تجوب مياهها الإقليمية ليتراجع عددها إلى 35 نوعا بعد أن كان 500 نوع…!
الثروة السمكية كانت في يوم من الأيام محققة للأمن الغذائي في البحرين وكانت معظم الكميات التي تستهلك في البحرين منتجة محليا، ولذلك كان هناك أمن غذائي في البحرين فيما يخص الأسماك، ولكن في الفترة الأخيرة أصبح الإنتاج السمكي البحريني لا يزيد على 55 في المئة من مجمل الاستهلاك.
وفيما يزداد اصحاب الملايين غنا وملايين إضافية نتيجة جرف رمال البحر وبيعها بملايين الدنانير دون أن تحصل الدولة على فلس واحد كما أكد أحد النواب حين كشف أن العديد من مشاريع الدفان التي حدثت خلال السنوات الأخيرة والتي قدر كلفتها بملياري دينار لم تدخل على موازنة الدولة ولا فلسا أحمر ناهيك عن عمليات الدفان وإقامة المزيد من المدن المرفهة التي لا يستطيع المواطن البحريني حتى النظر إليها تموت الأحياء البحرية والأسماك في الخليج العربي ليتحول إلى البحر الميت… أليس لطمع الإنسان من حد؟
صحيفة الوسط
12 اكتوبر 2009
ماركس الرمزي وشبحية دريدا (3 – 6)
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي(رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
صحيفة اخبار الخليج
12 اكتوبر 2009
مــرايــا الـنـضــال…!
صالة شقته ، بعد إطفاء شمعته التاسعة والخمسين ، متهالكا فوق كرسي الذات ومتّكئا
على أيامه – ماضيها وحاضرها – جامعا عظامه الشائخة ، واضعا إبهام يده اليمنى على
خدّه الأيمن الذي رسم عليه الزمن أخاديده الغائرة ، وتدلت أصابعه الباقية المتجعّدة
متحلقة حول فكّه الأسفل ، وهو
جلس في صالة شقته ،
بعد إطفاء شمعته التاسعة والخمسين ، متهالكا فوق كرسي الذات ومتّكئا على أيامه –
ماضيها وحاضرها – جامعا عظامه الشائخة ، واضعا إبهام يده اليمنى على خدّه الأيمن الذي
رسم عليه الزمن أخاديده الغائرة ، وتدلت أصابعه الباقية المتجعّدة متحلقة حول فكّه
الأسفل ، وهو يحدّق بعينين جاحظتين في مجهول اللحظة الراهنة ، ينفث من فمه ذي
الأسنان الإصطناعية – الذي خرج من محاقه هلال شارب ثلجي – نار الآهات ويدور في
رأسه المشتعل شيبا شريط الذكريات المتداعية من خزين الأمل والألم .
(تلفونه الشخصي يعلن وصول رسالة
نصيّة )
” تقيم الجمعية حفلا تأبينيا للرفيق المناضل العامل النقابي صالح حسن
بمقر الجمعية مساء يوم غد الأحد س 8 “
يضع يده اليمنى على الكرسي ويضربها بكف جمرات حسرته :
ـ آه يا صالح لقد كنت كذلك ، ذكرناك ميتا .. حميد وجمال
وأحمد وكريم وبقية الكوكبة.. بالأمس كانوا معي..عبدالله والآخرون ، حصدوا ما زرعوا
، ونالوا بعض حقوق فصلهم التعسفي في المرحلة السوداء ( يا ليتنا كنّّا معهم)
،إبراهيم صار مأخوذا بالأنا ورست سفينته على شاطئ أوامر الزوجة ، جاسم سحبه
الأصدقاء إلى سهر الحانات بعد عناء الدوام للهروب المؤقت من هموم الحياة إلى أمام
، يوسف صار حمامة المسجد ،جعفرأمسى مسئول المأتم وعضو الصندوق الخيري مع تعويم
السياسة ( والصاحب ساحب)وأقل من عشرة في
المائة من رفاق الطريق واصلوا رحلة الشوك عبر نهارات الألم ، فالأكثرون أراحوا
ركائبهم .
قلقلة الباب تنبئ عن قادم .
(يوقظه مطر الصوت من حلم اليقظة)
ـ ها يا أبا سلام !
ـ نعم
ـ أراك ساهما ( تضربه بخنجر السؤال )
ـ يا أم عمرو عجيبات ليالينا(
متمثلا بقول الجواهري شاعره الأثير)
ـ إنقطعت أخبار وإتصالات جماعتك وصام التلفون عن الكلام ..وطال إعتكاف ظلك
في صومعة البيت .. ها زعلان ؟
ـ الناس أجناس ( هازا يده بتأفف)وكل يعمل على شاكلته .
ـ ما دام شريانك ينبض بحب الناس والشمس ، وقلبك مطبوع على لسانك ، وصدرك
مسكون بهاجس النخلة والبحر، ويداك تفيضان بندى المسئولية ، فعليك التغريد داخل
السرب حتى يفقد النشاز ظله .. هكذا تعلمت منك ومن الحياة.
ـ (بل تعلم الجميع ولكن التطبيق..!!! مستدركا ) وما ذا عن السرب ؟
ـ السرب ؟! ( تؤكد بتعجب ).. عليه واجب الحفاظ على تناسق التغريد ، والروّاد يقودون خفق أجنحة الأفئدة.
يرن جرس هاتفه الشخصي فينتصب جدار الصمت
ـ (يجيءالصوت دافئا) كيف حالك يا أبا سلام ؟إشتقنا إليك فأنت في القلب أيها
العزيز
ـ ( وأخيرا فقد إتصل أحدهم ) بخير يا أبا فهد.. إنها مشاغل الحياة يا رفيقي
ـ لقد غاب شخصك خلف ستار الإنشغال .. أم أن في الجو غيم ؟..الراحلون إلى
التراب لم ينهوا أعمالهم ..عدّ.. واصل الحاضر بالآتي ولا تلغ ماضيك..لئن تسلق البعض
أكتاف الحقيقة فقد إستحق الطيبون أماكنهم
ـ ( وجوم تعلوه إبتسامة عاتبة ) والآن ما هو المطلوب مـنـّي؟
ـ جـهـّـز نفسك .. سأمر لآخذك معي لإجتماع لجنة منطقتنا
ـ سأصبر
وفي الصدر غـصّـة جفاء
من تعرف .. الجـمـعـيــّة بـيـتـنـــا
ـ نـخـتـلـف لـنـأتـلـف .. ولكل ورد رائحة .. دقائق وسأكون عندك
رمقته زوجته باستحسان وهزّت رأس عمرها الرفيق .. ساعدته بإحضار ما يحتاج
ـ ( يردد الشعربصوت خفيض مسموع)
وذو الـشـوق الـقــديـــم وإن تـآسّـى مـشـوقٌ حـيـن يـلـقـى الـعـاشـقـيـنـا
جـاء أبـو فـهـد وأخـذ أبـا سـلام
وصـلا مـقـر الـجـمـعـيــة قـبـيــل بــدء الاجتماع
عبدالصمد الليث
8/10/2009
تجربة مهدي عبدالله في الترجمة
من ضمن فعاليات الاسبوع الماضي الثقافية التي حرصت شخصيا على حضورها المحاضرة القيمة التي ألقاها في المنتدى الثقافي الأهلي الأخ الصديق مهدي عبدالله بعنوان “الترجمة في البحرين” والتي تناول فيها شذرات من جذور حركة الترجمة في البحرين خلال تاريخنا المعاصر حتى يومنا هذا، ملقيا الضوء سريعا على أبرز واشهر المترجمين البحرينيين من المجالات الثقافية المختلفة. كما استعرض المحاضر سيرة تجربته الذاتية مع الترجمة بدءا من ترجمة المقالات السياسية الصحفية منذ عام 1987، ومرورا بترجمة كتابي مذكرات بلجريف، وساحل القراصنة للمؤلف نفسه، ثم ترجمة الأعمال القصصية لمشاهير القاصين الاجانب، وليس انتهاء ربما بترجمة مقالات علي أكبر بوشهري من الـ “جلف ميرور” في “الأضواء” ثم “أخبار الخليج” في زاوية تحت عنوان “نكهة الماضي” ثم ترجمة التقارير السنوية لحكومة البحرين في الزاوية نفسها التي مازالت تنشرها أخبار الخليج تباعا.
وقد ألقيت على هامش المحاضرة مداخلة مختصرة اسهاما مني في اثراء موضوعها، وقد حددت في المداخلة ست نقاط لتطوير الترجمة العربية معتمدا في ذلك على مقال للدكتور جابر عصفور بعنوان “نحو مشروع قومي للترجمة” حدد فيه النقاط الست لتطوير الترجمة العربية، واعيد استعراضها تاليا بشيء من التفصيل والإضافة:
1- ينبغي عدم الارتهان إلى ترجمة اصدارات اللغات الاوروبية وعلى وجه الخصوص الانجليزية والفرنسية، في حين ثمة لغات اخرى اوروبية مهمة كالاسبانية والألمانية والايطالية تكاد الترجمة من أي منها معدومة، ناهيك عن اللغات الآسيوية الاخرى كالصينية والهندية واليابانية والفارسية والتركية والاوردية هذا إلى جانب اللغات الافريقية وغيرها.
2- ان يكون للمترجم موقف فكري وثقافي فيما ينوي ترجمته، فالترجمة بما انها فعل ثقافي حضاري ينبغي ان تنحاز إلى كل ما يؤسس لافكار التقدم ويسهم في اشاعة العقلانية وفتح افق التجاوب الانساني الخلاق واحترام التعدد الثقافي في العالم وهويات الشعوب الخاصة.
3- عدم التقوقع في مجال واحد في حركة الترجمة، كالتركيز في الأدب والانسانيات والعلوم الاجتماعية من دون الالتفات إلى المجالات الاخرى كالعلوم التطبيقية، وعدم ربط مفهوم الثقافة بالادب، كأن المجالات العلمية لا تدخل في مفهوم الثقافة.
4- أهمية ترجمة الاصول المعرفية، فهناك كتب عظيمة في هذه الثقافة العالمية لا يمكن تجاهلها كالموسوعات العالمية المشهورة. كما ينبغي ترجمة الاعمال المشهورة لكبار الفلاسفة، بدءا من افلاطون وانتهاء بفلاسفة التفكيك، وينبغي أن تضطلع حركة الترجمة المعاصرة بمهمة مزدوجة بحيث تصل ما بين تراث الانسانية القديم والوسيط ومنجزاتها المعاصرة.
5- ضرورة الترجمة عن لغة الأصل مباشرة، والتقليل من ترجمة الأعمال المكتوبة باللغة الوسيطة، كالانجليزية والفرنسية، المترجمة بدورها من لغات اخرى كالروسية والايطالية والاسبانية واليونانية. فكل ترجمة هي فعل من أفعال التفسير والتأويل، ناهيك عن تصرف المترجم بالحذف أو الاختصار في النص المترجم.
6- أهمية قومية الجهد أو الاعمال المترجمة على صعيد الوطن العربي بأكمله، وهذا لن يتحقق إلا بوجود خطة قومية لمشروع قومي للترجمة يوظف الخبرات الثقافية المتعددة المبعثرة على امتداد الاقطار العربية بغية التنسيق الذي يصبو إلى التكامل بتنوع الاختصاصات وإحياء الخطة القومية التي دعت إليها حلقة دراسية من الترجمة في الوطن العربي عقدت في الكويت سنة 1973 والتي لم تترجم هذه الحلقة نفسها إلى حيز الواقع حتى يومنا هذا.
وما أود أن أضيفه في سياق هذا المبدأ السادس الأخير من المبادئ الستة الانفة الذكر التي حدّدها الدكتور جابر عصفور ان التخطيط لمشروع قومي للترجمة “من خلال إقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الاجهزة الوطنية وبالتنسيق مع المنظمات الدولية والمؤسسات العلمية الاجنبية المعنية بالثقافة العربية”، على حد تعبير الدكتور عصفور نفسه، لمن شأنه أيضا منع تبديد الجهود الضائعة في أعمال الترجمة المتكررة للكتاب الأجنبي الواحد من قبل أكثر من مترجم في عدد من البلدان العربية أو كما يحدث في غير قليل من الاحيان داخل حتى القطر العربي والامثلة على ذلك أكثر مما تحصى وتعد.
كما من الاهمية بمكان – في تقديري – ان يكون هنالك جهاز رقابي فاعل لتقييم مستوى الترجمة بحيث لا يجاز النص المترجم للنشر إلا بعد اعتماده من ذلك الجهاز الرقابي، إن على مستوى الدولة العربية او على المستوى القومي.
بيد ان أعمال الترجمة المطبوعة الركيكة المستوى يمكن اعادة ترجمتها ترجمة رفيعة المستوى ولا تدخل في ظاهرة التراجم المتكررة، بمعنى إذا ما تصدى بعض المترجمين العرب الموهوبين من ذوي الكفاءات لإعادة ترجمة مؤلفات أجنبية سبق ترجمتها الى العربية ترجمة ركيكة فهذا عمل يستحق التشجيع والثناء، ولا يعيب المترجم الكفؤ الموهوب، فلربما أسهم بذلك في حفز ذوي التراجم الركيكة الضعيفة المستوى إلى تطوير قدراتهم في الترجمة او التوقف والانسحاب من حقل الترجمة ماداموا غير قادرين على تطوير مهاراتهم وقدراتهم اللغوية في أعمال الترجمة.
وثمة نقطتان اخريان لم يتسع لي الوقت لطرحهما ضمن المداخلة التي القيتها في المحاضرة، لعل من المفيد طرحهما في هذه العجالة:
النقطة الأولى: تتعلق بما ذكره الدكتور جابر عصفور في النقطة الخامسة من نقاطه الست المتقدم ذكرها عن حاجتنا إلى تنويع أعمال الترجمة من لغات متعددة لا تقتصر على اللغتين الانجليزية والفرنسية. فإذا كان الدكتور عصفور قد أشار إلى الفارسية كمثال من امثلة اللغات المغيبة في اعمال الترجمة فانني احسب أن بلداننا الخليجية العربية في مقدمة البلدان العربية التي هي بحاجة ماسة إلى الاهتمام بتعليم ودراسة اللغة الفارسية توطئة لتأهيل كادر من المتعلمين الملمين بها للانخراط في ترجمة الأعمال التاريخية والتراثية والادبية والعلمية مما تزخر به الثقافة والحضارة الفارسيتان من روائع ابداعية وعلمية قيمة مفيدة.
النقطة الثانية: تتصل بواحد من الكوابح التي تعوق حركة الترجمة في بلادنا العربية وتتمثل في مدى مساحة الديمقراطية وتحديدا هامش حرية التعبير والنشر في كل بلد عربي، فكلما تقلص هذا الهامش انعكس ذلك سلبا على نشاط وفاعلية حركة الترجمة والعكس صحيح.
ولعل ما تطرق إليه المحاضر من واقع ما تعرض له من معاناة شخصية بحذف فقرات من مذكرات بلجريف حينما كان يكتبها على حلقات في احدى المجلات الاسبوعية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ثم تعرضه لحذف بعض الفصول والفقرات بعدئذ من الكتاب الذي أصدره في مطلع تسعينيات القرن نفسه لهو خير دليل على ذلك. ولا شك ان صدور كتب ناقصة مثل هذا الكتاب المترجم بهذه الشكلية التشويهية هي من خيانات الترجمة التي يتحملها المترجم العربي تارة أو تتحملها السلطة العربية الرقابية تارة أخرى.
صحيفة اخبار الخليج
11 اكتوبر 2009
ماركس الرمزي وشبحية دريدا (2 – 6)
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ – الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فـُتسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في انجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛(مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
صحيفة اخبار الخليج
11 اكتوبر 2009
حول ضريبة الاستثمار الأجنبي!
يسجل للمقترح بقانون الذي قدمه مؤخراً لمجلس النواب رئيس المجلس معالي السيد خليفة بن احمد الظهراني حول ضريبة الاستثمار الأجنبي، أنه أثار قضية كبرى ظل الجميع صامتا إزاءها، على الرغم من أنها قضية جوهرية تدخل في جوهر نظام السوق الحر الذي تسير على نهجه عجلة الاقتصاد في البحرين. مقدم المقترح الذي هو قيد الدراسة لدى لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في المجلس، ذكر أن هناك توجها حكوميا للأخذ بهذا النظام، وواقع الحال يقول إن الظهراني على خلاف بقية الكتل النيابية هو أفضل من يتقدم بمثل هذا المشروع نظرا لحساسية ما يطرحه المقترح من قضية كبرى، فالمجلس سيدشن دور انعقاده الرابع والأخير من الفصل التشريعي الثاني، ليدخل النواب في خضم سنة انتخابية، وينتظر أن يثير طرح مثل هذه القضية فيه خلال الأسابيع القادمة الكثير من السجال على مستوى البحرين، ولا زالت تتفاعل هناك العديد من ردود الأفعال بالنسبة رسوم تنظيم سوق العمل، كما أن ردود الفعل الأولية طالبت بأن تشمل ضريبة الاستثمار الاستثمارات المحلية أيضا، وضرورة تعزيز الشفافية والوضوح في ما تقدمه الحكومة من معلومات حول الاستثمار ومالية الدولة ومشاريعها وطرائق توظيف الأموال العامة والرقابة عليها. وقبل الاستفاضة في الحديث حول أهمية المقترح وما ينتظره خلال الأيام والأسابيع القادمة، تجدر قراءة المقترح أولا، فهو بحسب صيغته الأولية يهدف إلى تنظيم عملية الضرائب على الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من الأجانب بنسب معقولة تتناسب وحجم أرباحهم المتحققة في مملكة البحرين جراء مزاولتهم للعمل التجاري فيها، وكذلك تنظيم ربط وتحصيل الضرائب والإعفاء منها وتواريخ استحقاقاتها وطبيعة الأنشطة والدخول التي تفرض عليها. ردود الفعل الأولية لدى ممثلي القطاع الخاص لدينا ربما جاءت معبرة عن عدم الاستعداد لمثل هذه الخطوة، وكعادة القطاع الخاص ورجالاته البعيدين عن المشاركة في القرار الاقتصادي والتجاري، فهم يكتفون عادة بالرفض والتذمر ومن ثم القبول على مضض، خاصة إذا علمنا أن الغرفة مقبلة على انتخابات حامية الوطيس في نوفمبر القادم، ومن الصعوبة التسليم بفكرة من هذا النوع في الوقت الراهن، ولكن ما يجب أن يعرفه رجالات القطاع الخاص وأن تعرفه الحكومة كذلك هو أن النظام الضريبي في أي دولة لا يمكن اجتزاءه، بمعنى لا يمكن للقطاع الخاص أن يطرب لفكرة اقتصاد السوق ليأخذ ما يعجبه ويرفض ما لا يعجبه، وكذلك هي الحكومة لا يمكنها أن تفرض نظام ضريبي بشكل مجتزأ بعيدا عن تحقيق الكثير من الأمور الإجرائية والتشريعات الداعمة لهكذا نظام، فهذا النظام يجب أن تتشارك في وضعه عدة جهات بالإضافة إلى القطاع الخاص، كالمصرف المركزي ووزارة المالية، ووزارة التجارة والصناعة وسوق الأوراق المالية وهذا الأخير مهم بدرجة كبيرة فيما لو وجد لدينا السوق المالي المتطور والقادر على استيعاب فوائض الاستثمار بنوعيها المحلي والأجنبي، مما يفرض تطويرا أكبر لسوق المال وجعلها قادرة على مجاراة ما يفرضه النظام الضريبي المقترح. بإعقادي أن مقترح نظام ضريبة الاستثمار يجب أن يعمم على الاستثمارات المحلية والأجنبية، على أن يراعى التدرج في ذلك، فهذا خيار لا مفر منه، وأن القول بأن هذا النظام معيق للاستثمارات الأجنبية ولتنافسية البحرين هو قول للاستهلاك لا غير، فهناك دول لديها نظم ضرائبية بنسب مرتفعة لكنها تبقى جاذبة جدا للمستثمرين، فضريبة الاستثمار لم ولن تكون عائقا طالما وجدت المرونة وبيئة الاستثمار الخصبة وحوافز الاستثمار الجيدة والوضوح في توجهات وآليات الاستثمارات المتاحة، علاوة على شفافية ما يقدم من معلومات للمستثمرين، بالإضافة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي وتقليص البيروقراطية لدى القطاعين العام والخاص، وإيجاد نظام محاسبي ورقابي شفاف وقبل ذلك بيئة طاردة للفساد. لقد قطعت البحرين أشواطا جيدة في استقطاب الاستثمارات الخارجية وأصبحت من بين العشرين اقتصادا متحررا عالميا، وهذا إنجاز يجب أن يوظف بشكل جيد مع ضرورة التخلص من عشوائية وتضارب القرارات الاقتصادية، حتى نستطيع أن نتحدث عن بيئة جاذبة تقبل الاستدامة ولا تتهيب لوجود نظام ضريبي للاستثمار، وأن نحسن توظيف ما لدينا من تشريعات وتطويرها ضمن بيئة استثمارية مرنة تتفهم حاجة وحجم الرساميل التي تجوب العالم بحثا عن بيئة استثمارية مناسبة.
صحيفة الايام
11 اكتوبر 2009
أسرة الأدباء (1) الفضاء التاريخي
أثلج صدري كثيرا ليس الاحتفاء بأربعينية تأسيس أسرة الأدباء والكتاب البحرينية وحسب، بل وبجعل هذه السنة سنة مميزة للأسرة من حيث الفعاليات الممتدة لستة شهور متواصلة. وإذا كان من حق وفرحة الشعب البحريني أن يعيش كرنفال تلك الشهور الستة، فإننا نحن الجيل الشاب، الذي كان قريبا لندوات الأسرة في بداياتها أو قريبا للغاية لمبدعيها الشباب، فرحة مختلفة، خاصة وان الجزء الكبير منهم كان على تماس بالحياة السياسية والحزبية، فلا يمكن أن ينتج يومها مبدع شاب عملا أدبيا دون المرور بتلك البوابة “بوابة الجحيم أو الفردوس”. لهذا سأحاول أن أكون منصفا لتاريخ الأسرة، ليس الإبداعي والثقافي ولكن السياسي أيضا، فهي مثلت ضمير الشعب وروحه في حقبة من حقب المواجهة مع الاستعمار وما بعده، وواصلت من اجل مشروع الحرية وحرية التعبير الذي بدونه يصبح الإبداع مسجونا في قفص الرعب والخوف والملاحقة. وإذا ما كان للأسرة اليوم فخر واعتزاز بمسيرتها ومشاركتها في التحولات، فان ذلك يعود للجيل الشاب الأول، والذي أصابته مصائب الانتساب لتلك المظلة الثقافية، لكونها كانت على تماس بالسياسي اليومي والفكري التقدمي، حيث تميزت البحرين من داخلها بلهيب المرحلة، مثلما تميز المحيط الجغرافي العربي والعالمي بغليان ثوري وتحرري، ولن يستطيع فصل الكاتب رأسه عن جسده، فقد اقتنع يومها ان المسارين متلازمان، حياته الإبداعية وقراءاته مع تلك البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية، تلك البيئة التي تفجرت مساراتها السياسية والثقافية مع بداية الستينات، وتتوجت مع أحداث مارس، التي رفعت في بياناتها ومطالبها عودة المكاسب التي عرفتها البحرين منذ فترة الهيئة، ومن ضمنها عودة الصحف والصحافة. وإذا لم نتحدث عن الفضاء والأرضية، فان الأسرة تصبح مجرد مصباح كهربائي معلق في زقاق ضيق لا ينفث للشارع الصغير إلا ضوءا باهتا ومحدودا، ولكنه بالتأكيد سيعبر من ذلك النفق الطويل والمظلم بتقلباته وقسوته، حتى وجدنا أنفسنا مع المشروع الإصلاحي نتنفس الصعداء ونرى في ثقافتنا ومبدعينا مرحلة جديدة متنوعة كباقة ورد، وسيبقى مشروع وشعار الأسرة القديم “الكلمة من اجل الإنسان” حاضرا دائما، غير ان كتاب وأدباء البحرين كانوا يدركون إن الشعار كان مستلبا ومسلوبا ومحرفا من مقولة “ليس بالحرية يحيا الإنسان” فقامت الأسرة في حينها بتغيير الكلمة وقلب المسألة بالطريقة التي ناسبت صانعيها في تلك الفترة الحرجة من عام 1969. لم تكن الفكرة والولادة نتاج للصدفة بقدر ما إن للضرورة التاريخية فعلها، فلا يخرج الإنسان من ثوب الحقيقة فجأة، وإنما ينمو دخل ذلك الثوب، الذي ستأتي مرحلة لا بد من تمزيقه والخروج من “شرنقته” وادرانه. لا أحد من جيلنا تحديا بامكانه ان ينسى دور “المؤسس والرائد ومحور عملية التأسيس” الدكتور محمد الأنصاري في ريادته ببذر الفكرة والانطلاقة، وكان ينبغي أن يتحول من دور المؤسس إلى دور العراب، إن لم يكن فعلا فعلى الأقل روحيا، فمن الضروري لكل حركة أبها الروحي والمعني بأمور كثيرة (وسنتحدث عن تلك الحالة في مقالة منفصلة، فقد تخلى الأنصاري عن دور العراب الفعلي مكتفيا بفترة قصيرة – ربما تكون لها مبرراتها وظروفها الشخصية والموضوعية، وربما لغايات في نفس أكثر من يعقوب – فما بين فترتي 1965 -1969 وفترة 1969-1972، حدثت مخاضات عدة وبخصائص معينة سنتوقف عندها وكيف تفتحت في تلك الفضاءات يرقات الحرير، حيث ستقفز الأصوات الشابة لتزيح ذلك الرعيل، الذي تجمد، ليس عند قوافي وأبيات الشعر الكلاسيكية، وإنما كمبدعين ومثقفين فضلوا خيار الانعزال عن معركة الكلمة واكتفوا بمقولة الإنسان، فوجدنا الجسد التقليدي في ثقافة الأربعينات والخمسينات وروادها مقطوعة الجسد والأوصال، حتى وان كانوا كبارا في شعرهم كنموذج شاعرنا طيب الذكر إبراهيم العريض، والذي نحبه جميعنا ونحترمه من عدة أوجه، إلا الوجه الذي كان يتطلب موقفا من تلك الكلمة. ولو استمع في ذلك الوقت لكلامه شاب شاعر يطلب نصيحته وهو يقدم له بعض أبياته لما عاد اليوم هذا الشاب وجه البحرين العالمي في الإبداع. ولم يكن ذلك الشاب إلا قاسم حداد الذي أراد أن يسمع نصيحة العريض في شعره فقال له “أنصحك أن تهتم بالصحافة”. هذه المسافة بين جيلين كانت الفجوة الفاصلة لمرحلة سياسية وفكرية أيضا، إلى جانب التحولات الفكرية والإبداعية في المناهج والمدارس الأدبية. فهل الأسرة وحدها لها فضل اكتشاف تلك المواهب المبدعة الشابة؟ أم إن الدور الريادي والحقيقي سيكون لشخص آخر فتح ذراعيه لتلك الأصوات، وقدم لها الغطاء والفضاء الثقافي، الذي من خلاله ستصدح وتغني الأصوات البحرينية الشابة، وسيتعرف شعبنا في هذه الفترة على الربيع القادم. نختزن الكثير من الصور والروايات الشخصية، فالأسرة لم تكن بعيدة عن تفاصيلها الداخلية مع شخصيات سياسية تابعة لتلك الحديقة، ولكننا في هذه المقالة نفضل الحديث عن التاريخ، بماضيه ومرارته ولذته، والحاضر بما فيه من تطلعات وأحلام مستمرة لدى الرعيل الجديد من الكتاب والمبدعين في الأسرة، والذين يعتبرون تكملة لمسيرة أصيبت بالكثير من الكدمات والجروح وكادت تموت بعد الاختناقات والخنق المستمر، ولكن الأسرة صمدت لكل الرياح والطواحين، لأنها في النهاية روح الشعب الإبداعي ومشروعه الحضاري، مثلها مثل جمعيات فنية أخرى، غير إن الأسرة لم ينجح احد بتمزيقها إلى عدة جمعية كما هي الفنون التشكيلية وغيرها. جاء الوقت أن نعيد قراءة المرحلة بحكمة العمر وتجربته، ونترك لكل مرحلة مساراتها ومضمونها، تقلباتها وصراعاتها، فليس الصراع الفكري والتنوع الأدبي والمناهج، نفسها في المناخ الديمقراطي كما هي في عهد ما قبل الإصلاح، فقد خنق الاستبداد المائة وردة وكانت الأقمار بين خيار الاستسلام أو المواجهة، الحياة والموت لطالما رفعت شعارا “ملتزما وصداميا”، أما في زمن الإصلاح فإننا بالإمكان أن نتحدث عن شعار الثورة الثقافية الصينية “دع مائة زهرة تتفتح” فلن تقحم السياسة المؤدلجة نفسها على برنامج الأسرة بقدر ما سيجد المبدع نفسه متورطا في مشروع الحرية وحقوق الإنسان من الجانب الأخر لحضارة القرن الواحد والعشرين.
صحيفة الايام
11 اكتوبر 2009
تغير موقف الحكومة من التجنيس السياسي
لم يعد خافيا ما تقوم به فئة ممن حصلوا على الجنسية البحرينية وبكل بساطة دون أن يثبتوا ولاءهم لهذا الوطن وقيمه وأخلاقه.
لقد أثارت عمليات التجنيس الواسعة التي حدثت في العام 2002 والتي تزامنت مع الاستعدادات للانتخابات النيابية في ذلك العام استياء عاما من قبل الشارع البحريني والقوى السياسية في البحرين إذ قدر عدد الذين منحوا الجنسية في ذلك العام بـ 34 ألف شخص مما حدا بعدد من نواب البرلمان السابق إلى تقديم عدد من الأسئلة لوزير الداخلية حول المعايير التي استندت إليها الوزارة في منح الجنسية لهذا العدد الكبير من الأشخاص, وفي ذلك الوقت نفى وزير الداخلية في رده على الأسئلة البرلمانية حدوث أي تجاوز للقانون في منح الجنسية وأكد على أن إجمالي من حصلوا على الجنسية في تلك الفترة لا يتجاوز10 آلاف و 169 شخصا في حين أثبتت لجنة التحقيق التي شكلت فيما بعد أن العديد من الأشخاص قد منحوا الجنسية في حين أنهم لم يقيموا في البحرين أصلا كما منح البعض منهم الجنسية بعد وصولهم إلى البحرين بفترة بسيطة وذلك ما يتعارض مع قانون الجنسية البحريني والذي يشترط بقاء الأجنبي في البحرين مدة لا تقل عن 25 سنة متتالية والمواطن العربي 15 سنة متتالية.
وقد خرجت اللجنة بعدد من التوصيات والتي ركزت على أهمية قصر التجنيس على احتياجات الدولة الفعلية ووفق القانون.
خلال انعقاد الدور الثاني تمت إثارة قضية التجنيس مرة أخرى من خلال توجيهه سؤال لوزير الداخلية حول أعداد وأسماء من تم تجنيسهم حديثا وما تبع ذلك من أخذ ورد بين الوزارة وكتلة الوفاق حول هذه القضية التي تهم مستقبل الوطن وأجياله المقبلة.
تصريح الوزير يجب أن تتبعه إجراءات محددة وأهمها التعاطي مع هذه القضية من منطلق المصلحة الوطنية العليا للبحرين وليس مصلحة فئة معينة كما أن التعامل بشفافية مطلقة مع قضية التجنيس السياسي التي تمت بالفعل في السابق هي أولا الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل تصحيح الخطأ.
من هنا يأتي دور البرلمان في اتجاه الضغط لكشف الأخطاء في حصول البعض على الجنسية البحرينية دون أن يستحقها ووضع إجراءات أكثر صرامة في عمليات التجنيس المستقبلية وضمان حدوث ذلك وفقا للقانون فقط.
الوسط السبت 10 أكتوبر 2009م
تأهبات وتحفزات ما قبل الانتخابات البحرينية
من تابع الصحافة البحرينية في الشهور الخمسة الأخيرة يدرك أن معركة الانتخابات النيابية التي ستجرى في البحرين في العام القادم سوف تبدأ مبكراً. فعلامات التسخين بدأت في الظهور والتدافع بصورة لافتة ومتواترة، تجيء في بعض الأحيان على شكل موجات عالية تحتل مساحات أكثر سعة من الوقت والجدل الدائر في حيزه. فمن الواضح أن ‘النيابية’ أو بصورة أكثر تحديداً كرسيها، أضحى مطمعاً لكثير من الطامعين لتسلق ومعانقة ‘المجد’ الشخصي بما ينطوي عليه من مطامع الثراء والوجاهة والشهرة والنفوذ، خصوصاً بعد حزمة الامتيازات ‘الدسمة’ التي نجح أعضاء البرلمان الحالي الميامين في استخلاصها وتأمينها لأنفسهم. عندما نقول إن كرسي المجلس النيابي (النيابية (Parliamentary -، فإن قصد المعنى ينسحب على الأفراد والجماعات معاً. ذلك إنه غني عن القول إن إحدى أبرز إفرازات المشروع الإصلاحي لجلالة الملك حفظه الله ورعاه، ظهور وتكاثر الجماعات السياسية والجماعات الدينية (الإسلامية) التي لم تتردد في التقاط الفرصة التاريخية لركوب الموجة الصاعدة آنذاك والمسارعة لإنشاء تشكيلاتها وواجهاتها السياسية المعبرة عن مصالح أفرادها ومصالح الجماعة التي تأتلفها. ومن كثرة ما قررته هذه الجماعات الإسلامية التي استطاعت ‘بفضل’ حالة الهروب الجماعي المجتمعي باتجاه الهوس الديني الذي يجتاح العالم العربي والإسلامي منذ الانقلاب الاجتماعي والثقافي الذي أحدثته الثورة الإيرانية في عام 1979 في البنى الفوقية، السيطرة والاستحواذ على السلطة التشريعية في انتخابات عام 2006 البرلمانية - فإنها أحالت المجلس النيابي البحريني إلى ‘موقع’ تندُّر وسخرية واستهجان لدى عموم الشارع البحريني، ناهيك عن أوساط النخب المجتمعية على اختلاف مشاربها. وهذا ما حول المجلس عن وظيفته الأصلية كمؤسسة رقابية وتشريعية مستقلة مسؤولة أمام الشعب الذي جاء بعناصر إدارتها إدارة حصيفة بالغة الكفاءة، إلى مصدر استرزاق وتكسب للطامعين ممن لا وظائف اختصاصية مردودة العائد المجزي لديهم. فلا غرو، والحال هذه، أن يصل التكالب على ‘هذه الوظيفة الكسيبة’ لحد لجوء الأفراد والجماعات الذين ينتظمون المجلس الحالي إلى ما يشبه تحصين وتسييج دوائرهم الانتخابية فيما يشبه الإقطاعيات الوقفية أو الشركات المؤمَّمة المغلقة (Closed nationalized companies) التي يُحْظَر الاقتراب منها. وقد رأينا كيف كانت ردود أفعال أولئك الأفراد والجماعات عندما حاول بعض المتطلعين لخوض الانتخابات النيابية القادمة تقديم برامجه الانتخابية لجموع الناخبين في بعض الدوائر التي يعتقد نوابها أنها أضحت حقاً حصرياً مطلقاً لهم وحيازة لن يتهاونوا ولن يفرطوا فيها. بل إن الحديث المتقطع الذي تتناقله الصحف المحلية من آن لآخر حول آفاق واحتمال عودة الليبراليين إلى مسرح الأحداث من جديد، قد أنتج ردات فعل انفعالية من القوى الدينية خصوصاً، التي راحت تتدافع كل من موقعه للتقليل من شأن هذا الاحتمال (رغم أنه مازال احتمالاً يمكن أن يكون محقق الوقوع ويمكن أن لا يكون). فَدُبِّجت المقالات ونُسجت الاستطلاعات الهادفة لإغلاق هذا الباب و’ريحه’ المقلقة على ما هو ظاهر من أشكال التعبير السلبية التي عبر عنها بعض الجماعات الإسلامية المتمعة حالياً بمواقعها الامتيازية في مجلس النواب إزاء التيار الليبرالي بوجه عام وإزاء اجتهادات وتقديرات الوسط الصحافي والسياسي بشأن الدور المحتمل الذي يمكن أن يلعبه التيار الليبرالي غير المُمَثَّل حالياً تحت قبة البرلمان في الانتخابات المقبلة. فالنزق الذي عكسته الجماعات الإسلامية في تعبيراتها السلبية إزاء احتمال عودة التيار الليبرالي إلى الساحة، ينم بشكل واضح عن نزعة شديدة البأس لجعل المجلس النيابي وقفاً عليها، وهي في سبيل ذلك لم تتوان ولن تتوانى في استخدام كل الوسائل، لاسيما المال السياسي - الذي بالمناسبة يقال إنه بوشر في استخدامه منذ الآن – لقطع الطريق على المنافسين المحتملين. ولكن التيار الليبرالي أوسع قاعدةً وأثقل حضوراً في الحياة البحرينية من حفنة الجمعيات السياسية الناشطة في ساحة العمل السياسي في البحرين، وحتى من كل مؤسسات المجتمع المدني الفاعل منها والساكن. فهو يشمل كل تلك الجموع الغفيرة التي تتحرك بفطريتها المنفتحة في دورة الحياة البحرينية المعتادة بمزاج سليقي غير متنافر مع بدهيات وسنن العيش الأليف المؤتلف للجماعة البشرية المعاصرة المتوافقة، على الضد من ذلك، مع ناموس التطور المجتمعي غير المعزول بالضرورة عن السياقات التطورية العامة للعائلة العالمية الممتدة عبر القارات الست. بيد أن هذا التيار الاجتماعي الواسع، وعلى النقيض من تيار الإسلامي السياسي، لا يتوفر على امتياز التمكين (Accessibility) منابرياً للنفاذ إلى الجمهور العريض المتوافق مع مشاربه الثقافية وتوجهاته المصلحية. فليس له، على سبيل المثال، ديوانيات شعبية متسعة ومتواصلة بانتظام مع روادها وامتداداتها في الشارع، وليس له واجهات إعلامية صريحة تعبر عن رؤاه ومواقفه ومصالحه. حتى غرفة تجارة وصناعة البحرين التي تمثل وعاءً كبيراً يستوعب أكثر النخب الليبرالية حظوةً بالإمكانيات والنفوذ، لا تملك ما تعتد به من وسيلة تعبير عن رؤاها ومصالحها سوى بعض الهوامش الصحافية المتفرقة والإعلانات الشحيحة والموسمية لقياداتها حول رغبتها للدخول في المعترك السياسي من البوابة البرلمانية. بل إن الغرفة باعتبارها الوعاء الليبرالي الأكثر ثقلاً في الوسط الليبرالي البحريني الواسع، لم تعد هي نفسها متجانسة بما يكفي لكي تعبر عن مواقفها ومصالحها بصورة متضامنة بعد أن اتسعت الفجوة بين كبار أعضائها من التجار وصغارهم، وهو ما يستوجب من الغرفة تداركه إن كانت فعلاً جادة فيما أعلنته من نية لخوض الانتخابات المقبلة. على أن الأمر لا يتعلق ولا يقتصر فقط على الغرفة وحدها وإنما هو ينسحب على كافة مكونات وأطياف التيار الليبرالي التي يتوجب عليها أن تبحث عن نفسها وتلملم صفوفها إذا ما أرادت أن تكون لها بصمة وأن تؤثر في مسار الحياة البحرينية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مستفيدة من زخم السخط المجتمعي العام على الأداء السلبي لممثلي جماعات الإسلام السياسي التي تُحكِم قبضتها على المجلس النيابي.
صحيفة الوطن
10 اكتوبر 2009