ظهرت التفكيكية – التقويضية على يد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في ثلاثة كتب أصدرها عام 1967، وقد بدأ دريدا نظريته بنقد الفكر البنيوي الذي كان سائداً آنذاك بإنكاره قدرتنا على الوصول بالطرائق التقليدية إلى حل مشكلة الإحالة، أي قدرة اللفظ على إحالتنا إلى شيء ما خارجه، فهو ينكر أن اللغة “منزل الوجود”)، (التفكيكية من الفلسفة للنقد الأدبي، مصدر سابق).
لا يمكن للوعي ألا أن يقوضَ الوجودَ السلبي، والأنظمةَ المتخلفة، والأفكارَ الناقصةَ غير الغنية، وغيرَ ذلك من الرؤى، ومن دون أن يفعل ذلك يقوضُ نفسَه. الوعي في علاقةٍ خلاقةٍ مع الوجود، إنتاجيةٍ نقضيةٍ تحليليةٍ صاعدة، ومن دون أن يفعل ذلك في كل أشكال الوعي يتدهور، ويتفتت، ويتمزق، ويذوب.
ولقد رأينا كيف فعل دريدا بوعيه في علاقته مع ماركس، أحاله إلى شبح، وعجز عن متابعة ماركس التاريخي، ماركس في علاقته بالطبقة العاملة، في إنتاجه المتنامي للنقد، لتحليل البنية الرأسمالية العامة الغربية الغنية المتناقضة، ولعدم تحليل ماركس للشرق، لعالمية الرأسمالية وتطوراتها التاريخية، لأن دريدا لا يحيل الظاهرات إلى تمثـُلٍ للوجود، لا يرى ماركس نموذجاً تتشكلُ فيه مسارات وتناقضات مرحلة أوربية – عالمية. أي تحليل ماركس وقد كشف قوانين البنية الرأسمالية في ظهورها الأوروبي وليس في تناميها العالمي. ودريدا لا يميز بين مستويات الرأسماليات العالمية، بين مستواها الغربي المتقدم، والشرقي المتخلف، وفي صراعهما المتباين عبر حركات التحرر الوطني و(الاشتراكية)، وفي وحدتهما الصراعية الراهنة كتطورٍ مركب للتشكيلة الرأسمالية. فيرى الرأسمالية الغربية فقط ويدينها أخلاقياً ولا يحللها. يرفض ليبرالية فوكوياما ولا يرى بديلاً لأنه رأى ماركس شبحاً.
إن تحليلَ ماركس كنموذجٍ يعني تحليلَ بنيةٍ، يعني متابعة علاقات موضوعية بدأت منذ عصر النهضة، واستمرت حتى زمان العولمة، زمان تشكل الرأسمالية الكونية. إن عدم الاعتراف بموضوعية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية داخل نص ماركس، يجعلُ مسألةَ نقدهِ وتجاوزهِ غيرَ ممكنة. إن المناهجَ التجريبية الظاهراتية ترفضُ الإقرارَ بذلك، وهو جزءٌ من طبقيتها الرجراجة وتقلباتها، ومن هنا تحدث لها مقاربات مع الواقع حيناً، ومع الوهم حيناً آخر. وهذا يتعلق بتكويناتها المختلفة والتأثيرات الخارجية في كل مرحلة ومنطقة وكذلك لسمات الأشخاص ومواقفهم.
ولقد امتد عدم النمذجة إلى هاملت وشكسبير وفوكاياما وغيرهم، لقد قطع دريدا بين خطاباتهم وطبقاتهم وعصورهم، لقد ناقشَ أفكارَهم وهي مقطوعةُ الأوصال، منفية في جزر أدبية خرافية، وانهال في منولوجات فلسفية جميلة في العديد من الأحيان، دارساً صوراً عميقة، كاشفاً رموزها الداخلية، لكن في تلك الجزئيات المفصولة عن بعضها بعضا، لأنها تفتقدُ الترابط الموضوعي مع المادة الاجتماعية، وهنا تستطيع المناهج الظاهراتية في تحليلاتها الجزئية الوصول إلى آراء هامة كما فعل في تعريته للرأسمالية الغربية الجديدة، وعبر الرجوع إلى معطيات موضوعية في الواقع الاقتصادي وفي الأعلام وفي الحياة الاجتماعية. وبطبيعة الحال وقعت هذه أيضاً في تلك الجزر المتباعدة، في الجزئيات المفصولة عن بعضها بعضا. في انهمار الصور واللغة المتابعة للأشباح، فلا تنتج تراكماً كبيراً.
(فماركس يحبُ صورةَ الشبح، وإنه ليحتقرها، ويتخذها شاهداً على معارضته، فقد كان بها مسكوناً، ومنهكاً، ومحاصراً، ومسلوباً) !، ص .204 هل كان ماركس كذلك؟
إن المنهجيةَ شبحية، فلابد أن يفككَ تناقضات ماركس نفسه، أن يرى ماركس الشاب العاطفي الحاد، القادم من الشارع ليثوّر العالم، الذي يعري هذا العالم بصخب وموضوعية في جوانب، ويدمج أوروبا بالعالم في خطاب مجرد، وليرى ماركس الكهل، ماركس الناضج الذي له منهجية أخرى. وكل من النموذجين يعبرُ عن تجربة ورؤية، وهناك واقعان مختلفان تشكلا فيه كل منهما بتعبير وفكر.
المنهجية الشابة لها علاقة بألمانيا غير المكتملة في نموها الرأسمالي، التي جلبت أشباح العصور الوسطى بكل ميراثها الدموي، التي تعلقت بنيتشه وهيدجر الممدوحين لديه، التي أنتجت بسمارك ثم هتلر، ثم المقابر الجماعية الكونية كافة، هذه ألمانيا التي حاول ماركس في مراهقةٍ هزيمتها قبل أن تصيرَ دركوالا أوربياً هائلاً، نتيجة لخطابه(الشيوعي) المراهق، ثم ذهب إلى انجلترا بديمقراطيتها وعلومها، هناك صار مقارباً لموضوعية أكبر كانت حصيلتها كتابه المهم الذي لم يحظ باهتمام مهم من الباحث. هنا كانت العلاقات والأرقام والشواهد ومئات المصادر والتحليل الطويل لرأس المال، الذي ظل يبحث عنها في جبال من الكتب ثلاثة عقود من السنين، هنا المنهجية المتجاوزة البيان وعصورا من الوعي البشري. هنا(حجر الزاوية الذي رفضه البناؤون) أو الأشباح الفكريون فيما بعد، فكان ماركس مهتماً بتحليل البُنى، ببحث العلاقات الموضوعية، وليس بالأشباح.
التفكيك يحتاج إلى الغوص في قعر الأرض الاجتماعية المتضادة، لنباتاتها الصغيرة التي تعملقت فيما بعد، ودرسها في هذا التنامي، لكن كما قلنا فإن الفئة المتوسطة الصغيرة المطحونة بين الطبقتين الكبريين، لها منهجياتها المقاربة لمصالحها ولأفق تطورها ولسوقها الثقافية، ومن الصعب أن تنقلب من ذاتها، لكن المقاربة مع الموضوعية، والمشاركة في تفكيك الشرور والأخطاء وكشف التناقضات مهمة، كما فعل دريدا نفسه في العديد من فقرات كتابه المُحلل هنا.
صحيفة اخبار الخليج
15 اكتوبر 2009