يستهل الخطاب العربي عادة بعبارات من نوع: “مما لا شك فيه”، “لا جدال أن”، “من الثابت أن”، “من المؤكد أن”، “لا يختلف اثنان”. نحن لا نقول أو من النادر أن نقول: “ربما”، “من المحتمل”، “من المتوقع”، “من الجائز”. كتاباتنا وخطاباتنا عامة من النوع اليقيني، الوثوقي، المطلق الذي لا يضع هامشاً للخطأ أو احتمالاً لسوء التقدير، لذا فدوائر الفكر عندنا مغلقة لا تحتمل إجابات أو احتمالات مختلفة، فتكلست مع الزمن وأصبحت عقبات في وجه نمو الفكر وتطوره وجدله. لا يتطور الفكر إلا بوضع كل فرضياته موضع المساءلة والشك. أما الركون إلى اليقين، أو البداهة، فانه يقصي كل احتمالات التطور ويصادر الفكرة الجديدة الواعدة المتسائلة الشكاكة التي تفتح أفقاً جديداً أو تسعى إلى فتحه على اقل تقدير، تتجاوز ما بات مألوفا ومكررا ومعتادا بصرف النظر إذا كان صحيحا أم لا. يقول رولان بارت: “أن العنف الحقيقي هو أن تقول: هذا أمر بديهي”، وله كل الحق في أن يحرضنا ضد البداهة، لأننا نستسلم لها دون إمعان للفكر في الكثير من الأمور التي اكتسبت مع الزمن صورة البداهة أو اليقين الذي يجب ألا يخضع من وجهة نظر أصحابه لإعادة النظر، ومن هنا مصدر حساسيتنا المفرطة تجاه أية فكرة مغايرة أو غير مألوفة أو يُسمع بها للمرة الأولى. ويبدو أن القول العربي المأثور: “الإنسان عدو ما يجهل” إنما انبثق من خبرات طويلة في تعامل العقل العربي مع كل جديد، قبل أن يتمعن في طبيعة هذا الجديد أو فحواه ومغزاه. تستقر البداهة في أعماق الوعي الاعتيادي اليومي الذي من طبيعته الكسل والبلادة والاطمئنان إلى مجموعة من الثوابت. وللبداهة قدرة هائلة على إعادة إنتاج نفسها، لأنها مطلوبة دائماً ولأن كلفة إعادة الإنتاج هذه أدنى بكثير من كلفة إعادة النظر التي تستثير ردود فعل مختلفة وتفسد جو الطمأنينة للمزاج النفسي العام السائد المستند على ذاكرة جمعية واعية ولا واعية في آن: واعية لأنها ترى البداهة ضرورة لاستقرار الأمور وثباتها، ولا واعية لأنها تدرك أن البداهة يمكن أن تكون، بل وكثيرا ما تكون غير صحيحة وضارة وجالبة للسوء. نقض البداهة يبدأ عادة بالسؤال لذلك فان طبيعة البداهة أن تكون جواباً عاماً شمولياً إن أردنا، فيها ردود على كل الأسئلة، فلمَ السؤال إذا ما دامت الإجابة معروفة وثابتة ومتوارثة. السؤال يحمل دائماً الطابع المفتوح، الاحتمالي، أما الجواب فسكوني، نهائي، ينتهي بنقطة بعدها لاشيء. لذلك تضيق البداهة دائما بعدد الآراء أو بالرأي الآخر، لأن التعدد يجعل الآراء جميعا على مستوى واحد من احتمال المساءلة، ولأنه لا بداهة في ظل تعدد الآراء والتصورات. إن العقل ذا البعد الواحد والرأي الواحد والاحتمال الواحد، عقل البداهة واليقين، يدفع ويُدفِعنا معه الثمن في كل شيء: في السياسة وفي معركة الحداثة ومعركة الحضارة وفي أدق كل تفصيل من تفاصيل الحياة.
صحيفة الايام
8 اكتوبر 2009
نقض البداهة يبدأ بالسؤال
إذا اعتدل نخيل العراق عن الاعوجاج
تلقيت دعوة مشكورة لزيارة العراق، والاطلاع على مطار النجف الاشرف، بعد ان بدأت الخطوط الجوية العراقية بالصعود والهبوط داخل مطار صغير ولكنه يمثل أحد اهم المطارات العراقية كونه يقع في العاصمة الدينية للعراق. هبطت طائرتنا الصغيرة، والممتلئة بالبحرينيين، في المطار الذي تديره الشركات الامنية الاجنبية وتقوم بحمايته. العين تدور لتنظر كل ما في هذا العراق، فترى النخيل باسقات والبساتين الخضراء ذات اليمين وذات الشمال، كم سيكون العراق أجمل لو كفت عنه يد العابثين. دخلنا النجف الاشرف، بضيافة كريمة من نائب محافظها، تطلعت في شوارعها غير المرصوفة، وترابها ذي اللون الداكن، فعلمت انني في بقعة مهمة، حضرها العديد من الرؤساء والشخصيات، فهي تمثل مركزا مهما للحكم الجديد، ومحط انظار السياسة والساسة، فالقرار المؤثر يصدر من بين هذه البيوت المتهالكة والقديمة. مررنا بذات منطقة، قيل انها تحتوي على منازل المراجع الدينية، وما هذه المنطقة إلا عبارة عن زقاق كبير، تكون البيوت على جانبية وفي وسطه رجال امن يقومون بتفتيشك عند كل مفرق طريق، تتفرع أزقة صغيرة من ذاك الزقاق الكبير، حتى مررنا بإحداها، حيث رجال أمن مسلحين ينتشرون على طول هذا الزقاق، فسألت عن هذا التواجد الامني في هذا المكان بالتحديد، فقيل ان هذا الزقاق ينتهي الى بيت المرجع السيستاني. دققت النظر في هذا الزقاق، فتذكرت ما اشاهده في التلفاز بعد ان يقوم الساسة بزيارة هذا المكان، وإطلاق التصريحات المهمة التي ترسم الملامح الجديدة للعراق الجديد، فالمرشحون والائتلافات الدينية تنتظر دعما من هذا المكان. مررنا حتى توقفنا امام مسجد كبير مناراته عالية وقبابه صفراء، فعلمت انه مقام علي بن أبي طالب (ع)، يتجمع الكثيرون هناك، فالحركة مختلفة عند هذا المكان، كما ان الجنسيات متعددة، ومن كل حدب وصوب، غير آبهين بما قد يؤل أمرهم، اما العراقيون فيأملون ان تنتعش سياحتهم الدينية حتى يستطيعوا ان يعوضوا الحرمان الذي فرضته الدكتاتورية. كم اتمنى حقا ان ارى العراق الجديد في ثوبه الابيض الزاهي، بعيدا عن كل ما ينغص على أهله ومحبيه، نتمنى ان لا نسمع عن من انحرف فكريا فيذبح ويقتل ويستحيي النساء كما كان فرعون وهامان. العراق سيكون بحلة جديدة، إذا ما تركه المبغضون، وتوقف عنه كيد الكائدين، فهو جميل بناسه الطيبين، وسيكون أكثر جمالا إذا اعتدلت نخيله عن الاعوجاج.
صحيفة الايام
8 اكتوبر 2009
حسن مدن… ومهمة ترميم الذاكرة
رب صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد، هكذا كان اللقاء وإن كان عابرا مع حسن مدن، بينما كان ينتظر خلو الأستوديو لتسجيل لقاءٍ بُثّ لاحقا على «الوسط أون لاين».
البرنامج كان للحديث عن كتابه الجديد «ترميم الذاكرة»، وهو ليس «كتاب سيرة»، كما يقول، وإنما تأريخٌ لغربة قسرية طويلة، امتدت لأكثر من ربع قرن.
سجل مدن تاريخا للمدن التي عاش فيها، من القاهرة التي عشقها حين ذهب إليها شابا يافعا للدراسة، وخرج منها مجبرا إلى بغداد التي اشتد فيها عود الدكتاتورية، فلم يطل به المقام أكثر من عام ليغادرها إلى بيروت الساقطة في أحضان الحرب الأهلية منتصف السبعينيات. وبعد اجتياح بيروت 1982، رحل إلى دمشق ومنها إلى موسكو ملتحقا بمعهد الاستشراق ليكمل دراسته العليا.
عاد في التسعينيات إلى البحرين فأجبر على الرجوع من حيث أتى، إلا أنه اختار الرحيل إلى الإمارات، ليحط الرحال في الشارقة، ويبدأ واحدة من أخصب مراحل حياته… حتى لاح عهد الانفراج فرجع مع العائدين.
الحرمان من الوطن والحنين إلى رائحته، هو الخيط الذي يعزف عليه الكاتب، بلغةٍ شفافةٍ فيها الكثير من التفاصيل. كان واعيا بأن لكل شعب أسطورته عن نفسه وأرضه، لكن في هذه الجزر الصغيرة حكايات مجيدة، عن وطنٍ نذوب في حبّه مهما كان قاسيا ووحشيا في معاملتنا.
مدن تعرّض للسجن أول مرةٍ بسبب كتبٍ كان يقرؤها، وطالما حاولت أمه إخفاءها عنه، وطالما حذّره أخوه الأكبر منها، إلا أنها المقادير نسعى إليها بأقدامنا. واعتقل ثانية في القاهرة، ومرة ثالثة ضمن حملة تأديبية لإحدى المجلات التي تجرّأت منتصف السبعينيات على نشر تحقيق صحافي عن «العمالة الأجنبية… والرقّ الجديد»، وكان نصيبه من التهم كتابة مقال عن دولةٍ شقيقةٍ مصدر معلوماته كانت الصحف الصادرة في تلك الجمهورية!
نتابع الكاتب وهو خارجٌ من المطار، ليمرّ بقرى السنابس وجدحفص وجبلة حبشي حتى ينتهي إلى مهوى فؤاده (السهلة الجنوبية). كلّ شيء تغيّر، حتى قريته باتت أصغر مساحة وساحتها أصبحت أقل اتساعا، والطريق إلى منزله القديم أصبح أقصر. الحقيقة أنه هو الذي تغيّر، فالقرية باقية في مكانها كالنخل الخرافي الذي يموت مرفوع الرأس، بينما هو جاب المدن وعاش المنافي طولا وعرضا. خرج شابا لم يتجاوز العشرين، وعاد كهلا يتلمس الطريق إلى قبر والديه اللذين قضيا قبل سنوات؛ وإلى غرفته التي قضى فيها صباه، وقرأ فيها كتبه الممنوعة آنذاك وفق أحكام «أمن الدولة».
عندما تجلس إلى مدن لأول مرةٍ عن قرب، تكتشف أنه إنسان خجول، يتحاشى النظر في عينيك فيما يتدفق في الحديث عن السياسة والكتابة والأدب وآلام المنفى والشامات المطبوعة على وجنات المدن. وتكتشف أنه كان يرغب بدراسة الإعلام فلم يوفّق، فاختار دراسة الحقوق، ولعل ذلك ما أعاده إلى حظيرة الإعلام، كاتبا لعمود يومي في «الخليج»، أقدم وأشهر صحف الإمارات.
السياسة رغم أوضارها، أغنت تجربته في الثقافة والحياة، ووسّعت آفاقه الفكرية، على خلاف ما يرى كثير من معذَّبيها، فلولاه لكان ما يكتبه أقل ثراء وغنى. وقد جاء «ترميم الذاكرة» أقرب إلى التأملات فيميل إلى الاستطراد أحيانا، لكنه كان طريقه للتخفيّف من وطأة ذكريات الغربة وأثقالها الضاغطة على القلب.
الكتاب كان جليسي يوم العيد، بدأته مبكرا صباحا، وأنهيته عند الساعة الرابعة من فجر اليوم التالي، لعل كثيرا من عوامل الجذب شدتني إليه، فهو سبقني للدراسة في مدرستي (الخميس) بخمس سنوات؛ وتعلّم السباحة كما تعلمتها في عين عذاري التي تتوسط قريتينا؛ وخاض برجليه مياه خليج توبلي الضحلة، وشاهد نوارسه تحطّ بين أشجار قرمه في طريق هجرتها إلى الأماكن البعيدة عند ساعات الغروب.
الوسط الأربعاء 30 سبتمبر 2009م
إلى نقابة عمال ” ألبا “
في الاحتفالية التي أقامها قطاع العمال بجمعية المنبر التقدمي تكريما لعمال شركة ألمنيوم البحرين يوم الخميس الموافق 2 ابريل 2009 تألق الشاعر إبن الطبقة العاملة عبدالصمد الليث في أنشودته المهداة إلى نقابة ألبا تقديرا لنضال عمالها وتفانيهم في العمل ودورهم في الدفاع عن حقوق العمال في عموم شركة ألبا و في تطوير نضالات الحركة العمالية في البحرين.
إلى نـقـابـة عمال ألـبـا …!
إعـزف نـشـيــدك واحـمـل قـلـبـك الـوتـرا
واجـعـل قـصـــيــدك لـلـتـكـريـم مـنـتــثـرا
إهـتف بـمـن حـضروا : هـيـا معي وخذوا
مـن تـحـفـة الـحـب إكـلـيـــلاً ومـفـتــخــرا
إهـدوه صـدقـا لـمـن في الـلـيــل شق دجى
وحـقّ أن يـحـتـفـي بـالــرائــديـــن ســرى
في مـصـنع الـمـوت وعي الـكـدح جـمّعـنا
بـوحـدة صـار فـيــهـا الـكــل مـنـصـهـــرا
وضـاق عــيــش بـمـن أبــدى مـسـاءلــــة
وقـــــال : لا.. لـلـذي قــد رام مـــزدجـــرا
كـان الـنــضــال وكـان الــدرب لاحــبـــه
شــوك ووعــر وكـان الـعـسف مـسـتـعــرا
كـان الـنـقــابي مـطـلـوبـا لـمـن ظـلــمــوا
كـان الـنـقــابي إسـمــا يـلـفــت الـنــظـــــرا
فـطــورد الـقـول والـفـعـل الـلـصـيـق بـه
وصـار طـالــب حــقّ عــنــدهم خــطـــــرا
وعـاش مـن عـاش في قـهـر ومـخـمـصة
ومـات مـن مـات هــمـّا كـاظــمــا حــــذرا
نــالـت قـيـود الـبـلايـا مـن مـعـاصـمـهــم
واسـتـنـزلـوا في سـجـون والـعــذاب بــرى
وجــال عـبـر الـمـنــافي شـرق أرصـفــة
وغــربــهــا مــفـــردا مـن مـــائــه وثـــرى
هـذا الـعـزيـز كـنـجـم الـصـبـح مـطـلـعـه
قـد غــاب في غـربــة الأوطان مـصـطـبـرا
ولاح فـي نــفــق الإظــلام ضـوء حـجـى
واسـتـبـشـر الـنـاس أن قـد يـبـصـروا قـمرا
خـــاب الـتـشــاؤل وازدادت كــمــائــنــه
واطـفــئــت فـي خـيــام الأهــل نـــار قــرى
حـتى ورت نـفـخـة الـتـمـيـيـز فاشتـعـلت
للــطــائــفــيـــة نــــار تـقــدح الـشــــــررا
فـي فرحــة قـمعت.. في صـيحة قـرعـت
جـرح الـهـضــيــم فـأمـسى راعـفـا عـطــرا
عــادت حـلـيــمـة لـلـمــاضي وعــادتــها
لـتـنـقـض الـغـزل أنـكــاثــا ونـحـن نـــــرى
صكـّت بـمــطـاطهـا عـيـن الأصـم كـمــا
صــادت بــشـوزنــهـا الأطــيــار مـبــتــدرا
وعـاد لـلـسيـف بـعـد الكـيـف واصطبغت
بـالـحـيــف أقــنــيـــة تـشـكـو لـنـــا الـكــدرا
وعـاد لـلـعـطـش الـطـــامـي وعـتـمـتـــه
نـخـل الـمـشـوق فـيــرمي ضـيــمــها جـزرا
بـالسـلـم نــدعـو لـمـا نـصـبــو ونـعـلــنـه
بــحــيــث يـمسي شـعــارالـنـهـجً مـنـتـشــرا
وكـان مـا كـان حـتـى جــدّ مـن زرعــوا
حـبّ الـبــذار لـتـجـنــوا يــومـكـم ثــمـــــــرا
فــيــــا نـقــابـة ألـبــا .. يـا طـلـيـعـتـنــــا
يــا رافـدا لـلـسـقــاء الــثــر حـيــث جـــــرى
ويــا رفــاق الأمــاني والـعــلى أبـــــــدا
يريــــدكـم شــعـــبـــكـم لـلـمـنـجــزات ذرى
دومـوا عـلـى الـعـهـد والـوعد اللذين أتى
بـرنــــامـج بـهـــمــا واسـتـوثــقــوه عـــــرى
حــذار يـا شـرفـاء الـفـعـل حــيـث لـكــم
رصـد الأعــادي بــمــا أبــدى ومــا جـهـــرا
يـكـيــدكـم فــتــنـــاهوا عــن مـجــامـلــة
أو حـبّ ذات فـمــاضـيــنــا رأى عــبـــــــــرا
لا تـسـكـتــوا إن أتى بـعـض بـمسـألــــة
لـم يـسـبـر الـرأي فـي مــردودهـــا أثــــــــرا
لا تـركـنــوا لـمــزايــا فـهـي بـهــرجــة
واسـتـذكــروا بــائـس الـعــمــال والـفــقـــــرا
لا تــلـبـسـوا ثــوب مـن يـنـسى قـواعده
إن الــعــواري ثــيــــاب لا تــلــي قــــــــــدرا
لا تـأخـذوا من جـفـاكم حيـن عارضـكم
فـربــمــا كــان فـيــه الـخـيـــر مـســتــتــــــرا
لا تـطـلـقـوا الـحـرف مـخـتـالا بزخرفه
فــربّ قــول لــمــن قــد قـــالـــه أســـــــــــرا
لا تـقـطـعـوا صـلـة الخطـّـاء واجـتـهـدوا
أن تـكـســبـوا شخص مـن قــد زلّ واعـتــذرا
ضـعـوا لـكـم مـن مـرايـا الصدق منـقبـة
واسـتـنـطـقــوهـا لـتـجـلــو نـقــدكــم خــبـــرا
أن الـرفـيــق رفـيـق الـنـصح من عرفت
عـلى الـمـحـك سـجــايــا صــدقــه ســيــــــرا
واسـتـخـلـفـوا صـفـحـة الإيـثـار مـاثــرة
مـن سـالـف ورعـــيــل عــايــش الـخــطـــرا
هـــا أنــنــا قــد طـرحــنـاها مــبـــــادرة
تــلـــمــلــم الـشـمــل والآحــــاد والـــزمــــرا
عـشـتـم وعــاشت لـنـا الـبـحرين موطننا
ومــنــــبــر نــال مــن أمـثــالــكــم ظــفــــــرا
عـبـد الـصـمـد الـلـيــث
2 ابريل 2009
خاص للموقع
دروس هزيمة فاروق حسني (1 ــ 2)
ما ان انتهت الجولة الخامسة من انتخابات المجلس التنفيذي لليونسكو بفوز البلغارية ايرينا بوكوفا غير المتوقع بمنصب المدير العام للمنظمة حتى انتابت العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص حالة عارمة من الذهول والسخط المعبر عنهما بالاستنكار والتنديد بخذلان المجتمع الدولي وعلى رأسه الغرب وتآمره بضغوط صهيونية أمريكية غربية على إسقاط مرشحهم فاروق حسني وزير الثقافة المصري الذي كان مرجحاً فوزه بناء على تقدمه على جميع المرشحين في الجولات الأربع السابقة.
وكان أكثر مما هو لافت في ردود الفعل العربية الغاضبة من النتيجة تعليق هذا الأخير نفسه بما مفاده أنه كان ضحية لتسييس “اليونسكو” ولتآمر الولايات المتحدة عبر سفيرها الذي “كان يتصرف بقوة وبكل ما يملكه من امكانات لمنعي من الفوز بالمنصب”. كما أدان حسني المؤامرة الصهيونية لتسقيطه “كل الصحف والضغوط الصهيونية كانت ضدي بشكل رهيب”.
ولم تشذ غالبية ردود فعل وسائل الإعلام والقوى السياسية في مصر عن منحى ومضمون رد فعل وزير الثقافة الذي عبر عنه في رد فعله المتقدم ذكره غداة هزيمته المؤسفة في انتخابات المنظمة.
ومن دون التقليل من الدور الكبير الذي لعبه اللوبيان الصهيونيان داخل المنظمة وخارجها لإسقاط حسني وهو دور لا ينكره القاصي والداني في العالم كله، إلا أنه من المحزن حقا أن يتم تبسيط وتفسير الهزيمة بهذا السبب الخارجي وليس سواه لإعفاء دورنا، مصريا وعربيا، من أي مسئولية عن صنع هذه الهزيمة الدبلوماسية الدولية. فما خسارتنا لهذه المعركة الدبلوماسية الدولية إلا حلقة في سلسلة طويلة مزمنة من الهزائم في المعارك الدبلوماسية الدولية المتعاقبة منذ هزيمتنا في فلسطين عام 1948، إذ برهنت تجاربنا المديدة طوال الستة العقود ونيف الفائتة أننا لم نتعلم من تجارب هزائمنا قط، لا بل نحن أكثر دول العالم في إبداع عدم الاعتبار والاتعاظ من دروس الهزائم دبلوماسياً، كما هو عسكريا، واجترارها مرات ومرات، وما الهزيمة التي مُنينا بها في معركة انتخابات “اليونسكو” إلا حلقة – كما ذكرنا – من سلسلة تاريخية طويلة من الهزائم المتتالية والراجح بقوة أنها لن تكون الأخيرة مادمنا لم نبارح هذه الحالة المأساوية السياسية المزمنة التي نحن عليها.
حينما نفسر الهزيمة بأنها من جراء تسييس المنظمة، ألا يبدو ذلك تفسيراً مثيراً للضحك أمام العالم كأنه اكتشاف جديد؟ فمنذ متى كانت الثقافة العالمية، وبضمنها منظمتها العالمية “اليونسكو” بمنأى عن التسييس حتى لو كان أو بدا أن طابع نشاطها أو تخصصها ثقافي بحت لا يتعاطى أو لا صلة له بالسياسة من قريب أو بعيد؟ أوليست اليونسكو ومنذ إنشائها تقريباً كانت السياسة والمناورات السياسية والصراعات الدولية حاضرة في كل أنشطتها ودهاليزها وعلى الأخص في انتخابات المجلس التنفيذي ولاسيما خلال عصر الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي؟
أولم تنسحب الولايات المتحدة في الثمانينيات من اليونسكو بحجة “التسييس” وخضوعها للشيوعية والعرب والمسلمين؟ وذلك حينما كان نفوذنا الدولي واجتماع كلمتنا أفضل “نسبيا” مما هما عليه الآن وحينما كنا فاعلين إلى حد ما في ثلاث كتل عالمثالثية ألا هي عدم الانحياز، الكتلة الافريقية، المؤتمر الإسلامي.
فلو كانت المؤامرة الصهيونية ــ الأمريكية هي السبب الرئيسي الوحيد لهزيمة حسني ولم تكن ثمة أسباب رئيسية أخرى لحق السؤال بداهة: لماذا لم تستطع هذه المؤامرة تحقيق مآربها في النيل من المرشح المصري من أول جولة أو ثاني أو ثالث جولة على أبعد تقدير وليس في خامس جولة؟
هذا يعني إذًا أن ثمة أكثر من عامل رئيسي وجانبي وراء فشل الوزير حسني في انتخابات اليونسكو بعضها يعود إلى ضعف في أداء الحملة الدبلوماسية الدعائية، إن صح القول، التي قامت بها بلاده، فما بالك بالحملة الدبلوماسية العربية المشتركة الأكثر غياباً والأكثر ضعفاً؟ وبعضها الآخر يعود إلى عدم تمكن المرشح المصري نفسه من المنافسة بمؤهلات وخبرات عالية يبز من خلالها مؤهلات وخبرات المرشحين المنافسين له. وقد تناولت هذه الإشكالية غداة ترشيح مصر قبل نحو عامين، وبامكاننا في هذا الصدد أن نختلف في تقييم إذا ما كان هذا العامل (مؤهلات المرشح) أهو من العوامل الرئيسية لفشله أم من العوامل الفرعية؟ لكن ما لا يجوز الاختلاف فيه انه يشكل سبباً من الأسباب المؤثرة بهذا القدر أو ذاك في الحيلولة دون فوز المرشح العربي. نقول ذلك من دون أن نغفل أو نقلل مما لعبته الحملة الإسرائيلية الصهيونية – الأمريكية من دور كبير، ولاسيما في الجولة الخامسة الأخيرة، لتسقيط حسني.
ومن المفارقات انه على الرغم من توجيه الوزير حسني أصابع الاتهام علنيا إلى أمريكا وإسرائيل بالتآمر على إسقاطه وتشويه سمعته السياسية فإن حكومة بلاده التي تبنت ورعت ترشيحه واستماتت لانجاحه حتى اللحظة الأخيرة لاذت بالصمت المطبق ولم يصدر عنها أي رد فعل تجاه هذه الحملة المغرضة الحاقدة التي شنتها إسرائيل وأمريكا ضد مرشحها.
صحيفة اخبار الخليج
7 اكتوبر 2009
الوعي الديني والرأسمالية الحكومية (1 – 2)
تعجز الرأسمالية الحكومية الشرقية في تحديثها للـبُنى المتخلفة القديمة القادمة من العصور الوسطى عن أن تعيدَ تشكيل الوعي الديني بشكلٍ ديمقراطي.
عبر كل تلوينات أنظمة هذه الرأسمالية من الاشتراكية السوفيتية والماوية الصينية واشتراكية حزب المؤتمر الهندي والرأسماليات الحكومية العربية، تجد نفسها في حالاتِ اضطرابٍ بين عملياتِ التنمية الاقتصادية السريعة والضخمة التي تقومُ بها، وبين جمودِ وثباتِ المستوى الديني.
إن الوعي الديني لا يستجيبُ لمعدلاتِ النهضة، ولا يقبلُ أن يُربط بعمليات التخطيط، وبالبرامج الحكومية والأوامر الصادرة عن العواصم، ولا يقبل التوجيهات وإعادة البناء!
وتجابهنا حالتان متضادتان كبريان هنا: الحالة السوفيتية في الإلغاءِ القسري للأديان، والحالة الهندية في الإبقاءِ الكلي للأديان وترك تطورها للمؤمنين، حتى لو كان ذلك انفصالاً جغرافياً في جسدِ القارةِ الهندية وتمزيقها بين هندٍ وباكستان وبنجلاديش، أو إبقاءً للتكويناتِ الاجتماعية – العبادية في ركودها وانفصالها وتطورها المستقل لحد التفتيت الهائل لجسم المجتمع الهندي.
وفيما تحافظ الهندُ على جسدِها الهائلِ السحري الميثولوجي، يتفككُ الجسدُ السوفيتي (العلمي)! فلماذا؟!
إن تجربة الاتحاد السوفيتي في إلغاء الأديان ارتبطت بتنمية ضخمة فعالة، لكنها من جهةٍ أخرى اعتمدت ثنائية الاشتراكية – والرأسمالية الحكومية.
في الجانب الأول قدمتْ الماركسية بدائلَ فكرية وأخلاقية وتضحوية للمجتمع كي يعوضَ عن غياب الدينِ المسيحي خاصة في الأقسام الأوروبية، والإسلام في الأقسام الآسيوية، وأعطتهُ نماذجَ بطولية ومعارفَ هائلة فسدتْ فراغ غيابِ الدين إلى حين انتهاء فترة البناء البطولية؛(1917 – 1950، وشكلتْ فترةُ التحولِ إلى الرأسمالية الحكومية المتعالية على الجمهور، وصعودُ الهياكلِ البيروقراطية والاستغلال، الغربةِ نفسها التي شعرتْ بها الجماهير خلال قرون تجاه تعالي الأرثوذكسية، فعادتْ للديانةِ الشخصية ذات القوالب المنزلية، ولم تعدْ الكنيسةُ لها ذات المكانة حتى بعد تفكك الرأسمالية الحكومية السوفيتية الكلية، وانقسامها إلى رأسماليتين عامةٍ وخاصة. ويمكن هنا أن تتضافرَ وتتداخلَ وتتقاطعَ الماركسيةُ الروسية البيروقراطية في انتمائها إلى كادحي القطاع العام خاصة، مع المسيحية الشعبية، اللتان غدتا ديانتين، معبرتين عن التداخل والصراع بين الرأسماليتين الحكومية والخاصة ومدى قدرتهما على التنمية وتحسين وضع الشعب!
يمكن أن نعثرَ على التوليفة نفسها في الصين وفيتنام، بتجاور الماركسية مع البوذية. إنه التجاورُ بين القطاعاتِ الاقتصادية الكبرى وأشكالِ الوعي الكبرى كذلك، لقدرةِ هذه الأنظمة على إيجاد الانسجام الاقتصادي النسبي بين الرأسماليتين السابقتي الذكر، كما أن البوذية تمتلكُ خاصيةَ عدم التدخل في الصراعات متجهةً للصوفية المتعالية على الواقع المحدود والدنس.
في العالم الإسلامي يلعبُ الصراعُ بين المذهبياتِ مرآةً لإخفاقِ الرأسماليات الحكومية أو نجاحها، وقدرتها على الجمعِ بين التطوراتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والفكرية أو عجزها عن ذلك. تصاعد هذه الصراعات يشير إلى المدى السلبي الذي بلغته الرأسمالية الحكومية، وغربتها عن الأقاليم والجمهور، وهو غالباً ما يؤدي إلى مرحلة تفكك أكبر أو إعادة تغيير، لكن أجسام المذاهب لا تتغير، بل تـُقحم في شعارات سياسية ساخنة.
إن مدى التحام وتوافق الرأسماليتين الحكومية والخاصة، يتجلى في الصراعات التي تجرى في الأديان. إن مدى مرونة الرأسمالية الحكومية وجذبها لعناصر السكان المختلفة، وقيامها بتغييرات اقتصادية واجتماعية ملائمة للسكان، ومدى سماحها لنمو قوى الرساميل الخاصة وإحداث تنمية شعبية حقيقية، يترتب عليه هدوء الجبهتين الدينية والمذهبية، ويجرى الصراع الخافت بين القومية أو الاشتراكية الوطنية أو الملكية الدستورية وغير الدستورية، وبين الليبرالية.
هنا تتجلى إشكالية عجز إيجاد بُنية رأسمالية موحدة، لغياب الديمقراطية والتخطيط وتوجيه الفوائض الاقتصادية نحو إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية نحو التغيير الشامل.
ويستمر قلق البنية الاقتصادية ومشكلاتها بين التطور المتدرج أو التفكك الصراعي.
ولكن غالباً لا تتسم الرأسمالية الحكومية بمثل هذه (العدالة)، والمخاطر تكبر حين تلتحم بعصبية مناطقية وطبقية وعسكرية، وتغدو المنافع مركزة متضخمة فتنفجر على شكل اضطرابات مناطقية تستخدم الوعي الديني، نظراً لتدهور الوعي الحديث الديمقراطي.
لا توجد عناصر فكرية مختلفة كثيراً بين المذهبيات والأديان في الشرق، لكن الفروق البسيطة تـُضخم ويُنفخ فيها مع تنامي الفروق الاجتماعية بين الطبقات والمناطق.
وغالباً ما تجرى الصراعات المذهبية الدينية في العالم الإسلامي بين الرأسمالية الحكومية المركزية والأشكال الجنينية للرأسمالية الخاصة والمتداخلة مع الاقتصاد ما قبل الرأسمالي كذلك، المتركزة في المناطق البعيدة والمهمشة، ولهذا جابهت روسيا الاتحادية صراعات اقتصادية (متحضرة) مع البلدان التي تطورت رأسمالياً ككازخستان وأوكرانيا عبر تنمية واسعة، لكنها واجهت صراعات دموية مع أقاليم داخلية لم تتطور في هذا السياق مثل الشيشان.
تباينات مستوى تطور الوعي الديني في الشرق ترتبط بضعف القوى الإنتاجية وخاصة قوى الكادحين، التي لم تدخل في التطورات الاقتصادية والمعيشية والثقافية، ولتفاوتات التطور بين المناطق والهجرة الأجنبية ومزاحماتها، وغير ذلك من العوامل التي توجد صراعات ومستويات معيشية شديدة التباين.
الأديان والمذاهب لا تتغير كثيراً خلال قرون ولكن الحراك الاجتماعي دائب التغير، وهذا يشكل عامل تناقض كبير بين مستويين في الحياة الاجتماعية، والحراك السياسي يستغلها لأهداف تكون غالباً متخلفة في التطور عامة.
صحيفة اخبار الخليج
7 اكتوبر 2009
عن قرار العاهل السعودي
علينا أن نتخيل وضع المملكة العربية السعودية اليوم لو أن مؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود استمع، قبل نحو خمسة وسبعين عاماً، إلى نصيحة من مفتي المملكة يومها بعدم إحضار الأجانب »النصارى« للتنقيب عن النفط. كان لدى الملك عبدالعزيز من الحنكة والبصيرة وبُعد النظر ما جعله يتجاهل هذه النصيحة، رغم البلاغة التي كتبت بها، ليضفي عليها كاتبها مهابة التكليف الشرعي الذي يرفض دخول النصارى في أراضي المسلمين. كانت عين الملك على المستقبل الذي لن يُبنى إلا من خلال استثمار ما في البلاد من ثروات وبانفتاحها على العالم، فكان أن بلغت السعودية ما بلغته من تطور اقتصادي وتنموي. منذ نحو شهرين كنت والصديق عبدالقادر عقيل في مدينة أبها السعودية الجميلة، عاصمة إقليم عسير، نشارك في ملتقى أدبي خليجي، مكننا من الالتقاء بمثقفين وأدباء وأساتذة جامعة سعوديين من الجنسين، ومن زيارة الجامعة ومرافق إعلامية وعلمية أخرى، تتعاطى مع آخر الانجازات العلمية من أجهزة ومعارف، للدرجة التي تجعلك تتيقن أن المجتمع السعودي مهيأ لولوج الحداثة بثقة، بفعل التحولات التي تختمر في قاع المجتمع. وافتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا يندرج في إطار دفع البلاد نحو آفاق الحداثة والتقدم والمعرفة بشجاعة، ويبدو لي انه، من الناحية الرمزية على الأقل، فان قرار العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بإعفاء الشيخ سعد بن ناصر الشثري، عضو هيئة كبار العلماء، من مهامه بعد انتقاده لأسلوب عمل الجامعة الجديدة التي افتتحت في مدينة جدة، لا يقل أهمية عن افتتاح الجامعة ذاتها. جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا والتي بلغت كلفتها عدة مليارات من الدولارات تهدف إلى مساعدة البلاد على التنافس عالميا في مجالات العلوم والتكنولوجيا. وتحتضن الجامعة العملاقة أحد اسرع اجهزة الكمبيوتر في العالم. وتسمح الجامعة بالاختلاط بين الرجال والنساء في الحرم الجامعي وفي قاعات الدراسة، وقيادة النساء للسيارات داخل الحرم الجامعى ولن يسمح لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدخول هناك. كما لن تكون الطالبات ملزمات بارتداء الحجاب، وهي أمور مهمة تندرج في إطار السعي المحمود من العاهل السعودي، المعروف بانفتاحه، لخلخلة البنية المتزمتة التي يسعى بعض غلاة المحافظين من رجال الدين تأبيدها. الشيخ المُقال كان قد صرح أن السماح بالاختلاط بين الجنسين في الجامعات ينطوي على مخاطر جسيمة وانه “شر وإثم عظيم”، وطالب بعرض المناهج التي تدرس فيها على علماء الدين لتجنب ما وصفه بالأيديولوجيات الغريبة مثل نظرية النشوء والارتقاء. انتقاد الشيخ المقال للجامعة، والذي يعبر عن فزع المتزمتين من فتح كوى للنور والحرية والعلم في المملكة جاء في إطار حديث بثته قناة »المجد«، مما دفع القوى المناصرة للتحديث إلى الرد عليه، حيث كتب رئيس تحرير جريدة »الوطن« السعودية جمال خاشقجي مقالاً انتقد كلام الشثري، متهماً قناة المجد التي استضافته بـ “فتح باب الفتنة والتشويش على الجامعة”، بعدها توالت المقالات الصحافية الناقدة للشثري في عدد كبير من الصحف السعودية والعربية، معتبرة أن القناة والشيخ الشثري تجاهلا الدور العلمي للجامعة وركزا على أمر آخر ليس ذا أهمية، “وهذا يقود للفتنة ضد الجامعة.” خطوة الملك عبدالله تذكرنا بما فعله والده حين تجاهل نصيحة المفتي بمنع النصارى من التنقيب عن النفط.
صحيفة الايام
7 اكتوبر 2009
تضحيات السوفييت في حرب أكتوبر
تمر اليوم الذكرى السادسة والثلاثون لحرب أكتوبر من عام 1973 المجيدة، وهي الحرب النظامية الوحيدة التي استطاع خلالها جيش عربي أن يباغت جيش العدو الإسرائيلي بالهجوم وان يهزمه ويفرض عليه التراجع والانسحاب ولو من جزء من الاراضي العربية التي كان يحتلها، ألا هو الجيش المصري في هجومه الملحمي خلال عز ووضح النهار عند ظهيرة ذلك اليوم الخالد على قوات الاحتلال الاسرائيلية في سيناء، هذا بالرغم من الادارة العسكرية السياسية العليا السيئة للمعركة ممثلة في الرئيس الراحل أنور السادات التي أحبطت عمليا تطوير ذلك الهجوم البطولي.
وعلى الرغم من مضي 36 عاما على انتهاء تلك الحرب المجيدة لم تنقطع خلالها الدراسات والمؤلفات والتقارير الصحفية التحليلية التي تتناول ابعاد ودروس النصر وعوامل صنعه مصريا وعربيا فان الدراسات والكتب والموضوعات الصحفية التي تناولت أحد العوامل الرئيسية لذلك النصر والمتمثل في الاسلحة السوفييتية والمدربين السوفييت والأهم من ذلك تضحيات عدد كبير منهم في تلك الحرب مازالت في تقديرنا محدودة وشحيحة.
ان اختلافنا اليوم في الكثير من سياسات الاتحاد السوفييتي السابق الخارجية والانتقادات الموضوعية القاسية لنظامه الشمولي السابق، لا ينبغي بأي حال من الاحوال ان يحملنا على تجريده من الشهادة التاريخية الموضوعية في حقه لموقفه المبدئي وما لعبه من دور تاريخي مهم في مساندة ودعم العرب بمختلف اشكال المساندة والدعم القويين سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا طوال ما يقرب من أربعة عقود متواصلة من الصراع العربي – الاسرائيلي، بدءا من دعم الثورة المصرية 1952 إلى 1991 عام انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذا كانت أكثر تلك الدراسات القليلة النادرة التي تناولت دور الدعم العسكري السوفييتي، كأحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في خلق نصر أكتوبر فانها خلت جميعها تقريبا من تبيان ما هو أغلى واخطر من هذا الدعم العسكري الذي قدمه الاتحاد السوفييتي الا هو تضحيات عدد كبير من ضباطه وجنوده بأرواحهم في تلك الحرب التي خاضوها إلى جانب رفاقهم الضباط والجنود المصريين والسوريين في مصر وسوريا.
ولعل اشارة تلك الدراسات والكتب إلى ما قدمه السوفييت من تضحيات في الارواح يعود في جزء رئيسي إلى ان الاتحاد السوفييتي حتى انهياره كان في الغالب متكتما على الافصاح عن هذه الحقائق، سواء أمام شعبه، أم امام العالم، وهذا ما كانت مصر وسوريا على الارجح تسايرانه فيه. ولكن في السنوات القليلة الماضية وفي سياق المراجعة الروسية واماطة اللثام عن خفايا الارشيف السوفييتي السابق، بما في ذلك تنظيم حوارات اعلامية مع شخصيات وقيادات عسكرية وسياسية سوفييتية سابقة، جرى كشف النقاب عن بطولات وتضحيات عدد من الضباط والجنود السوفييت الذين استشهدوا في معارك حرب الاستنزاف بمصر وهي الحرب التي مهدت لحرب أكتوبر المجيدة، ثم تضحياتهم في هذه الحرب الأخيرة نفسها. كما قام معهد التاريخ العسكري التابع لهيئة الاركان العامة الروسية باصدار كتاب يتضمن لوحة اسماء الشرف الاممية للجنود والضباط السوفييت الذين استشهدوا في حرب الاستنزاف بمصر (1967-1970) وكذلك في حرب 6 أكتوبر بمصر وسوريا عام .1973 وثمة جمعية تضم قدامى المحاربين من الضباط السوفييت الذين تم ايفادهم إلى مصر وسوريا وبعض البلدان العربية الأخرى.
أما من ابرز الشهادات السوفييتية التي كشف النقاب عن تلك التضحيات السوفييتية المجيدة من أجل المساعدة على تحرير أراضي الاصدقاء العرب الذين نظر إليهم الاتحاد السوفييتي السابق بأنهم اصحاب قضية عادلة، فقد وردت في حوارات اجرتها وسائل الاعلام الروسية ومنها “قناة روسيا اليوم” مع جنرالات وقادة عسكريين سوفييت كبار، لعل من ابرزهم الجنرال نيكولاي ايفليف، المستشار العسكري والقائم بأعمال الهيئة العسكرية الدبلوماسية في السفارة السوفييتية بالقاهرة وشارك في حربي الاستنزاف عام 1970 واكتوبر عام 1973، والجنرال محمود جارييف المستشار العسكري السوفييتي لرئيس هيئة اركان القوات الحربية المصرية الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض، وكان مسئولا ايضا عن ادارة الصواريخ والمدفعية المضادة لمقاتلات العدو الاسرائيلي من طراز فانتوم، وقسطنطين بوبوف، آمر إحدى الكتائب الصاروخية في قوات الدفاع السوفييتية، الذي أرسل ضمن مجموعة كبيرة من الخبراء العسكريين إلى مصر للمشاركة الفعلية في حرب الاستنزاف ضد العدو الاسرائيلي بعد هزيمة 1967، وبافل اكوبوف، المستشار الاقتصادي السابق في السفارة السوفييتية بالقاهرة، وفلاديمير بولياكانوف الرائد العسكري والمترجم الذي قاتل إلى جانب اللواء السوري المقاتل بالصواريخ السوفييتية المضادة لمقاتلات العدو الاسرائيلي، وليونيد جورشكوف الجنرال العبقري وهو من الرواد السوفييت في تصميم وتحديث منظومة الصواريخ المضادة للطائرات وممن قاتلوا في معارك حرب الاستنزاف بمصر وابلوا فيها بلاء حسنا.
وطبقا لشهادة الجنرال بولياكانوف فإن ما قدمته بلاده من شهداء يصل عددهم إلى أكثر من 13 شهيدا في حرب أكتوبر وأكثر من مائتي جريح في سوريا أما ما قدمه الاتحاد السوفييتي في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر لتحرير سيناء حسب شهادة الجنرال بوبوف فيصل عددهم إلى أكثر من 60 شهيدا. لكن من نكد زماننا عربيا وروسيا ان تأتي هذه الشهادات التاريخية المتأخرة فيما لايزال أولئك الشهداء من الضباط والجنود السوفييت والابطال السوفييت الاحياء ورغم كشف النقاب عن اسمائهم باتوا اشبه بالجنود المجهولين الغرباء داخل وطنهم وفي البلدين العربيين اللذين ارتوى ترابهما بدمائهم الزكية دفاعا عن الكرامة العربية من أجل تحرير سيناء والجولان، فلم يتم تكريم أي منهم ولو باطلاق اسمه على شارع صغير في العاصمتين، فيا لبؤس هذا الزمان العربي الرديء الذي نحياه!
صحيفة اخبار الخليج
6 اكتوبر 2009
أسرةُ الأدباءِ والكتابِ هذان الألقُ والقلقُ المستمران
لم يكونوا يملكون سوى أقلام، وورق بسيط متواضع، يلتقون على البحر، وفي أحشاء الحواري، وفي أبنيةٍ متعبةٍ من كثرةِ النزيف، خارجين من وطنٍ صغيرٍ مُلغى من خريطة الكبار، كانوا كتاباً واعدين في الأغلب، يستعيرون غرفَ وصالات الأندية: نادي النسور، والنادي الأهلي ونادي العروبة، كانوا مجهولين ويتحدون في الوقت نفسه رموزاً أدبية نادرة تقليدية، وهناك في تلك الحجر يشكلون معاركهم: يستعرضون قصصاً ويقصفون أشعاراً ضد القلاع والنوم الاجتماعي. في صالة نادي النسور لاأزالُ أتذكرُ الشاعرَ قاسم حداد وهو يغذي قصصَ (سيرة الجوع والصمت) بالنقد الجارف الساخر وبالشبع الفني ومن هناك خرجَ نسورُ القصة البحرينية، وراح قاسم يتحدى بعضَ الكبار بالأسئلة في نادي البحرين، ليستمر ربما في أسئلتهِ للبحرين طوال التاريخ التالي المنفي عصراً الناهض لديه شعراً، ويحاورُ الشاعرَ والناقدَ علوي الهاشمي في نادي الترسانة عن مقولة ان كلَ الشعراء طيبون، ومناضلون، فيكتشف علوي خلال عقود تالية مسائلَ عميقة تتجاوز كثيراً تلك الرؤية، ويغدو الناقد الكبير في ثقافة الشعر، الذي لا نظير له في نقد القصة، ويأتي بدر عبدالملك لينتقد ويسخر من أم كلثوم في عقر دارها في نادي العروبة، ويمدح ضرتها فيروز ولكن تبقى المبدعتان الكبيرتان في سماء الأغنية، ويكتب محمد عبدالملك قصصَهُ عن الكادحين البحرينيين في خريطةٍ واسعة سلطتْ المصابيحَ على تكون الأحياء الشعبية والقرى وعجز علمُ الاجتماع المحلي الضرير عن شيءٍ من ذلك، والأستاذ محمد جابر الأنصاري يضعُ قواعدَ الثقافة الوطنية الأدبية متغلغلاً في الماضي، كاشفاً جذور التاريخ الثقافي البحريني العريق ورموزه بحدب، منتقداً الشكلانية وخطورتها على تطور الأدب، ويمضي في خلال رحلاته في البلدان العربية بحرينياً وهواجسه البحرينية والعربية والإنسانية تتداخل على نحو إنتاجي غزير من أجل الحداثة والديمقراطية، وقد كان (مسيحُ) الأسرةِ ومؤسسُها تاركاً تيارات الحدة اليسارية في ذلك الوقت تمضي في غلوائِها وإنتاجاتِها التي أكدت عمق انتمائها وضخامة إنتاجها وتنامي عقلانيتها ووطنيتها، وكانت الأصواتُ الحميمةُ تتدفقُ بين مراهقةٍ وحبٍ جارف للوطن وللناس ويأس هائل من الصعوبات والفقر وتنتجُ كثيراً ثم تتوقف بشكل حاد وانتحاري، يأساً من الكتابة ومن وضع يعاديها ومن لامبالاة جارفة من المهتمين ولغياب المعنيين بالنقد والحضور بها.
الأسرة .. كانتْ تاريخاً جارفاً من الحنين، والحب للأرض، اسماء تتغذى بالحرمان نساء مثل حمدة خميس شابة تتفجر في أسى وفي شعر يشع وتتمزق طوال عقود ولاتزال تقبض على الحروف، ومحمد الماجد تاريخٌ من اليأس والتمزق والإضاءات القليلة الباهرة المنطفئة بسرعةِ شهابٍ وحيد. وإبراهيم غلوم نقدٌ يكاد يضارعُ نقدَ الهاشمي في الشعر لكنه ينداح لنقد المسرح وللتأليف فيكون مشروعاً مختلفاً مازال قلقاً. وحسن مدن الطالب الشاب يشكل نقداً من أعماق القرى ويفجر معارك النقد والأدب والسياسة ويملأ مجلةً بمقالاته.
وكنا نحن من الأدباء السريين الذين يراقبون المشهد، أجسامنا بين الصراعات الملتهبة ضد الاستعمار، وتكوين الخلايا البعيدة، وإنشاء النتاجات، وكانت الأسرةُ تنزلقُ نحو أن تكون جسماً مباشراً لمنظماتنا الوطنية السرية وتجرفها صراعاتها، كان بعضُ المحققين يقولون لنا: (الأسرةُ هي الذراعُ الثقافيةُ للمنظمات السرية!)، لكن الأسرةَ هي المنتجة لثقافة شعب البحرين الأدبية، والمرتفعة عما هو مباشر وآلي، في تاريخِها الطويل المطلق، لا في النسبية الجزئية المتقطعة، في الانتماء للجميل والباقي وليس في مقاربة المنشورات اليومية فقط التي هي تعبيرٌ عن المعارك اليومية المهمة وهي خميرةُ الأدب لا كلماته.
كان الشاعر علي عبدالله خليفة يجمعنا في (الهورة) حيث الأعشاب الضارية التي تكادُ أن تأكلنا ويقدم لنا الطعامَ اللذيذ والشعرَ ويجرفنا مع البحر والغواصين ويشكل الأغنية الكبيرة التي بقيتْ لنا: (أنين الصواري) ويدفعنا لحبِ البحر، ويكوّن صداقات جميلة. فتتفجر قصصُ وروايات البحر على نحو عاصف في سكون الخليج بعد افتتاحه لعذابات البحارة وحكاياتهم!
الشاعر يوسف حسن كلما عذبوا النخيل واصل الشعر الأسطوري عنه، وتبعه في ذلك الشاعر الراحل سعيد العويناتي، بمنظور آخر. الشعراء إبراهيم بوهندي، وعبدالحميد القائد، ويعقوب المحرقي، وعلي الشرقاوي، سيطروا على مناخ الشعر وكلٌ منهم له مدار يتفجر فيه.
وكلُ هؤلاء وغيرهُم أوجدوا نسلاً متمرداً كثيفاً لا يتوقف عن الانتماء للتراب البحريني: فوزية رشيد تنتقلُ من الأعمدة الرومانسية في مجلات زالت من الذاكرة إلى قلبِ الأسئلة الوطنية والأدبية وتتسعُ قصةً قصيرة وروايةً في مساحات شاسعة، عبدالقادر عقيل الطفولة في الأدب والبراءة في الحياة، أمين صالح جسمٌ كبيرٌ مميزٌ اخاذ في القصة القصيرة يحلقُ في الكون والتاريخ العالمي، أحمد جمعة الرواية الكامنة الخطيرة التي تنمو بسرية مباغتة صادمة، ويوسف يتيم يكتبُ نقداً بنيوياً عن رواية (الجذوة) في العدد المخصص للأدب البحريني في مجلة اتحاد الكتاب العرب فـُيذهل نقادُ سوريا، واسماء كثيرة يطول حشدها ويقصرُ المدادُ والمساحةُ عن استيعابها. أحمد المناعي الباقي دائماً في ذاكرة الأسئلة المؤسسة في النقد والمتابعة الدقيقة للثقافة الوطنية، نعيم عاشور، ومنيرة الفاضل، وغيرهما شكلا سماءً قصصية مضيئة. إنني أقاربُ فقط لمحات صغيرة من جيلين ولعلي أختصر كثيراً، ولتعذرني الأجيالُ التالية.
نسلٌ كثيفٌ أجدادهُ من طرفة بن العبد ولا يتوقف عن الولادات الخطرة المرصودة، كان العربُ الذين يرون كلَ هذه النتاجات الحاشدة يعتقدون ان البحرين القديمة مازالتْ موجودةً، وأننا نحتلُ الأحساءَ بعد، ونمتدُ لعمان بعقليتنا المخيفة، وأن زعماءَ القرامطة أحياءٌ بيننا، ثم تتكشفُ لهم اننا في محارة صغيرة في الخليج تكاد موجاتُ الزيتِ أن تبتلعنا، وتلوثهُ أن يخنقنا، ولكننا مع هذا نكتبُ بشراهة ونقاومُ بروحِ شعوبٍ سحرية، ومنقطعة النظير ربما لنبقى ونتنفس هواءً نقياً حراً!
ربما لا يُقام وزنٌ كبيرٌ لكم الآن، ولكن الأجيالَ القادمة سوف تنصفكم، يا من ضحيتم بأنفسكم وزمنكم لكي تضيئوا هذا الوطن والعالم!
صحيفة اخبار الخليج
6 اكتوبر 2009
رفات المهدي بن بركة
أذكر، ذات عام سبعيني من القرن الذي خلى، في صالة من صالات السينما البيروتية التي كان يعج بها شارع الحمرا، أني شاهدت فيلم «الاغتيال» الذي أخرجه الفرنسي ايف يواسيه. وفي الذهن باقٍ مشهد للمهدي بن بركة على مقعد في حديقة عامة رائعة الجمال والتنسيق في جنيف، يوم كان في منفاه بأوروبا، يسر لصديق له عن حرقة شوقه للمغرب. كانت تلك لحظة من اللحظات التي سبقت اختطافه المريع في العاصمة الفرنسية. وليس هذا هو الفيلم الوحيد عن ابن بركة، ففي عام 2004 افتتح مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي بفيلم «اغتيال ابن بركة»، للمنتج والمخرج الفرنسي سيرج لوبيرون، الذي عاد في عام 2005 فأخرج فيلماً روائياً ثانياً عن القضية تحت عنوان «رأيت ابن بركة يُقتل». الآن يعود المهدي بن بركة إلى الواجهة لا عبر فيلم من الأفلام عن حياته الحافلة واختفائه المحاط بالرهبة والغموض، وإنما عبر مذكرة توقيف أصدرتها منظمة الانتربول بحق أربعة أشخاص يشتبه بتورطهم في اختفائه. والمعنيون بمذكرة التوقيف هما مسؤولان أمنيان سابقان وشخصان يعتقد أنهما كانا في عداد فرقة الكوماندوس التي خطفت ابن بركة، الذي اخيتر وهو في منفاه منسقاً للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث، ومقرها هافانا عاصمة كوبا، مما لفت الأنظار إلى دوره على الصعيدين العربي والإفريقي، فأصبحت أكثر من جهة تتمنى اختفاءه من المسرح السياسي العالمي. في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 1965 استدرج إلى موعد في مطعم ليب في قلب باريس، رتبه أحد المتعاونين مع خاطفيه بزعم تصوير فيلم تسجيلي عن حياته وبتواطؤ مع الشرطة الفرنسية، بعدها اختفى الرجل من الوجود، نتيجة اغتياله فيما يرجح، دون أن يعرف حتى اللحظة المكان الذي أخفيت فيه الجثة. في إحدى قصائده تنبأ لوركا بأن جثته لن يُعثر عليها بعد موته. وللدهشة فإن هذا ما حدث بالضبط، ففي مكان ما في التلال المحيطة بغرناطة في عام 1936 قتلت فرق الموت الفاشية المؤتمرة بأوامر فرانكو الشاعر، الذي كان في الثلاثينات من عمره فحسب. كان يهجس بالموت، لذا طلب أن تبقى نافذته مفتوحةً عندما يموت. لكنه لم يَمتْ، إنما قُتل غيلةً. لم تكن ثمة نافذة لتفتح لحظةَ قتله في الفضاء الشاسع تحت السماء الأندلسية، ولكن الشاعر الذي أراد لنفسه موتاً شاعرياً كان يقول نبوءته في أن شعره سيُحلق من خلف نوافذ غرناطة، التي عاش وتعلم وناضل وقُتل فيها، ليطوف الدنيا. في العام 2008 أمر أحد القضاة الأسبان بفتح عددٍ من المقابر الجماعية لضحايا الفاشية في الحرب الأهلية في بلاده، لأن هذا القاضي الشجاع وضع على عاتقه مهمة إنصاف ذكرى هؤلاء الضحايا، فاستجاب القاضي لنداء ذوي من فُقدوا فترة حكم فرانكو، والذين يُقدر عددهم بـ 500000 شخص، ويرجح أن يعثر على رفات الشاعر لوركا في واحدةٍ من هذه المقابر. والمهدي بن بركة ليس شاعراً ولكنه مناضل من أجل الحرية مثل لوركا، ومنذ يومين سمعت ابن المهدي بن بركة يتحدث لـ «بي. بي. سي» عن أن عائلته لن تتنازل عن المطالبة بجلو الحقيقة حول مصير جثمان والده. «ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً، ويأتيك بالأخبار من لم تُزودِ»، يقول شاعرنا طرفة بن العبد، والله يُمهل ولا يُهمل.
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2009