(1)
كان البحرُ يتحرش ببيتها، تتغلغلُ موجاتهُ بين أحجارهِ وقيعانه، فكأنه يطفو على الماء، في دورةِ المياهِ يصلُ إلى ساقيها، ويتضخمُ مدهُ فيضربُ حتى أحشاءه، وتغرفُ منه في النافذة وتداعبُ نوارسَهُ وتطعمها من فتات خبزها. كان يتناءى حيناً فيبتعدُ حتى كأنه غادرَ أرضَها، وترى القواربَ جافة، منقلبة على جهة، وثمة شظايا من زجاجٍ الماء تلمعُ وتتوهج.
كان يحضرُ على مائدتِها، فترى أمَها بين أدخنةٍ كثيفة تقلبُ على الصفيحةِ المعدنيةِ الرقيقة بناته، تلك السمكات الكثيرات الصغيرات مثلها اللواتي يقفزن على اللهب، وتنضجُ جلودُهن، ويطرطشُ دهنهن في فرقعاتٍ لذيذة، والحطبُ يُلقى، ومن هنا
كانت هي حمالة حطب، تمشي على الساحل الطويل وتجمع قطعه.
أبوها هو المتحدُ بذلك الإله المترامي في كل مكان، الذي تراهُ يمضي بسفينتهِ يطلقُ البخورَ ويصلي، وكانت الشباكُ في مرآها تتشمسُ في النور، وأعشابٌ غريبة وطحالب وقواقع تجثمُ في تلك الخيوط، وكانت تنزعُ تلكَ الأشياءَ وتجففُها وتغسلها وترتبها في بيتها، بيتها الصغير الذي لا يجيءُ إليه الماء.
حين تعود السفينة يبتهجُ البيتُ والحي وبضعة دكاكين، وتتصاعدُ روائحُ الشواءِ وزغاريدُ الأعراس وحفلات الختان، وهي تــُزفُ عروساً للصبيةِ في تلك الخرابة التي هي على مرمى ألمٍ من بيتهم، وتعودُ ضاحكةً، والصبية يعطونها مهوراً كثيرة من القواقع، وكلُ منهم ينتزعُ قبلةً واحدةً يضعُها بهدوءٍ على جناحِ الفراشة ويطير.
تذهبُ للمطوع، تجلسُ في الحوش مع الصبايا والصبية وترددُ الآيات، تنتبهُ للكلماتِ، للموسيقى، فتريدُ أن تغنيها وترقص، فتأتي عصا المطوع قويةً على ساقها، فترتعشُ خوفاً، وحين تسقطُ في الظلام في الليل، وتسمعُ البحرَ يضربُ بقوةٍ الجدرانَ صاخباً، غاضباً، يقذفُ بالخشبِ على الحصى، وتسمعُ قرقعةَ القوارب والمواعين، ومواءَ القطط التي تحركُ الريحَ، تندفعُ إلى حضنِ أبيها، فتجدُ روائحَ العشبِ والبحر المتخثرة الرفيقة.
السفرةُ كبيرةٌ والأبُ يردد:
– كلي يا كوكب.
والأمُ تغمغم:
- لا تدللها!
– ليس لي غيرها.
- أتعيرني بعدم الإنجاب ؟!
- لا أعرف كيف توقفَ بطنك عن الزرع.
- أمر الله.
الله مثل البحر ممتدٌ في كل مكان، لهُ كلُ الأحوال، وهي تتقربُ لهما، تصلي، وتقذفُ بالأعشاب التي زرعتها وسقتها إليه عله يرضى عنها وعن أهلها فيكثرُ السمكَ ولا يُغرقُ أباها ولا يهدم البيت في ساعةِ غضبه، ولا يجعلُ أمَها تتغيب كثيراً عن المنزل.
ومرة واحدة حين مرضتْ أمُها ونقلوها بعيداً صعدتْ إلى تلك السفينة، وجثمتْ قرب أبيها وهو يطلقُ أوامره على الرجال الذين هم مثل أخطبوط بشري يمتد في الشباك والصاري والموج والمصائد الحديدية التي تظهرُ من القيعان تشخبُ بالماءِ من جميعِ مسامِها وإعصارٌ من الأجساد ينتفضُ داخلها.
كانت رائحةُ البحر غريبة هنا، تخثرُها، تجعلـُها ترتعش، رائحة مخدرة، كأنها دائخة، وعَرقُ الرجال يتحدُ بزفر السمك، والرجالُ يرفعونها إلى عين الشمس يلقون سنها الساقطة فتترنحُ على الحطب لحظة ثم تغوص في الأعماق.
وهي تسألُ:
– هل ستنبتُ وتظهرُ منها عشبةٌ وسمكة؟
-.. وأولادٌ كثيرون.
– هم لهم أسنان ناصعة مثلك.
– وبنات يعرسن ويحملن؟
يصرخ أبوها :
– أسكتِ !
كان ليلٌ ونهار وثمارٌ خضراء تتساقط في ثوبها الزري المنير الواسع، كان ليلٌ موشى بالنجوم عباءة للحلوى والمكسرات تتساقط فيه من أبواب الجيران، كان أحلاماً يدغدغها موجٌ حنون، وغرفٌ تتفتحُ على المرايا، والطواويسُ تتجولُ في الأحواش تعطي ريشَها السحري للإناث.
كان شطآناً تمتدُ إلى ما بعد المياه، رملُها سيوفٌ مغروزةٌ في البحر، والبحرُ قتيل، كان صوارٍ مثل غابة توحدتْ فيها الطيورُ والغيوم.
يقولُ الإلهُ :
– هذه بلادكِ يا كوكب أُعطيَها لكِ ولنسلكِ إلى يوم الدين، هذه الجزرُ لك، والغدرانُ والجبال والأغنام، فأكثري من طاعتي، ومن ابنائك يكونون عباداً لي.
- سمعاً وطاعة يا ربي.
(2)
يتدفقُ الموجُ قوياً مثل فحلِ ثورٍ يضربُ الأنثى المفعمة بالسكون والشهوة، يهزُ الجدرانَ ويصلُ السيقان، وينثرُ أعشابَهُ وقناديلَ البحرِ البيضاء المتدفقة بالسموم، لها لزوجة نارية، وتبدو كزبدٍ آخر للبحرِ صارَ حياةً، وثمة الهلال الذي استحالَ الثورُ الصاعدُ في السماء بقرنين يحملهما البدرُ المنير، وحولهُ الرذاذُ والخدم.
يتكورُ ثدياها، ويقطرُ دمٌ من أسفلها، يلتهمهُ البحرُ بنشوةٍ، ويصيرُ لكوكب ذيلٌ طويلٌ وجسدٌ من سفطٍ ذهبي، وتنزلُ في المياهِ الباردةِ مغطاةً بدهنِ السمك ورغوةِ المياه، وتغوصُ في الأعماق، تسبحُ فاتحةَ الذراعين، ترى الأقفاصَ الحديدية الرقيقة تدعو الكائناتِ لوليمةٍ خادعة، تقتربُ من القوارب، ترى الشباك تنهالُ عليها وهي تمزقُ الخيوطَ التي تحز جسدَها، تتجنبُ السهامَ المندفعة نحوها كالرصاص، تفلتُ من الزيتِ الأسود، ومن القنابل والألغامِ التي تسبحُ بتواضعٍ ودهاءٍ، حتى تصل عند قاربِ صيادٍ شابٍ وسيم فقير.
وحفظتْ القرآنَ وزُفت بالقرنفل والريحان، وغُطيتْ بالغشاوةِ والعباءةِ، ورآها الناسُ تدخلُ بيتَها لآخر مرة، وأُسدلت الحُجُب، وتبدلتْ النوافذُ، وراحتْ تسفطُ السمكَ، وتنقي الأرزَ، وتمتلئُ بدخانِ المقلاةِ والتنور، وما يزالُ البحرُ يدقُ الجدرانَ، وصرخاتُ الفتيةِ تصارعُ الأمواج، وصفعاتُ أمِها تتجولُ في خديها.
تركضُ نحو أبيها وتحتضنُ صدرَهُ، لكنه يبعدُهَا برفقٍ ويمسحُ على شعرها:
– كبرت، كبرتِ ولم تَعدي طفلة!
– هذا ما أقوله، ولكنها لا تزال تقضي أغلبَ وقتها مع الألعابِ وعرائسها. هي بلهاء !
يحدقُ فيها. يتطلعُ في عينيها الساكنتين وليس ثمة إشارة على ذكاء أو نباهة.
– ماذا بك يا ابنتي؟ لماذا هذا الصمت والسكون والانزواء في الغرفة والتحدث مع العرائس؟!
في الليلِ تتغيرُ هيئتُها، يختفي ساقاها، يظهرُ ذيلُها الفضي، تغوصُ في المياه، ترتعشُ بلذةٍ، تحتضنُ فتاهَا وإلهها الجميل الفاتن، يمشطُ شعرَها، ويرتعشُ ثدياها، وتمضي تصغي لحكاياتِ البحارةِ وترى الشباكَ الملأى، وتسمعُ نداءَ إستغاثةٍ فتندفعُ تشقُ الموجَ كسهم ذهبي، وترى القاربَ المثقوبَ والرجال النازفين للماء، تسدُ الثقبَ بجسمِها وتدفعهُ نحو الشاطئ، يُذهل البحارةُ من الاقتراب المدهش من البر.
– نجانا الله.
– بعثَ ملاكاً.
– ألم تروا جناحيه المشتعلين؟!
(3)
الظلمةُ في النهار، والأسرارُ في الليل، وأمُها تقول: (إنها تخرج يا إبراهيم، ابنتكَ سرايةُ ليلٍ، هي جنيةٌ أو خليلة، وتروي إنها رأتْ قواربَ وسفناً ونخيلاً وينابيع بعدد التراب، ابنتكَ تخاوي الجن!).
يقول الأبُ؛ (هي أوهامك يا امرأة، كيف للصَبية أن تطلعَ من كل هذه الجدران؟ أنا لو أغلق عليّ ما استطعتُ زحزحة طوفةً واحدة!).
تردُ الأم؛ (بل هي تخرج، بحثتُ عنها طوال الليل، ذهبتُ لخن الدجاج، فكانتْ نائمات، ذهبتُ إلى البقرة فكانت تسبح بحمد الله، ووجدتُ العرائسَ مضاءةً وكأن شموعاً حولها، وهينماتٌ بحريةٌ من التي تغنونها أيام زمان تـُسمعُ في النورِ والظلام. كوكبٌ تدورُ !).
يقولُ الأبُ؛ (أربطيها بالسرير، أخافُ أن تلتقي بفتى صائع، أن تلوثَ ثوبَها الأبيض، والبحر الآن في موسم خصوبته، والأعشابُ في كل مكان، وأسرابُ الأسماك أكثر من النجوم.).
وحين مضتْ السفينة، وجدتْ ساقيها مقيدتين، والبحرُ يدعوها بقلق وتوتر، يقرعُ الجدارَ والعظام برفق، والقيدُ قوي، ودهشتْ أن أباها له كل هذه القسوة والغرابة، وهي التي كانتْ تبكي إذا تأخر قليلاً، وضج البحرُ بغضبٍ شديد، وسمعتْ القططُ وهي تتأوهُ ساقطةً ممزقةً في المياه، والمواعينَ تركضُ في الدروب، والنجيماتُ تثقبُ السقوفَ، وكأنها راحتْ تبصرُ السفينةَ وهي تتلوى بين الأمواج، والبحرُ يعصرُها بقسوة، ويقضمُ خشبَها بين أسنانه، ويضربُ بحاراً هنا ويكسر الصاري هناك، والشراعُ يتمزق، والموجُ يدخلُ أعماقَ الخشب.
تفكُ القيدَ، تنزلُ بين الموجِ الهادر، في ضجيجِ الصراخِ الغاضب، تحضنُ البحرَ، يهدأ قليلاً، تسبحُ بقوةٍ وتقبلهُ بشهوة، يسترخي في فراشهِ الأزرق ويتلحفُ بالزَبَد، وترى مخلفاتِ غضبهِ؛ ألواحٌ من أجسادِ السفنِ والقوارب، جثثٌ تطفو، آهاتٌ حرى مدوية في الفضاء العريض، أشرعةٌ تكفنُ الفتية.
تصرخ بالبحر؛ خذ ما تشاء وأعطني أبي، خذ بكارتي، ودمي، وأنزفني وولدني ما شئتَ من فتيةٍ أشقياء لكن أعطني أبي!
جاءها الأبُ شبه حطام، انكسرتْ الساقُ القوية، غارتْ العينُ الحادةُ في تجويف العظام، وُضعت خرقٌ على جسده، حُمل على ما يشبه النعش الخشبي، ومشي به بين الأزقة الجائعة للسمك، والرجال والطيور.
(4)
حتى البيت الكبير آن لها أن تغادره. الحوشُ السحري الواسع، حيث القواقع تآخي الأصابع، والديكةُ الحجريةُ الصامتةُ على زوايا السقوف، والزرائبُ ذات الروائح المخدرة حيث البقرة تصنعُ الحليبَ والشهوة، والفتيةُ الجيران الذين تلاصق عيونـُهم شبابَيكها، ومن خرومِها الصغيرة ينتزعون لمسة.
لم تكن تتخيل أن تنفصلَ عن حجرتِها الملاصقة للبحر، وأن لا تصغي لحكاياتِ حبيبها، وأن لا تأخذ هداياه وتسبحُ في حضنه، حسبتْ أن جثومَ أبيها على فراشه الرهيب لحظة خاطفة ينهضُ بعدها قوياً ويلملمُ شظايا وحطبَ سفينتهِ وأشباحَ بحارتهِ ويفردُ شراعَهُ متآلفاً مع حبيبها، الذي سوف يصفحُ عنه ويعطيه أسماكَهُ ومحارَه.
لكن الأبَ جثم مطولاً على الفراش، وبدأتْ الأمُ تغمغمُ وتتذمر:
– إلى متى أنتَ راقد على السرير؟ ماذا نفعل؟ لم يعدْ في البيت شيء. ماذا بك؟ ألم تطب ساقك؟!
لم تحسب كوكب أبداً إن ذلك العملاق يتهاوى. وفي كلِ لحظةٍ تتصورُ إنها سوف تسمعُ مضمضته الفجرية، وتراهُ يدخلُ محملاً بأقفاص السمك، وينثرُ الرائحةَ التي تشمها قبل أن يدخلَ الزقاق، وتقتربُ منه، وتجثمُ في الظلام قربَ سريره، وتقرأ سورةً، فتهتزُ أصابعهُ، تتحركُ على اللحاف المتيبس، وذاتَ ليلةٍ منيرة، سكنَ البحرُ فيها عن الثرثرة واللغو، سحبَ أبوها ظهرَهُ وتحركَ بتثاقل رهيب وهو يئن، واستند على حديدِ السرير، فواصلت القراءة.
في الأيامِ التاليةِ بِيعت البقرةُ، فبكتْ، وأمسكتَها من رقبتِها، والأخرى تمضغُ غيرُ مباليةٍ، وأخذها التاجرُ، ووضعَ في يدِ أمِها قطعةَ نقد، ثم جاء وقتُ بيعِ الأشياء، وحتى السماد الذي جف اشتراه فلاح.
جلستْ في الليل، حاولتْ أن توحدَ ساقيها في ذلك الذيل الفضي، وأن تقتحمَ البحرَ وتبحثُ عن كنزٍ في صندوق، أو عن مخلفاتِ السفن الغارقة، لكن الساقين بقيتا منفصلتين، ضربتهما معاً، ربطتهما إلى بعض، لكن الساقين بقيتا منفصلتين.
كان البحرُ ينسحبُ من المدينة، راح يتجمعُ في نفسهِ، ولا يبعثُ قبلاته إليها، ودورة المياه توقفت عن عناقهِ وسُدت بالحجارة.
وجاء غرباءٌ ذوو ثيابٍ ناصعة، وعقالاتٌ سوداء ضخمة، وداروا في الحوش، وتفحصوا الغرف، وهزوا رؤوسَهم وتحدثوا.
كانت الأمُ تتكلمُ من وراء حجابها، ورأسُها تخرجُ من فتحة الباب:
– والله لولا الحاجة لما تركنا بيتنا وبعناه!
– الله المعين.
– ارحموا الولايا، هذا السعر الذي تريدون شراء البيت به لا يسد الرمق. هذا بيتٌ كبير.
– البيوتُ الكبيرةُ كثيرةٌ ولا أحد يشتري.
– هذا بيتُ أجاويد.
– كلُ شيءٍ معروض للبيع.
- الرجال خطفهم البحر فارحموا نساءهم وأولادهم!
ولا تعرف كيف اندفعتْ هي في الحوش وصرختْ:
- نحن لا نريد أن نبيع. هذا بيتنا. هذا حلالنا. أي قسوة فيكم ؟! تشترون لحمَ الناس والنساء ؟!
وربما تأوهَ الحجرُ ولكن أولئكَ الرجالَ لم ينطقوا بآهة. حدقوا فيها كأنها آخرَ سلعةٍ ثمينة في المكان، وتفحصوا بطنَها وظهرَها وهزوا رؤوسهم بإعجاب.
في تلك اللحظة كان ثمة شيء يتحرك في غرفة أبيها، كان ثمة طاولة تسقط، وانفرجَ البابُ عن ذلك الجسدِ الذي كان عملاقاً، تطلع بذهولٍ ورعب، ثم سقط.
(5)
آن لهما أن تغادرا البيت، المُباع، الذي لم يعد فيه أب.
آن لهما أن تريا تلك الصناديقَ المثقلةَ بمرايا الغوص على اللؤلؤ، وسكاكينَ الحفرِ في المحار، التي صدئتْ وهي نائمةٌ، والخيوطَ الذائبةَ لثيابِ الغواصين، وميزانَ اللآلئ الدقيقِ الذي يزنُ حتى ذرات الهواء، ويبخسُ بوزنِ الدماءِ والدموع، والأشرعةَ التي لم
تعدْ صالحةً حتى لأكفان، والخرزَ الملونَ الذي يمكن أن يُباع بقطعةِ خبزٍ، وكتبَ البحرِ والنجومِ الذائبةِ التي لم تنقذْ السفينة وظل قراؤها الوحيدون العتة النهمة، وثيابَ النشلِ الزاهيةِ المُعدةِ لأفراحٍ مؤجلةٍ دائماً، وظلتْ القرآينُ الصغيرةُ محفوظةً مرفوعةً في الرواشن، واختفتْ الدجاجاتُ والليمونُ الأسودُ وأكياسُ الأرز والسكر، وتحجر المسدسُ الصدئُ للجدِ الربان الذي سكنتْ فيه الحشراتُ ولم يطلقْ رصاصةً واحدةً على البحر، واهترأتْ عباءاتُ الأبِ وملابسهِ التي يزورُ فيها القصورَ ويحضرُ رقصةَ العرضةِ فيها والمجالس العامرة بالبخور الذي نـُسي في الصوف.
وجاءت سيارةُ الشحن ليـُلقى فيها المتاعُ القليل المضطرب المتداخل الرث، وبدت الأنثيان المتغطيتان بالأسود الفاحم، كملحقين متحركين بكومةِ الأشياء.
وفيما كانت الأم تهذي وتصبُ اللعناتِ كانت كوكب تذرفُ الدموعَ الغزيرة كأنها تسبحُ وتحدقُ من مياهها في الجدران المتباعدة.
وتقلبتْ السيارةُ بين مرتفعاتِ الطرق الضيقة ومنحنياتها، والتفافاتها، وبين فرجاتها العديدة يتدفقُ الصبيةُ، وهم يلعبون بالدوامةِ ويضربونها بقوةٍ لتدور، تدورُ مثل الأيام، تدورُ مثل الهواء المحبوس في زوايا الأزقة، تدور مثل الأرواح الشاردة، والسائقُ بح صوتـُهُ ليغادر الصبيةُ دروبَهُ، ومن النوافذ ومن خرومها تتراءى العيونُ المتسائلة والحاقدة والحزينة، ومن الفُرج بين البيوت، وفي لفاتِ الأزقة ونهاياتها تتبدى شظايا من البحر وعيونه متسعة مذهولة.
ثم القتهما الشاحنةُ في تجمعٍ لبيوتٍ صغيرةٍ رثة، وحملَ السائق بعضَ الأغراض الثقيلة وهو يساوم الأم ويتأففُ من طول الزقاق ومن براز الأطفال والقمامة.
كان بيتاً أعطى ظهرَهُ للبحر، غرفةٌ وحوشٌ صغيران، أحاطت بهما الأحجارُ القديمة التي تحولتْ الثغراتُ فيها مساكنَ للهوام، وكان عليهما أن تنظفاه طوال اليوم، وتضعا الأشياء، ورأت كوكبُ أمَها وهي تتفجر غضباً:
– هيا احملي هذا الصندوق، أمسكيه بقوة، ما بالك رخوة هكذا؟!
– لا تسقطيه عليّ يا مخبولة!
– آه يا عذابي معك ومع أبيك!
– ألم أقلْ لهُ اجمع النقود!
كانت تكلم نفسها، وتضعُ الأشياءَ التي جاءتْ من عرائسِ البحر واللؤلؤِ وغاباتِ الأسماكِ والجزرِ المُباعة والمجاديف، والقوارب المقلوبة المثقوبة والصناديق التي عملها نجارون مهرة وزينوها بالنجوم لتحفظ قروناً من الذكريات ومن شجراتِ السلالات التي سكنتْ الشواطئ والجزر، والآن تـُوضعُ قربَ جدرانٍ نخرة، وعلى أبسطةٍ مهترئة.
وحين هدها العملُ سقطتْ تبكي.
وبعد أن غرفتْ كلَ المياه المالحة في الغدران رأت ابنتها متخشبة، وجدارَ البيتِ هابط، فخشيتْ من أن تقفزه في الليل وتذهب.
لكن كوكب في الظلام وجدتْ أن لا ساقين لها، وتنمل جسمُها كله، ولم تسمعْ دقاً على الجدران، بل تسللتْ حشراتٌ إليها، وقبلتها بنهم ضار.
(6)
في عمقِ الزقاق، في جوفِ العتمة، وفي النهاراتِ القائظة، وفي انقطاعِ المياه، تحنُ إليه، تشتهي أن تتعرى وتسبح، ولكن لا شيء سوى نباحِ الكلاب، وصمتِ البوماتِ المنتظراتِ المحدقاتِ في جحور الفئران، حتى نفدتْ النقود، وخلتْ القدورُ من الأرزِ والسمك، والأمُ تخرجُ مذهولةً مضطربة، ليس لديها ماكينةُ خياطةٍ أو مقلاةٌ لصنعِ الكباب، وليس لديها سوى هذا الجسم الباذخ المحروم.
تخرجُ كثيرا، وأخذت كوكب تشمُ رائحةً غريبة، وعطوراً رخيصة، وشائعات، وكلماتٍ مثيرةً غريبةً لم تكن الأمُ تذكرها، وراحتْ زينةٌ فاقعةٌ تتشكلُ في وجه الأم، بينما هي تمضي كلَ صباح للعين حاملةً قدوراً وصحوناً وثيابا، وتكشطُ قذارات كثيرة، وتجعلها روائحُ ملابسِ الأم تتخدر وتهذي، وكانت العينُ تهدرُ وتقذفُ ماءَها في مجرى طويل في البحر، الذي كان ينسحبُ مشمئزاً تاركاً مستنقعاً كحارسٍ أجيرٍ على الشاطئ، فيما كانتْ سراطانتهُ وأسماكهُ الكثيفةُ عرضةً للأولادِ والبحارةِ والمفرقعات.
وفي حضورها للعينِ كان البحرُ يتدفق، تكبرُ موجاتهُ كثورٍ هائل، زبدُ الشهوةِ يتعالى، ويتلاشى السواد، والنسوةُ لا يأبهن بهذه الإشاراتِ الغامضةِ على الحب، ولا ينظرن للألسنةِ الهائلةِ التي تروحُ تحوطُ العينَ وتضربُ جدرانها!
النسوةُ يحطن بها، يغسلن ثيابهن، ويتحدثن، وتتكشفُ أجسادُهن، ويغزلن سجادةً كبيرةً من الشائعاتِ والتجسسِ والفضائحِ وكلامِ العجائبِ والعجائزِ والأحداثِ الغريبة الرهيبة.
– قتل عتيقٌ السكرانُ زوجتَهُ بعد أن عاد في الليل ووجدها مع…!
– طرحتْ أمينةٌ مولودَها الرابع.
– عائشةُ زوجوها كهلاً فانتحرت.
– يقولون إن..
ويلتفتن إليها ويضحكن. كلماتهن غريبةٌ مثل الروث والحطام البحري المثقل بالمسامير وهو يتغلغلُ في جلدِها الفضي، تكشطهُ فتتناثرُ الصدفاتُ الجارحة، كومةُ الثيابِ والمواعين لا تنفد، قبضتُها الرقيقةُ مدعاةٌ للضحكات، والأشياءُ تبقى قذرة.
تحملها إليه، النسوةُ يتطلعن إليها بسخرية، وترتفعُ صيحاتهن؛ (أين تذهب هذه المخبولة؟!)، (العاصفة بدأت يا كوكب فعودي لجدران العين!)، (أمسكوها قبل أن تغرق في الموج!).
لكن البحرَ يهدأ، موجاتهُ تمسحُ قدميها، وتلثمُ جلدَها، ألسنتهُ الكثيرةُ تكشطُ الأوساخ، وهي تغوصُ بين كتفيه الهائلين، وهو منزعجٌ من ملابسِ أمها، ويهمسُ؛ (كيف تفعلين ذلك؟ كيف ترشين على جسمك الجميل هذا القار؟)، (أين ذهبتِ عني، أنا وحيدٌ هنا، وأشعرُ بغربةٍ شديدة، وبدأ وجهي يصدأ من السفن القديمة).
تملأ مواعينَها القواقعُ والصدفاتُ وقطعُ النقد الصغيرة المسحوبة من أعماق السفن ومن التربة البيضاء، في الأعماق، ومن بركِ النذور ومن أصابعِ البحارةِ الغرقى الحالمين في موتِهم بالعرائس، ومن شيوخِ السفنِ الكبارِ الذين ماتوا في جزرٍ غيرِ مأهولةٍ بالنارِ والفرح، ومن الشبابِ الذين قـُتلوا في الغوص على الدم، ومن طاساتِ تجارِ اللؤلؤِ التي دُفنتْ في العواصف، وتتطلعُ فيها النسوةُ بذهول، ويصحن بحسدٍ، (من هذه الفتاة ؟ هل كانت معنا في العين؟).
ويقتربُ منها شبحُ البحار الشاب القتيل، يتقدمُ بخجل، يقول، (يا بنت هذا درهمي أريد استعادته!)، تتطلع فيه بذهول وترى كم هو وسيم، يقول ثانية؛ (أريد أن آكلَ وجبةً لذيذةً في المطعم، لم يكن في زمننا مثل هذا الطعام!)، تضعُ في يدهِ الدرهم مترددة، وتقول: (لن يكفيكَ درهم واحد خذْ الثاني!).
لكن البحرَ يصرخ به، (أين تذهب أيها المجنون، لن أتحمل قذارتك عندما تعود !).
(7)
تجثم وحيدة. تزيلُ السفطَ من السمك. تجدُ إضاءاتٍ في هذه القذارات، رسائلَ سرية من حبيبها. له أصابعٌ من الضوء تخرجُ من الأمعاءِ والعيون. ينظرُ إليها وهي تقطعُ احشاءَه، وفي كلِ بطنٍ ذرةٌ من فضة، وحكاياتٌ عن الفتياتِ اللواتي وجدن خواتم فرحلن للقصورِ وفقدن فردات أحذيتهن الجميلة.
تظهرُ كتلٌ مسودةٌ نبت فوقها دبقٌ أخضر وقواقعٌ صغيرة. تكشطُ المادةَ الصلبةَ المخضرة المسودة. تزيحُ كتلَ ألسنة البحر وضماته القاسية. تظهرُ عملاتٌ مختلفة.
وجدتْ محارةً كبيرة، ذاتَ حوافٍ فضية، كأنها تشعُ من داخلها.
ضربتها بشدة لكن المحارة لم تنفتح.
نقعتها في المياهِ الحلوةِ وجاءتها في الفجر فوجدتها أكثر صلابة وطلعت نبتاتٌ غريبة منها.
تعرضُ مهرَ البحر على أمها:
– ما هذه الأشياء الرثة التي تعرضينها علي؟! قطعٌ من الحصى؟! هذه عملات قديمة انتهى زمانها. هذه أشياءُ صدئةٌ وسخة. من أين أتيتِ بكلِ هذه العملاتِ الغريبة؟
– من لدى البحر. يريد أن يخطبك!
– ماذا تقولين يا معتوهة؟!
- أراكَ كلَ ليلة تخرجين ولا ترجعين إلا في الفجر!
– ماذا أفعل؟ اشتغلُ يا منحوسة! ذهبتُ إلى خالكِ فطردتني زوجتهُ تلك التي استولت عليه وجعلته أسيراً.
– خذي هذه النقود. كل نهار سوف أجلبُ لكِ نقوداً. البحرُ يعطيني كلَ شيء.
– تزوجيه أنت يا مجنونة. الناسُ تقولُ ذهبَ الأبُ وصرنا مخبولتين. امرأتان مجنونتان في بيتٍ واحد. واحدة تضيعُ في النهار وأخرى تضيع في الليل.
خرجتْ أمُها في العتمة، فأخذتْ المحارةَ ومضتْ إلى الشاطئ.
في فرجةٍ صغيرة كان البحرُ يتسللُ إلى زقاق، ويلثمُ أقدامَ المنازل. جثمتْ عنده. فتدلتْ ألسنتهُ إلى ساقيها، وضعتْ المحارةَ بينهما، وشعرتْ بصلابتِها وبحوافِها المدببة، ترقرقَ الماءُ، قبل جسدَها بنهم، بدأتْ المحارةُ تنفتح، بانتْ شعرةٌ من الضوءِ الدائري كأنها خاتم الخطوبة.
جاءتْ موجاتٌ أكثر حنانا، قبلتها بنهم، وارتعش البحرُ وكأن آلافَ القناديل البحريةِ كانت تبثُ رذاذَها الأبيض، وتفتحتْ المحارةُ مثل بيتٍ مضيء.
تساقطتْ قطعٌ من النورِ في يدها. كراتٌ صغيرةٌ مثل أطفال لا يزالون في الأقماط البيضاء.
القتْ بالمحارةِ الخاليةِ في وجهِ البحر، وخدشتهُ خدشاً عابراً كونَ دوائرَ من الماء:
– إلى أين تمضين؟
- أبعدْ يدكَ عني. أنت قتلتَ أبي!
– لم أكن أنا.
– بل أنت.
ضاعتْ صرخاتهُ في الهواء وهي تجري بعيداً.
خبأتْ عيونَ السمك المتلألئة في البيتِ تحت الجذورِ المتصلبةِ الظاهرةِ لشجرةِ الأثل.