ذكرنا قبل ذلك في مقالات سابقة أن الاقتصاد العالمي بعد سبعة شهور من المعاناة يرتد نحو التعافي متجسداً في عدد من الإشارات الأولية بل ومؤشرات الأداء الجيدة لبعض وحداته، في آسيا خصوصاً، وذلك بعد أعتا ‘تسونامي’ يتعرض له هذا الاقتصاد منذ أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. فالاقتصادات الآسيوية تؤدي أداء حسناً بل ومدهشاً في بعض الحالات كما في الصين التي سجل إجمالي ناتجها نمواً بلغ حوالي 16٪ خلال الفترة من أبريل إلى شهر يونيه المنصرم. حتى في أمريكا وأوروبا توقف مسلسل تراجع نمو إجمالي الناتج المحلي خلال الصيف، لذا لن يكون مستغرباً إذا ما عاد الاقتصاد العالمي خلال الشهور المقبلة إلى النمو. طبعاً هذه أنباء جيدة للجميع تجعلهم يتنفسون الصعداء بعد أن عاشوا أوقاتاً عصيبة طوال الشهور السبعة الماضية. ولكن هل هذا التحسن مؤسس بما يكفي لضمان استقامة السير الصعودي للدورة؟ الثابت أن الجزء الأكبر من مصدر هذا النمو ‘الاصطناعي’ - إن جاز التعبير - هو برامج التحفيز الاقتصادي الحكومية المتمثلة في قيام الحكومات بضخ أموال هائلة في أقنية الاقتصاد المختلفة لإنعاش الطلب، وهو مصدر لا يتسم بالديمومة أو الاستدامة، فهي لا تعدو أن تكون مخصصات مالية حكومية مقطوعة لبرامج إنهاض محددة لابد وأن يتم سدادها أو إعادتها إلى حالتها ووظيفتها السابقة المنشئة للتوازن المالي والنقدي الذي كانت تشكله. ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تم ‘الغرف’ من الميزانية لدرجة زيادة العجز في الموازنة بنسبة 12٪ لتوفير الدعم اللازم للطلب الكلي المنحدر. وفي الصين فإن 75٪ من نمو إجماليها هذا العام تحقق بفضل الدعم المالي الحكومي سواء من خلال الإنفاق العام أو الإقراض الرسمي (الحكومي) للمتعثرين. فالحكومات تستطيع إنعاش اقتصاداتها بصورة مؤقتة، ذلك لأن التمويل العجزي لهذا الانتعاش ليس هو السبيل نحو النمو المستدام، حيث إن تراكم الدين التدريجي سوف يضيق فسحة المناورة أمام أدوات السياسة المالية (المستخدمة هنا للتصحيح الاقتصادي - الإنعاشي). ناهيك عن وجود إمكانية لقيام المستوى السياسي أو التشريعي بإعاقة استمرار برامج الإنهاض الاقتصادي تحت ضغط تزايد عجز الموازنة. وبما أن الانتعاش الجيد هو ذلك الذي يُؤمنه الطلب الخاص، وبما أن هذا الطلب يعاني حالياً من آثار الأزمة، فإن الراجح أن يؤدي الاضطراب الفادح الذي أصاب آلية موازين الحسابات الجارية للدول القائدة للمبادلات التجارية العالمية، إلى تبدل ملامح موازين القوى التي شكلتها تلك الآلية، اعتباراً بتراجع الإنفاق الخاص في أمريكا في ضوء تراكم المديونيات العامة والخاصة، حيث ظل الطلب الأمريكي معتمداً على إنفاق الفرد الأمريكي ومديونيته التي فاقمت عجز الحساب الجاري وأوصلته إلى 6٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ,2006 فضلاً عن الخسائر التي تعرض لها المواطنون الأمريكيون جراء الأزمة والتي قُدرت بحوالي 13 تريليون دولار. ومع تراجع الاستهلاك الأمريكي فإن حدة اللاتوازن الاقتصادي العالمي التي طبعت الاقتصاد العالمي في السنوات الأربع التي سبقت اندلاع الأزمة، سوف تتراجع مدعومة أيضاً بتراجع فوائض الحسابات الجارية لكل من الصين واليابان وألمانيا. ولذلك تذهب وجهة النظر الأمريكية إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة قد تسببت في التخفيف من حالة اللاتوازن الاقتصادي العالمي (القصد أن الولايات المتحدة بفضل استهلاكها الخاص راكمت عجوزات في ميزان حسابها الجاري فيما راكمت دول أخرى مثل الصين وألمانيا وغيرهما فوائض ضخمة بفضل استهلاكها الخاص غير المندفع). وهذا حل غير فعال إذ من غير الصائب معالجة اللاتوازن الاقتصادي بين الدول بواسطة الركود، وإنما معالجته داخلياً عن طريق تحفيز الطلب الخاص المحلي بينما يتعين على الولايات المتحدة مواصلة التحول نحو التوفير والتصدير. قد تكون الصين بعد الأزمة قررت عدم الانغماس المتحمس والتام في اتجاه التصدير وإعارة اهتمام أكبر للاستهلاك المحلي، إلا أن الأسواق الدولية وحيازة حصص فيها هو بمثابة ‘مجالات حيوية’ لعجلة الإنتاج في الاقتصادات الوطنية يصعب إخلاء جزء منها. فالسياسة التصديرية هي بمثابة شيء غير قابل للنقاش بالنسبة للألمان وكذا الحال بالنسبة لعديد الدول في آسيا كما في أوروبا.
صحيفة الوطن
10 اغسطس 2009
الأزمة انقشعت ولكن ..!
الفلسطينيون والمقاربة مع الصهيونية
كل مشروعاتِ التحررِ والنهضة العربية لم تـُنجز بسببٍ بسيطِ التعبير عسير التنفيذ، وهو إقامة صناعات ثقيلة وخفيفة عربية ويرفدها تعليمٌ متقدمٌ وعلاقاتٌ اجتماعية متطورة، وإذا بُنيتْ هذه تكسرتْ المؤامراتُ الأجنبية على صخرتِها كما كانوا يقولون في الأدب العربي السياسي السابق، يذكرهُ الله بالخير.
ونظراً لعجزِ الأنظمةِ العربيةِ الحالية عن إيجاد هذه الوحدة الصناعية المركبة، لأسبابٍ وطنيةٍ ولأسبابٍ قومية متداخلة، فإن عجزَ سياسة المقاومة هو إجباري، أو هو نتيجة لمقدمةٍ ضرورية.
إن عدم إنجاز الثورة الصناعية الديمقراطية الوطنية القومية التي تتشكل من خلال مركب معقد بين تطوير القوى الإنتاجية المحلية في كل بلد، وبين استخدام الثروات النفطية وغيرها في هذا التطوير القومي المشترك، وبين جعل مثل هذه الثروات قومية، وبجلب كل قوى العمل المعطلة في الأرياف وبين النساء وفي أجهزة الدول وتثويرها بالحداثة والتقنية وبالثورة المعلوماتية، بين كل هذا الخيال العلمي وتحرير فلسطين وتحقيق الوحدة والحرية والديقراطية سدودٌ كبيرة عصية!
وفي الجرح دائماً .. تحرير فلسطين!
عدم إنشاء هذه الشروط المعتدلة على الأرض الوطنية – القومية ولعدم إنباتها إنباتاً حسناً تنفتحُ الأبوابُ للمغامرات!
ليس ابن لادن سوى الأمريكي الكاوبوي والسوبرمان و.. و… بأجنحته المطاطية التراثية، الذي عبدهُ ابنُ الجزيرة العربية ونسخهُ في أفلام طرزان وغيره وحاول أن يقلدهُ، لكن كانت قدماه من طين ومن ورشٍ خشبية ومن لهو كثير، فهو لا يملكُ صناعةَ الأمريكي الثقيلة فاستعارها ليحاربه مدة وجيزة فقط!
وقد وجد الفلسطيني نفسه يحاولُ أن يحلقَ بالجمل الثورية الرنانة زمناً طويلاً فخطفَ بعضُ أفرادِهِ الطائراتِ وقاموا بالتحليق الفضائي من دون أن يستطيعوا الاقترابَ من نيويورك وهذه بلغتها المغامراتُ الجزيرية النفطية بسببِ مستوى الدخل لا بسببِ تطور العقلية!
وقد حلّقَ الفسطيني المجردُ هذا طويلاً ثم حط على الأرض الواقعية أخيراً. وقد انقلب بين نموذجين كلاهما يحاولُ تقليدَ الصهيوني.
النموذج الأول هو نموذج الارهابي في الصهيوني، أن يماثله في إرهابه وغدره وقتله المدنيين وعدم وجود أخلاق لديه.
لقد كره اليهودي المتعصب السياسي الفاشي إلى أن أحبه داخله، وليس ثمة من مفر مع الاعجاب المضمر لسياسة هذا الصهيوني ونجاحاته السياسية والعسكرية المستمرة سوى أن يتبناه داخلياً، أي أن يعبدهُ وهو يكرهه، ولعدم تطور الوعي لدى هذا الفلسطيني بسبب مجيئه من ايديولوجيات تعصبية قومية ودينية، سوى أن يكون صهيونياً عربياً.
فاختارَ أساليبَهُ وارهابيته وأعطاها مظهراً دينياً لكي يبررها لنفسه، بعد أن انتزع الإسلام من تاريخه، وعلقه في فضاء سياسته الذاتية.
لقد هدمَ الإسلامَ من ناحيةٍ وهدمَ اليهودية من ناحية أخرى.
أي أن الصهيوني والفلسطيني الارهابي شكلا وحدةً مشتركة، نقضا بها إنسانية الأديان السماوية.
لم يظهر اليهودي المسالم والديمقراطي لأسبابٍ تخص الجيتو الحديث الذي أحكمتْ أبوابَهُ وزنزاناتهُ الصهيونيةُ، ولم يعملْ الفلسطيني الارهابي على مد اليد لهُ، وتركهُ للصهيوني، لأنه لم يؤمنْ بالأديان الإنسانية، ففي عمقِ نفسهِ ليستْ الأديانُ سوى أدواتٍ ضحلة، أدواتِ خداع وسياسة، ليس فيها عمق أخلاقي ولا ضمير، فاليهودي زائفٌ والأصيل هو الصهيوني، ولهذا لابد من مماثلةِ الصهيوني في سياستهِ، واليهودي في شكله الخارجي، في مزاعمه فقط!
لابد من مماثلته في جرائمه وأساليبه وسحقه بهذه الطريقة التي سوف تنتصر لا محالة، وكأن الصهيوني يعيشُ في فضاءٍ مجرد، ليس حوله مصانع وأجهزة متطورة وقوى بشرية كثيفة قادرة على دعمه، فيتم تحليق المعركة على طريقة طرزان مرة أخرى الذي كان ينتصر في الغابات!
والصنف الثاني من الفلسطيني هو الفلسطيني الذي صار تابعاً للصهيوني كعسكري ثانوي، وناطور وما شابه ذلك. وهذا نموذج الفئات العربية التابعة دائماً، فلا تستطيع أن توجد طريقاً آخر للمقاومة بين سياسة الانتحار وسياسة الاستسلام.
إنه يؤسسُ لدويلةٍ تابعة صغيرة ممزقة، فلا يربط نفسه بنضال الشعب، ولا بنضال الأمة.
المقاربون مع الصهيونية من جهتين يقدمون الأدوات لتقزيم الفلسطيني الوطني، الشق الصغير بين المجنونين، عبر الجمل الثورية واستنساخ الصهيوني والتبعية لنموذجه المارد، ولو كانت لهم أدواته لهان الأمر، لكن ليس لديهم منه سوى اشباحه، وكلما استنسخوهُ تمزقت الأرضُ أكثر، وتحطم الشعب.
وهؤلاء من البرجوازية الصغيرة أشبعوا الأمة من مفرقعاتهم الثورية، ومن مشروعات التجاوز، التي هي استعادة للصهيوني من دون قوته، ليس لديهم صبر ثوري ولا بُعد نظر ولا تحالفات صحيحة، وغالباً ما يفشلون في التحالفات خاصة، فهم يريدون التسلق، لا الإنتاج الحقيقي، ولهذا صار الصهيوني هو النموذج في اللاوعي السياسي.
صحيفة اخبار الخليج
10 اغسطس 2009
زيارة قصيرة بأثر استراتيجي بعيد
زيارة رئيس الوزراء الروسي بوتين إلى تركيا الأسبوع الماضي استغرقت ساعات فقط، وركزت على الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين. غير أن الاتحاد الروسي التركي الجيواقتصادي الذي سينجم عنها هو ما سمح لرئيس الوزراء التركي طيب أردوغان بالحديث في المؤتمر الصحافي عن ‘تعاون استراتيجي’. وسيكون لهذا التعاون انعكاساته الجيوسياسية الجدية على منطقتي الشرق الأوسط والقوقاز، كما على القارة الأوروبية. وستصبح تركيا في بؤرة كثير من مشاريع الطاقة لتغدو لاعبا مقررا في الحياة الدولية.
كان العنوان الرئيس لهذه الزيارة هو توقيع بروتوكول حول التعاون في مجال الغاز، الذي سيحول تركيا من حيث الجوهر إلى أهم دولة ترانزيت لنقل الغاز الروسي. ويعطي هذا الاتفاق إشارة البدء للأعمال التطبيقية لبناء خطي أنابيب نقل الغاز المعروفين باسمي ‘التيار الجنوبي’ و’التيار الأزرق – .’2 وسيبدأ الروس والإيطاليون العام 2010 وينهون في العام 2015 بناء مشروع ‘التيار الجنوبي’ من نوفوروسيسك ممتدا على قاع البحر الأسود ليصب في ميناء فارنا البلغاري. ومن هناك سيتفرع عبر شبه جزيرة البلقان إلى خطين، أحدهما إلى إيطاليا والآخر إلى النمسا. وسينقل ‘التيار الجنوبي’ نحو 35% من الغاز الروسي إلى أوروبا مقللا الاعتماد على البلدان التي تسببت في مشاكل بين المصدّر والمشترين. خط ‘التيار الأزرق – 2’ يعني امتداد خط ‘التيار الأزرق’ الروسي التركي ليصب في بلدان ثالثة في أوروبا معززا تنوع خيارات الدول الأوروبية في طرق إمدادات الغاز.
الطاقة النووية شكلت الوجه الآخر للتعاون الروسي التركي في مجال الطاقة، حيث تم التوقيع على اتفاقيتين حكوميتين للتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية والإشعار المتبادل حول الكوارث النووية وتبادل المعلومات بشأن المفاعلات النووية. فحتى العام 2012 سوف يكتمل في مدينة مرسين التركية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط بناء مجمعات أربعة لمحطة طاقة ذرية بقدرة 4 غيغاوات. وللمقارنة فإن هذا يعادل مرة ونصف المرة ما تنتجه مجتمعة محطات توليد الطاقة الكهربائية الأربع الحكومية والاثنتين التابعتين للقطاع الخاص في مملكة البحرين.
إجمالا، في هذه الزيارة القصيرة وقع البلدان على 15 اتفاقية حكومية وسبع بروتوكولات خاصة شملت مجالات الاقتصاد والعلوم والتعليم والثقافة والرياضة ومشاريع أعمال ضخمة متعددة. كما اتفق على فتح ‘مسارين أخضرين’ إضافيين – بحري وبري، لتعزيز التبادل التجاري وتوسيع قائمة السلع المتبادلة في الاتجاهين. إنها حزمة من الاتفاقات لم يشهد تاريخ العلاقات بين البلدين لها مثيلا. والحقيقة أن العلاقات تتطور في هذا الاتجاه منذ سنوات حتى أصبحت تركيا تحتل المرتبة الخامسة بين شركاء روسيا التجاريين. فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من 11 مليار إلى 40 مليار دولار فيما بين عامي 2004 و.2008 وبين عامي 2007 و2008 فقط حقق هذا الارتفاع قفزة بلغت 50%. وقد بلغ حجم الاستثمارات التركية في روسيا قرابة 7 مليار دولار، والروسية في تركيا قرابة 4 مليار دولار.
لم تكن تركيا لتهدف من وراء الصفقات بشأن ‘الذهب الأزرق’ مع مختلف البلدان لأن تكون مجرد بلد ترانزيت لنقله فقط. لقد رمت إلى أكثر من ذلك بحيث تصبح مشتر لقسم من غاز روسيا ودول آسيا الوسطى لتعيد بيعه على البلدان الأوروبية. وقد سبق أن وقعت أنقرة اتفاقا حول خط أنابيب (NABUCCO) لنقل الغاز من منطقة قزوين إلى تركيا دون المرور بروسيا. وإلى حد بعيد ذكَّر ذلك موسكو بفكرة مد خط أنابيب نقل النفط (باكو – تبيليسي – جيهان) التي أطلقت بإيعاز من الولايات المتحدة الأميركية والذي استعرت بشأنه مكائد ومناورات سياسية جمة. من الجهة الأخرى، وعلى إثر الأزمة حول الغاز الروسي المصدر لأوروبا عبر أراضي أوكرانيا وتصريح الاتحاد الأوروبي بشأن تخفيف الاعتماد على الغاز الروسي استفادت روسيا درسا بأن الاتفاق مع أوكرانيا ثانية حول استخدام مياهها الإقليمية في البحر الأسود معبرا لخط ‘التيار الجنوبي’ سيكون هو الآخر محفوفا بالمخاطر. وسيجعل منه حجة إضافية لما وجدته روسيا عملا ممنهجا لإزاحة شركة ‘غازوبروم’ الروسية من سوق الغاز في أوروبا. وتيقنت روسيا من ذلك أكثر عندما لاحظت تعطيل معاملات إنجاز خط ‘التيار الشمالي’ وتلميحات الحكومة البلغارية الجديدة بإعادة النظر أو بتجميد عقود مشروعات الطاقة الضخمة المبرمة بينها وروسيا بشأن بناء خط نقل غاز ‘التيار الجنوبي’ وخط بورغاس – ألكسندربوليس وتصريح أشهباد بشأن استعداداها لتقديم غاز إضافي لخط (NABUCCO). تركيا كانت تنظر إلى انخراطها في مشروع هذا الخط الأخير بمثابة شهادة حسن سلوك لتسريع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. غير أن تركيا تيقنت في الأخير بأن ذلك لم يشفع لها.
هذه الحالة وضعت كلا من روسيا وتركيا أمام تحديات الدفاع عن مصالحهما المشتركة. ونشطت الاتصالات بين الطرفين وتقاربت مواقفهما ليس حول مركب علاقاتهما الثنائية فقط، بل وبشأن القضايا الإقليمية والدولية، فنشطا في البحث عن طروحات مشتركة لحل كثير من هذه القضايا. وبالفعل، في الذكرى الأولى للحرب الروسية الجورجية التي صادفت وقت زيارة رئيس الوزراء الروسي لتركيا ذكَّرت الصحافة التركية بأنه في حين نشطت إدارة الرئيس بوش من أجل ضرب طوق من العزلة حول روسيا، فإن تركيا بالضد من ذلك كثفت اتصالاتها مع موسكو ووقفت إلى جانب مبادرة بناء ‘البيت القوقازي’. كما ساهمت بنشاط في حلحلة النزاع حول كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. كما تنظر روسيا بعين الرضا إلى تحرك تركيا عن أهم القضايا السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها القضية الفلسطينية.
لقد ترجمت هذه الزيارة القصيرة التطور النوعي في العلاقات الروسية التركية للسنوات الأخيرة وتوجته بتسجيل بداية لمنعطف تاريخي سيكون له دور مقرر في وجهة التطور العالمي في المرحلة المقبلة، ومن باب العصب الأهم (الغاز).
صحيفة الوقت
10 اغسطس 2009
في تفعيل العلاقات الثقافية الروسية العربية
قبل فترة وجيزة كتبت مقالاً نشر في هذه الزاوية عن أهمية انشاء جمعيات او روابط للخريجين الجامعيين من البلدان العربية والاجنبية المختلفة ليستعيدوا من خلالها ليس فقط ذكرياتهم خلال الحياة الطلابية في الخارج المفعمة بالحيوية والنشاط في تلك المرحلة العمرية الشبابية الجميلة، بل ان تكون مثل هذه الجمعيات والروابط بمثابة اطر تنظيمية أو مؤسسية تؤطر وتنظم انشطتهم واعمالهم ومواهبهم فيما يفيد حياتهم الاجتماعية والوطن بوجه عام، ومن هذه الروابط التي اشرت بالحاجة إلى انشائها رابطة لخريجي الاتحاد السوفييتي الذين ينوف تعدادهم اليوم على 600 خريج، ان صح تقديري، ناهيك عن ان عدداً منهم متزوج من روسيات او من جنسيات الجمهوريات السابقة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي قبل انهياره وتفكك تلك الجمهوريات. وبالتالي فإنه باستطاعة هؤلاء النسوة ان يشكلن بالتنسيق مع ازواجهن رابطة نسوية خاصة بهن الى جانب رابطة الخريجين البحرينيين من الاتحاد السوفييتي وكلتا الرابطتين تستطيع ان تلعب دوراً في مد جسور العلاقات المختلفة مع روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة وتوثيق هذه العلاقات في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية بما يعود بالنفع على كلا الطرفين. لكن للأسف لا يبدو حتى الآن ان احداً قد التقط الفكرة لدراستها وبلورتها.
وفي الآونة الاخيرة، وتحديداً في أواخر شهر يوليو الفائت شاهدت بالمصادفة حلقة من البرنامج القيم الذي تبثه قناة “روسيا اليوم” تحت عنوان “بانوراما” والذي يديره بكفاءة الاعلامي الروسي الشاب القدير والمتميز ارتيوم كابشوك ذو القدرة على التحدث والتحاور بلغة عربية سليمة بطلاقة مدهشة.
كان موضوع الحلقة الذي جاء تحت عنوان “الثقافة الروسية.. هل ستعود الى العالم العربي؟” حول آفاق توصيل الثقافة الروسية الى الشعوب العربية في ظل الظروف الراهنة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وفي ظل تزايد تأثير مظاهر العولمة باللغة الانجليزية نحو العالم الثالث وبضمنه دولنا العربية.
وفي الحلقة جرى حوار مسهب حول الحاجة إلى إجراء حوار ثقافي روسي عن مدى امكانية ان تكون اللغة الروسية ندة او مزاحمة للغة الانجليزية في عالمنا العربي لكي يمكن بالتالي تعريف المجتمعات العربية بجوانب الثقافة الروسية، وبخاصة في ضوء البعد الجغرافي الذي يفصل روسيا عن العالم العربي، ومن ثم يمكن لكلتا الثقافتين الروسية والعربية ان تتلاقح بما هو مفيد لكلتيهما وفي سياق الحفاظ على خصائص وسمات كل منهما، وفي هذا السياق يشير مقدم البرنامج الى ان العديد من المثقفين العرب قد تأثروا في كتاباتهم وابداعاتهم بنتاجات وكتابات كبار الادباء والمبدعين الروس من أمثال تولستوي وبوشكين ودوستويفسكي وتشيخوف، كما ان السينما والرواية العربيتين تأثرتا هما الاخريان بالروايات الروسية. كما يؤكد مقدم البرنامج ان اساتذة وخريجي الجامعات السوفييتية كان لهم دور مهم في رفد البلدان العربية التي قدموا منها بكوادر من الخريجين المتميزين في فن الاخراج المسرحي والفنون التشكيلية.
وكان للعلماء والاساتذة الروس، على حد تعبير مقدم البرنامج ذاته، فضل في اعداد وتأهيل عشرات الآلاف من الاختصاصيين العرب في مختلف المجالات.. وهنا يصل المتحدث نفسه وهو معد البرنامج الى بيت القصيد مما نحن بصدده بشأن أهمية انشاء الروابط الطلابية لخريجي الجامعات العربية والاجنبية فيقول:
“ورغم صعوبة التسعينيات نرى ان التعاون الثقافي العربي – الروسي قد تجاوز تلك المرحلة، وهو الآن يتطور بنجاح من جديد حيث تم تفعيل نشاط المراكز الثقافية والعلمية الروسية العاملة في بعض الاقطار العربية. ويعود دور ملحوظ في الاتصالات الثقافية الثنائية لروابط خريجي المعاهد السوفييتية والروسية التي درس فيها عشرات الآلاف من الطلبة العرب”.
فهل نأمل ان يكون لخريجينا البحرينيين من الجامعات السوفييتية دور ملموس من خلال انشاء جمعيتهم او رابطتهم الخاصة في الجهود الروسية والعربية المبذولة لاحياء وتنشيط الروابط الثقافية بين الامتين العربية والروسية المعروفتين بعراقة ثقافة وتراث كل منهما وبصلاتهما التاريخية المشتركة؟
صحيفة اخبار الخليج
9 اغسطس 2009
ثروة هائلة ودخول محدودة
هناك ثروة هائلة تتدفق في دول الخليج العربية وتتوجه لأجهزة الدول والبنوك وكبار الأغنياء، في حين تبقى الطبقات العادية في دخول متواضعة، وتتعرض للكثير من ضغوط الأسعار العالية والرواتب المحدودة.
نجد ان ذلك يتجلى في إعلانات البنوك عن الأرباح الكبيرة التي تحققها، وكذلك الدخول المختلفة العالية في حين تتجمد الأجور والرواتب بشكل غريب.
وهذا ينعكس على عدم تطوير الخدمات المختلفة وتحميلها على المواطنين والعمال الأجانب الفقراء غالباً.
ولا تستطيع البرلمانات والنقابات التأثير في هذه المعضلة، وتبقى مستويات المعيشة على حالها أو تتدهور بسبب ارتفاع الأسعار وجمود الخدمات العامة.
“تقرير يقول: إن أموال الأثرياء العرب حققت زيادة تقدر بـ 18% لترتفع أرصدتهم من 4،1 تريليون دولار عام 2006، إلى 7،1 تريليون دولار عام .2007 كيف حدثت هذه القفزة؟ يقول التقرير: إن الثراء المتراكم تم بفعل “الفورة” الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط في المنطقة، ويتوقع التقرير أن ترتفع ثروات العرب إلى 4،3 تريليونات دولار بحلول سنة 2012″، (الموقع الإلكتروني: لجينيات).
لا أحد يعرف كيف تتوزع الثروات بهذه الصورة، ولماذا تتوزع على البنوك والأثرياء الكبار بهذه النسب الكبيرة في حين تتشكل الخدمات والدخول للسكان بصورة مغايرة ومحدودة؟
تقرير آخر يذكر:
“ان دولتين خليجيتين بلغ عدد الأثرياء فيهما 178 ألف ثري، يملكون (فقط) 273 مليار دولار في سنة 2007”.
“المائة والثمانية والسبعون ألفاً من الأثرياء في دولتين خليجيتين – فقط – يمثلون أقل من 2% من مجموع سكان دول الخليج مجتمعة، ويملكون أكثر من نصف الدخل الوطني لبلدانهم”، (السابق).
نستطيع أن نقارب هذه الأرقام عبر نسب بين كل دول الخليج حسب عدد السكان، فالنسب العامة بين من يملكون ومن لا يملكون شديدة التباين ومتقاربة بين هذه الدول.
تتضح عملية محدودية المعيشة عند أغلب السكان وتضاؤل نمو الأجور وبطء الخدمات الأساسية كالاسكان في بقاء الميزانيات بجمودها المستمر، في حين تتصاعد الدخول الخاصة الكبيرة بشكل هائل غير طبيعي.
“تقرير ثالث صادر عن الأمم المتحدة، عبر هيئة التجارة والتنمية، أشار إلى أن حجم الأموال المختلسة في الدول العربية من خلال الفساد الإداري يقدر بـ 300 مليار دولار، وهو ما يكفي لتوفير أكثر من 20 مليون فرصة عمل، وما يُنهي بشكل شبه تام أزمة البطالة التي تؤرق حكومات الوطن العربي”، (السابق).
وفي حين تتراكم الثروات لدى القطاعات الخاصة، تتدهور خدمات مهمة ومستقبلية كبيرة في دول الخليج ذات الثروات الهائلة:
“وتأتي دولة الإمارات العربية المتحدة في مقدمة الدول الخليجية التي تتبنى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وحلت بالمركز الـ 29 بين 122 دولة في العالم، بينما حلت قطر بالمركز الـ 36، ثم البحرين بالمركز الـ 50، والكويت الـ .54
غير أنه بمقارنة هذه المعلومات بتلك الصادرة في التقرير السابق، تظهر أن الإمارات العربية تراجعت ستة مراكز خلال عامين، بينما تراجعت الكويت ثمانية مراكز خلال عام واحد، في حين تراجعت البحرين، التي ابتليت بضعف التعليم والإبداع، فقد تراجعت 17 مركزاً خلال السنتين الأخيرتين”.
إن الثروات وتوزيعها يعيشان في حلكة وغموض شديدين، فلا توجد سوى هذه الإحصائيات العامة النادرة، فرؤية تفاصيلها وتشكلها غير موجودة مما لا يعطي البرلمانات والنقابات والصحافة إمكانية لتحليل ورصد وتغيير هذه النسب غير المتكافئة والشديدة الخطورة على التطور المستقبلي والاستقرار الاجتماعي.
فأموال الأرباح الخاصة وأموال الفساد المتداخلة لا يتضح توزيعها إلا بأشكال عامة غير محددة، مما يعبر عن ضعف الرقابات وسير الأمور المختلة من دون تصحيح.
وفيما تنمو الدخول العادية لجموع من المواطنين بشكل بسيط يكفي فقط للمعيشة، فإن قسماً كبيراً تتدهور معيشته ويعاني نزول مستوى المعيشة المتدني هذا، سواء بسبب البطالة أو بسبب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة المتفاقم أو مزاحمة القوى العاملة الأجنبية.
من جانب آخر ينمو العديد من الثروات الخاصة الكبيرة على حساب البيئة وتدهور الزراعة والحرف والمرافق العامة، فنجد العمارات والفنادق تكتسح الشواطئ والأرياف وتضخم المهاجرين إلى المدن وتزيل المساحات الخضراء.
وتتوسع عمليات استيراد البضائع الأجنبية الغالية المرتفعة بشكل دائم، ولا تجد الأغلبية الشعبية إمكانية لشرائها، فتتوسع الديون ويتفاقم الاستهلاك.
ولابد لنا من البحث عن أرقام هذه التضادات وطرائق التخفيف منها.
صحيفة اخبار الخليج
9 اغسطس 2009
المعارضة الموريتانية والقبول بالحقيقة
تجاوزت الديمقراطيات العريقة عبارتين لا تطلقهما على المنافسين سواء قبل النتائج أو بعدها، وهي عبارة «النتائج مفبركة» لاقتناع الناخب والمؤسسات العريقة للشفافية والرقابة والحريات بمجملها ، بأنها تخطت كل تلك الترهات ، بل وباتت التقنية وعملية الفرز في مواقع التصويت، عالم من الثقة بين جميع الأطراف المتنافسة على مقاعد المجلس النيابي أو على مقعد رئاسة الجمهورية ’ والأكثر من ذلك اختفت من رزنامتهم إحدى العلامات الدامغة للعالم الثالث وهو المؤسسة العسكرية . كما ان مفردة «الفساد والمفسدين» لا تثير فيه إلا شهية الضحك الشكسبيري فمنها تتحول القصص الانتخابية إلى دعابة إعلامية ، فتلك الكلمة ترد هكذا عابرة ، إذ لم تعد مثيرة للناخب في مجتمعات غربية ولا هي مثيرة تلك الفضائح الجنسية للأشخاص ، بقدر ما يهتم الناخب ببرامج تهم حياته المعيشية وضمانات مستقبله في مجالات شتى ، أكثر من الحديث عن المرشح لمناقبه التاريخية وسيرة حياته الخفية والمعلنة ، فهناك لا يمكن لأي مرشح التلاعب بأسرار حياته المالية والسياسية والشخصية، ومتى ما تم التزييف في تلك الذمة ، فانه معرض للمساءلة والمحاكمة بل وإسقاط كل ما تم منحه من ثقة ومصداقية وولاء انتخابي . في محيطنا الانتخابي نسمع اسطوانة واحدة أغنياتها ومطلعها واحد ، وملحنها ومغنيها واحد ، وضحيتها في النهاية شخص واحد هو الشعب، الذي صارت تعجبه مفردة «محاربة الفساد والمفسدين» بل وتم إضافة مفردة جديدة تعكس واقعا حقيقيا للبؤس ألا وهو الفقر ، الذي تحاربه الإنسانية منذ أن عرفت وجودها على هذه البسيطة . لهذا يستطرب لسماعها البؤساء فهي تدغدغ أحلامهم وأمانيهم ، فالجميع صار واقفا عند الباب مادا «طاسته / ماعونه» وكأننا فقراء شهر رمضان الواقفين عند بوابة المساجد نستجدي الله والأغنياء . هؤلاء الفقراء يتزايدون بل ويتعدون خط الفقر كل عام وفق إحصائيات منظمات الأمم المتحدة ، المعنية بمطاردة فقراء العالم أينما كانوا ، ولكن دون حل ، غير ان المرشحين لدينا، نوابا وزعماء ورؤساء ، وجدوا في سحرية هذه الكلمة فتنة وإثارة للجياع والمحبطين ، خاصة إذا ما أضفنا لهم كملحق إضافي عبارة المفسدين ، باعتبار ان من يسرقون قوت هؤلاء الفقراء هم المفسدون وحدهم !! وبتلك القفزة السريعة لمقعد الرئاسة يتم بين ليلة وضحاها وبعصا سحرية الانتقال من جحيم الفقر والبؤس إلى فردوس النعيم. وما على الحكومة إلا مسألتين أهمها تقوية الجيش ومؤسساته، والأمر الثاني ملاحقة الإرهاب والفساد، ولكي يتم ملاحقة الثاني فان تقوية الأول يصبح أمرا هاما ، دون الإفصاح عن ان تلك المؤسسة هي بيت الداء والفساد والامتيازات في البلدان المتخلفة ، بدلا من طرحها كرقيب حريص على المؤسسات الديمقراطية ، إذ تتحول مع المؤسسات الأمنية الرديفة لها سيف مسلط على الأعناق . ومع كل الألوان القاتمة في مناخ موريتانيا السياسي، فان المعارضة ليس بإمكانها بمجرد خسارتها بعد قبولها بصيغة الانتخابات التي تم تسييرها بحضور 320 مراقبا من مؤسسات دولية وقارية وإقليمية ، وبإجراءات وافقت عليها الأطراف جميعها تعود لنسفها محتجة متنصلة عن موافقتها خوض الانتخابات بتلك الشروط ، ثم تزعق كعادتها في الخسارة «إن الانتخابات مفبركة !!» دون أن تقف أمام جمهورها بشجاعة معلنة : «نعم إننا خسرنا معركة الرئاسة» وعلينا أن نواصل معركة الديمقراطية والتنمية من اجل الشعب الموريتاني . ولنرى ماذا يفعل الرئيس وبرنامجه ووعوده . فمثل وعود الرئيس كانت المعارضة ترددها أيضا ، وحال تحسسها لمقعد السلطة تصاب بالتخمة والارتخاء البيروقراطي. لماذا تعتبر المعارضة أن برنامجها يبدأ فقط بوصولها للسلطة رغم إن هناك انتصار كبير لها هو التأكيد على إن المؤسسة العسكرية لا بد وان يتم تقليم أظافرها وان الديمقراطية شجرة المستقبل الموريتاني وأجياله. وهذه هي الورقة الكبرى من قيمة الانتخابات . ما حصل عليه كل المرشحين التسعة لم يصل نسبة الرئيس المنتصر ، بل والأربعة الأوائل لم يصلوا إلا ثلثي الأصوات من نسبة ما حصل عليه ، الرئيس القادم لموريتانيا «الحالمة» في صحراء العالم المنسي. دعونا نتابع ما يفعله «أبو الفقراء» لكي نتعلم بعد النجاح في كيفية محاربة الفقر، وبان الفقر بات هناك أبا له قادرا على إطعامه واكتسائه وتربيته ومنحه بيتا وتعليما وكل ما يحلم به فقراء العالم من انتصارات. ما نتمناه للشعب الموريتاني هو الازدهار والسلم الاجتماعي والأهلي والتنمية المستدامة وترسخ الديمقراطية الوليدة واختفاء عيون الأمن وبزة العسكر من حياتهم السياسية ، لكي يصبح بالأمن والتضامن الاجتماعي محاربة الإرهاب الداخلي مسألة ممكنة ، فليس بالشعارات الانتخابية يتم إزالة اليافطات الخفية في المجتمع ! وترميم بيوت الصفيح في خلفية المدينة المتشحة بتناقضات الألوان الإنسانية.
صحيفة الايام
9 اغسطس 2009
تقرير التنمية والهروب إلى الأمام
ردود الأفعال الرسمية العربية حيال النتائج التي توصل إليها تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية للعام 2009 الذي دشنه في بيروت مؤخرا رئيس وزراء تصريف الأعمال اللبناني «فؤاد السنيورة» ، لازالت خجولة في مجملها، باستثناء الموقف المعتاد والمندد من قبل جامعة الدول العربية. فها هي نتائج التقرير التي تعودت الأذن العربية كثيرا على سماعها تعاود مجددا وبزخم أكثر حضورا على المستوى الشعبي تحديدا، دون أن تخرج أي من حكوماتنا العربية لتقول لنا ولو عرضا أنها تأخذ تلك النتائج على محمل الجد، أو أنها تسعى لتحسين تلك الصور المأساوية التي كثيرا ما تعج بها تلك التقارير، التي لا يرقى الشك إلى نتائجها، كونها تقارير تصدر عن أكبر منظمة دولية لجميع دولنا العربية تمثيل فيها. نتائج تقرير هذا العام جاءت تحت عنوان لافت هو «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية» وهي نتائج لا يمكن لها بأي حال أن تترك لتمر، وذلك من اجل خلق فهم صحيح تسهل معه دعوة كافة الجهود العربية الرسمية منها والمدنية لتحسين تلك الصورة النمطية التي تكونت عبر سنوات من عدم المبالاة والإهمال لمقومات أساسية ترتبط بواقع ومعانات الفرد والمجتمعات العربية بأسرها. فعندما يتحدث التقرير عن وجود أكثر من 65 مليون عربي يعيشون حالة الفقر، أو عن وضع الأجهزة الرسمية لمزيد من القيود والانتهاكات للحقوق والحريات العامة والخاصة، عبر ممارسات مشينة لا زالت حاضرة بقوة في المشهد العربي من حيث ممارسات التعذيب والاحتجاز غير القانوني للمواطنين، مستظلة بقوانين على شاكلة قوانين مكافحة الإرهاب والطوارىء، التي أقرتها غالبية دولنا العربية مع برلماناتها، مستفيدة من أجواء الشحن المواتية التي وفرها المناخ الدولي، تحديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والاندفاع المحموم للإدارة الأميركية السابقة في هذا الاتجاه، فعلاوة على أن تلك القوانين تطلق أيدي السلطات لممارسة مزيد من القمع بحق مواطنيها، فإنها تبقى قوانين لا تنتمي إلى العصر ولا تخدم توجهات الإصلاح وعملية التحول الديمقراطي المنشودة. يقول التقرير ان «ما يهدد أمن الإنسان العربي يتجاوز مسألة النزاعات المسلحة ليشمل قضايا أخرى أساسية منها التدهور في البيئة والوضع الهش لعدد كبير من الفئات الاجتماعية والتقلب الاقتصادي الناتج عن الاعتماد المفرط على النفط والأنظمة الصحية الضعيفة وعدم خضوع الأجهزة الأمنية للمساءلة». كما يتحدث التقرير عن أحكام عرفية تجعل من مواطني البلدان العربية يعيشون حالة من «انعدام الحرية». ويتزايد العنف ضد النساء، وتتفاقم معضلة المخدرات، وتزوير الانتخابات، لتبقى العلاقة بين دولنا العربية ومواطنيها ليست سليمة البتة، ففي حين يُنتظر من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان، نراها في بلدان عربية عديدة تمثل مصدرا لتهديد وتقويض المواثيق الدولية والأحكام الدستورية حيث يذهب إلى ذلك التقرير.
صحيفة الايام
9 اغسطس 2009
جـــــــــــــو ..تشينــــــــــــــي
بات واضحاً في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، بعد مرور أكثر من سبعة شهور على توليها مقاليد الأمور في البيت الأبيض، أن أمريكا سوف ‘تطل’ على العالم على مدى السنوات الثلاث والنصف القادمة، برأسين، رأس الرئيس باراك أوباما ورأس نائب الرئيس جو بايدن. فبعد أن أسقط ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق التقليد السائد في الممارسة السياسية الأمريكية التي تعطي دوراً محدوداً لمنصب نائب الرئيس في النظام السياسي الأمريكي، هاهو جو بايدن نائب الرئيس باراك أوباما ينسج على منوال سلفه إذ يزاحم الرئيس ويضغط، هو والفريق اليميني المساند له في الحزب الديمقراطي، من أجل تقاسم السلطات مع الرئيس. إذ يبدو أن ذلك أصبح حقاً مكتسباً لنائب الرئيس لا يريد هو وطاقمه التنفيذي وشبكته العابرة للمؤسسات الحكومية، أن يتنازلوا عنه. واللافت أنه يقوم بالسير تماماً على نفس النهج الذي سار عليه سلفه تشيني ويحاول تكملة البرامج التي اختطها سلفه لعمل الإدارة على المسرح الدولي ضمن الاستراتيجية الأمريكية الشاملة بعيدة المدى. فالأول زار أوكرانيا وجورجيا وأطلق من هناك تصريحات تحض وتحرض حكومتي الدولتين على الالتحاق بالحلف الأطلسي ومواصلة تحديهما لجارتيهما روسيا. ويبدو أن نائب الرئيس الأمريكي الجديد ‘بايدن’ لبس معطف سلفه ‘تشيني’ ما إن خلعه الأخير، إذ ركب طائرته، ولم يكد يمضي عليه في البيت الأبيض ستة أشهر، وتوجه بها إلى أوكرانيا ومن بعدها جورجيا (لاحظ أن زيارة تشيني لهما كانت في آخر أيام إدارة بوش)، وكأن ‘بايدن’ برحلته العجولة هذه يستكمل ما ‘فبركه’ سلفه، فراح يكرر ذات العبارات الاستفزازية لموسكو سواء في أوكرانيا التي حاول إنهاض الروح الأطلسية فيها أو في جورجيا التي أكد على دعم بلاده الثابت لرئيسها ساكشفيلي. فهل بالإمكان القول إن نائب الرئيس الأمريكي الجديد ‘جو بايدن’ هو الرجل القوي في إدارة أوباما الذي استنسخ صورة ديك تشيني في الإدارة الجمهورية السابقة؟. قد يكون هذا السؤال سابق لأوانه أخذاً بعين الاعتبار الشخصية الكاريزمية، الذكية والحيوية، للرئيس باراك أوباما، وهو ما كانت تفتقده شخصية الرئيس بوش التي كانت تعول أكثر على ديماغوجيتها وعلى مفردات الكاوبوي الاستعدائية النزقة. ولكن استعجال ‘بايدن’ لإثبات وجوده وتثبيت نفسه كـ ‘جوكر’ داخل دوائر صناعة القرار البيضاوي، واندفاعه السريع والحاد على الجبهة الخارجية باستخدامه عبارات استفزازية وقيامه بتحركات تنطوي على رسائل ذات مدلولات مشابهة، قد يعجل بلفت انتباه الميديا وكل أولئك الذين ناهضوا عبر العالم النهج المغامر للإدارة الأمريكية السابقة، باعتباره الاستفزازي (Provocator) الجديد الباحث عن خلق المتاعب والأزمات في علاقات الولايات المتحدة مع عدد من الدول والحكومات التي لا تروق سياساتها للولايات المتحدة. ويبدو أن بايدن وبطانته من اليمين المتشدد داخل الحزب الديمقراطي والإدارة الأمريكية الحالية (لاحظ أنه صاحب فكرة تقسيم العراق)، قد اختاروا العودة للتركيز على كبار المنافسين للولايات المتحدة في الساحة الدولية: روسيا (وستلحقها الصين في القريب) بعد أن استنزفت الجبهات الفرعية التي فتحها الأمريكيون في أفغانستان والعراق، مخزوناتهم من الأموال والعتاد والموارد البشرية. خذ مثلاً تصريحه الموحي بالدلالات الدالة على ذلكم المنحى، الذي كان أدلى به لصحيفة ‘وول ستريت جورنال’ غداة زيارته إلى أوكرانيا وجورجيا. ففيما يتعلق بروسيا -المستهدفة أساساً بالزيارتين - قال بايدن: ‘إن الروس لديهم قاعدة سكانية تتضاءل واقتصاد يضعف، ولديهم قطاع مصرفي وبنية من غير المرجح أن تكون قادرة على تحمل الخمسة عشر عاماً المقبلة، إنهم في موقف يتغير العالم فيه أمامهم وهم يتعلقون بشيء من الماضي غير القابل للاستمرار’. ليس هناك كلام أفصح من هذا فيما يرمي إليه ..هو يُصور لمراكز القوى الرأسمالية الأمريكية المتمصلحة من ‘بيزنس’ التوترات الدولية، أن روسيا في موقف ضعيف وأن على الولايات المتحدة أن تستغل هذا الضعف لتحقيق مكاسب استراتيجية. إنه، بهذا المعنى، يعيد إحياء نهج سلفه السابق ديك تشيني بما ينطوي عليه توجهه الاستفزازي هذا من فرص الدخول في صدام مع موسكو، وهو ما يقع على تضاد مع المواقف المعلنة، على الأقل، للرئيس أوباما التي تذهب في اتجاه إصلاح ما أحدثته الإدارة السابقة من أعطاب في علاقات واشنطن بعدد من بلدان العالم ومن ضمنها روسيا. إنه ذات النهج المغامر الذي إذا ما قُيض له التوفيق في مسعاه فإنه كفيل بأن يضع كل وعود وتطمينات الرئيس الأمريكي الجديد التي أرسلها إلى العالم، في خبر كان وأن يجعلها هباءً منثوراً. وهو ما سيؤكد، إذا ما تحقق، على أن الطبع يغلب التطبع وأن ‘المؤسسة’ الأمريكية هي أقوى من كل محاولات إصلاحها من الداخل، وإنها عصية على التطويع والتقويم.
صحيفة الوطن
8 اغسطس 2009
منظر السائد
لابد أن يكون في البداية مغروراً متعالياً، محدود الثقافة، يستند إلى شعارات ميكانيكية سطحية وأن يكون ذا قدرة على الكتابة متوسطة، يحول الكتابة إلى وسيلة تسلق لا تنوير وتحليل.
وإذا كانت أكل عيش فهي مقبولة لا أن تكون تدعيم أسس معتمة شريرة في الحياة.
ووحدها المصادفات التاريخية التي تتيح له فرصة الصعود قرب دكتاتور ذي تطلعات كبيرة في لحظة تاريخية مليئة بالصراعات، فيتضافر جمود الهياكل السياسية ومغامراتها مع تشويه الوعي.
ومُنظر الدكتاتورية لا يحفرُ معرفة، ولا يصدمُ ثقافة تقليدية، بل يعيش على هذه الثقافة التقليدية المدمرة للأمة، لكنه ينفخُ فيها ويصورها بغير حقيقتها، من أجل أن يكون قرب الدكتاتور السياسي.
النقص في الزعيم السياسي يكمله المنظر الايديولوجي.
المفكر الحقيقي لا يعيش على المستنقعات السياسية ولا المجاري ولا يستغل انتفاخ الدكتاتور ونقص معرفته، لكن الكاتبَ الزائفَ يجد من عقدة نقصه، ومن تفاهة منبته، ومن جلافة اخلاقه، خصالاً تعينه على التسلق.
أي دكتاتور عربي يصعدُ يعرقلُ عادةً مشروعات الديمقراطية الحقيقية المتصاعدة في المجتمع، ويطرح دعاوى شتى للخروج عن الديمقراطية والحداثة، وأن تكون السلطات بين يديه.
وهو لا يستطيع أن يبرر ذلك ويقنع الناس، بل يلجأ إلى المثقف الاحتيالي، الذي يمتلك بعض المهارات في الكتابة.
هكذا كان صعود الحركات والحكومات الشمولية العربية بحاجة إلى أقلام تسوقها، ولابد أن يكون ذلك عبر دغدغة مشاعر العامة، باستخدام أساليب بيانية متوسطة عموماً، ليست بها ذرى من المعرفة والأدب والحكمة، وليست مجارية لكنوز الثقافة الإنسانية، بل ترتكز على التحليلات السطحية، والقضايا الحادة التي تمر بها الأمة كالاستعمار والسيطرة الصهيونية ومقارنات الفقر والغنى، ولا يمكن الخروج منها لتحليلات معمقة للبنى الاقتصادية للغرب أو للحياة العربية ماضياً وحاضراً، وقراءة تاريخ العالم والحركات، بل يتم الاعتماد على الإنشائية العاطفية مثل:
الاستعمار يدمرنا ويسحق بلداننا والصهيونية الغاصبة العدوانية تغزو ديارنا والحكومات العربية تساعدها وأوطاننا عرضة للخراب والدمار الخ.. ومثل هذه العبارات التي لم تتغير خلال عقود.
وفي هذا الوعي ليس ثمة فرق بين الاستعمار أيام العدوان الثلاثي وسياسة الحكومات الغربية هذه الأيام، ولا فرق في الحكومات العربية بين تلك الأيام الخمسينية وهذه الأيام، فالجوهر العربي الذي هو خارج التاريخ عبر تصوره يتعرض للتدنيس، ويحتاج إلى دكتاتور يرفعه من الحضيص إلى ذروة المجد.
الكتبة الصغار يظلون في المرجعيات الصغيرة لكن المنظر الذي له بعض الموهبة يحول ذلك إلى فلسفة سياسية فيقول ان الزعيم لا يحتاج إلى دستور يقيده، فهو صانع الثورة، إنه فوق القانون أو القانون الأساسي أو الدستور وهي كلها مسميات واحدة فيصبح هو مصدر السلطات، مثل ما يدور الآن حول الولي الفقيه لابد أن تعلو إرادته على مؤسسات المجتمع، ولا فرق بين التيارات السياسية السائدة في ذلك التي لا تقوم على أبنية ديمقراطية والتي هي ورث لزعامات محافظة غالباً.
يقوم المنظرُ بتبرير الدكتاتورية على المستوى السياسي العام، ويقوم الكتبة بتنظيرها على مستوى الأحداث الصغيرة والمقالات اليومية، وبخلاف الكتبة ينهض المفكر لتحليل القضايا الكبرى، وصراع الأمم والتصدي للهيمنات، فيرى الأمة العربية ماضياً وحاضراً باللون نفسه، ويرى في الزعيم فرداً اعتلى فوق تضاريس التاريخ وتوحد بالرسالات وذاب عنصره في أهداف الأمة، وإذا كان الزعيم ينتمي إلى جماعة عسكرية، أو جماعة مدنية أو عصبة عشائرية، تم وضع هذه الجماعات الصغيرة في لحظة مقدسة من تاريخ الأمة، فهي قد تلاقت مع القيم والرسالات الربانية، أو احتوت على عناصر فريدة قلما تجتمع في أي لحظة من لحظات التاريخ، أو أنها انفجرت بعطائها في تجربة خالدة من تجارب الجماعة الإسلامية، أو أنها احتوت على الجوهر العمالي المطلق المزيل للاستعلال إلى الأبد، أو كانت تتويجاً لولادات طاهرة وغير هذا من السفاسف التي تغدو ركائز خطرة مع هذا لحياة وموت الملايين.
غالباً ما يلتقي غرور المنظر غرور القائد، وان تصويرَ الزعيم السياسي كرجل خارق للقانون البشري ذي معجزات، يُقصد به إنه خارق للدستور أو مواد العقوبات وغيرها من الأشياء المفهومة الواقعية، ولهذا فإن المنظر ذا الأصل المتواضع يريد هو الآخر أن يخرق قانون التطور الاجتماعي وقانون الرواتب والعلاوات. وسوف يستفيد المنظر من ذلك ليؤسس ثروة وجذوراً وجماعة، وربما ذهب الدكتاتور وزال، لكن المنظر يبقى يبثُ قيم طاعة المستبدين (الأخيار) هذه عبر الأجيال.
يجرى خلق استثنائيات للبطل المعبود ولخارقي الدساتير والقوانين، مثلما تكون الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في رأيهم خارجة عن القوانين التاريخية والسياسية لها تاريخ ديني وإنساني مختلف عن البشرية وعلومها، فلا الحدود ولا الحروب التي يشنها الدكتاتور ولا السياسات العقيم ولا التبذير ولا الجمود، بقادرة على إقناع المفكر والكتبة بأن الزعيم المطلق منقذ الأمة هو أخطر الخرافات، أي أخطر من الخرافات الشعبية.
وهم يحاولون أن يربطوا بين زعماء الشر المعاصرين وبين تاريخ الإسلام والأمم الإسلامية، في سبيل استمرار تبرير ما يقدمون عليه من تكوين جماعات استغلالية.
في حين كان الأمر مختلفاً لتأسيس النهضة الإسلامية، فالزعيم المنقذ كان دائماً في نظام ديمقراطي شعبي، وهو الذي كرس زعامته وحبه بين الناس.
ودائماً كانت الانتصارات تأتي من وجود تلك الديمقراطية وثمة فرق بين حروب وطنية خاضها النظام دفاعاً عن شعبه وشاركته الجماهير فيها وبين حروب الغزو والتدخلات في البلدان الأخرى ومحاولة تشكيل إمبراطورية لا تفشل فقط بل تجلب الخراب لتجربة النظام.
وهم المعاصرون لا يقبلون مناقشة هذه الزعامات بشكل موضوعي، وتشاركهم قوى من الناس تحولهم إلى اناس معبودين، رغم كل الأخطاء الكبيرة التي أجهضت تجارب تنموية كان من الممكن أن تقوم بالكثير.
وهكذا تعيش الأنظمة والجماعات على مثل هذا الوعي الساذج المستمر الرهيب، بين منظرين كبار وكتاب صغار منتشرين مثل الأوبئة، وهو وعي قديم في التاريخ وفي تسجيله حيث اقتصرت الكتابات التاريخية التقليدية على عروض لحياة الملوك والأمراء والرؤساء و”إنجازاتهم”، ولا تقيم هذه العروض وزناً لحياة الجمهور واحتجاجاته، وهذا الوعي هو الذي يسود في الكتابات، وفي الدول والتنظيمات، والزعيم فيها دائماً في مركز الإيجاب، وغائب عنه السلب والخطأ، ولهذا تتراكم الأخطاء وينتشر الكتاب المداحون وتضعف عقلية تطوير الحياة الواقعية الحقيقية، ولا ينمو الوعي الديمقراطي الموضوعي الذي يرى السلبيات والإيجابيات معاً.
صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2009
لاءات ثلاث.. !!
لا أعرف هل نستطيع أن نخرج من الجدل الدائر حول قضية معهد التنمية السياسية بكل ما بدا فيها من شطط وتجاوزات وتطورات ومفاجآت ، وحول تصريحات المحامي العام أو النائب العام بالإنابة التي هدد وتوعد فيها الصحافة أن استمرت في نشر الوقائع والمعلومات والأخبار ذات الصلة بهذه القضية، وهي التصريحات التي كان من الطبيعي أن تثير خاصة لدى من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات قدراً لا يستهان به من التساؤلات حول حرية الصحافة التي هي مفتاح الإصلاح وحجر الأساس فيه، خاصة باعتبارها وسيلة للرقابة الشعبية على مؤسسات المجتمع من خلال الرأي والنقد ونشر الأخبار والمعلومات وهو حق كفله الدستور . نعود ونسأل .. هل نستطيع أن نخرج من هذا الجدل بالاتفاق على لاءات ثلاث ، ” لا ” للمساس بحرية الصحافة وتقزيم دورها الوطني وحقها في الكشف عن مكامن الخلل والانحراف ووقائع الفساد وملاحقته والتصدي له حيثما وجد، ” ولا ” للتعدي على حق وسلطة وصلاحيات النيابة العامة والنظام القضائي برمته في التحقيق والنظر في الأدلة والمستندات التي لا تخص فقط مسار قضية المعهد المذكور بل وفي أي قضية أخرى، ” ولا ” للتراخي في قضايا الفساد والتجاوزات أياً كانت وفي أي موقع كان ولا لجعل الحسابات والاعتبارات أياً كانت ومن أي مستوى كان هي الفيصل في مصير الضالعين في الفساد . اذا بدا ذلك الاتفاق ممكناً ، ونحن على يقين بأن ذلك ممكناً اذا أريد لهذا الممكن أن يتحقق ، فإن أول ما ينبغي التأكيد والتشديد عليه بأنه لا يمكن القبول بأي مساومة أو تنازل عن حرية الصحافة وتقييدها وجعلها صحافة منكفئة على نفسها، منشغلة بتوافه الأمور، وبمثابة الحاضر الغائب الذي يرى ولا يتكلم ، ويسمع ولا ينطق ، وتتحرك أمام ناظريه مواكب فساد هنا أو هناك فلا يحرك ساكناً ، بل نريد صحافة تكون حقاً سلطة رابعة ولها دور وعيون مفتوحة على اتساعها تراقب وتثير وتناقش القضايا العامة وتكشف عن كل ما هو مشين، صحافة تكون حريتها العمود الأساس لأعمدة المجتمع، وداعمة للمشروع الإصلاحي للملك حفظه الله ، وبقدر صلابة الصحافة وحريتها تترسخ وتنتعش باقي الحريات . من تلك الزاوية ليس من الحصافة ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يهدد أو يمس أي كان في أي موقع كان حرية الصحافة ورسالتها ويمنعها من إحاطة الرأي العام بالبيانات والمعلومات والحقائق حول أي قضية كانت خاصة اذا كانت هذه القضية هي قضية رأي عام يفترض أن يعامل فيها الرأي العام بما يستحقه من احترام . هذا بالنسبة لــ ” لا ” الأولى .. أما فيما يتصل بالثانية ، أي بحق وصلاحيات القضاء وعدم انتزاع سلطته أو المساس بها أو الافتئات على كلمته ، فهذا أمر هو الآخر لا يمكن الاختلاف عليه، فهو أمر محسوم لصالح القضاء حتماً ولصالح حياديته واستقلاليته التي تمر بفصل السلطات وليس بالشيء ونقيضه، بقضاء فاعل وحازم طليق الجناحين لا تكبله تدخلات أو اعتبارات ولا يخضع لضغوط تؤثر عليه وعلى سير أحكامه ، ولكن ما أثاره المحامي العام الأول على خلفية ما نشرته الصحافة من معلومات حول تجاوزات مالية وادارية بمعهد التنمية السياسية، قد دعاه في موقف مفاجئ وباعث على الدهشة إلى التلويح بالعقاب والحساب بحق كل صحيفة تواصل نشر أي معلومات حول هذه القضية بذريعة ” عدم توجيه الصحافة للرأي العام أو التأثير على مجرى العدالة “، وما يؤرق في هذا الكلام أنه يوحي للوهلة الأولى بأن مجريات التحقيق في أي قضية وليس قضية المعهد فحسب وأحكام القضاء بوجه عام، هي عرضة للتأثر بما ينشر أو بما يتداوله الناس من معلومات ووقائع ، ونتساءل بافتراض التسليم بذلك المنطق . لماذا لا ينطبق هذا الكلام على تلك الأخبار والمعلومات التي مصدرها النيابة العامة والتي تتصل بعشرات القضايا التي لم يستكمل التحقيق فيها، والتي نشرت تفاصيل عنها وهي في طور التحقيق وبوسع المرء أن يستخرج من الذاكرة ومن أرشيف أي جريدة محلية ما لا حصر له من هذه القضايا التي تناولت أموراً في غاية الأهمية والحساسية . ليسمح لنا المحامي العام – مع تقديرنا له – أن نختلف معه فيما أثاره في شأن دور الصحافة، مؤكدين له بأن ما أثاره يبرز الحاجة الملحة الى التصحيح في نظرته لهذا الدور ولأحقية الصحافة في أن تمارس حقها الذي كفله الدستور ، وهو حق حرية التعبير، من دون أن يعني ذلك ” انتزاعاً من القضاء سلطته وافتئاتاً على كلمته ” . ذلك بالنسبة لـ ” لا ” الثانية . أما الثالثة ، أي لا لتمييع قضايا الفساد وتحويلها قضايا للمزايدة والإثارة وتصفية الحسابات أو محاولة تغيير مسارها لاعتبارات أو أسباب شتى، هذه القضايا التي قد تظل صحفنا تكتب فيها وعنها لعدة أسابيع ، وقد تتخللها أو تعقبها تصريحات نارية يتعهد فيها بعض المسؤولين بإجراءات حاسمة ورادعة لمنع تكرارها، وقد يعلنون عن تشكيل لجان تحقيق ثم لا يلبث أن يتحول الأمر الى عمل روتيني أو تكون هذه القضايا مادة يومية متكررة في الصحافة، ذلك يمثل كارثة يخشى أن تحمل معنى بأن ” الضمير العام ” بات يعيش أزمة وذلك له من الدلالة التي لا يجب أن نجيز لأنفسنا الغفلة عنه ، ولعل ما أثير في الآونة الأخيرة من اكتشاف أكثر من قضية من قضايا التجاوزات والفساد ظهرت الى العلن، ناهيك عن قضايا سابقة لم يحرك أحد ساكناً حيالها تمثل شروخاً في واقعنا من الخطأ الفادح التهوين منها أو طمس وقائعها أو تجاهلها وعدم حسمها.
صحيفة الايام
8 اغسطس 2009