المنشور

مخاوف مشروعة.. !


إنه قدر مرير، وهو يفرض غصة.. لكنه قدر صنعه نواب كثر.. بل معظم النواب، وهذا ما يزيده مرارة، فالتجربة البرلمانية ابتليت بهؤلاء النواب الذين أعطوا الصورة الأكثر تعبيراً للاعوجاج الذي اعترى هذه التجربة، علماً أنهم لم يكونوا قط المستفيدين الوحيدين من هذا الاعوجاج وذلك أمر سيئ في ذاته وأسوأ في دلالته ..

ونستطيع أن نستطرد في هذا الموضوع فهو يحتمل كلاماًً كثيراً ومثيراً . ولكن هذه المرة نتكىء على تصريحات نائب حالي ونائب سابق ورجل دين ، صحيح أن ما صرحوا به سمعناه وقرأناه من قبل لهم ولغيرهم، فإن الصحيح أيضاً ونقول ذلك جازمين بأن كل الذي قيل وكل الذي سمعناه، وكل الذي قرأناه ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الثلج الذي يخفي تحته ما يخفي من مفاجآت وأخطاء نخطىء اذا ما ألقينا كل تبعاتها على النواب..! الأول هو النائب عادل العسومي فما قاله يستحق التأمل والتحسب من سائر الوجوه ، وهو قول موثق ومنشور لم ينفيه أو يكذبه أحد لا في اليوم التالي ولا في بعده وعلى هذا الأساس يفترض أن نعتبر مضمونه صحيحاً 100% ، الرجل ينبه إلى أن بعض الوزراء أصبحوا تحت إمرة كتل نيابية، ويذهب إلى القول إن ثمة وزراء تجاوبهم أضعف مع النواب المستقلين ، وذلك مقابل تعاون أكبر مع نواب الجمعيات الإسلامية وأن هذه صورة لا يمكن اخفاؤها ، الأمر الذي يجعل هؤلاء الوزراء تحت إمرة هذه الكتلة النيابية أو تلك الجمعية ، والرجل على حق عندما لفت إلى خطورة ذلك على الدولة وحين ناشدها إلى التنبه إلى ذلك ، وهو محق أيضاً في اعتباره إلى أن ذلك يمثل لعبة خطيرة لأنها تتيح تجاوز الكثير من الثوابت المبدئية ، وعلى الجميع التنبه جيداً لهذه الإشارة التي قال فيهـــا: “ اذا كشفت حالة فساد وتأتي مجموعة من النواب أو تكتل وتتفاهم مع هذا الوزير أو تلك الجهة على قاعدة ( شيلني واشيلك ) تتم المساومة على تخفيف الضغط مقابل توظيف شخص أو مجموعة في مكان ما خصوصاً موضوع التوظيف تم استغلاله من قبل البعض بصورة مشينة “، وأن هناك نواباً كانوا معدومين أصبحوا اليوم من أصحاب الملايين.. !! ذلك ما قاله النائب الحالي .. وهو كلام خطير ما كان ينبغي أن يمر مرور الكرام ويحتاج نقاشاً لابد أن يكون مسؤولاً وجدياً في آن

 ، أما النائب السابق يوسف زينل فهو الآخر سبق أن قال كلاماً خطيراً مشابهاً ، ما كان ينبغي أن يمر هو أيضاً مروراً عابراً ، لأنه بذلك يكشف عن جانب آخر من الصورة التي توضح التردي الذي تدمغ به الممارسة النيابية وتدينه حقاً ، فالرجل أعلن على الملأ بأن المصالح الخاصة هي التي كانت تحكم أسئلة بعض النواب للوزراء وهي أيضاً التي تحكم الممارسات التي تمرر تحت الطاولة ، ومن الواضح أن الرجل لا يلقي الكلام جزافاً، وإنما يتحدث من واقع معايشة لمدة أربع سنوات من عمر التجربة البرلمانية التي شهدت ولازال تشهد ممارسات حيرت الناس وانكأت جروحاً لم تلتئم وكشفت عن تقيحات لم تمتد إليها يد بالتطهير والعلاج ، واذا كانت الأسئلة النيابية المقدمة من بعض النواب والتي يفترض أنها أحد الأدوات الرقابية تكون مملاة من قبل بعض الوزراء لتوجه لهم من أجل تبيان رسائل معينة للقيادة أو لإظهار أعمال وإنجازات الوزير للبهرجة الإعلامية والكلام هنا للنائب السابق، فإن ذلك برأينا ما هو الا تعبير عن أداء سياسي رديء للبعض من النواب والوزراء على حد سواء، وهو بالنهاية أمر تماماً كما هو الأمر السابق يعبر عن أحد أوجه الخلل والفساد الذين نلح على ضرورة مواجهتهما بمنتهى الجدية والحسم.

 أما القول الثالث .. قول رجل الدين ، فهو لخطيب مسجد جامع نوف النصار بمدينة عيسى الدكتور عبدالرحمن الفاضل فهو في سياق تعليقه على ما كشفه النائب العسومي ، ينوه في إحدى خطب يوم الجمعة بخطورة ذلك القول، خاصة أن قائله هو من داخل البيت النيابي ومطلع على خبايا مجلس النواب وخفاياه ، ويؤكد بأن ما أدلى به النائب لا مرية فيه ولا ريب بعد أن مر وقت على طرحه دون أن تسارع جهة ما تكذب أو تفند ذلك القول ، ونتفق معه في دعوة النواب والمؤتمنين على مقدرات الشعب ومصالحه بأن تكون مواقفهم واضحة وشفافة لأنه من البداهة أن يكون هؤلاء في منأى عن التربيطات والمساومات والتحالفات والممارسات التي لا يمكن تفسيرها إلا ضمن باب الفساد. ما الذي يعنيه ذلك كله؟! أحسب أن يثير مخاوف مشروعة، خاصة وأن أخطر ما يعنيه ذلك هو أن هناك البعض ممن يفترض أنهم يتحملون مسؤولية النهوض بالمجتمع وحل المشكلات التي تواجه الناس ويدعون العفة والنزاهة باتوا يفتقدون ذلك ، بل أصبحوا جزءاً من مشكلات المجتمع وعبئاً عليه ومنهم بطبيعة الحال نواب يفترض أنهم يمثلون الشعب ويذوذون عن مصالحه ، وهذا يعني بأن المعركة ضد الفساد معقدة إلى درجة أكبر مما نعتقد، ومتداخلة في أمور كثيرة إلى درجة نحسب بأنها أصبحت مقدسة من منظور ديني وأخلاقي واجتماعي واقتصادي وسياسي ووطني. هذا أولاً .. وثانياً .. إن بعض من يفترض أنهم معنيون بقضايا الديمقراطية والإصلاح والتغيير هو أولى الناس بأن تقتلعهم رياح الإصلاح والتعبير ، وأن من يتوهمون ويحاولون إقناعنا بأن مظاهر الجعجعة انتصارات ، وأن الربح الخاص انجازات عامة هم حتماً واهمون . وأخيراً .. إنه يعني في المحصلة النهائية بأن منهج الفساد صار شائعاً على نحو كبير ليشمل من يفترض أنهم يحملون لواء محاربته والتصدي له، كما أنه يعني أيضاً أننا بحاجة الى جرعات من الشفافية والمحاسبة والنزاهة والصدق في العمل العام .. وهذا أمر لن نتوقف أمامه ، ليس إقلالاً من أهميته ، ولكن لأنه من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى مزيد من الكلام.. !!

اقرأ المزيد

والـــلـــه فـــضـــيـــحــــة‮ ..!!‬


يقال لا عجب في رجب، ولكن يبدو أن كل شهور السنة بأسمائها ومسمياتها المختلفة، قد أضحت في هذه الدنيا العجيبة، رجباً بعد أن صار العيش في زمن اللامعقول هو الحقيقة المتقدمة بتجاسر على مواقع منطق الأشياء وبدهياتها.

وإلا ماذا عسانا أن نسمي وقوف العالم أجمع عاجزاً أمام دولة واحدة لا يتجاوز عدد سكانها الأربعة ملايين نسمة، دولة خارجة على القانون.. اغتصبت أراضي دول أخرى وأقامت عليها كيانها.. عاجزاً عن الضغط عليها من أجل تنفيذ قرارات مجلس الأمن (242 و338 و194) التي تنص على وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.. وعاجزاً عن إجبارها على الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية والكشف عن ترسانتها النووية والسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية. بل إن العالم، كل العالم، يتودد اليوم إلى حكومتها اليمينية المتطرفة من أجل أن تتعطف عليهم وتوافق على تجميد (فقط تجميد!) بناء مستوطنات جديدة والتوسع في المستعمرات القائمة في الضفة الغربية! إلا أن إسرائيل خيبت آمالهم جميعاً، إذ رفضت رفضاً قاطعاً تقديم أي التزام بتجميد الاستيطان. حتى الولايات المتحدة وعلى رأسها الرئيس باراك أوباما الذي جاء للمنطقة وتشقلب كالبهلوان وهو يوزع وعوده يمنة ويسرة بتصفية مخلفات الحقبة ‘البوشية الكاوبوية’ المريرة والعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من معانقة حلمه في إنشاء دولته المستقلة على أرضه المغتصبة – ها هو ينهار أمام تعنت وصلف الساسة الإسرائيليين بعد أن كان مندوبه الشرق أوسطي جورج ميتشل يرفع الراية البيضاء إعلاناً بفشله بعد خمس زيارات مكوكية للكيان، في إقناع قادته الغوغائيين بتجميد الاستيطان ولو لمدة عام واحد فقط.

المضحك المخجل في هذا الأمر أن هذا الرفض الإسرائيلي المتعنت جاء على الرغم من التعهدات التي حصلت عليها واشنطن من دول عربية بإطلاق حزمة من إجراءات التطبيع مع إسرائيل تتعلق بالسماح للطيران التجاري الإسرائيلي بالتحليق في أجوائها، وإقامة شبكة خطوط اتصالات هاتفية وتسهيل العمليات المالية والتجارية معها. بل إن السلطة الفلسطينية التي كانت اشترطت قبلاً موافقة إسرائيل على وقف الاستيطان مقابل موافقتها على استئناف المفاوضات معها، جاءت ووافقت تحت الضغط الأمريكي، والعربي ربما، على لقاء رئيسها محمود عباس مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. أي أن الضغط الأمريكي الموعود على إسرائيل قد تحول ‘بقدرة قادر’، ضغطاً على العرب والفلسطينيين!! الرئيس أوباما.. نسمع كلامك يعجبنا، نرى أفعالك نتعجب! ونتساءل: ألهذا الحد تمسك إسرائيل بخناق العالم وتتحكم في بلدانه وقادتها، كبيرهم وصغيرهم؟! هل من المعقول أن تكون دولة بالإمكانيات الاقتصادية والبشرية التي نعرف والتي لا ترقى بأي حال إلى دول الصف الأول في العالم من حيث القدرات الاقتصادية والبشرية والعسكرية والعملية – هل من المعقول أن تكون بهذه السطوة والنفوذ اللذين تجعل بهما العالم يقف عاجزاً عن فعل أي شيء لا يرضيها ناهيك عن لا يغضبها؟!

هي دولة خارجة على القانون الدولي نعم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يجبرها على وقف أعمال الاستيطان في المستوطنات رغم أن العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة يعتبر أن المستوطنات غير شرعية (وقد ذكر ذلك بالمناسبة الرئيس أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة يوم الأربعاء 23 سبتمبر المنصرم)؟! لا أحد!.. اللجنة الرباعية التي تضم ممثلي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا ومنظمة الأمم المتحدة، التي عقدت اجتماعاً في اليوم التالي لخطاب أوباما في الجمعية العامة وبعد ثلاثة أيام من الاجتماع البروتوكولي الذي رتبته واشنطن (‘عن العين والنفس’ – مثل شعبي خليجي) وجمعت فيه نتيناهو وعباس مع الرئيس أوباما – هذه اللجنة ‘المهيبة’ خرجت ببيان مفاده أن على كافة أطراف النزاع في الشرق الأوسط ‘أخذ المخاوف الأمنية الإسرائيلية بعين الاعتبار’!!.. والله فشيلة. إنها فضيحة هذا الكيان الغاصب الذي يحتل القدس الشرقية منذ عام 1967 على الضد من كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي لا تعترف بهذا الاحتلال، والذي يواصل عمليات التطهير العرقي فيها بطرد العائلات الفلسطينية من بيوتها في المدينة لتسكن في العراء ويحل محلها عائلات يهودية، والذي بات يعمل على المكشوف على إضفاء الطابع العنصري على الدولة اليهودية من خلال حزمة إجراءات لم يعد يخفيها حكام إسرائيل وإنما يعلنونها على الملأ ويدبجونها في تشريعات ملزمة التطبيق – هذا الكيان هو نفسه الذي كافأته الأمم المتحدة بقرار ينزع عنه صفة العنصرية! تتوالى على هذا الكيان حكومات رأسها وتوزَّر فيها أشخاص ارتكبوا مجازر لا لبس ولا غبار عن مسؤوليتهم الشخصية – فضلاً عن السياسة – في ارتكابها، بما في ذلك الحكومة الحالية. ومع ذلك لم يجرأ ولا يجرأ أي مسؤول أوروبي متنطع على أن يشير إليهم، فقط يشير إليهم بالإصبع، بأنهم مذنبون يجب أن يمثلوا أمام العدالة الدولية. بالمقابل، وبالعودة إلى موضوع المقايضة المهزلة: التطبيع مقابل تجميد الاستيطان، فإن الملام الأول والأخير في هذا المستوى البائس من الأداء السياسي العربي العام، هم الفلسطينيون والعرب عموماً، فهم الذين حولوا أنفسهم إلى لقمة سياسية ودبلوماسية سائغة في فم الدبلوماسية الإسرائيلية المخادعة، إذ لم يفرضوا منذ البدء، منذ انطلاق مفاوضات أوسلو وقف الاستيطان وإنما وافقوا عوضاً عن ذلك على تأجيل البت في قضايا الحل النهائي!! نعم هو نظام سياسي عالمي أعور ولكن ماذا فعلنا نحن لمقابلة تحديه؟ لا شيء!
 
الوطن 3 أكتوبر 2009

اقرأ المزيد

سـلمان زيمـان


لم يتخذ الأغنية وسيلة للكسب أو للاستعراض “للشو” كما يفعل بعض الفنانين والفنانات الذين دخلوا عالم الفن عنوة للكسب والارتزاق على حساب الذوق الفني الرفيع من كلمة والحان وموسيقى.. كان لونه الفني أكثر ارتباطا بالواقع الاجتماعي وبالتالي كان بارزا في ذاكرة الوطن والفقراء وسائر المثقفين الوطنيين .. كان يصرخ في الأمسيات الصيفية الحارة والشتاءات الممطرة تضامنا مع الشعوب المضطهدة التواقة للحرية والديمقراطية دون انحناء او استعباد.. كان حضوره الفني الوطني كبيرا لا تهمه إغراءات الحياة.. تنوعت القصائد الوطنية والأشعار وتناغمت مع مشاعره الإنسانية الفياضة..

منذ ثلاثة عقود كانت بداياته متواضعة وعندما تشكلت فرقة أجراس بعناصرها الموسيقية الموهوبة التي قدمت لوحات فنية جميلة معبرة عن الربيع والحياة والمستقبل لمع حضوره مغنيا وعازفا ألوان الحروب الطاحنة في كل مكان والبؤس والشقاء بأسلوب فني واقعي أبعاده الأمل والغد الأفضل.. نعم كان عاشقا لأجراس وهي تعلن بكوادرها الموسيقية عن ميلاد جديد للأغنية الوطنية في زمن كانت صفحات الوطن ودفاتره تحكي حكايات نضالات اجبرت المستعمر على الرحيل.. حكايات ارتبطت بالارض والتحرر والبحر والنخيل والسمر على انغام اليامال والهولو واناشيد قطف الثمار في زمن لم يعرف الوطن فيه الطائفية والكراهية بين مكونات هذا الشعب ولم يعرف تاريخه الوطني قوي الارهاب والتشدد والغلو وكل الطارئين عبيد الماضي والكهوف والعصور الحجرية وفتاوى التكفير والتأثيم والتخوين بل عرف أناس عملوا في صمود شامخ على تحقيق مطامحه وخلاصه من القمع ومخلفات المستعمر.

قبل ثلاثين سنة تفجرت موهبته إبداعا وحينما نريد ان نتحدث عن هذه الموهبة لابد ان نتحدث عن تلك البدايات التي تشكلت عندما اطلق العنان لصوته وهو يغني بانفعال يسوده الواجب والوفاء لدم الشهيد سعيد العويناتي:

دمع الدفاتر حبر او مرن اطيوفك
صبر المنابر شعر من تشتهي اشوفك
يالعابر الظلمة الجبين هلال بالسيف چفك فتح مستقبل العمال

بعدها انطلق محلقا في عالم الأغنية اليمنية ذات الجمل الموسيقية الغنية بالجمال والمشاعر الصادقة والحب والاحساس الإنساني الرفيع ومن بين تلك الاغنيات التي اطربت الجمهور البحريني والخليجي في عقد السبعينيات احلى الليالي، اقبل العيد، انت مرادي. ولم يقف عند هذا اللون بل راح يغوص في اعماق الاغنية الوطنية وفي ذلك الوقت الذي اصبح فيه هذا النوع من الغناء اكثر تعبيرا عن الهموم والمعاناة راح ينشد:

يابو الفعايل يا ولد
اطرح ثمر لون الغضب
راواني العجب راوني العجب
علم نجايل هالنخل اشلون تروى من البحر.

ولا يقف اهتمامه عند شجون الوطن بل امتد الى خارجه ليعبر حدود اوطان كثيرة تريد الخلاص من الاستبداد من بينها العراق وللكادحين هناك كان وهو يقود اجراس يردد لجعفر حسن ياشبيبه ويابوعلي وعمي يابوشاكوش. وعندما نعود الى هذه الفرقة الفنية الرائعة بعد ثلاثين عاما يتبين ان غيابها ترك فراغا كبيرا.. نعم ترك فراغا وما احوجنا اليها ونحن نرمم “بيتنا” الديمقراطي المتصدع كي تعبر عن الصوت الديمقراطي في زمن الانفتاح. 

 هكذا كانت رحلته الفنية دون ان يتخلى لحظة واحدة عن لونه الفني المرتبط بالواقع الاجتماعي في الزمن الصعب.. هكذا كان ولا يزال بوسلام البسيط المبدع المتفائل العاشق للحياة وللمقطوعات الوطنية ولكل الناس في القاع الاجتماعي.

اقرأ المزيد

منطق .. وآخر!!

عندهم هناك: ‘الكنيسة منفصلة عن الدولة، والمدرسة ـ الجامعة منفصلة عن الكنيسة’.. فتطوروا. أما عندنا، والقصد جل الدول العربية والإسلامية، نتجاهل الدور العلمي للمدرسة والجامعة بامتياز، ونركز على أمور أخرى ليست ذات أهمية، ومن ثم ننسج عليها قصصاً دون التوقف عند بعض المفردات والمفاهيم.. وهكذا، نبدو كما نحن، نعشق الرقص في الظلمة وحدنا ونرتعب من النور والتنوير، حتى صرنا نقف مع حركة ‘طالبان’ لأنها فجّرت 173 مدرسة، منها 105 مدارس تستقبل فتيات في إقليم سوات منذ العام ,2007 والحبل على الجرار، لأن هذه الحركة تريد تطبيق ‘الشريعة الإسلامية’ على طريقتها الخاصة، وفي السياسة نجد من يقف مع بن لادن ضد ‘كفّار’ مجتمعاتنا، لأن بن لادن ضد الامبريالية، حتى وإن كان هذا الإرهابي وتنظيمه ضد الإنسانية والحياة ومع الموت المجاني، بينما جل البشر منطقياً مع الحياة.
مناسبة هذه المقدمة، طالت أو قصرت، ما جاء في ملف ‘نهاية الأسبوع’ وإشارة إلى افتتاحيته حول افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا، وما اعتبرناه نقلة متقدمة في السعودية لضخامة المشروع الأكاديمي العلمي، وما به من كسر للحواجز بين الجنسين في تلقي العلوم والمعرفة والحرية، فخرج علينا أحد المعلقين بأسئلة: ‘وهل تطور الجامعات بالاختلاط؟ إن كان كذلك فهذه جامعة البحرين الحصيفة والعتيدة، في تردٍ مستمر من سيئ إلى أسوأ؟ ألا تعتقد يا كاتبنا العزيز أن الاختلاط لا يؤدي سوى إلى الانحطاط؟’ انتهى التعليق.
كما تشاء يا أخي ‘دقدقني أبو الهريس’، هذه وجهة نظرك وقناعاتك وخشيتك من ‘الجرائم، الفضائح، الجنسية، والانحطاط’ الذي يسببه الاختلاط في الجامعات، ولكن تخيل أن يكون مجتمعاً في الألفية الثالثة كل شيء فيه مفصول بين الجنسين: العمل، المستشفيات، المدارس، الجامعات، المجمعات التجارية، والمنتزهات.. إلى آخره، هل ترى في هذا المجتمع البليد المنغلق على نفسه باستطاعته أن يمنع الرذيلة، ويوقف ما تسميه بـ’الفضائح الجنسية’، مع أنه ‘في كل بيت بالوعة’ كما يقول المثل الروسي؟.. ومن ثم هل كل من تخرجن من الجامعات العربية والعالمية المختلطة (المحجبات منهن والحاسرات)، من وجهة نظرك مارسن الرذيلة التي يشيب لها رأس الرضيع كما تفضلت؟.. إنك بهذا المنطق الظلامي تقسوا بالقذف الجارح على بناتنا وزوجاتنا وأخواتنا وأمهاتنا، الأحياء منهم والأموات!.
 
صحيفة اخبار الخليج
2 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

ضرورة فرز الأوراق السياسية عن المواقف المبدئية

لقد تابعنا باهتمام بالغ قراءة الثماني الحلقات المنشورة في جريدة الأيام مؤخراً بقلم الكاتب الدكتور حسن مدن، والمعنونة هذه الحلقات بـ “تيارنا الديمقراطي هموم ومهام”.. وما تمخض عن جوهر هذه الموضوعات المهمة من عملية تقييم وتقويم إزاء وهن وضعف التيار الديمقراطي نتيجة الضربات التي تلقاها على مدار العقود السابقة، بقدر ما حملت هذه الحلقات الصحفية في ماهيتها من عملية نقد وتمحيص من اجل سد النواقص والثغرات التي يعانيها هذا التيار من مرتبة الدونية والاقصاء والتهميش.. ومن ثم تقديم الحلول الناجعة وطرح الآليات المطلوبة ووضع الدراسات العلمية المناسبة بجانب احياء اللقاءات والحوارات الدائمة، ودراسة الظروف الموضوعية والذاتية بشكل مستمر.. من اجل لملمة صفوف هذا التيار والنهوض بهذا التيار الوطني الديمقراطي وترسيخ مكانته وهويته ومبادئه والوقوف على مدى تجاربه وحضوره في أوساط المجتمع البحريني ومدى استمرارية هذا التيار بنشاطاته وفعالياته خلال العمل العلني المجتمعي والديمقراطي.
ويسترسل الدكتور حسن مدن الى مبدأ التحالفات ومفاهيم القواسم الوطنية المشتركة، مقرونة هذه التحالفات بأساليب تقييمية في تجاوز النظرة الهلامية ازاء الانتماء الفكري والايديولوجي الهجين والذي وقع فيه العديد من التيارات اليسارية والديمقراطية في ضوء انهيار المعسكر الاشتراكي.. وذلك نحو الاستقلالية الفكرية والأيديولوجية برؤى واضحة المعالم والابعاد.. بحسب ما جاء على لسان الدكتور حسن مدن من خلال أعمدته الصحفية السالفة الذكر التي نجل ما ورد في جوهرها من عملية رصد ومتابعة ونفخر ازاء ما تميزت به هذه المقالات من الدراسة والتحليل والنقد البناء.. مثلما نحاول بهذا الشأن ان ندلو بدلونا بالتعليق والتعقيب بشكل موجز لما ورد في هذه المقالات للدكتور حسن مدن.
بادئ ذي بدء نفخر بالقول ان ما دعا إليه الدكتور حسن مدن خلال أعمدته الصحفية مناشداً ومطالباً بـ “لملمة صفوف التيار الوطني الديمقراطي في الوضع الجديد للمشروع الاصلاحي وخاصة ما بين التحالف الثلاثي (المنبر التقدمي والعمل الوطني والتجمع القومي) ضمن التنسيق الجاد المستمر لا الموسمي” هو دعوة وطنية خالصة وعقلانية صادقة جاءت حقائقها وتداعياتها انعكاسا لعملية الاتصالات واللقاءات والتنسيق ما بين قيادات الجمعيتين (المنبر التقدمي والعمل الوطني) منذ اكثر من ستة أعوام مضت، من اجل تشكيل تكتل سياسي متماسك فكريا وأيديولوجيا ما بين الفيصل المبدئي ذاته الذي يجمعه الارث الوطني والنضالي المشترك، أو بالاخرى تشكيل معارضة سياسية قوية واعية وناضجة.. معارضة هي ليست “وليدة” اليوم وانما معارضة أكدت حضورها بالأمس.. بقدر نضالاتها اليوم وفي عهد الاصلاحات العامة والمتمثلة في (المنبر الديمقراطي التقدمي) الذراع السياسية للمنبع المبدئي (جبهة التحرير الوطني البحرانية).. نضالات هذه المعارضة ضد الشرذمة والانقسام والافكار الترجيحية والتبريرية والاصطفافات الطائفية والمذهبية بقدر ما آمنت هذه المعارضة بأسبقية الانتماء الايديولوجي في سلم أولويات العمل الوطني ضمن المفهوم (الاستراتيجي) وضمن المواقف السياسية والواقعية السياسية طبقاً لـ (المفهوم التكتيكي) من دون ان تنساق هذه المعارضة وراء التيارات السياسية الانتهازية والتحريفية والوصولية وفي مقدمتها الاصولية الدينية التي لشديد الاسف استطاعت هذه التيارات الاسلامية اقناع العديد من التيارات الوطنية بالانقياد وراء شعاراتها وخضوع هذه التيارات الديمقراطية لمرتبة (التابع لمتبوع) بل اقامة (تحالفات تكتيكية) مع هذه التيارات الاسلامية تطورت فيما بعد الى درجة (التحالفات الاستراتيجية) ويكفي استدلالاً بهذا الصدد هو موقف (جمعية العمل الوطني “وعد”) المتشدد باستمرائها الانضمام الى التحالف الرباعي بقيادة (جمعية الوفاق الاسلامية) وما تمخض عن تبني (جمعية العمل الوطني) المفاهيم التوفيقية والترجيحية على حساب ثوابت الانتماءات الفكرية والمبدئية وبالتالي انجرارها وراء أجندة الخطاب الديني لجمعية الوفاق التي بدورها أعطت الكفة الراجحة للمفهوم الاستراتيجي في الرجوع الى المرجعية الدينية في تعاملها وانشطتها وفعالياتها كافة وازاء عمليتي المقاطعة والمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرفض والقبول لدستور 2002م. الامر الذي دفع البعض من أعضاء اللجنة المركزية بجمعية العمل الوطني “وعد” والحريصين على وحدة صف التيار الوطني الديمقراطي إلى مطالبة الامين العام للجمعية بـ “فك التحالف مع جمعيات تيار الاسلام السياسي”.
ولعل القول يبقى صحيحاً ان (جمعية العمل والتجمع القومي) وغيرهما من الجمعيات السياسية الاخرى سواء التي استمرأت اندماجها في التحالف الرباعي ام التي ساندت حقائق ومفاهيم هذا التحالف فإن هذه الجمعيات جميعها قد وقعت في الخطأ الجسيم الذي وقع فيه اليسار الجديد على طول الساحة العربية في ضوء انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية عقد الثمانينيات.. والمتمثل هذا الخطأ في اضاعة هذه الجمعيات وهذه الاحزاب اليسارية الحلقة الاساسية ما بين ما هو (ايديولوجي وما هو سياسي) وخلطها الاوراق السياسية بالمواقف المبدئية، مما دفع بهذه التنظيمات الى انسلاخها المبدئي وتخليها عن الانتماء الحزبي وبالتالي كشفت عن وعي مشوش غلفته الرؤى الضبابية، عكس بالتالي خليطا من افكار هلامية وانتقائية، جاءت نتائجها في عجز هذه التيارات وهذه الجمعيات عن الحفاظ على استقلاليتها (مبدئيا وفكريل) وسعت بالمقابل الى اقامة التحالفات الاستراتيجية مع تنظيمات وجمعيات تيار الاسلام السياسي.. على عكس توجه (المنبر الديمقراطي التقدمي) الذي حافظ على تنظيمه وفكره ومبادئه وهويته في الوقت الذي نشط فيه وتألق بالابعاد السياسية من الفعاليات الثقافية والسياسية والادبية والانشطة الشعبية والجماهيرية وعبر القواسم الوطنية المشتركة مع الجمعيات السياسية والمهنية والنسائية. ولكن لابد لنا من قول كلمة صريحة حتى ان اتسمت بشيء من العتاب، انطلاقاً من حرصنا على (المنبر التقدمي) بثوابته المبدئية والفكرية التي حافظ عليها أولئك الرفاق المناضلون وصانوها في عقولهم وقلوبهم منذ اول يوم من تأسيس (المنبر التقدمي) لانطلاقة المشروع الاصلاحي.. بحيث ان كلمتنا هذه قد تتمثل في ابداء ملاحظاتنا ومتابعتنا الاخيرة حول تشكيل الاطار او بالاحرى التحالف السداسي (المنبر التقدمي، العمل الوطني، التجمع القومي، الوفاق، أمل، الإخاء).. هذا التحالف يمثل في واقع الأمر لقاء والتقاء النقيضين في الفكر والمبدأ، وجب على التيار الوطني الديمقراطي التقدمي ان يضع ألف حساب لآلياته وتكتيكاته.
صحيح ان هذا التحالف السداسي قد تجمعه الأهداف الوطنية والشعبية والسياسية وتلم شمله القواسم الوطنية المشتركة وفي مقدمتها تلك الملفات الساخنة البالغة الحيوية كإشكالية القضايا الدستورية، وقضايا التجنيس والاسكان والبطالة والصحة.. ولكن يبقى الصحيح أيضاً ان هذه التيارات الاسلامية والجمعيات الدينية، قد وضعت أجندة خطابها الديني والقائم على المفارقة الميتافيزيقية الغيبية فوق كل اعتبار وفوق كل القوانين الوضعية والمدنية.
ولعل ما يرسخ طوباوية خطاب قوى تيار الاسلام السياسي، هو عجزها عن أن تنطق بأدنى كلمة صريحة، او أن تدلي برأي، أو أن تتخذ أدنى قرار سياسي ووطني، سوى برجوعها الى المرجعية الدينية.. ناهيك عن توجهاتها الطائفية في الحملات الانتخابية ونزول مترشحيها إلى الإنتخابات البرلمانية في مختلف الدوائر الانتخابية هي قضية محسومة سلفاً تدخل فيها الدكتاتورية والاصطفافات الطائفية والمرجعية الدينية.
ولعل المواطنين يتذكرون جيداً كيف ان (جمعية الوفاق) قد اقصت وهمشت حليفها الاساسي (جمعية العمل الوطني) في التحالف الرباعي خلال انتخابات 2006م، وكيف استبدت (الوفاق) بالدوائر الانتخابية، واستأثرت بالمقاعد النيابية.. متخلية عن حليفها بمزيد من الهيمنة والانتهازية.
هذه هي ملاحظاتنا للرفاق المناضلين في (المنبر التقدمي) وهي مجرد للتذكير بأن يتم التعامل مع هذه الجماعات من تيار الاسلام السياسي بعدم وضع كل الاوراق في سلتهم.
ملاحظاتنا هي مجرد للتفادي وللحيلولة دون الوقوع في الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الجمعيات السياسية الاخرى وفي مقدمتها (جمعية العمل الوطني “وعد”).. مثلما يستوجب علينا فرز الاوراق السياسية عن المواقف المبدئية.

صحيفة اخبار الخليج
2 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

في معرض دمشق للكتاب

خلال زيارة سياحية قصيرة قمت بها مع العائلة لمدينة حلب السورية تعرفت إلى أحد مثقفي هذه المدينة ألا هو الأستاذ الباحث في التاريخ محمد شقال الذي آمل ان اخصص قريبا عمودا قادما حول أهم دراساته التاريخية القيمة المهمة.. وما ان علمت منه بفعالية معرض مكتبة الأسد للكتاب ولم يتبق عن انتهائها سوى يومين فقط حتى حزمت مع العائلة حقائبنا على الفور استعدادا للتوجه الى دمشق التي لم تكن في الاصل ضمن برنامجنا السياحي. وهكذا تمكنت من اللحاق بهذا المعرض في مساء آخر يوم له، واعتبر نفسي بذلك محظوظا بزيارته باعتباره المعرض الذي لطالما قرأت عنه كثيرا وراودتني الرغبة الشديدة لزيارته منذ سنوات بعيدة لولا الظروف التي حالت دون تحقيق هذه الأمنية في أوقات المعرض السنوية، ذلك بأن سوريا هي واحدة من أكثر الدول العربية التي تحتضن دور نشر عديدة وتباع كتبها بأسعار تعد رخيصة بالنسبة إلينا نحن الخليجيين. كما أن المعرض يستضيف عددا كبيرا من المكتبات ودور نشر في معظم البلدان العربية واسعارها بالعملة السورية لا شك تقل عن أسعارها حينما تباع في معارضنا الخليجية.
لكنني فوجئت بعدما وصلت إلى دمشق ان الاعلانات عن المعرض تكاد تكون معدومة في شوارعها الرئيسية ان لم تكن معدومة حقا، كما ان المعرض تم نقله من مكتبة الأسد قرب نهر بردى إلى منطقة نائية عن المدينة بالقرب من المطار. ومع ان القائمين على المعرض قد وفروا حافلات لنقل زوار المعرض من محطات محددة بقلب المدينة (من منطقتي باب توما والبرامكة)، إلا أن ذلك لم يساعد على جذب وتشجيع أكبر عدد من الزوار تبعا لمتابعتي للصحف السورية اليومية.
مع ذلك فقد كان المعرض لزائر عربي مثلي فرصة بالنظر لضخامته التي فوجئت بها حيث استغرقت زيارتي له زهاء خمس ساعات متواصلة لم أف خلالها بكل قاعاته التسع أو أكثر التي تناهز سعة معظمها قاعة معرضنا برمته، وفي كل منها أيضا أجنحة واسعة لعدد كبير من دور النشر العربية والسورية، وبالاضافة إلى رخص العديد من الكتب وليس كلها بالعملة السورية وهي الكتب ذاتها التي تباع في معارضنا ضعفا أو ضعفين بالنظر لمعادلة الليرة كمائة فلس والجنيه المصري كدينار، فثمة ثلاث ملاحظات لفتت نظري في بعض اجنحة معرض دمشق للكتاب:
الملاحظة الأولى: تتمثل في ان بعض الاجنحة الرسمية لبعض الدول الخليجية النفطية الثرية تعرض كتبا ومجلات قيمة بأعداد هائلة للتوزيع المجاني على الزوار وهو ما لا تفعله للأسف في اجنحتها بمعارض البحرين للكتاب اللهم كتبا ومجلات محدودة وجلها للأسف للعرض لا للتوزيع، وحينما زرت هذه الاجنحة الخليجية واستفسرت عن بعض الكتب والدوريات والمجلات القيمة الصادرة عن دور نشر رسمية ووجدتها لدى سوريين وعرب قيل لي انها نفدت.
الملاحظة الثانية: تتمثل في وجود جناح خاص بالولايات المتحدة في المعرض مما يعكس رغبة واضحة لدى دمشق لتحسين علاقتها بواشنطن لكن كتب المعرض معظمها لم تكن كتبا دعائية صرفة بل كتبا مترجمة علمية وادبية واجتماعية وسياسية لمؤلفين امريكيين مستقلين وان تساوقت آراء بعضهم مع السياسات الرسمية، وكان من حسن حظي ان واحدا من تلك الكتب المعروضة كتاب الرئيس الامريكي باراك اوباما “أحلام من ابي” الذي اوشكت كميته على النفاد عند شرائي نسخة منه وقد بيع منه كما علمت اكثر من 300 نسخة وكان سعره المخفض 200 ليرة بما يعادل دينارا وستمائة فلس فقط.
الملاحظة الثالثة: ان القسم الاكبر من كتب الجناح الروسي في المعرض هو من اصدارات دور النشر السوفيتية السابقة وخاصة الكتب العلمية والادبية والتاريخية في حين كانت الكتب السياسية السوفيتية محدودة، ولم تكن تلك الكتب بأسعارها الرمزية البخسة المعروفة التي تتميز بها في عصر الاتحاد السوفيتي.
ولو ان حكومة الاتحاد الروسي الحالي امعنت النظر في مشروع لإعادة طبع ونشر الكتب السوفيتية السابقة، وعلى الاخص العلمية والجغرافية والادبية وتنقيحها، ولها ان تستبعد إذا شاءت الكتب السياسية الدعائية الايديولوجية السابقة، وبأسعار معقولة فكم تساعد بذلك على توثيق علاقاتها الثقافية مع البلدان العربية.

صحيفة اخبار الخليج
2 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

دلالات أفكار عبدالكريم سوروش (1-4)

*الدكتور عبدالكريم سوروش واسمه الحقيقي هو (حسن حاج فرج الدباغ*، من مواليد طهران .1945 حاصل على الدكتوراه في الصيدلة من جامعة طهران 1968، سافر إلى بريطانيا عام 1972 لإكمال دراسته في فرع الكيمياء التحليلية، لكنه انتقل إلى جامعة لندن فدرس فلسفة العلم وتوفر على معطيات أحدث تياراتها وخاصة النقدية المُحدثة فضلا عن تراث المدرسة الوضعية. عاد إلى ايران بعد الثورة عام 1979 ليصبح عضواً في لجنة (الثورة الثقافية) ثم انتقل إلى جمعية الحكمة والفلسفة في طهران كذلك كباحث متفرغ وهو عضو في المجمع العلمي هناك أيضاً. وقد ظهر سوروش منذ أوائل الثمانينيات كواحد من الكتاب الغزيري الإنتاج في إيران، وعالجت نتاجاته الأولى النظريات الماركسية وموضوعات فلسفة العلم ومن أعماله البارزة تلك الفترة كتاب (ما هو العلم، ما هي الفلسفة؟)، إضافة إلى دراسة نقدية لكتاب الراحل محمد باقر الصدر (الأسس المنطقية للاستقراء) وقد نـقلت إلى العربية).
تعبر هذه الفقرة عن النشاط الفكري الدراسي العام للباحث عبدالكريم سوروش، ويبدو واضحاً جمعه بين الفكر الوضعي الغربي والمذهبية السياسية الشيعية، وهو مركبٌ صعب. فكيف نرى تطبيقاته ومسارها؟
إن المنهجية الوضعية لا تعترف بقوانين الصراع الاجتماعي وترفض السببيات الاجتماعية الغائرة عموماً، متوجهة إلى الحالات الملموسة والوضعيات المحددة لقياسها واستخراج عللها. وهي في تضاد مع الفلسفات الدينية، والفلسفة الماركسية كذلك. هي تعبير عن لحظات ألمانية في البداية، حين زرع الفيلسوف الألماني كانط مفهوم الشيء في ذاته، منشئا مستويين من المعرفة، مستوى لا يُعرف ومستوى يُعرف، وسنلاحظ الدلالات الكبيرة والخطيرة لهذا المفهوم لاحقاً.
وعموما فهذه الأفكار مؤيدة لمسار الليبرالية ونتاجاتها الفلسفية وقراءاتها، وخاصة الليبرالية الناتجة عن عهد انتصارها في أوروبا الغربية في القرنين الـ 18 والـ .19
وهو نظرا إلى عيشه في غرب أوروبا يتحمس لهذه الليبرالية ويعرضها كما جاء في مقالته عن الليبرالية:
(تطالب الليبرالية بالتحرر، بل هي أساساً مذهب التحرر (اشتقت كلمة ليبرالية من ليبر liber وهي كلمة لاتينية تعني الحر). وأقصد هنا استخدام مفردة التحرر بدل كلمة الحرية لأشير إلى أن الحرية قد تكون سلبية، وهي تعني رفع العقبات، والسمة المميزة لليبرالية الكلاسيكية في مطلع ولادتها أنها حاولت إزالة الموانع والعقبات عن طريق: رأس المال، حقوق الإنسان السياسية وتقدم المعرفة.
جاهدت الليبرالية الاقتصادية لتحرير رأس المال وأصحابه والمجتمع من “شرور” الأرستقراطية الاقطاعية. كما تطلعت الليبرالية السياسية إلى “قوننة” سلوك السياسيين، وتحميلهم المسؤوليات تجاه المواطنين، وإشراك الشعب في تقرير مصيره، أي طالبت بالانعتاق من استبداد الاقطاع والسلطة، وركزت لبلوغ هذه الأهداف في الحقوق الطبيعية للإنسان. ولهذا يُصنـّف الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632- 1704) من مفكري الليبرالية، لأنه شدّد على حقوق الإنسان، والحقيقة أنه أعلن ولادة الإنسان صاحب الحقوق، قبالة الإنسان المكلف)، عن الموقع الليبرالي السعودي.
إن هذا الفهم الموضوعي لتطور أوروبا يأخذه الباحث عبدالكريم سوروش كنشاط للطبقة الوسطى فقط، ويعرضه في فضائه الغربي لكن لا يطبقه على المجتمع الإيراني، ولكن لنلاحظ هنا أن مقولاته تتجاوز الوضعية وتعرضُ التاريخَ بشكلِ صراع طبقي.
وحين ينقل سوروش الأفكار الليبرالية من مناخها الغربي إلى المناخ الإيراني والمناخ الإسلامي عموماً فإنه يركز في الفروق بين الوضعيات العامة للأفكار، فالفكر الليبرالي البورجوازي الغربي يطرح الإنسان صاحب الحقوق، أما الفكر الديني الشرقي فيطرح الإنسان المكلف، كما لاحظنا في الفقرة السابقة. فالمنهج الاجتماعي لتحليل الأفكار يتوارى.
يقول عنه أحد الباحثين الإيرانيين في الفترة التي تعاون فيها مع الدينيين الشموليين لضرب التيارات الديمقراطية الإيرانية:
(لقد كان عبدالكريم سوروش في عهد شاه إيران من مساندي الأصوليين. تولى سوروش في السنين الأولى بعد الثورة الإسلامية مناصب مهمة وكان مسؤولا عن تطهير الجامعات من الأساتذة غير المتديّنين. وبعد فترة أعرض عن الأصوليين المتشدّدين. إذ طوّر أفكارًا جديدة وأصبح أهم مفكّر يتبنـّى الاصلاح الديني. لقد أيّد سوروش على المستوى السياسي الرئيس الإيراني السابق خاتمي وجناح المصلحين المتديّنين، الذين كان أكثر قادتهم من طلاّبه ومؤيّديه)، (فرج سركوهي).
إن دخول الفكر الوضعي لدى سوروش في مساندة المحافظين الدينيين في الفترة الأولى لحكمهم الشمولي هو تعبير عن غياب القراءة الدلالية العميقة للتحولات السياسية الجارية، وتوجه سوروش لمساندة ما هو طافح وغالب اجتماعيا، بطبيعة مثل الوعي الذي لا يقرأ الصراعات الاجتماعية، وينساب انسياب البروجوازية الصغيرة لما هو منتصر ومفيد لمصالحه الشخصية.
لكن الأفكار التي تحملها هذه القوة الاجتماعية المغايرة لعالم الدينيين المحافظين، تـُضرب من قبل الدينيين وتنامي سيطرتهم الدكتاتورية على المجتمع، وخاصة لباحث يحمل الفكر الليبرالي وهاجسه البحث عن الحرية، لكن الأدوات التحليلية الوضعية تجعله يفصل المستوى الفكري عن المستوى الاجتماعي وعن المستوى السياسي في المجتمع، بأدوات منهجية تفصيلية سنقرأها لاحقاً ونرى خطورتها على بلده وعليه.

صحيفة اخبار الخليج
2 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (4-4)

لربما توهم البعض ان تدوين وتوثيق الكوارث على اختلاف انواعها من طبيعية وبشرية (أي المتسبب فيها البشر انفسهم)، ومن ضمنها الكوارث السياسية والاقتصادية أو الكوارث الصناعية الناجمة عن غياب شروط الصحة والسلامة المهنية، وفي عدادها الكوارث البيولوجية والبيئية المختلفة وبضمنها الوبائية، نقول لربما توهم البعض ان هذا عمل عبثي لا طائل منه، في حين ان توثيق وتدوين هذا النوع من التاريخ هما على درجة من الاهمية، ليس تاريخيا فحسب بل حتى إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية العلمية المجردة فانك، كطبيب، لا تستطيع دراسة ومعالجة الاوبئة ورصد تطورها من دون دراسة تاريخها تماما كالإلمام بتاريخ الامراض التي مر بها أي مريض، حتى لو شفي منها، وكذلك رصد التغير الاقتصادي والاوضاع التي مر بها اقتصاد أي دولة مرت بكارثة معيشية أو اقتصادية متعددة الوجوه، وكذا الحال فيما يتعلق بالكوارث السياسية المتداخلة مع الكوارث الاقتصادية والدينية والعرقية والمذهبية.
كما ان دراسة بعض الكوارث التي هي من صنع البشر هي من ادوات قياس درجة التطور الاجتماعي بما في ذلك مدى التبدل القيمي والثقافي عند أي شعب، وكذلك قياس درجة وعيه العلمي المعرفي والحضاري، دع عنك السياسي، وهذا ما ينطبق على الكوارث الطبيعية، كالبراكين والزلازل والسيول والاعاصير والعواصف والامطار، كما ينطبق أيضا على كوارث وسائل النقل الجماعية المشتركة كالسفن والطائرات والقطارات والباصات… الخ.
ومن المفارقات التي فات على مؤلف “طبعة البلاد القديم” 1949 الاشارة إليها ان هذه الكارثة تعود لاسباب بشرية محضة تتشابه مع أسباب طبعة “الدانة” عام 2006 لكن كم هو الفارق الاجتماعي في اختلاف طبيعة التسبب البشري في وقوع كلتا الكارثتين، ففيما غرق سفينة جالبوت “مخيمر” يعود لجهل الاهالي بخطورة هذا العدد الزائد في الحمولة البشرية، رغم كل ما بذله النوخذة أحمد بن علي من جهود مضنية لتقسيمهم على رحلتين فإن طبعة “الدانة” تعود في الغالب، حسب ترجيحات معظم من حللوا الواقعة، لأسباب جشعية، رغم محاولة كابتنها الاجنبي هو الآخر ثني المالك عن الحمولة الزائدة، دع عنك بالطبع الاسباب الفنية الاخرى في كلتا السفينتين، علما بأن عدد الركاب وعدد الناجين متقاربان في كلتيهما.
في مجتمع القرية عام 1949 سنة الطبعة الصغرى نرى كيف ان المجتمع القروي، ليس في البلاد القديم بل في عامة قرى البحرين، متآلف متماسك بل كيف كان متوازنا في ان يعيش في ظل معيشته البسيطة المتواضعة حياة جميلة بخيرها وشرها، بمسراتها واتراحها، كجزء لا يتجزأ من ثقافته الشعبية الدينية التي جبل عليها من دون غلو في ترجيح تقاليد اتراحها على عادات افراحها. وهكذا وجدنا ان أغلب الاهالي من الركاب الذين ضغطوا على النوخذة أحمد بن علي للركوب معه في رحلة واحدة، وان عكس ذلك جهلهم بخطورة هذا الاصرار على حياتهم وحياة جميع الركاب، إلا ان ذلك يعكس في الوقت ذاته توقهم الشديد إلى ألا يخسروا لحظات جميلة من الأنس والمتعة يتمثل في الاستماع أو الاشتراك في اناشيد وغنوات الجلوات الشعبية في وسط زرقة البحر مع نسيمه العذب بقيادة المنشديدن المبدعين الملا عبدالله أبوطاهر والمعلمة خديجة الغنامي وهي، الجلوات، التي اضحت تراثا شعبيا منقرضا.
وإذا كان يمكن ان يلتمس المرء شيئا من العذر لغياب أي شكل من اشكال الانقاذ أو الخدمات الطبية للإدارة الحكومية الفتية البحرينية إبان طبعة بلاد القديم عام 1949 وذلك لكون البحرين خلال تلك الفترة الاستعمارية مازالت في بدايات بنائها الاداري الحكومي، رغم وجود مستشفى النعيم ووجود إدارة أمنية رسمية ومراكز شرطة حينذاك، أي قبل ستة عقود خلت، فكيف يمكن عذر قوات “الحماية” البريطانية على أرض البلاد رغم علمها بالطبعة غداة وقوعها، وحيث كتب “المستشار” بضعة سطور عابرة عنها في مدونته مساء اليوم نفسه وكأنها حدثاً عادياً؟ أولم ترسل تلك القوات ذاتها طائرات من السلاح الجوي البريطاني المرابطة في قواعدها في البحرين وعدن للبحث عن أي ناجين من انفجار السفينة “دارا” التابعة للشركة البريطانية الهندية للملاحة قبالة ساحل دبي التي كان قبطانها بريطاني الجنسية وتقل 19 ضابطا؟ (انظر كتاب المؤلف نفسه، دموع على جزيرة).
تكمن أهمية مرويات وشهادات الاهالي التي سجلها المؤلف انها أدليت بصدق وعلى سجية اصحابها البسطاء من دون رتوش أو تزيين، إذ كشفت عن نموذجين نقيضين من البشر: نموذج الانانية البشرية ونموذج الشهامة الانسانية الجسور، وهما نموذجان لا يخلو منهما أي مجتمع أو أي زمن بغض النظر عن تفاوت نسبتهما من حيث الحجم بين زمن وآخر. ففي ذلك الزمن الجميل الذي تغلب عليه كما يفترض نزعات الخير والشهامة والمروءة الانسانية وخاصة خلال الملمات رأينا بعض نماذج من الركاب الذين فروا سباحة وغوصا بجلودهم أثناء الطبعة لكي لا يقوموا بواجبهم الانساني، مهما تكن الصعاب والمخاطر، لنجدة أضعف الركاب ألا هم النساء والاطفال وهم يصارعون سكرات الموت غرقا. هذا في الوقت الذي وجدت نماذج مشرفة آثرت انقاذ حياة بعض الركاب حتى لو عرضت حياتها للخطر، علما بأن بعضهم تعرض بعدئذ للضرب من الأهالي رغم بلائهم بلاء حسنا. وهذا مما يعكس أيضاً جانبا من الجهل الاجتماعي بعدم السيطرة على العواطف وطغيان شكل من اشكال ردود الفعل الموتورة العنيفة للانتقام البدائي من دون تبصر، ورأينا أيضا هروب بعض اصحاب القوارب الصغيرة وسط البحر من الاقتراب من موقع الطبعة.
على النقيض من ذلك فانه في عصرنا الحالي الذي يغلب عليه التبدل القيمي والانانية وجدنا مجتمع القرية في الدير وسماهيج تهب كثرة من شبابه لانقاذ أي ناجين محتملين في كارثة طيران الخليج عام 2000، من دون أي تفكير بنوع الطائرة أو من يكون ركابها، ووجدنا في العراق سباح الاعظمية الماهر الذي ضحى بحياته لانقاذ الكثير من غرقى كارثة جسر الائمة من دون التفكير بانتمائهم المذهبي وذلك في ذكرى وفاة الكاظم “ع”.
وأخيرا فإن كتاب “طبعة البلاد القديم” هو من الكتب المهمة القيمة التي تؤرخ لصفحات مجهولة من تاريخ كوارثنا الاجتماعية المعاصر، آملين ان يوفق المؤلف في أن يتبعه بالمزيد من الكتب التاريخية حول الاوبئة ومآسي المرضى وتاريخ الخدمات الطبية في البحرين، وآملين أيضا ان يتمكن في مؤلفاته القادمة من تلافي بعض الهنات البسيطة في الكتاب الاخير، كالاخطاء النحوية والمطبعية، وكغياب الهوامش، وكالتوسع في الموضوعات الجانبية الاخرى التي لا صلة مباشرة لها بجوهر الموضوع، وكعرض الكثير من الصور التي لا لزوم لها في سياق متن الكتاب وفصوله.
وإذ نشد على يده بحرارة على هذا الانجاز العلمي والوطني الرائع لنتمنى له المزيد من النجاح في أعماله القادمة.

صحيفة اخبار الخليج
1 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

الدين والنسبي

كما احتاج الإنسان إلى ما يشده للمطلق من صور وعقائد وحبال قوية تربطه بالوجود الأساسي الباقي، أحتاج أيضاً إلى ما يغير عيشه وحياته الصعبة.
ومهما كانت عقائد المصري القديم غامضة وغريبة ومركبة فإنه أحتاج وهو ينتقل للعالم الآخر إلى العيش “القمح” ومواد الغذاء المختلفة لكي يبقى هناك، فلم يتصور الحياة الباقية تخلو من الخبز واللحم وأدواته المختلفة.
ولم يتصورها العربي البدوي بعد ذلك أن تخلو من الجواري الحسان والأنهار والعسل والثمرات والخمرة التي يحبها كثيراً وتفتقرُ إليها جزيرته الصحراوية الخالية من المياه ومن أدوات التسلية.
مهما كانت الأديان مطلقة وسرمدية فإنها لابد أن تنظر إلى الإنسان الباقي المؤثر وهو الإنسان الكادح.
من صنع العقائد على الأرض النسبية هم الكادحون. وفي حين أن الملوك والأغنياء وبعض المثقفين العاملين لهم لا يؤمنون حقيقة بالعقائد إلا كأدوات حكم وسيطرة، فإن الكادحين يؤمنون بها بشدة.
لم يكن يتاح لهؤلاء الفقراء والعبيد أي فرص للتفكير المنطقي والسببي، فكانوا أدوات حقول وحرف وأشياء مرتبطة بالحيوانات والمواد الدنيا، ولم يكن للعقائد والأفكار المنتجة من قبل الملوك والمثقفين أن تبقى من دون أن تدخل عقول هؤلاء الكادحين المغلقة والصماء.
مهما كانت عظمة الفتوحات التي يقومون بها، والمستعمرات والأراضي الزراعية التي يستولون عليها، وغابات الجواري التي يستثمرون فيها فحولاتهم القوية، فإن الغذاء لا يمكن أن يصل إلى معدهم “معداتهم”. ولا يمكن للبيوت أن تـُنشأ والقصور أن تـُبنى وللمثقفين العاملين لديهم أن يفكروا ويقيموا فلسفاتهم المحلقة في الفضاء من دون الغرف والطاولات والمحاصيل التي يصنعُها أولئك “البهائم” التي تعيش في الحقول والمحاجر والمشاغل.
الإنشاءات الفكرية المجردة والأساطير الراقصة في الكون تتوقف في نهاية المطاف على ذلك “الحيوان” الرابض في الكوخ الحقير وعلى العفاريت الصغار الذين يجودُ بهم على الأشغال والجيوش.
إذًا لابد للأديان أن تراعي مستواه العقلي الفج، ومن دون تصويته عليها في صندوق التاريخ فإنها تزول، ومع تصويته عليها تتبدل، وتشتعل وتقود.
فكانت الصورة هي السائدة في الإنشاءات الدينية، وكانت البساطة، والخرافة والأساطير والقصص والحكم، والجملة المعبرة السهلة، والقوانين المنشأة في ظل تلك الظروف، وكان الأنبياء رعاة وكادحين ومثقفين، كانوا من هذا الرعاع البائس الملغى من تاريخ السادة والملوك، وتاريخ الامتيازات.
وحين يتحذلق بعض المثقفين المعاصرين ويكتشفون في الكتب الدينية نظريات علمية ومعادلات رياضية وفلسفات طبيعية يسخرون من التاريخ، فقد كانت الكتبُ الدينية حواراً من الأنبياء مع بسطاء عصورهم، وتوجيهات وأمثولات وحكماً في مستوى أولئك الماشية البشرية التي وضُعت في الحظائر السياسية والتي تترقى معها فكراً وعملاً وتغييراً، فاللغة الدينية مساوقة للفعل الكفاحي.
كانت النضالات تلك تستهدف تحريك الكادحين لكي يصنعوا التاريخ، فإضافة إلى ما كانوا يصنعونه من أسرةٍ ومناجل وبيوت، كان عليهم أن يقوموا بالمعارك ويبنوا الأمصار الجديدة ويقتحموا الأرض المباركة وينشئوا الدواوين والقصور الجديدة.
هناك من يرتقى من أولئك الكادحين، الاحتكاك بالأنبياء والحركة التاريخية يجعله مثقفاً، وينفصل عن زملائه السابقين، وتحدث عملية تاريخية صاعدة، لكن العاملين لابد أن يستمروا، لأن الحروب يمكن أن تتوقف، والنبوات ألا تتكرر، لكن حصاد القمح لابد أن يستمر، ومقاومة الشتاء وصنع المساكن وقطع الخشب لابد منه.
يظهر كادحون جدد، أناسٌ من ضحايا الحروب ومن العبيد، ومن العاملين في الزراعة، ويصير بعضُ الكادحين السابقين سادة وملاكاً، وينسون تاريخهم الكفاحي الماضي.
وتظهر لغة دينية ذاتُ مستويات متعددة متباينة كثيرة، تغدو مركبة، فتـُنزع بساطتها الأولى الكادحة، وصورها الشعبية ولغتها الأسطورية العامية، وتـُوضع في مستوى آخر، تحتشدُ حوله القواميسُ والموسوعاتُ التي تضفي عليه دلالات لا تنتهي، تصبحُ معقدة، ومقيدة، ومندفعة جارفة، وخاضعة لنزواتِ السادة والحكام الجدد في المركز الامبراطوري وفي الأقاليم المحكومة بذلك المركز، التي تقومُ هي الأخرى بتكوين تفاسير مختلفة توافق هواها السياسي في لحظات البقاء في الامبراطورية أو في لحظات التمرد والانفصال عنها، وتقوم الفئاتُ الوسطى من مثقفين خاصة بإيجاد تفاسير مغايرة مختلفة، تعبرُ بها عن هواها الاجتماعي وأحلامها، أو مباركتها للحكومات المطلقة التي تلقي عليها بعضَ الفتات، مثلما تلقي على أقرانها من شعراء ومؤلفي كتب، ويظهر فقراءُ آخرون مدقعون عاملون في الأراضي الزراعية يذكرون ببناة الأهرام الذين لا يجدون سوى الخبز والثوم غذاءً، ويمتلكون الجهل الثقافي نفسه والقوة التاريخية عينها.
ويبقى بدو الجزيرة في نصوصيتهم الحرفية فيما يمضي فلاحو الأراضي الزراعية المدقعون يمتلئون بالتفاسير الأسطورية الجديدة التي تغذيها الكواكب والنجوم، ليمزقوا الخرائط السياسية في حراك تفتيتي طويل وعميق.

صحيفة اخبار الخليج
1 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد

مترو دبي والقطار الخليجي

حسب الصحافة أمس فان الأمين العام المساعد للشؤون الاقتصادية في الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي محمد عبيد المزروعي توقع انطلاق القطار الخليجي في عام 2017 بتكلفة تقدر ب 25 مليار دولار، موضحاً بأن المجلس الأعلى لملوك وقادة دول المجلس التعاون الخليجي قد أقر المشروع. قال المزروعي أيضاً أن الأمانة العامة انتقلت إلى المرحلة الثانية حيث يجري وضع الدراسات التنفيذية التفصيلية للقطار المقترح، خاصة أن بعض الدول الخليجية بدأت في إنشاء قطار داخلي، وهذا يقودنا هذا للحديث عن مترو دبي الذي افتتح في موعده المحدد، وأنجز في فترة قياسية لا تتجاوز السنوات الأربع، هو واحد من أهم المشاريع التي تحسب لدبي ولدولة الإمارات العربية المتحدة، فهو مشروع استراتيجي من مشاريع البنية التحتية، التي تستحق أن يوجه الاستثمار نحوها، وهو بمقدار ما يلبي حاجات الحاضر، يتوجه نحو المستقبل، وهو وإن كان للجيل الحالي، فإنه يزيد مكسباً للأجيال المقبلة. إنه بالفعل من تلك المشاريع التي تمكث في الأرض، وتعود بمنافعها على مجمل الأداء الاقتصادي، فضلاً عن كونها وجهاً من وجوه الخدمات الحضارية التي تقدم للمواطنين والمقيمين والزائرين، التي من شأنها أن تعزز مكانة البلد المعني من وجهتي النظر السياحية والاقتصادية، وهو كذلك يضع دبي على خريطة المدن العالمية المتقدمة، التي من علاماتها شبكة المواصلات المتطورة التي يشكل المترو عصباً رئيسياً فيها، بما يوفره من وقت وجهد، وبما يتيحه من راحة، خاصة بالنظر إلى المواصفات العالية والأكثر حداثة في العالم التي شيد بها مترو دبي ومحطاته. في دبي اليوم شبكة ممتازة من الطرق والجسور والأنفاق، وسلسلة من الحدائق العامة المقامة بمواصفات جمالية وذوقية عالية، وفيها سلسلة من المدن المتخصصة في المجالات العلمية والأكاديمية والإعلامية والإلكترونية والطبية وسواها، ويأتي مترو دبي ليشكل إضافة نوعية لهذه المشاريع، فهو مكمل لها وملبٍ للاحتياجات التي تنشأ عنها، وهي احتياجات آخذة في التزايد. ولأن الحديث يدور عن القطار الخليجي فان مترو دبي يقدم درساً ثميناً لبقية دول الخليج، فمن المنطقي أن منطقة مثل منطقتنا تملك إمكانات مالية كبيرة، وعلى هذه الدرجة من التجاور الجغرافي، لا بل والتداخل أن ترتبط بمواصلات سريعة وحديثة، ويظل حلماً كبيراً في نفوس كل واحد من أبناء هذه المنطقة أن يربط بينها قطار سريع يختزل المسافات، ويدفع قدماً بمكونات التكامل الخليجي الفعلي، بل ويهيئ أرضية موضوعية لشكل من أشكال الاتحاد، كما هو حال الاتحاد الأوروبي. وحدة الاقتصاد هي قاطرة الوحدة الحقيقية، هذا ما برهنت عليه تجارب الوحدة في العالم كله، ولاشك أن مشروعاً حيوياً واستراتيجياً مثل القطار الخليجي سينجز من خطوات التداخل والتكامل الاقتصادي، والتواصل الإنساني بين دول المنطقة خلال فترة وجيزة تفوق في مفاعيلها أضعاف المرات مفعول رزم وركام الخطب والمشاريع المكتوبة على الورق خلال عقود من الزمن دون أن تجد طريقها للتنفيذ. أن خطوة عملية واحدة على هذا الطريق تعادل دزينة من البرامج غير المُفعلة.
 
صحيفة الايام
1 اكتوبر 2009

اقرأ المزيد