احد الحالاويين المعروف عنه في حالة بوماهر بارتباطه بقضايا الوطن وبتطوره واستقراره وبحبه لاعمال الخير وبكرهه الشديد للطائفية والطائفيين بعث لي “مسج” يناشدني فيه الكتابة حول مخاطر سكن العمالة الوافدة وتحديدا سكن العزاب منها ليس في “الحالة” “وفرجان الاول” في المحرق وانما في بقية المحافظات ايضا هذا ما اشار اليه “مسج” صاحبنا الذي اكن له كل الاحترام والتقدير. في البدء اخي العزيز مع اننا لا نريد ان نعطي هذه الظاهرة اكبر من حجمها من حيث تداعياتها ومع ذلك لا ننفي مخاطرها الامنية والاخلاقية ونعتقد ان كل الجهات المعنية تعلم جيدا حقيقة ذلك، اي تعلم مدى التأثيرات السلبية لهذه التجمعات العمالية في الاحياء السكنية وتعلم ايضا ان هذه العمالة التي تعيش في غرف تشبه علب السردين وفي مساكن اغلبها آيلة للسقوط تفتقد الى ابسط الشروط الصحية!! وبالتالي ما يلفت النظر ان هذه الجهات لم تعد النظر في اوضاعها المزرية ولا في تداعيات هذه المشكلة التي تعاني منها الاحياء الشعبية المزدحمة بالمواطنين الذين معظمهم مازالوا ينتظرون ولسنوات طويلة الفرج من وزارة الاسكان!! بالتأكيد اشاطرك الرأي في تحذيراتك ومخاوفك من هذه التجمعات ولكن لوعدنا للاسباب فهي كثيرة من بينها اصحاب العمل والمالكون لهذه المساكن وكذلك العمال انفسهم ولاسيما اولئك الذين تحولوا من مستأجرين الى مؤجرين من الباطن دون علم المالك وبالتالي فلا غرابة ان تصبح هذه المساكن البعيدة عن الانظار مأوى للعمالة الهاربة او السائبة!! سيدي الكريم.. منذ فترة طويلة وصحافتنا المحلية تشير الى مخاطر هذه التجمعات ولكن إلى الآن لم نسمع او نشاهد حلولًا لهذه المشكلة بل كل ما نسمعه عن لجان وقرارات وتوصيات تؤكد على اهمية تنظيم سكن هذه العمالة وفقا لمقترح يلزم اصحاب العمل بتوفير السكن اللائق لها خارج المدن ولكن لم ينفذ الى الان!! وبالتالي ما يجب الوقوف عنده هنا هو على من تقع المسؤولية؟؟ بالطبع هناك جهات عدة مسؤولة عن هذه المشكلة من بينها المجالس البلدية والعمل والصحة واصحاب العمل، وعلى هذا الاساس نطرح السؤال التالي: متى تعير هذه الاطراف الاهمية لوجود مساكن عمالية مناسبة ولائقة خارج المناطق السكنية؟ بالفعل لو تم ذلك لتفادينا مخاطر هذه التجمعات العمالية وفي نفس الوقت ضمن هؤلاء العمال حقوقهم في السكن وفقا للاشتراطات الصحية والمعاهدات الدولية التي تمنع الاتجار بالبشر. اذًا ماذا ننتظر كي نتحرك ونعيد النظر في هذه المشكلة التي تخطت حدود التحمل؟! يا سادة .. المسألة ليست لجانا وقرارات وتوصيات تتخذ في الغرف المغلقة وان كانت على درجة كبيرة من الاهمية وانما كيف تفعل هذه النتائج الى حقيقة ينتظرها المواطنون والعمال على حد سواء هذا هو بيت القصيد.
صحيفة الايام
8 اغسطس 2009
حول سكن العمالة الوافدة
كيف اقتنعتم؟
‘الحياة أعز شيء للإنسان، إنها توهب له مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها، ولا يلسعه العار على ماضٍ رذل تافه، وليستطع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الانسانية!’. ( نيقولاي أوستروفسكي ـ كاتب رواية: ‘كيف سقينا الفولاذ!!’)
***
العنوان أعلاه لمقالة كتبها الباحث العراقي صائب خليل نشرت قبل نحو خمس سنوات على موقع ‘الحوار المتمدن’، تحدث في مقدمتها حول ‘منطق سائق القطار’ فكتب يقول: سقط الثلج كثيفا، واضطر القطار الى التوقف بانتظار الكاشطة، فنزل استاذ الشطرنج الكبير سامي ريشفسكي يتمشى.. لاحظ سائق القطار وهو يجلس قبالة رقعة شطرنج فسأله أن يلعب معه. ترك ريشفسكي سائق القطار يغلبه مرتين، ثم قال له: ‘ في الحقيقة… أنا العب بشكل أفضل بدون وزير، فهل تسمح لي أن أرفع وزيري؟’. حاول سائق القطار عبثا أن يقنعه أن ‘طريقته’ غير معقولة وخاسرة، فقرر أن يبرهن له ذلك عملياً… رفع ريشفسكي وزيره ولعبا، فكسب الأخير أمام دهشة السائق. لعبا ثانية، فكسب ريشفسكي ثانية، ثم ثالثة! … أخيراً، رفع سائق القطار قطع الشطرنج وهو مقتنع بان ‘طريقة’ السيد الغريب هي الافضل!.
وتابع صائب خليل قوله: ‘لايحتاج أحد أن يكون لاعب شطرنج ممتاز ليدرك حماقة سائق القطار، وخطأ اقتناعه بأن اللعب بلا وزير هي الطريقة الأفضل ‘ـ انتهى الاقتباس ـ (1).
كثير من البشر لديهم قناعة بفكرة/ أفكار تستحوذ جزء من حياتهم، لكن قلة من البشر ينذرون حياتهم بالعيش والموت من أجلها، وربما ليس عندهم دليل على صحتها سوى إيمانهم بها، وسائق القطار الذي اعتقد بان ‘اللعب بلا وزير هي الطريقة الأفضل’، خاض تجربة مع شخص غريب لا يعرف مهاراته في لعبة الشطرنج، وقناعته هذه ستتبدد في حال قلّد الذي هزمه ‘بلا وزير’ أثناء اللعب مع شخص ما في مستواه، ففي حال تغيير قناعاته سيكتشف أن طريقة لعب السيد الغريب ليست هي الأفضل.
هناك من يعتقد أن القناعة تأتي مما يتفق عليه الناس، وهذا ليس صحيحاً أيضاً، وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فهذا يعني أن الأرض كانت ‘ثابتة ومسطحة’، حين كان الناس متفقين على ذلك، وبعدما اكتشف جاليلو دوران الأرض وكرويتها، تحوّلت من ثابتة ومسطحة إلى العكس، أو لأن جاليليو أصر أثناء محاكمته والحكم عليه بالقول: ‘… ومع ذلك تدور !!’.
القناعات بالأفكار والمعتقدات والمبادئ ـ وما أكثرها بكثرة تناقضاتها، دائماً ما تسحر العقول، لكن بالكاد تجد من ينذر حياته كلها لمبدئه وفكره، وهنا عليك أن ‘تُفتش في الاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافات، والأهم الصراع الطبقي’، كي تُميّز بين ‘الخيط الأبيض من الأسود’.
صحيفة الوقت
7 اغسطس 2009
هل يمكن احتواء المشكلة الكردية في تركيا؟
خطة السلام التي سيكشف عنها زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله أوجلان) الشهر الجاري والمحكوم بالسجن مدى الحياة التي تقتضي حقائقها ومغازيها “وضع حد للأزمة السياسية الطاحنة ما بين الحكومة التركية والمعارضة الكردية، وتقديم حل للنزاع القائم ما بين الطرفين”.. هي خطة تستحق الدعم والمساندة من جميع الاطراف التركية والكردية (الرسمية والشعبية).. بقدر ما تستوجب من الهيئات والجمعيات والمنظمات الدولية الاهتمام بها، واتخاذ زمام المبادرة إلى تناولها ومناقشة مفاهيمها وتداعياتها.
ولكن الحكومة التركية قد اتخذت موقفا سلبيا ازاء هذه الخطة اتسم بردود افعال استعلائية وفوقية، وذلك عندما رد وزير الخارجية التركي (احمد داود اوجلو) بجفاء واقتضاب قائلا “إن تركيا ستضع حلولا بنفسها، مجالات بحث هذه المسائل معروفة، انها مجلس الوزراء ومجلس الامن القومي”.. هذه الاجابة الرسمية للحكومة التركية، هي اجابة ان دلت على شيء فإنما تدل على ان الحكومة التركية قد جزأت وفتتت مفاهيم الدولة، ووضعت الفواصل ما بين (الحكومة والدولة)، وشيدت أو أقامت الحواجز ما بين (المؤسسات الرسمية والمؤسسات الشعبية) وفي مقدمتها احزاب المعارضة السياسية التي في ضوء السياسة الرسمية، تظل مكانتها ومهماتها مهمشة، وغير معترف بها، بل قمعها وملاحقة رموزها الوطنية.
أضف الى ذلك تجاهل الحكومة التركية بشكل متعمد معنى تلك العبارة القانونية والدستورية والسياسية والقائلة “إن الحكومة هي جزء من الدولة، وهي الجهاز المنسق والمنفذ لما تمليه الضرورة المجتمعية والحتمية الشعبية.. وهي الجهاز الخاضع لمبدأ الرقابة والمحاسبة والمساءلة تحت قبة السلطة التشريعية (البرلمان المنتخب)”.
إنه من الاهمية بمكان القول إن الحكومة التركية برفضها خطة السلام المقدمة من زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله أوجلان) قد اكدت رفضها المصالحة الوطنية، ورفضها وقف نزيف الدم بمزيد من سقوط القرابين من القتلى والجرحى في حرب اندلعت شرارتها في عام 1984 ولاتزال مستمرة مدة خمسة وعشرين عاما، ما بين الحكومة والمعارضة راح ضحيتها (45 ألف قتيل)، من دون اعداد الجرحى والسجناء والمعتقلين والملاحقين.. بحسب ما اكدت وتؤكد الحكومة التركية من جهة اخرى امام الشعوب على وجه البسيطة وامام الهيئات والمنظمات الدولية، وفي مقدمتها (هيئة الامم المتحدة)، عنجهيتها وتعجرفها بتبني سياسة استبدادية اوتوقراطية بحق المعارضة السياسية.. وسياسة عرقية وشوفينية بحق شعبها من الاكراد.. ويكفي استدلالا معاناة الاكراد البالغ عددهم عشرات الملايين، الاضطهاد القومي او العرقي، ومكابدتهم مرتبة الدونية والتهميش وحرمانهم من حقوق المواطنة المشروعة، بشأن معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.. مواطنين بلا هوية ولا تاريخ ولا وطن.. فهم محرومون من التحدث بلغتهم والحظر على معتقداتهم وثقافتهم.. ليتضاعف هذا الاضطهاد فيشمل ملاحقتهم والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات.
في نهاية المطاف يبقى القول صحيحا في ظل مناخ سياسي كهذا، يعاني فيه الاكراد في تركيا مصادرة حقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية، واستثناءهم من حق المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية.. فإن كلمتهم تظل مهمشة وافكارهم مغيبة، وآراءهم مصادرة.. اذًا ليس بمستغرب ان ترفض الحكومة التركية خطة السلام التي تقدم بها زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله اوجلان) في شهر اغسطس الجاري، طالما الحكومة التركية تجاهلت اصحاب المبادئ والرأي والضمير، وهمشت مكانتهم واعتبارهم وانسانيتهم، ومن ثم قلبت الحكومة التركية الموازين رأسا على عقب عند وصفها أولئك المناضلين الذين يناضلون من اجل شعبهم ووطنهم والحريات العامة والعدل والمساواة، بأنهم ارهابيون ومتطرفون.
كما انه ليس من الغرابة بشيء ان تضطهد الحكومة التركية كفاءاتها ومفكريها وعظماءها المبدعين.. لكون احد عباقرتها وهو الشاعر والاديب والمناضل التركي (ناظم حكمت) قد واجه ابشع الاضطهاد في بلده من عقد الثلاثينيات حتى عقد الخمسينيات من القرن الماضي، خلال رزوحه في أقبية السجون التركية طوال سبعة عشر عاما، ومن ثم معاناته مرارة الغربة واوجاع الاغتراب في منفاه خارج الوطن حتى وفاته في المنفى، ورفض الحكومة التركية نقل جثمانه الى وطنه على الرغم من وصيته التاريخية التي اوصى فيها بأن يدفن في بلده خلال قصيدته الشهيرة الرائعة والمؤثرة (الوصية).. فسلام عليك يا شاعر الفقراء ويا شاعر الانسانية، ويا شاعر واديب تركيا العظيم (ناظم حكمت).
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2009
سراب التغيير
تغدو التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول الشرقية التقليدية المحافظة، ذات الأشكال البرلمانية الهشة والشكلية، مجرد زيادة في التوتر السياسي وتدور في حلقاتٍ مفرغة.
فالفئات الغنية والمتنفذة تستفيد من فترة السلام الاجتماعية لكي تتوسع في مشروعاتها من دون أي اهتمام بما يحدث من تحول سياسي، فهي تعتبرها فرصة للمشروعات الاقتصادية و(شفط) الأرباح بمعدلات عالية، في حين تبقى النقاشات السياسية والاجتماعية والقرارات السياسية لا تصل إلى الواقع وتغيره.
وهذا بسبب ضخامة الهيئات البيروقراطية في الدول الشرقية، فثمة أعداد هائلة من الموظفين الذين احتكروا القرارات خلال عقود، في كل المستويات، حتى قرارات كبار المسئولين تتعرض للتجميد أو المشي البطيء حتى تمر سنوات عليها، في حين تجري إيقاعات الحياة الاقتصادية بصور سريعة هائلة تغير الواقع كل يوم، وتجعل من تلك المشروعات ناقصة لو تمت بعد هذا الزمن والتحولات.
والهيئات البيروقراطية خلال هذين الزمنين السابق واللاحق التحمت بقوى النفوذ الاقتصادية المختلفة، فهناك من كون علاقات بين بعض الوزارات مثل الاقتصاد والمالية والعمل والإسكان وسلطات الموانئ وغيرها وبين قوى المال المختلفة، وهذه العلاقات تجعل فئات معينة هي التي تحصل على المكاسب الاقتصادية.
مثل موظف كبير يؤجر بناياته على من تطلبه الوزارات من خبراء ذوي رواتب عالية، وتقوم الجهات المعنية بإعطاء هؤلاء امتيازات خاصة تدخل من باب القانون وتفسره حسبما تريد.
والامتيازات والمنافع الاقتصادية تعطى لمن لهم علاقة.
ويتداخل هذا مع صناعة الرأي العام التي تركز في الإيجابي دائماً، وتتوارى منها التحليلات العميقة فتواصل البحيرة الراكدة إنتاج السموم المختلفة التي تسد المجاري الاجتماعية.
تستطيع الهيئات البيروقراطية أن تقتل كل تغيير على مراحل، أولاً تشيد به، ثم تنفذه بشكل خطوات صغيرة محدودة خاضعة للروتين، ثم تستل روحه وتحوله إلى هيكل عظمي، فيما هي تستمر في كونها قيادة المصالح.
ما أكثر ما غنت الدول الشرقية من أناشيد عن التغيير والإصلاح لكن الواقع ضئيل في التحول!
الواقع الحقيقي غير المحلل وغير المراقب الذي يعسر حتى على المتخصصين فهمه إلا عبر دراسات دقيقة، لكن الحال يستكشف بشكل ضمني أو حدسي من خلال بقاء الأشياء على حالها.
أكبر ديمقراطية في الشرق كالهند ملوثة تلوثاً شديداً بالبيروقراطية، والتطور تحدثه الشركات (الاستعمارية) القادمة من الخارج التي تكوّن أكبر المجمعات الصناعية والعلمية، نظراً لرخص الايدي العاملة الهندية فقط حيث الفقر لا مثيل له.
الديمقراطية الروسية هي ديمقراطية عصابات المافيا.
وتعيش الدول الشرقية بين ازدواجية الظاهر والباطن، المعلن والحقيقي، بين التصريحات الرسمية وتصاعد المشكلات والأسعار والبطالة في الواقع.
تجد المدن القديمة والأحياء الشعبية والقرى، حيث يسكن العاملون، هي مقياس التغير الحقيقي، وهي متوارية ومخفية بالمجمعات الحديثة وبكتل زاهية من العمارات التي شيدها المستثمرون بسرعة البرق ليجمعوا الأرباح، ووراء هذه الأحشاء الصغيرة غابات من الأحياء الرثة التي تنتج مختلف أنواع الأمراض والباقية عشرات السنين، وبين الجانبين جدار رقيق وهش.
مناظر زاهية تخفي أشياء بشعة، ولهذا فالحديث عن التنمية والفرص المشتركة وتغيير معيشة الفقراء كلها شعارات جميلة لا تأخذ طريقاً للواقع الحقيقي، لا الواقع الورقي ولا التلفزيوني المبهرج بالألوان.
ولهذا فإن الأحاديث عن المناطق القديمة المنهارة معيشيا وبنائيا غير مستحب إعلاميا، ولا تواجه تلفزيونيا، ودائماً هناك عبارات مستاءة: (الواقع ليس بهذا السوء) (ابتعدوا عن التشاؤم وتقبيح الحياة).
لا تستطيع كميات النقود الوافرة وأعمال بعض الحكومات الإصلاحية الناشدة التغيير أن تصل إلى هذا الواقع رغم كل جهودها.
والفقراء الذين صوتوا في الدورة الثالثة هم أنفسهم المصوتون في الدورة العاشرة لم تتغير أوضاعهم، زاد بعض الأجور قليلاً لكن ابتلعتها الأسعارُ المرتفعة وازدياد الأبناء وغلاء الإيجارات.
البيروقراطيات تتحكم في الحكومات والأحزاب والجمهور، بيدها قنوات النقود، وهي التي لها المتاجر والشركات والأراضي، ترفع الأسعار وتخفضها، تزيد العمالة وتقلصها، تفتح الأسواق وتوسعها وتلغي الأسواق القديمة لتبيعها ثانية.
هي الوسيط السياسي والوسيط المالي.
وجوهها تقع على المكاتب ووجوه أهلها تشتغل في التجارة والصناعة والدلالة، النقود تخرج من الأعلى لتضرب الأرض في الأسفل، وتتوجه للبنوك ولجزر البهاما، وكان التاجرُ موظفاً في الدولة، ثم صارت لديه المليارات، وكشفت الخسائر البنكية عمليات التلاعب وبيع الأراضي وكيفية تكوين الثروات التي كان يقوم بها على مدى سنوات.
المشروعات العامة مشروعات خاصة، تظهر حين تتفق قوى البيروقراطية على الاستفادة منها، تتلكأ حين لا تأتي النقود بسرعة ولا تستفيد القوى الخاصة وحين تظهر في وجهها العقبات والكشوف الصعبة، وتسرع حين تمتلئ الجيوب، وحين يظهر المرفق الذي يصل إلى المواطن العامل عليه أن يدفع الكثير حتى يحصل عليه.
ومن هنا تصاعد التباين بين من هم فوق ومن هم في الأسفل، من يوسعون ثراءهم في البلد والعالم، ومن يبقون على النمط نفسه من المعيشة الصعبة التي تزداد صعوبة ونزفاً.
ثم يفاجأ الجميع بأن الأوضاع لم تتغير، وأن الناس ضجوا وصرخوا، ولهذا دائماً أحداث الشرق على هيئة صواعق، تشابه عالمه الديني السحري، حيث ان الواقع غير مراقب، ويمشي مقلوباً، ويندس في المجاري التحتية الملوثة، ثم ينفجر على هيئة فيضانات في البلاعات وأعمال شغب مدمرة.
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2009
لا حلول ناجعة إلا بالحوار
تعاني العملية السياسية في العراق، وبناء دولة المؤسسات الديمقراطية الدستورية مصاعب جمة جراء تركيبة البرلمان الحالي ونظام المحاصصة سيء الصيت وابتعاد الكتل السياسية النافذة في البرلمان عن تغليب المصالح الوطنية العليا والانغماس في مساعي تطمين المصالح الضيقة لهذه الكتل ، والعمل على ضمان المواقع التي احتلتها في الانتخابات البرلمانية السابقة ، وتكريسها في الانتخابات المقرر اجراؤها في شهر كانون الثاني/يناير القادم . هذه المواقع التي باتت مهددة بفعل ما اظهره الناخبون، الى حد ملحوظ، في انتخابات مجالس المحافظات، التي جرت في بداية هذا العام ، من ميل لتغليب الشعارات الوطنية العامة على الشعارات الطائفية والفئوية الضيقة . وكان، ولا يزال، موضوع العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة اقليم كردستان من بين اكبر العقد التي تكدر الوضع السياسي وتهدد بوقوع صراعات خطيرة ، غير محمودة العواقب، لدرجة باتت تهدد بصدامات مسلحة . وقد غذى هذه الهواجس والمخاوف التناول الحاد لهذا الموضوع في تصريحات شخصيات نافذة في الاقليم واخرى في الحكومة وشخصيات برلمانية في بعض الكتل التي تتشكل منها الحكومة. حتى بات الامر يقلق اوساطاً واسعة من الرأي العام العراقي بعربه وكرده وتركمانه ومسيحييه وسائر فئاته الاخرى . ولذا كان لابد من اللجوء الى التهدئة والبحث عن السبل الكفيلة لحل الاشكالات العالقة بين الطرفين عن طريق الحوار البناء ، الذي يستهدف التوصل الى الحلول المقبولة من جميع الاطراف . وكانت مبادرة الرئيس جلال الطالباني بدعوة رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني، الذي انتخب لرئاسة الإقليم مجدداً في الخامس والعشرين من شهر تموز/يوليو الماضي، للقاء والتداول بشأن القضايا العالقة، والبحث عن حلول لها تلغي التوتر والتباين الحاد في وجهات النظر. ومن الجدير بالذكر ان اللقاء الذي تم في بداية هذا الاسبوع لم يقتصر على الرؤساء الثلاثة السادة جلال الطالباني ونوري المالكي ومسعود البارزاني، بل ساهم فيه ، كما ابرزته وسائل الاعلام ، عدد ليس بالقليل من الشخصيات النافذة في الاقليم وفي الحكومة الاتحادية والبرلمان. وجرى في اجواء ودية . ولم يكن من المتوقع ان يسفر عن حل فوري للقضايا موضع الخلاف ، في لقاء واحد ، حتى لو انه استغرق اربع ساعات ، كما ورد في وسائل الاعلام. والامر الايجابي في هذا اللقاء هو انه اسفر عن تفاهم ودي ، وتعهد بالسعي لايجاد الحلول للقضايا العالقة ، استناداً الى ما نص عليه الدستور ، كما اكد ذلك السيد رئيس الوزراء ، الذي اعرب عن ارتياحه لنتائج اللقاء وتمسكه بالمادة الدستورية المرقمة140 باعتبارها مادة واجبة التطبيق. وجرى الاعلان عن ان المساعي ستتواصل بين بغداد واربيل ، إذ تقرر ان يزور بغداد وفد يمثل حكومة الاقليم الجديدة التي سيتولى رئاستها السيد برهم صالح نائب رئيس الوزاء العراقي حتى الآن. وهكذا يثبت من جديد ان الطريق الوحيد الصالح لحل التباينات والخلافات بين الاطراف المنخرطة في العملية السياسية الهادفة الى استكمال بناء النظام الديمقراطي الاتحادي التعددي للعراق الجديد الموحد المستقل ، هو طريق الحوار والتفاهم وتبادل التنازلات التي تتطلبها المصلحة الوطنية العليا للعراق ، وانهاء الوجود الاجنبي على ارض الوطن ، وتأمين الامن والاستقرار ، والقضاء على الارهاب والتخريب وتخليص الشعب من الفساد بكل اشكاله، والانصراف الى الاعمار الذي ينتظره الشعب بفارغ الصبر. وستواصل قوى الشعب الحية الحريصة على المصالح العليا للشعب والوطن نضالها من اجل تحقيق ما يطمح اليه الشعب.
صحيفة الايام
5 اغسطس 2009
انقلاب جنبلاط على “14 آذار”
لم يكن مفاجئاً الموقف الذي اعلنه زعيم الحزب الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط وأحد الاقطاب الرئيسية في التحالف المعروف بتكتل “14 آذار” بهجومه العنيف على هذا التحالف الذي يضمه إلا في توقيته، ذلك بأن مشكلة هذا التحالف انما تكمن انه وليد تقاطع ارادات في لحظة تاريخية معينة من ردود الفعل العنيفة ضد الوجود العسكري السوري السابق، ووليد أيضاً احتقانات وسخط شديد ازاء النفوذ المتعاظم لحزب الله على الساحة السياسية اللبنانية وتقليل قيادة هذا الحزب او استخفافها بأدوار وأوزان الاحزاب السياسية الاخرى المعروفة بأدوارها واوزانها التقليدية التاريخية وبامتداداتها الطائفية، بغض النظر عما تمر به من ضمور او تراجع من مرحلة تاريخية او اخرى.
وبهذا المعنى يمكن القول ان الساخطين على الوجود السوري والناقمين على حليفه القوي “حزب الله” هم بمثابة قوى ورموز عريضة متنافرة في الانتماءات السياسية والدينية لا يجمعها من تقارب سوى شعارات “وطنية” و”ديمقراطية” فضفاضة لا ترتكز على قاعدة سياسية وفكرية صلبة ولو من خلال القواسم المشتركة، فقد كان من الطبيعي والحال كذلك ان يتعرض هذا التكتل الذي يضم خليطاً متنافراً من اليمين واليسار والوسط، فضلاً عما تمثله أحزابه، كما ذكرنا، من امتدادات أو واجهات مذهبية للاهتزاز، ولن يكون تحالف “8 آذار” الذي يتشكل من قوتين سياسيتين رئيسيتين بأفضل حالاً، فهو الآخر يتكون من حزب الله الذي يمثل الاسلام السياسي الشيعي في لبنان وتكتل ميشيل عون “الإصلاح والتغيير”، وفيما يعد الأول نفسه حزباً مقاوماً ضد اسرائيل وحليفاً صدوقاً لسوريا فإنه لم يعرف عن الثاني يوماً وقوفه مع المقاومة المسلحة اللبنانية ضد اسرائيل أو أنه يقف مع سوريا التي حاصرته وطردته من لبنان غداة قمعها لتمرده العسكري في خريف 1989م.
وبالعودة الى التكتل الأول الذي هاجمه وليد جنبلاط بعنف، فإنه يمكن القول ان الخطأ ليس في انضمام جنبلاط الى هذا التكتل العريض في حد ذاته حتى لو كان غير متجانس سياسيا مادام يلتقي على هدف سياسي واحد مركزي بقدر ما كان في وضع أوراق رهانه بالكامل في سلة هذا “التكتل” والتعويل عليه في العمل المشترك لتحقيق مهام وطنية آنية وبعيدة متعددة، فقد كان من المفترض من وليد بيك ومن حلفائه اليساريين والديمقراطيين ان تكون لهم جبهتهم الخاصة أو تحالفهم الخاص قبل دخولهم ذلك التكتل العريض الذي تمثله قوى “14 آذار” المتنافرة سياسيا.
وللأسف فإن القوى اليسارية والديمقراطية والليبرالية الحقة انقسمت على نفسها بين تكتل “14 آذار” الذي شكل اليمين قاعدته الاقوى وبين تكتل “8 آذار” الذي لم يخل هو الآخر من اليمين والتمثيل الطائفي للإسلام الشيعي المرتكز على امتداداته العشائرية والمناطقية والاقطاعية ناهيك عن امتداداته الاقليمية بتأييده المطلق لدمشق وبتبعيته العمياء لطهران الداعمة الاساسية له، فأجندة القوى اليمينية المؤتلفة مع القوى اليسارية في تكتل “14 آذار” غير متطابقة مع أجندة هذه الاخيرة والعكس صحيح. لا بل يمكن القول ان القوى اليمينية ظلت تتصرف داخل التكتل بعقلية اكثر وعياً وحرصاً على مصالحها السياسية والطبقية وعلى اجندتها الخاصة، في حين بدت القوى اليسارية ليست مسخرة في خدمة “14 آذار” فحسب بل مقزمة في القرارات المفصلية الكبيرة. أضف الى ذلك ان القوى اليمينية في تكتل “14 آذار” لم تتخلص تماماً من رواسب عدائها الشديد لليسار وللفلسطينيين على خلفية الصراع الدموي المرير طوال الحرب الأهلية على مدى أكثر من 15 عاماً، وان حاولت ان تكيف خطابها السياسي الممالئ لحلفائها اليساريين الجدد وللعرب.
وهكذا وفي لحظة ضعف هي من لحظات تجليات قائد الحزب الاشتراكي وهو الحزب الذي كان في يوم ما العمود الفقري للحركة الوطنية اللبنانية لم يجد سوى الاعتراف امام المؤتمر العام لحزبه الاخير: “ان الانتخابات النيابية أفرزت نتاجا طائفيا يجب التخلص منه”، واننا لن ننتصر إلا “عندما نعطي العمال حقوقهم ونخرج من اليمين”، وانه يجب “العودة الى اصولنا وثوابتنا اليسارية”، وان عهد الوصاية السورية ولى، والجيش السوري انسحب فكفانا بكاء على الاطلال، وان ذهابه لواشنطن كان نقطة سوداء في تاريخ الحزب الابيض في نضاله ووقوفه مع القضية الفلسطينية ومع القضية العربية ومع قضية لبنان العربي.
على ان هذا النقد الذاتي الشجاع الذي وقفه جنبلاط امام حزبه، فيما يتعلق بتخطئة مراهنته السياسية المطلقة على تكتل “14 آذار” لن يكون ذا جدوى ما لم يقترن بمبادرة الحزب الاشتراكي نفسه بقيادة دور للملمة صفوف وقوى اليسار وسائر القوى الديمقراطية والليبرالية الوطنية تحت لواء جبهة جديدة ذات عقلية مختلفة عن جبهة يسار الحرب الأهلية المؤتلفة مع الفصائل الفلسطينية، وان تعول هذه الجبهة واحزابها في المقام الأول على ذاتها وعلى تقوية عودها أكثر من التعويل على تقوية هذا العود من خلال التحالفات الذيلية العمياء غير المشروطة او غير المحسوبة بدقة مقدماً، وهذا الخطأ ذاته لعمري هو الذي وقعت فيه قوى يسارية في بلدان عربية اخرى وبضمنها بلادنا.
ولئن كان حزب الله الذي يقود تكتل “8 آذار” في مواجهة تكتل “14 آذار” هو أكثر المبتهجين الآن لصدور تلك المراجعة النقدية من قيادة الحزب الاشتراكي فإن ذلك لا يعني انه هو الآخر بغير حاجة الى وقفة نقدية شجاعة قبل فوات الأوان، وبخاصة في ظل الظروف المصيرية التاريخية الراهنة التي تواجه حليفته وولية نعمته وحاضنته الكبرى: “إيران”.
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2009
الزعيم الديني وغياب الوطنية
الزعيم الديني عاش مثل التاجر المبتعد عن السياسة، فهو كائن بدوي قبل أن يكون كائناً مدنيا، فالمذاهب الإسلامية كانت مذاهب متحولة، والمنطقة التي كانت سنية تتحول إلى شيعية والعكس، كان العرب في ترحال مستمر وانتقالات عبر القرون، ومن هنا لم يوجد فيها شيءٌ اسمه الوطن، ولم تظهر حركات وطنية، والوطن لدى البدوي هو الخيمة والنجعة ومورد الماء والنهر والمضارب.
والزعيم الديني يعطي انتماءه للنص الديني، فهو وطنه، وهو عدة الشغل الاجتماعية والسياسية، التي تتبدل بحسب التواريخ والصراعات والتحولات، وقد يعيشُ في بلدٍ غيرِ بلدهِ الأصلي لكنه يحوله إلى بلده، عبر العيش فيه من دون أن ينتمي إليه انتماءً عميقا، وقد يعود لبلده السابق من دون أن تتغير الأحكام الفقهية ولا ذاته. فلم تكن ثقافتنا الدينية السابقة ممتلئة بقيم النضال الوطني.
الزعيم الديني ذو جذورٍ بدوية ترحالية، ورغم أن الركائز القومية تبقى غائرة عبر اللغة، فإن اللغة ذاتها تتبدل ويبقى الانتماء القومي ضارباً ومضطرباً وغائماً في القاع في زمن الملة، حتى إذا أخذت البلدانُ العربية والإسلامية تتقسمُ على أيدي الاستعمار، لم تستطع الحركاتُ الدينية أن تؤسسَ الحركات الوطنية أو أن تشاركَ فيها مشاركة واسعة، ووجدتْ نفسَها غريبة لأن ثقافتها قائمة على ما هو غير الوطن، ولم تبدأ الحركاتُ الدينية بالظهور إلا حين لاحَ غروبُ الأوطانِ وتمزقها بين المذاهب.
وهكذا حين تستعيدُ الأوطانُ وحدتها ستجدُ هذه الحركات نفسها خارج تاريخها التوحيدي.
وإذا تنامتْ عند رجلِ الدين المشاعرُ الوطنية الفياضة فإنها لا تظهر عبر الدين بل عبر الحداثة، ولهذا تجدُ الأفغاني أو محمد عبده عميقي الوطنية، لأنهما جعلا الحداثة أداتهما في النضال الإسلامي.
وقد كان سكانُ شمال افريقيا العرب يستغربون بشدة أن يكون في المشرق أشخاصٌ عربٌ وغيرُ مسلمين وغير عملاء للاستعمار كذلك، نظراً لغربتهم عن الحداثة!
تماهى لديهم الدين والقومية والوطنية واستمرت خريطة العالم الإسلامي القديمة في نفوسهم رغم تبدل الأوضاع السياسية ونشوء دولٍ مستقلة، لكن هذه الكيانات تغدو لديهم مصطنعة، زائفة، والأصل هو الملة الإسلامية، فقراءتهم للإسلام قراءة بدوية عتيقة، لا تعترف بالأوطان ولا بنتاجاتِ الحضارات الإسلامية فهي لديهم مشوشة ضالة حتى من دون قراءتها وفحصها.
والبدوي الديني هذا المتصحر عقلاً يعتقدُ انه مصيبٌ في كل شيء، لحفظهِ بعض الجمل المقدسة، وعلى أساسها يريدُ أن يحكم العالم، وإذ لم يستطع ذلك دمره، فليس عنده شيءٌ اسمه تاريخ وعصور متغيرة وظروف اقتصادية وأمم وشعوب إسلامية متبدلة، ويظل يعيش في جملهِ الدينية باعتبارها هي الملة والوطن، وهي متعالية موجودة مسبقا، تعيشُ في الفضاء المقدس، غير قابلة للنزول للأرض وفهم العالم والاحتكاك بمشاكل البشر العميقة.
والإسلام لديه أحكامٌ مُبسطة عن الشعائر الدينية، ويعتقد انه يتطابق وأحكام السلف الصالح كما يفهمُ السلفَ عبر تلك النصوصية المُبسّطة، التي تتركز على الديكورات الخارجية في الشكل والملابس والعلاقة مع الغير، وحين يجثم في مسرح الديكورات هذا يرضى عن نفسه أشد الرضا وينطلق في محاربة العالم الوثني.
وهذه التبسيطية الدينية راحت تواجه عالماً مغايراً أصبحت فيه الوطنية أساساً للوجود السياسي، وانبثقتْ حكوماتٌ وظهرتْ أعلامٌ ملونة متعددة ومؤسسات وطنية وعالمية ومواثيق أممية، لكن الزعيم البدوي الديني لا يعبأ بهذه التغييرات والخرائط (الزائفة).
فهو يريد أن يحطم ويهزأ بالزمن الراهن الذي لا يحكمهُ السلفُ ولا عقيدتهم، بل تسود فيه عقائد الكفار، وهنا يغدو من الصعب أن يفهم الوطن المعاصر، الذي هو شيءٌ مختلف عن المذهب والجمل الدينية ذات التاريخ الخوارجي غير المدني.
ويبدو الحال أن الكثير من الحركات الدينية تعترف وتقر بوجود أوطان مختلفة عن بعضها بعضا، لكنها في الممارسة خارج الأوطان وتتبع حركات لا تعترف بالحدود، وبالدول وظروفها المختلفة ودرجات تطورها المتباينة، مثلما فعلت الحركات الشمولية السابقة.
لو وجدنا حركة دينية لها اهتمام كبير بوطنها، فإن هذا الاهتمام ليس وطنيا، فالنص الديني المقولب الشكلاني هو الوطن، فترى ان الطائفة فقط هي الموجودة في الوطن وأنها البؤرة لديها، هي القلب الذي تدق نبضاته السياسية عبره، والطائفة تتجاوز الوطن إلى أن تلغي الأوطان، وحتى هذه الطائفة تتحولُ في النهاية إلى نص، إلى كلامٍ فقهي مقدس مفصول عن مشكلات الطائفة وقضاياها وتطوراتها، ويتركز النصُ في العبادات والأحوال الشخصية حيث الذكورية المتطرفة سيدة عالم البدوي الاستراتيجية، وفي نهاية النص يقفُ الفقيهُ المحافظ، وهو بدوي متوارٍ في ملابس دينية، لم يغدُ مهاجراً مترحلاً كما في السابق، لكنه مترحل عبر البيانات التي تأتيه من زملائه رجال الدين في المراكز الطائفية المختلفة، ويغدو المركز هو مركز الجمل الدينية المسيطرة على عقله، لا مركز المشكلات الشعبية التي يعانيها المسلمون في كل بلد له ظروفه الخاصة!
وحتى هذا المركز يمكن أن يتغير فليس المهم المركز بل الجمل الدينية.
في مثل هذه الأحوال تغدو العموميات السياسية القديمة مسيطرة، فعالم الإيمان والكفر يتصارعان ولابد من نصرة الأول ضد الثاني، والغربيون كفار فيجب مواجهتهم والدفاع عن الإيمان والوطن الذي هو وطن المسلمين سواء كان في الجزيرة العربية أم في افغانستان أم مصر، لا فرق بين بلد وآخر، والسلاح هو ذاته يصلح لكل مكان.
تمت استعادة مناخ الحروب الصليبية عند الزعيم الديني بسبب انه لا يفهم العالم المعاصر، وكلُ شيءٍ يرجعُ لديه لمؤامرات صليبية وغربية وأمريكية!
ولهذا تجد الكثيرين من التحديثيين شكلاً هم مثل هذا البدوي الخوارجي حيث الكره العميق للديمقراطية والحداثة ومن أجل سيادة قيم الذكورة المستبدة والعداء الزاعق الشكلي للاستعمار.
ونجد أن زعيم الدينيين في دولة عربية تطورت يستخدم اللغة السياسية نفسها التي يستخدمها زعيم الدينيين في الريف الباكستاني، فثمة عالم مجرد محدود داخلي ثقافي يعيشه الاثنان، ولا فرق إذا تم تشريد الملايين أو عاشت هذه الملايين في المقابر أو هاجرت للصحارى، فالوطن شيء غير موجود، وتستخدم هنا عبارة مقدسة لإضفاءِ شرعية على مثل هذه الفوضى وغياب الانتماء والمسئولية، فيقال كلها أرض الله.
توحدُ الدفاعاتُ عن الذكورية المتطرفة والعادات العتيقة والخيمة الدينية المتجولة وقانون القبيلة، زعماءَ الدين اللاوطنيين، تغدو هي وطنهم، وتغدو الهجرة من ديار المسلمين للبادية، وإلى الجبال هي الحق، أو أن الريف المحافظ يريد فرض هيمنته الذكورية على المدن الاسلامية المتوجهه للحرية والتطور.
الرعبُ من حداثة النساء والعقول هي المخاوف الدائمة للزعيم الديني، فيعرقل تطور المجتمعات الإسلامية وتوحدها وتحررها، ويجلب لها الجيوش الأجنبية، ليس هذا إلا لأنه لا يفهم الدين ولا يفهم العصر ويريدُ فرضَ قراءته المُبسّطة المحدودة في عالم كثير التعقيد والتنوع ويحتاج إلى خطط نضال في مستواه، ويجد الزعيم لسوء الظروف ان لديه من البسطاء الجهلة من لا يعرف أسباب مآسيه فيتوحد بهذا الانتحار الجماعي الواسع النطاق!
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2009
نص اللقاء الصحفي الذي اجرته الايام مع نائب الامين العام للتقدمي…
بعد أنتهاء ما يقرب من فصلين تشريعيين على الحياة النيابية كيف تقيمون التجربة النيابية وما هي آفاق العمل البرلماني والسياسي من وجهة نظركم؟
ج1) كما تفضلت فأننا لا زلنا نسميها تجربة، وبالتالي علينا أن نتوقع أن تمر هذه التجربة بحالات متباينة بين الصعود والهبوط وتعتريها مواطن ضعف وقوة، الأمر يعتمد على الزاوية التي ننظر للتجربة من خلالها، ولكننا نستطيع أن نقول أن التجربة ربما تكون واعدة وتحتمل الصبر عليها وإنضاجها بمزيد من العمل والحوار والتطوير شأنها شأن أي تجربة نيابية أخرى، ونحن نعلم أن مشوار العمل البرلماني سيظل على الدوام يحتاج من جميع الأطراف الى المزيد من الإخلاص والأصرار على بلوغ الأهداف الوطنية، وبالنسبة للقوى السياسية ونظرتها للتجربة يمكن أن تتطور بشكل أكبر فيما لو أجريت تطويرات جوهرية على التجربة من قبل القيادة السياسية من شأنها أن تعزز من عوامل الثقة بين الأطراف، فلنعتبرها ساحة خصبة للعمل السياسي علينا أن نتصارح كقوى سياسية وقيادة سياسية حول ضرورات التغيير والتطوير المستمرين للتجربة، فالقوى السيا سية لا تعدم الاخلاص للتجربة وإن اختلفت حول قدرتها الحالية كتجربة على إجتراح الحلول لقضايانا العالقة، فلا بد من الاصغاء جيدا لما تقوله القوى السياسية فهي قوى تشتغل وتنشغل بقضايا الوطن ولا سبيل الى الغاءها أو تهميشها، فهي ذاتها القوى التي دفعت للمصادقة على ميثاق العمل الوطني بكل ذلك الزخم الجماهيري الهادر، وهي ذاتها القوى التي طرحت ولا زالت تطرح الحلول والمعالجات لكل قضايانا الوطنية السياسية منها والتنموية والمجتمعيةن وسخرت كل ما تملك من كوادر وعمل حقيقي للنهوض بهذا الوطن ويصبح من الظلم إهمالها لصالح قوى بعضها مسخ وبعضها الآخر إما انه يفتقر للتجربة أو لا يعنيه أمر وضرورات التغيير الا بقدر مصالحه الآنية والضيقة ، من هذا المنطلق علينا أن نفهم ضرورات التطوير والاصغاء لقوى المعارضة حتى نستطيع أن نبني معا تجربة نيابية أكثر رسوخا بحيث تساهم بشكل أكثر تأثيرا في الحياة السياسية لهذا الوطن فليتم الاصغاء لما نقوله حول ضرورة إعادة توزيع الدوائر الانتخابية وأهمية إعطاء قوة تأثير حقيقية للبرلمان في الحياة السياسية، ومشاركة أوسع لمختلف التيارات السياسية وحضور أكبر للمرأة، بعيد عن ما أضحت هذه المؤسسة المهمة تشيعه الآن من فرز طائفي بغيض وأصطفافات لا تنتمي الى تاريخ وتركيبة هذا الوطن هكذا نستطيع أن ،فتح العمل البرلماني والسياسي لكي يكون أكثر جدوى وفائدة وحتى لا تفقد الجماهير ثقتها في قواها السياسية وامكانية التغيير المنتظرة فذلك إن حصل فانه يعتبر مقتل للتجربة التي نريد أن نرعاها بصبرنا وقوة جلدنا وإيماننا بقدرة شعبنا على النهوض بهذا الوطن ومستقبل شعبه.
2)- هل تعتقد أن الحراك الانتخابي بدأ مبكرا وكيف تفسرون ذلك؟
ج2) معنى أن يبدأ الحراك الانتخابي مبكرا هو ما ذهبت إليه في إجابتي على سؤالك الأول، حيث أن ذلك يعني أن الناس أصبحت تواقة للتغيير والإسهام فيه بشكل أكثر إيجابية هذه المرة، ونتلمس ذلك في أحاديث الناس ومتابعاتهم المستمرة حول ضرورات التغيير المطلوبة في المرحلة القادمة وباعتقادي أن الجماهير والناس البسطاء لا زالوا يملكون الثقة والإيمان على قدرة الوطن وشعبه على صناعة المستقبل، وعلينا كقوى سياسية سواء نحن الذين في المعارضة أو حتى بالنسبة للقيادة السياسية، أن نعي أهمية ومفصلية الظرف السياسي ودقته، فالشارع بدأ يتشكل بصورة أكثر وضوحا وأكثر إصرارا ولديه المخزون الكافي للإسهام في عملية البناء وتحديث الدولة، شريطة أن لا يخذل المرة بعد الأخرى حتى لا يصيبه القنوط من التجربة ذاتها. أمر صحي أن يبدأ الحراك الانتخابي مبكرا فهو يعني تعلق الناس بالتجربة وتطلعهم للتغيير نحو الأفضل، وعلى القوى السياسية أن تعي دورها في كل هذا الحراك عبر إشاعة مزيد من الوعي والوضوح في الطرح وتلمس مطالب الناس والقدرة على تجاوز ذواتنا ومكوناتنا نحو أفق أرحب يكون باتساع الوطن وقضاياه بعيدا عن الطوائف والملل والانحيازات المريضة التي لا تبني وطنا ولا ترسم مستقبلا مشرقا، وهذه دعوتنا للجميع نقولها بإيمان وصدق.
3) المنبر التقدمي تنظيم فاعل في التحالف السداسي ..كيف تنظرون إلى مسار التنسيق القائم بين مكونات هذا التحالف السداسي ؟ وماذا عن التنسيق مع الجمعيات الديمقراطية والوطنية؟
ج3) نعتز كوننا قوة فاعلة في أي عمل وطني من شأنه أن يدعم ويغني تجربة التنسيق والتعاون مع مختلف القوى السياسية الفاعلة ، ومن واقع تجربتنا النضالية الثرية في العمل السياسي، فنحن نحاول أن نضيف ونسهم مع الآخرين إلى رصيد وقدرة القوى الوطنية من خلال ما نطرحه من برامج وتوجهات، ونعتقد أن التجمع السداسي بإمكانه أن يكون أكثر فاعلية في الحراك السياسي خلال الفترة القادمة إذا ما اهتدت جل مكوناته إلى عمل سياسي أكثر تأثيرا ونضجا، وهذا يعتمد على مدى ألاستعداد الذي لم نشك لحظة في قدرتنا جميعا كقوى سياسية على بلوغة، ولا بد لنا أن نخرج من أشكال التنسيق الحالية إلى مجالات أكثر غنى وجدوى في الفترة القادمة ليس فقط بدوافع انتخابية فتلك لوحدها مرحلة تستحق منا جميعا العناية بها، فهي بوابة مهمة للعمل الوطني على مكونات التجمع السداسي أن لا تهملها، ولكن الأهم من ذلك هو أن نعرف كقوى سياسية كيف ندير العمل السياسي المشترك فيما بيننا بايجابية ونضج وحنكة بعيدا عن الارتجال والتهافت ، مستفيدين من تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين أيضا وأعتقد أن الشارع أصبح مهيئا بشكل أكبر لقيام جسد وطني معارض، ونحن نتمسك بأي شكل نراه إيجابيا للعمل الوطني، كما أن التنسيق القائم بين مكونات التيار الديمقراطي نعتبره ضرورة وليس ترفا على اعتبار أن البنى التنظيمة التي تشاركت العمل النضالي الوطني في ساحات العمل الوطني وفي المنافي والسجون وفي سنوات الجمر طيلة عقود طويلة، وهي وريثة هذا النضال والتاريخ الوطني المشرف، لا يمكن لها أن تكون هامشية أو تابعة أو مستجدية، بل هي قوى لا يستقيم العمل الوطني الحقيقي من دونها مهما علا الموج وأدلهمت الخطوب، ونحن في المنبر التقدمي نجد أنفسنا معنيين أكثر من أي وقت مضى بضرورة التأسيس لقيام تيار وطني ديمقراطي وليبرالي يتسع للجميع دون أن نستثني أحدا شريطة أن تقوم القوى الأساسية بدورها وواجبها في هذه المرحلة المفصلية لخلق الإطار المناسب الذي يستطيع أن يكون وعاءا جامعا لكل الوطنيين والديمقراطيين من قوى وشخصيات وكفاءات ورموز وكوادر، ونحن هنا لا نسعى لبناء تكتل انتخابي ما في مواجهة أحد كما يضن البعض، بقدر ما نطمح لبناء تحالف وطني واسع يسهم مع الآخرين بصدق في عملية البناء ويكون ضمانة لمستقبل هذا الوطن وبوابة للعبور بالجماهير نحو وطن أكثر سعادة وشعب أكثر رفاهية، وممكن أن تكون انتخابات 2010 بوابته الأوسع.
4) نفهم من ذلك أن قائمة الوحدة الوطنية ستعود مجدداً مع انتخابات 2010؟
ج4) سبق أن ذكرت أن المنبر التقدمي هو بادر بالدعوة لقائمة الوحدة الوطنية وذلك استعداد لانتخابات 2006 واستطعنا بالفعل أن ندخل الانتخابات على أساس قائمة الوحدة الوطنية، حيث أشركنا كوادر وعناصر وطنية تتباين في قدراتها وكفاءتها لكننا حاولن ان نشرك المرأة إلى جانب أصحاب الخبرات السياسية والقانونية والنقابية، وكان طموحنا أكبر مما تم بكثير ولكننا حتما نتفهم حينها إسقاطات تجربة المقاطعة على الجميع، مما تعذر معه بلوغ أقصى طموحاتنا التي تتسع للكثير من العمل المشترك مع بقية شركائنا في العمل السياسي، من هنا تأتي دعوتنا الراهنة التي ربما سبقت الجميع بالدعوة مجددا لقائمة وطنية تدخل بموجبها القوى السياسية الفاعلة الانتخابات القادمة بغية تحقيق نضج اكبر في الحراك السياسي يستفيد من زخم الانتخابات للتأسيس لفهم إيجابي مغاير تستطيع القوى السياسية أن تدشن من خلاله عملا سياسيا يكون محل احترام الشارع ويعمل كمصد لكل الدعوات التجزيئية والطائفية التي نعتقد أن لا طاقة لوطننا على تحملها والمضي في دروبها أكثر مما هو قائم فالطائفية والطائفيين هم من يتربصون بتجربتنا الوليدة ومكتسباتنا الوطنية ونحن من يجب أن نتصدى لكل تلك الدعوات التجزيئية، وليكن مدخلنا نحو عمل وطني مشترك وتمثيل شعبي أوسع يكون إطارا محترما وفاعلا نستشف من خلاله المستقبل ونبرهن مجددا على محبتنا وحرصنا الايجابي لانتزاع دورنا في عملية البناء وهذه دعوة لن نمل من ترديدها قبل وبعد وأثناء الانتخابات، فهي رسالتنا التي نفخر عبر تاريخنا أن نكون في مقدمة الداعين لها.
5) -يتساءل الشارع في البحرين فيما سيترشح عبد النبي سلمان للانتخابات القادمة.. هل لنا من توضيح ؟
ج5) أمر الترشح من عدمه لا زال سابقا لأوانه بالنسبة لي، وهو في النهاية مرتبط بقرار المنبر التقدمي، وأنا أرى أن لدينا الكثير من الكوادر والكفاءات في التقدمي ممن يمتلكون قدرات وكفاءات متميزة وهم جميعا رهن إشارة التنظيم للانتخابات القادمة، شريطة أن تدرس حالة كل مترشح وظروف ترشحه وإمكانيات الدائرة التي ينتمي لها، وهذا في النهاية متروك للجنة شؤون الانتخابات بالتقدمي التي شكلت مؤخرا، وأمر آخر له صلة مباشرة ايضا بهذه المسالة وهو طبيعة وضرورات التنسيق المنتظرة مع شركائنا من القوى الأخرى طالما سلمنا بأن طموحنا الأكبر يبقى قيام كتلة تحالف وطني أوسع على مستوى الوطن، ونتمنى أن تحسم هذه القضايا بشكل أسرع حتى لا يراوح العمل التنسيقي بين القوى السياسية في مكانه وحتى نستفيد كقوى سياسية من طبيعة الحراك القادم.
6)لكن هل هنالك حث من قبل الأهالي لك كي تترشح في ذات الدائرة السابقة التي ترشحت فيها العام 2006؟
أولا أنا أشكر كل من دعمني وساندني في الانتخابات الماضية، وأشكر كل أولئك الذين يتصلون هذه الأيام لحثي على إعادة الترشح مجددا وأنا اقدر حرصهم ومحبتهم، وهناك بالفعل مجاميع أو لنقل مجموعات من أهالي المنطقة ممن اجتمعوا بي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة ومن هاتفني بهذا الخصوص وأنا ممتن لهم بالفعل، حيث أنني أعتز أنني من النواب السابقين القلائل الذين بقوا على تواصل مع آهالي دائرتهم ومجلسي الأسبوعي ظل مفتوحا طيلة السنوات الماضية وأنا على تواصل مع الناس بحسب ما تتيحه ظروف الحياتية الحالية وأحرص أن أتواجد مع الناس في أراحهم وأتراحهم وفي مجالسهم، فقد عزز العمل البرلماني في شخصيتي مزيدا من التقرب والالتصاق بالبسطاء وبهمومهم وهذا فخر واعتزاز شخصي بالنسبة لي فأنا ابن هذا المجتمع وبالتالي فالأمر مرتبط بمتعة وضرورة حياتية عنوانها التواصل مع الناس وذلك لا يقدر بثمن وهي أكبر وأبعد كثيرا من أن تكون مجرد نوايا انتخابية فمحبة الناس تاج على رأسي كما كانت وستبقى خدمتهم كذلك.
صحيفة الايام
3 اغسطس 2009
من الثورة إلى الفضيحة
مريعٌ أن يقف إنسانٌ مناضلٌ أمام الملأ ويدمر نفسه عبر قوة خارجية مسيطرة عليه، لا تريد سوى أن تذله!
الأساليب الفاشية في إحتقار الإنسان والمسح به أرضاً وتعفير هامته الشامخة بالوحل، هي أفظع ما يمكن أن يهدمَ روحَ الإنسان العظيمة ويلقي كل مـُـثــُل النظام في مزبلة التاريخ، هو وكل ما يمثله.
لا يمكن أن نغفرَ للأنظمةِ التي أذلتْ الإنسانَ الشامخ، ورمزَهَ المثقفَ المناضل، صاحبَ المبادئ والتضحيات الجسام، الكائنَ زهرة الشعب، أن يُحطم ويُداس.
كانت محاكمات النظام الهتلري للمثقفين بداية الحرائق البشرية.
حين صرخ جورجي ديمتروف أمام المحكمة التي اتهمتهُ بحرقِ الرايخستاج إنني لست مشعلاً للحرائق، إنني مناضل! وقامت الهتلرية بعدها بإشعال الكون!
لم تستطعْ قوى التعذيب أن تجعله يعترف بأنه منفذ مؤامرة تصنع حريقاً وكيف للمناضل أن يكون مخرباً؟، وتحولت كلماته الشجاعة إلى خطة نضالية لتوحيد القوى الشعبية على مختلف توجهاتها للتصدي للنظام الهتلري عدو البشرية!
وكذلك فعل بوخارين وهو يواجه ورفاقه قادة الحزب الشيوعي السوفيتي دكتاتورية ستالين الدموية ومؤامراته لذبح الإنسانية والعقلانية في الحزب الشيوعي السوفيتي الذي كان قائد هذه الإنسانية التقدمية!، وصرخ في قضاته الشرطة (لن تستطيعوا هزيمتي وهزيمة الحزب).
وقامت إدارة ماكارثي الأمريكية في أوائل الخمسينيات بمحاكمة المثقفين التقدميين لأنهم يعارضون الحروب والأحلاف وينشرون الأدب المناضل وسجنتهم وطردتهم من وظائفهم في دولة الحريات!
تمتلك الأجهزة المتعالية كل صلفها وغطرستها عبر أدوات التعذيب الحقيرة ضد جسد منعزل متوحد وحيد، لكي تسحقه بالألم وبالكهرباء والتغطيس في المياه الحارة وإدخال الزجاجات في جسمه وتعريض عائلته للخطر، وتستطيع أن تصل إلى إرادته الداخلية وتهزمها، وتدمرُ روحه، لكن القضية لا تنتهي، وتطور الحرية لا يتوقف، والبلد ليس صوتاً واحداً أو جماعة كبيرة، البلد أكبر من فرد وحزب وجماعة! كذلك فإن إهانة الإنسان هو أمضى سلاح لزوالها!
وحين تفعل أية أجهزة ذلك تخرج عن الثورة، وتدخل مزبلة الثورة المضادة، مستنقعَ بناتِ آوى، ووكرِ الذئاب، وينفصلُ المعذبـون والمحاكـمون عن تاريخ الإنسانية، ويخرجون من القيم الدينية والإنسانية ويتحدون مع تاريخ الشياطين والأفاعي.
وكلُ كتـَابِ القيمِ العظيمةِ التي تفعلـُها الثوراتُ وتـُضاف للرصيد البشري من المنجزاتِ والأخلاقِ الرفيعةِ والتضحيات، يُغلق، ويبدأ كتابٌ وضيعٌ، كتابُ المعذبين وأعداء الشعب، وينفتحُ تاريخُ اللصوصِ والمجرمين على مصاريعه الدموية.
هنا ينتكسُ الإنسانُ الشعبي عمود النظام الثوري وتسقط روحهُ في الوحل، ولن يجرؤ على الخروج لتأييد هذا النظام، سيتركهُ لأي ضابط عسكري حقير يركبُ دبابة ويستولي عليه فقد سقط الشعبُ مشكلُ الثورة.
يتركهُ لأي مغامر لأنه فقد القيم العليا، قيم إعلاء الإنسان واعتبار كرامته هي ذروة النضال، لأنه كان يقدم أولادَهُ قرابين ليس من أجل محاكم التفتيش بل من أجل الوطن، ومن أجل الثورة، ومن أجل التغيير ومن الدفاع عن الحدود.
حين يرى الإنسانُ قائدَهُ وقد قـُدم مسحوقاً محطماً معترفاً بجرائم لم يرتكبها، وهي جرائم شريفة، عظيمة، تـُصنع من أجل الوطن والتقدم، لا من أجل هذا الرجل أو ذاك، من أجل حرية إيران وحداثتها وتقدمها، حين يرى ذلك ينهار، فينفتح البابُ للمغامرين العسكريين، وقادة الأجهزة الخفية، خفافيش الدم، لكي يشربوا ما يشاؤون من دماء، وينطلقوا بحروب القتل والمجد الفارغ وإفناء البشر.
هنا يظهرُ الشمرُ بن ذي الجوشن والحجاجُ بن يوسف الثقفي ونابليون وهتلر وستالين فحين تبدأ السواطيرُ في قطعِ أعناق المناضلين تنفتح بواباتُ الجزارين، وتـُداس القيمُ والأخلاق أرفعُ ما كرستهُ الأديانُ والأفكار، ولا يُعد لدم الإنسان وشرفه وعائلته أدنى مكانة.
وإذلال الرموز الذين حملهم هذا الإنسان نفسه لسدة الحكم، هو دولاب لا يتوقف، وآلة جهنمية سوف تطحن كثيرين بمن فيهم المحاكمين والقادة، إن لم ترتفع الأصوات البشرية في كل مكان لمنع ذلك، لمنع سلخ جسد إيران حية تنزفُ أمام المسرح العالمي، منهوشة في كلِ جزءٍ من جسمِها ومدمرة في كل خلية من روحها العظيمة، إن لم تدوِ صرخة ديمتروف البلغاري الشجاع في مواجهة الجلادين وتضع حداً لدركولا برلين لكي لا يصير كونياً ويحرق العالم.
لقد قدم الوطاويطُ عظاماً سياسية هشة، لكي يكسبوا البطولة الجبانة، ويشربوا دماءها أمام عدسات التلفزيون الميتة بكلِ تشفٍ وغرور، ورغم ذلك ذهب ضحايا في الأقبية السرية ماتوا تحت التعذيب، بل قلْ إنهم صمدوا تحت السحق الروحي، وليس كل إنسان قادر على ذلك، وهذه هي سمة الشهداء، لا سمة السياسيين العائشين على المناورات الحزبية والنضال الصالوني.
ومن حق كل إنسان أن يعترف وحتى أن يُهزم محافظاً على حياته وأوضاع أهله، فهذه هي طاقة تحمله، ولكن سوف تسقط روحه القتالية ولا شك في القعر إلى الأبد، ليتحطم على نحو مريع نفسي، وهنا ندرك ماذا تعني الشهادة وشهادة الإمام الحسين خاصة في مثل هذا الظرف، فليس كل من هتف صدق، هنا نعرف ماذا تعني هزيمة الروح وسحقها، ليظهر (البطل) ذليلاً يسعى فقط من أجل البقاء والعيش، يفقد كرامته الكفاحية بؤرة بشريته، وينضم للمُدمرين. ويفتح جهنمَ الانتقام والثأر التي تبلعُ في أحشائها الثورة والثوار.
لكن بالمقابل يفقد الجاني، السوط المسرور بسوائل الدم التي ينتفخُ بها من ظهور المناضلين، والمنتشي بدموعِ الأمهاتِ والزوجات والأرامل! ويصيرُ مجردَ حثالةٍ تاريخية، وجيفة سياسية!
على الأنظمة العربية والإسلامية أن تخرج من هذا التاريخ الفظيع إذا أرادت أن تنظمَ لركبِ الإنسانية، تاريخ الوحشية والتعذيب والجلادين، والاعترافات المزورة وشهادات الزور والإفادات الملفقة المكتوبة بالحبر الدموي البشري، وأن تنظف مخازنها المليئة الرثة من كل هذه الأشباح والوطاويط العائشة على الدم والعظام وتحرقُ على الملأ جبالَ الاعترافات والإفادات والتزوير.
استطاع نظامٌ عربي واحد فقط هو المغرب أن يخرجَ من هذا التاريخ الملوث، تاريخ التعذيب والضحايا وورق الاعترافات المُذلة، وأن يحترمَ آدمية الإنسان، ويلقي بملفات التعذيب وتزوير الإفادات في المحيط الأطلسي، فمتى تفعل ذلك بقية الأنظمة (العربية الإسلامية)؟
صحيفة اخبار الخليج
4 اغسطس 2009
اغتيال الأشخاص.. اغتيال التاريخ
مر علينا الثالث والعشرين من يوليو دون التفاتة لزعيمه الراحل جمال عبدالناصر ولانقلابه وثورته العربية التي دشنت مرحلة فكرية وقومية جديدة سميت بالناصرية كفلسفة لنهج وطريق جديد توقف في منتصف الطريق بوفاة صاحبه، وان كانت الوفاة أيضا سؤالا غامضا في حينه، هل مات الزعيم بنوبة قلبية فعلا أم تم تسميمه؟ لسنا هنا الآن بصدد ما قاله الأطباء السوفييت مثلما لسنا هنا بصدد ما قاله الأطباء الفرنسيون بصدد عرفات، خاصة وإذا ما عرفنا ان الدول وأمنها يتم اختراقه من قبل امن دول أخرى ويتم شراء وتحريف والضغط على جهاته بما فيهم الأطباء وتقاريرهم. ومن يفترض غير ذلك يكون ساذجا ولا يدرك ما الذي يفعله امن الدول خلف الكواليس، وهي مكاتب تفوق قدرة ورغبة الساسة في لعبة تلك الدول. والأمن جهاز بيروقراطي واخطبوطي هائل ومتغلغل في جسد الأجهزة الداخلية والشبكات الخارجية السرية، ومع موت أشخاصها تموت أحيانا تلك الملفات. مرت المناسبة دون أن نتوقف لا إزاء الأشخاص ولا أمام التاريخ، متناسين بان رغم تداخل الأشخاص مع ذلك التاريخ باعتباره مرحلة من حياتهم ولكنها في الوقت ذاته تاريخ ممتد لما بعد موتهم، إذ تتواصل عملية السجال والأبحاث والتنقيب، بل والحركة الفكرية والحزبية التي تأصلت داخل أجيال تربت وعاشت تلك المرحلة. لهذا فالتاريخ عملية ممتدة لما بعد الموت الجسدي للأشخاص ودفنهم، فالتاريخ حياة خصبة وحية وحيوية بما تعكسه من عملية سياسية مستمرة. التاريخ سلسلة لا يمكننا قطعها بسهولة لكوننا دفنا الرجل في لحظة وداع وبكاء، ولكن ما لا يمكننا الهروب منه هو ان التاريخ يبقى في النهاية تاريخ ولا يمكننا لطم خدودنا وصنع تماثيلنا الرخامية وتدبيج كتبنا الذهبية بكل مقولات وخطب الزعيم. ما قاله أبراهام لنكولن الزعيم الكبير الذي حفرت خطبه أهم العبارات عن موضوعة الحرية ورحل برصاص الاغتيال، يظل درسا مدرسيا للشبيبة والمثقفين والساسة في الجامعات، ولكنهم حال تركهم المقاعد يبدأ عجلة الحياة تسرع خطاها نحو واقع جديد مختلف وثورات متتالية حداثية وتقنية، تجعل كل جيل ينظر للمستقبل وليس للوراء، فكل ما يمنحه للخلف هو التفاتة صغيرة لحب مجروح أما الالتفاتة للحاضر والمستقبل، فانه نظرة واقعية لا يمكنه التفريط في كل خطواتها وأهميتها. بين فكر النخبة وعقلية شارع جماهيري واسع هو مطحون بهموم الدنيا ومشغول بطلبيات الهمبورغر والهاتف النقال، وكل تناقضات الحياة الغرائبية بين الحلم والواقع، الشكل والمظهر وحالة البؤس الاجتماعية المتجذرة في تلك الأرقام والإحصائيات المخيفة، فان التاريخ والأشخاص يتحولان إلى شاشة مشوشة يسهل مغادرتها والبحث عن بديل لها. هكذا جلست أقلب بين حقيقتين حقيقة جيلي الذي عاش أربعة عقود من الصدمات وجيل الأبناء “الذي ليس مستعدا للاستماع لك” بل ويتضايق ويتثاءب إن قررت نشر حكايتك عليه. وما أثار الفجيعة عندي في هذه المناسبة ان موضوع عبدالناصر ترافق هذه الأيام مع نبش رسالة تسميم عرفات، ولكن التهمة هذه المرة ضد رفاق الدرب، والموجه لهم تهمة الاغتيال رفيق الدرب أيضا. فماذا جرى ويجري في البيت الفلسطيني؟ ما كتبه القدومي ونشره ليس قنبلة سياسية، ولكن الإعلام هو من أحالها إلى مذبحة دموية. ما ينبغي نبشه ليس الاغتيال بالتسميم أو الموت طبيعيا لرجل انتهت مرحلته، وهذه سنة الحياة والتاريخ، ولن يكون عرفات رجلا خارج التاريخ وكائنا استثنائيا عن كل تلك الشخصيات العالمية التي اغتيلت أو ماتت ومن ثم دخلت متحف الشمع البريطاني! ما يهم فتحه وهو الذي يتم الارتعاش منه كلما طرحناه هو مسألة أين الورثة المالية ورقمها الحقيقي؟! ومن هم الأشخاص الذين لديهم مفتاح الصندوق النووي الفلسطيني بعد عرفات؟ وهناك أسئلة تتعدى تاريخ وحياة زعيم الثورة الذي لا يحب بعضا من قادة فتح “فتح ملفاته” لكونها مرحلة لم تكن وردية وبأرقام المجد والبطولة وحدها أو بعبارة “نحن من ضحى وضحى وقدم الشهداء الخ… من مفردات التبجيل” في وقت عرف فيه التاريخ وجها رماديا آخر لكل الثورات وقادتها، وما يمكننا الصمت عنه هو سلوك الأشخاص الشخصي – انطلاقا لعبارة عربية، يجب مراعاة ظروف أهله الخ – ولكن ما لا يمكن الصمت عنه هو التاريخ، طالما ان الجميع يردد – الخصوم والمؤيدين – إن التاريخ ليس ملك احد وان عرفات ملك الشعب الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني، فلماذا ترتعد وترتعش فرائص البعض عندما يقترب الباحثون والساسة والإعلاميون من أسئلة هامة لها علاقة بذلك التاريخ “المبجل” تاريخ صبية صغار ونساء وشعب وتاريخ ولكن بلا عناوين سياسية صارخة، أنها مواضيع وأفكار تمس جوهر القضية وملابساتها كتب عنها الشاعر محمود درويش قصائده الجميلة، ولسنا بحاجة الوقوف أمام قبره لمعرفة من قتل الشاعر؟ الحب أم التعب، اليأس أم الخطيئة والإحباط؟ هناك أسئلة أهم من القبر الرخامي وقبو الزنزانة والحصار، واهم من غرف لامعة نام على أسرتها الزعيم بعد القياصرة الروس وطائرات خرافية حلق بها من مدن النفط. إنها أسئلة التاريخ الموجعة.
صحيفة الايام
4 اغسطس 2009