المنشور

دعم الوفاق للديمقراطيين في الانتخابات مسئولية وليس منّة… وتفكيري في الترشح للانتخابات سابق لأوانه



 

أفاد نائب الأمين العام لجمعية المنبر التقدمي النائب السابق عبدالنبي سلمان في مقابلة أجرتها معه صحيفة الأيام الأحد 5/7 بأن التقدمي شكل لجنة للإعداد لانتخابات 2010 والتي يراها المنبر فرصة مواتية أمام قوى المعارضة لتشكيل تحالف معارض صحي وحقيقي يضطلع بمسئوليات المرحلة القادمة.


وهنا نص الحوار

 
 
دعم الوفاق للديمقراطيين في الانتخابات مسئولية وليس منّة… وتفكيري في الترشح للانتخابات سابق لأوانه:



سلمان:  تنسيق مع حلفائنا في التيار الديمقراطي قريباً 
 

 
س 1: ما هي استعدادات المنبر لانتخابات 2010 ؟
 
ج1)   في الاجتماع الأخير للجنة المركزية للتقدمي تم إقرار تشكيل لجنة برئاسة عضو اللجنة المركزية  والمرشح السابق للانتخابات  النيابية على حسين والعمل جاري من خلالها للإعداد لانتخابات 2010 التي ينظر لها المنبر التقدمي على أنها فرصة مواتية أمام قوى المعارضة لتشكيل تحالف معارض صحي وحقيقي يضطلع بمسئوليات المرحلة القادمة التي من الممكن أن تكون نقطة تحول في مجمل العملية السياسية إذا ما توافرت  إمكانية تشكيل معارضة إيجابية وحقيقية، وسوف تشهد الفترة القليلة القادمة عمل حقيقي في هذا الاتجاه بالتنسيق مع القوى الأخرى.
 
س2: هل تشكلت أو ستشكل قائمة لـ 2010 للتقدمي؟
 
ج2)  لقد سبق للتقدمي أن دعى لتشكيل قائمة وحدة وطنية والتي على أساسها خضنا انتخابات 2006 وتمت دعوة مختلف الأطراف حينها  لها وبالفعل كانت قائمة الوحدة فيها من التنوع  بالإضافة إلى وجود العنصر النسائي وبقدر ما أتاحته  ظروف العمل السياسي في حينه والتي يفترض أن يكون  أكثر نضجا  بعد أربع سنوات من العمل البرلماني السلبي خلال الفصل التشريعي الثاني التي أفرزت انقساما طائفيا داخل البرلمان وفي الشارع  والذي من بين أهم أسبابه قصر نظر بعض الأطراف  في التعاطي مع الواقع السياسي آنذاك من قبل من أصروا على تشكيل كتل ذات طابع  طائفي ومذهبي ألغيت لأجلها معايير أساسية ليس أقلها مهمة الوحدة الوطنية ومعايير الكفاءة السياسية والمهنية فحسب بل أمور اتضحت بشكل أكبر فيما بعد، مما أوقع الوطن في معضلة الانقسام والتراجع وأعطى القوى التي تريد أن تستفيد من هكذا أوضاع  الفرصة لإعاقة مسيرة الإصلاح وتحجيم العمل السياسي للحدود التي  وضعتها مسبقا، التي نطمح على الدوام أن تكون أبرز معالمها هي مسيرة الوطن الحضارية وليس مسيرة الطوائف والمذاهب، فقد تنبهنا مبكرا في المنبر التقدمي لضرورات تشكيل كتلة الوحدة الوطنية كتعبير عن ما يخالجنا من قلق  على مستقبل الوطن ومسيرة الإصلاح كوننا شركاء في بناء هذا الوطن  ومن مسئوليتنا أن نكون في الصف الأمامي ومن الداعين لوحدة شعبنا، وكم كنا نتمنى  أن يتم الإصغاء  بموضوعية  وعقل منفتح  لصوت العقل، فالوطن والناس وقضاياهم كانت وستبقى غاياتنا التي دونها تتضائل كل غاية أو مكاسب سياسية أخرى، ومن هذا المنطلق فإننا نسعى من خلال حواراتنا مع شركائنا وحلفاءنا السياسيين في تفهم ضرورات تشكيل القائمة الوطنية للانتخابات البرلمانية القادمة. 
 
س3: نجحتم في 2002 بتوصيل 3 من ممثليكم للبرلمان،فهل أنتم قادرين أن توصلوا أحد مرشحيكم للبرلمان دون مساندة الوفاق ؟
 
ج3)  كون الوفاق قوة جماهيرية كبرى  في الشارع يحملها مسئولية استثنائية  في العمل سويا مع الآخرين لإيصال الكفاءات الوطنية المتنوعة غلى قبة البرلمان وذلك ليس منة بل  هي مسئولية  القوى السياسية والتي من بينها الوفاق والتقدمي ووعد والقومي وغيرهم من القوى الذين سيظل احترام الشارع لهم قائما ومتزايدا طالما دللوا على قدرتهم في تحقيق فهم أكبر لحاجات العمل الوطني  وضرورات التوحد ونبذ العمل المنفرد فالقواسم المشتركة والملفات والأولويات تكاد تكون متقاربة بين كل تلك القوى ويبقى التحدي في قدرة القوى الوطنية الحية على التأسيس لقناعات تسير بالعمل الوطني والمطلبي باتجاه تحقيق غايات الناس ومطالبهم وذلك لن يتم طالما بقيت بعض الأطراف تعمل بشكل فردي، ولابد من اختصار الزمن والمعاناة والسير بالجماهير نحو تطلعاتها وقد سبق ان قلنا ذلك لشركائنا في الوفاق تحديدا قبيل انتخابات 2006 وها هي أربع سنوات قد مرت بل  ضاعت دون أن يتم الإصغاء جيدا وفتح العقول والقلوب، وسيذكر التاريخ الذي نكتب تفاصيله اليومية بأفعالنا وممارساتنا السياسية، وسيسجل للقوى التي  تسعى للمصالح الوطنية العليا وقضايا الناس السياسية وأولوياتهم بأفعالها وليس بشعاراتها ومسيرة الوطن تحتاج لكل جهد وكثيرة هي جهود الأوفياء من مختلف القوى والتي لا يجب أن لا  تذهب سدى فقد آن الأوان للعمل السياسي أن يكون أكثر رشدا وأكثر إنجازا فالدوران في متاهات الوهم لن ينجز عملا حقيقيا على الأرض وعلينا أن نتعلم من الآخرين ويتعلموا هم منا، إذا تحقق ذلك سوف نستطيع أن نوصل مع الآخرين عناصر وطنية بمقاييس كتلة النواب الديمقراطيين في برلمان 2002 التي حتما يفتقدها العمل البرلماني في البحرين وذلك بشهادة الجميع وهذا وسام على صدورنا نهديه للوطن والناس.
 
س4: على الصعيد السداسي هل ناقشتم العملية الانتخابية ؟ وإذا لا، متى ستناقشونها ؟
 
ج4)  نعم هناك تنسيق بدأت بعض ملامحه في البروز من خلال التنسيق مع حلفاءنا  في التيار الديمقراطي وهناك تحرك مشترك  في هذا الاتجاه سوف تشهده الساحة السياسية قريبا، ونحن  في المنبر التقدمي لا ندخر جهدا لأي عمل مشترك باتجاه الآخرين في العملية السياسية ولذلك نمد يدنا كثيرا عبر ما نقدمه من مبادرات مستمرة لخدمة العملية السياسية وضمان تطورها ونجاحها.
 
 
 
س5 : هل تنوي إعادة الترشح في انتخابات 2010 ؟
 
ج5)  هذا السؤال سابق لأوانه  ولم أفكر فيه إطلاقا لأنه خارج اهتماماتي ولو أن هناك ضغوط مستمرة علي  في هذا الاتجاه وهي فرصة أن أقول للجميع شكرا لكم جميعا على تلك الثقة، ولكنني بكل تأكيد لا أطمح لإعادة الترشح فأنا استطيع أن أخدم من كل موقع  يجدني فيه الوطن وهناك من الكفاءات من هم قادرون على تقديم الأفضل فهذا الوطن فيه من الطاقات والكفاءات الكثير. 
 
س6: قدمتم مبادرة للحوار والآن لا يوجد جديد بشأنها ، فهل انتهت ؟
 
ج6)  بالنسبة لمبادرة المنبر التقدمي لا زالت وستبقى حية وفاعلة طالما ظلت الحاجة إليها فهي مبادرة  تقود بكل تفاصيلها ومضامينها باتجاه تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي المنشود وفيها  كل ما تطمح له كلا من المعارضة والحكومة على أرضية التفاهم المشترك الذي يكون افقه الأوسع وطن مستقر ومزدهر دون أي تهميش لأي طرف كان، ونحن مستمرون مع حلفاءنا في العمل السياسي وبالتحديد من خلال الجمعيات السياسية الست التي أجمعت على مبادرة المنبر التقدمي وتوافقت  مؤخرا في ورقة مشتركة قدمناها  للسداسي مع الأخوة في التجمع القومي  لتكون مبادرة التقدمي هي الأرضية لما هو مطروح الآن من محاولة للحوار مع الكتل النيابية وبعض الشخصيات الوطنية وبمشاركة الأخوة في  حركة حق ونحن سائرون لتحقيق ذلك فمبادرة التقدمي لا زالت تحظى باحترام وتقدير كبير في الوسط السياسي لأنها تستمد قوتها وزخمها من ما تطرحه من أفكار إيجابية ورؤية موضوعية وافق واعد للعمل السياسي برمته ونتمنى على الجميع أن يستمد فاعلية حراكهم القادم باتجاه العملية السياسية انطلاقا من تلك المشتركات التي تطرحها مبادرة التقدمي  والتي هي مشتركات وطنية بامتياز ، ونحن مستمرون في تفعيلها مع شركاء العمل السياسي جميعهم.
 
س7 ماذا عن توجه اللجنة المركزية السابقة بعقد مؤتمر للتيار الديمقراطي ؟
 
ج7)  بالنسبة لتوجه اللجنة المركزية السابقة للمنبر التقدمي بعقد مؤتمر موسع للتيار الديمقراطي فهي مطروحة بقوة على حلفاءنا في التيار الديمقراطي وهي مبادرة أخرى للتقدمي تدلل على  حرصنا بصورة متزايدة على تفعيل دور التيار الديمقراطي والذي يجب أن يكون رقما صعبا  في مجمل العملية السياسية وهو توجه يحظى باحترام كافة مكونات التيار الديمقراطي وقد باركته الكثير من الشخصيات الوطنية من داخل التيار الديمقراطي ونعكف مع حلفاءنا في التيار الديمقراطي على وضع آلياته التي نسعى للتفاهم حولها معا لضمان  إنضاج ونجاح هذا التوجه الذي هو على رأس  أولوياتنا في التقدمي ونحن إذ نتفهم ظروف حلفاءنا في التيار الديمقراطي، لكننا بكل تأكيد نعرف أيضا أن ذلك يجب أن يبقى احد خياراتنا الإستراتيجية كتيار ديمقراطي واسع لا زالت الجماهير تطمح في استعادته لقوته وزخمه، فقد أثبتت معطيات أكثر من ثمان سنوات من العمل السياسي أن التيار الديمقراطي ليس حاجة بل ضرورة لا بديل عنها لضمان مسيرة الوطن نحو بر الأمان ولذلك فإننا سائرون باتجاه تحقيقه  كضرورة  سياسية وطموح جماهيري بدون أدنى تردد.  
 

  

اقرأ المزيد

أمـن الخليـج: حديـث متجـدد


منذ عدة سنوات وضع كاتبان أمريكيان تقريراً عن الأوضاع في منطقة الخليج العربي وأفقها المستقبلي، محوره دعوة دول المنطقة إلى ما وصفاه بـ “التعايش مع المتغيرات”، منطلقين من حقيقة شبه الاحتكار الأمريكي الحالي لكل من النظام الأمني والترتيبات الأمنية الأحادية الجانب، مما يؤجل عملياً العمليات الجيوسياسية العادية في الخليج.

ويلاحظ كاتبا التقرير وهما: أي فولر وايان اوليسر إن هذا الأمر يشجع القوى المحلية تجنب التعامل بوضوح مع بعضها البعض في تلك المسائل التي تمس الاستقرار، ويقول التقرير أن التحرك نحو بنيان امني إقليمي فعال هو أمر أساسي إذا ما أريد التقليل من المخاطر. ورغم أن التقرير صيغ بروحية أن أمن الخليج هو مسؤولية الولايات المتحدة في المقام الأول وحلفائها الغربيين إلى حد ثانوي، ويغفل، لا بل يفند، مقولة أن يكون هذا الأمن جزءاً من منظومة الأمن الإقليمي المتفاهم عليه بين دول المنطقة في سياق اشمل للأمن العربي، ويبرز بصورة مكبرة أن دول الخليج الصغيرة المنتجة للنفط غير قادرة على الدفاع عن نفسها ضد اللاعبين الكبار في المنطقة، فانه لا يستطيع الهروب من الإشكالات الكثيرة الناجمة عن إشاعة مفهوم أن أمن المنطقة سيظل مهمة الدول المستفيدة من نفط الخليج.

المغيب في مثل هذه الأطروحات هو أن في هذا الخليج شعوب ودول معنية بمقدار لا يقل بأمن هذه المنطقة، الذي هو أمنها وأمن أجيالها القادمة في الدرجة الأولى، ورغم أن دول المنطقة خطت خطوة، لا بل خطوات، في الاتجاه الصحيح بتشكيلها لإطار مجلس التعاون الخليجي كوحدة إقليمية تمتلك درجة كبيرة من التجانس، وبتمكنها من الحفاظ على استمرار هذا الكيان رغم بعض الخلافات، ورغم الهزات الكبيرة التي عرفتها المنطقة، لكن يظل أن المنتظر من هذا الإطار أكبر بكثير من المنجز. وفي هذا السياق فان هناك قضايا بحاجة إلى تسوية لبلوغ التوافق حول موقف خليجي واحد ومتسق إزاء التحديات المصيرية لدول المنطقة، خاصة في تلك المسائل التي تمس الجانب الأمني، ونعني به تحديداً سيادة هذه الدول واستقلالها ليس إزاء بعضها البعض فحسب، وإنما بينها مجتمعة وبين الخارج، أكان ذلك على صورة قوى إقليمية أو دولية.
 
نقول ذلك وفي الذهن انه لو كانت الأمور مثالية لما جاز الحديث أصلا عن علاقات خليجية – خليجية إلا بمقدار أهمية توطيد هذا النوع من العلاقات وصولاً إلى توحيد المواقف إزاء الخارج، جاراً هذا الخارج كان أو صديقا أو حليفاً أو عدواً.

إن مجلس التعاون الخليجي لو أخذ كوحدات مستقلة لكنا إزاء دول صغيرة المساحة ومحدودة السكان، وحتى إذا أخذناه كمجموع فانه سيغدو مجموعا لهذه الوحدات الصغيرة التي تجعل منه هو الآخر قوة صغيرة، مع مراعاة إن الجمع بين وحدات متناثرة يضفي عليها قوة نوعية تتعدى التجميع الكمي، لكن يظل أن قدر هذه المنطقة وأهلها أنها ليست قوة ضاربة، لذا فان المصلحة الوطنية تقتضي أن يصل الخليج إلى مستوى يجعل من إطاره الإقليمي الذي حافظ على ديمومته منذ أن تشكل حتى اليوم، إطارا يتعدى حدود التنسيق والتشاور ليصبح أداة صنع سياسة موحدة.
 

اقرأ المزيد

الإنتخابات الرئاسية في إيران : أختبار لمدى فاعلية رجال الدين


 
 
بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران، فإن الحوادث الأخير في تلك البلاد تُعتبر مُنعطف في تاريخ إيران المعاصر. ومما لاشك فيه، إن السبب البارز لهذهِ الأهمية هو الحضور العريض لشرائح مختلفة من أبناء الشعب في هذهِ الانتفاضة ضد الطاغية. 
  
  


 

 


  
 
الإنتخابات الرئاسية في إيران : أختبار لمدى فاعلية رجال الدين
Iranian Presidential Elections; A Test for the Effectiveness of Clergy
 




بقــــلم: رضا شوقي
ترجمة: غريب عوض

 
 

بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران، فإن الحوادث الأخير في تلك البلاد تُعتبر مُنعطف في تاريخ إيران المعاصر. ومما لاشك فيه، إن السبب البارز لهذهِ الأهمية هو الحضور العريض لشرائح مختلفة من أبناء الشعب في هذهِ الانتفاضة ضد الطاغية.
 
وفي خضم كلُ هذا، بدأ المكان الفاضي لرجال الدين واضحاً تماماً. في خلال التاريخ المعاصر، كان رجال الدين الشيعة يشاركون دائماً في الحركات الوطنية ضد الدكتاتوريات. وهذهِ المشاركة في مناسبات مُعينة، مثل الثورة الإسلامية، قد اتخذت شكلاً أكثر اتساعاً وشعبيةً لأن عددٌ كبيرٌ من رجال الدين من المراتب الوسطى في المدارس الدينية قد صاحبوا الشعب في ثورتهِ.
 
هذهِ المرة، يبدو أن رجال الدين لم يساندوا احتجاج الشعب ضد الزُمرة الاستبدادية المُحْدَثَة التي حتى لم تتردد عن مهاجمة روادها المحافظين القدماء وتنوي تكميم أصغر الأصوات التي تنشُد الديمقراطية. وبالطبع، إن تصريحات آيات الله العُظمى من أمثال حسين علي مُنتظري، ويوسف صانعي، وسيد عبدالكريم موسوي أردبيلي، لم تكن غير مُتوقعة إذا وضعنا في عين الاعتبار معارضتهم المستمرة للنظام والمعاملة السيئة التي تعرضوا لها في الماضي على يد المتشددين. ولكن سلطات دينية ومؤسسات دينية أخرى لم تُبدي أية تعليقاً حتى هذهِ اللحظة حول الانقلاب الانتخابي والعنف القاسي والسلوك الإجرامي الذي واجه بهِ هذا النظام الجماهير العزلاء. ما السبب الكامن وراء هذا الصمت المُريب؟ نستطيع الحصول على الإجابة على هذا السؤال في البُنية الحالية لمنظومة رجال الدين ونوع العلاقة والارتباط الموجود بينها وبين النظام السياسي. بعد الثورة الإسلامية، بدلت هذه العلاقة المجالين الاقتصادي والسياسي بشكل كامل عن طريق إسناد صفة ”الإسلامي“ إلى النظام؛ لقد ابتكرت نزعة جديدة على طرفي نقيض من الموروث التاريخي للمؤسسة الدينية.

إن المؤسسة الدينية الشيعية، حسب قول آية الله مُرتضى مُطَهرّي، ’فخورة، على النقيض من قرينتها السُنية (مثل جامعة الأزهر في مصر)، لا تعتمد اقتصادياً على أية حكومة في مختلف الفترات التاريخية. ويُضيف آية الله مُطهري، بأن المؤسسة الدينية الشيعية قد بقيت مُستقِلة عن طريق حصولها على زكاة العُشر وسهم الإمام من المؤمنين. وبالرغم من أن هذا الهيكل الاقتصادي قد منع عملياً طلاب المدارس الدينية من أن يصبحوا طبقة ثرية، إلا أنهُ ضَمَنَ استقلالية شجعت المؤسسة الدينية الشيعية على التعبير عن وجهات نظرها النقدية في الانظمة الحاكمة المختلفة دون أن تخاف من عواقب اقتصادية.
 
ولكن على أثر الثورة الإسلامية وانفراد المؤسسة الدينية بالسلطة في إيران، تبدل هذا الهيكل الاقتصادي. ففي هذهِ الفترة الجديدة، بالرغم من أن المؤسسة الدينية لا تزال تحصل على التبرعات المالية من أفراد الشعب ، إلا أنها بدأت تتمتع بإمتيازات حكومية أيضاً. ولا شك، أن بعض الشخصيات المعروفة في المدارس الدينية، خاصةً أولئك الذين لا يؤمنون بالمبادئ النظرية لولاية الفقيه، يؤكدون على أن طلاب المدارس الدينية والمعلمين يجب أن يحافظوا على استقلالهم عن الحكومة. ومع هذا، فإن توظيف عدد كبير من رجال الدين من مراتب دينية عالية، ومتوسطة، وصغيرة في مؤسسات مُرتبطة بالحكومة، والمصاعب الاقتصادية التي يواجهها طلاب المدارس الدينية، خاصة سياسات الحُكام، وبشكل خاص آية الله خامنئي، كل هذا جعل هذهِ المؤسسة، من غير شك، تعتمد على الحكومة.
 
إن نهج آية الله خامنئي خلال قيادتهِ يُظهر اختلافات كبيرة عن نهج آية الله العظمى خُميني نحو طلاب المدارس الدينية. فخلافاً لمؤسس الثورة الذي آمن بضرورة أن يعيش طلاب المدارس الدينية حياة بسيطة، فقد حاول آية الله خامنئي تحسين ظروفهم الاقتصادية. فمشروع الخدمة الصحية المجانية، والتوزيع المُتناوب للوازم والإحتياجات المنزلية الرخيصة، والتوزيع المجاني للغذاء، وتقديم القروض طويلة الأجل بدون فوائد، والمنح المالية خلال الاحتفالات الدينية، ومشروح المساعدة لبناء مساكن المهدي والقسائم السكنية والمنازل المجانية لطلاب المدارس الدينية على مدى عشر سنوات، هذهِ بعض من سياسة آية الله خامنئي. وعلى الرغم من أنهُ يمكننا ترجمة هذهِ الجهود كمحاولة للقضاء عل المصاعب الاقتصادية التي تواجه طلاب المدارس الدينية، غير أن الجانب الآخر للعُملة هو خطة تغيير العلاقة التقليدية والتاريخية بين رجال الدين الشيعة والنظام السياسي.
 
عندما تم اختيار آية الله خامنئي مُرشدٌ أعلى، خصص تمويلاً لطلاب المدارس الدينية يُعادل ما كان يدفعهُ آيات الله العُظام لمُريديهم من طلاب المدارس الدينية؛ كان هذا مجرد مناورة ليرفع مقامهُ إلى مستوى آية الله العُظام.
 
إن توظيف بعض المحاضرين المشهورين من المدارس الدينية، الذين من المحتمل أن يشكلوا الجيل الثاني من المَراجع المُقلدين، في مناصب حكومية كان هذا تكتيك آخر لشراء تأييد رجال الدين وجعلهم يعتمدون على الحكومة.
 
وهكذا، أصبح عدد كبير من رجال الدين وتلاميذ المدارس الدينية يعتمدون على النظام بطريقة لم يبقى أي أثر لما أطلق عليه آية الله مُرتضى مُطهّري نقد الحكومة أن يكون لهُ بقاء.
 
بجانب تغيير البنية الاقتصادية لرجال الدين، كذلك غيرت الثورة الإسلامية البنية السياسية لهذهِ المؤسسة. قبل تكوين ”نظرية ولاية الفقيه“، كان النموذج المُهيمن في فكر رجال الدين الشيعة يستند إلى التالي: الحُكم هو حق للإمام سليم النية ولا أحد غيره لهُ الصلاحية لتشكيل الحكومة إلا هو. فعلى هذا المُرتكز فإن جميع الأفراد الذين يسعون لأقامة حكومة خلال وجود الإمام سليم النية هم مغتصبون لحق الإمام. كما أن الحكومات التي تم تشكيلها في غيبة الإمام هي حالات مؤقتة كانت نتيجة أما لوضع طارئ أو هي كانت ضرورية لبقاء مجتمع كان بدونها قد يتعرض للإنهيار. أن ما يشترك فيه هذين النوعين من الحكومات هو أن الشريعة تُحرم صلات رجال الدين بكلتا الحكومتين أو التعاون معهما، خاصةً إذا كان هذا التعاون يُفضي إلى تعزيز تأسيس هاتين الحكومتين المُشار إليهما.

ولكن بانتصار الثورة الإسلامية وصعود رجال الدين إلى سدة الحكم، تم تحدي نموذج أقتصاب الحكومة بواسطة النموذج المنافس وهو ولاية الفقيه. وبالرغم من أن هذا النموذج الجديد كان حديث العهد ويفتقر إلى تأييد الشخصيات الدينية القديمة في المدارس الدينية، إلا أنهُ أعتمد على السلطة. إن الدعاية المحمومة للحكومة لتبرير هذهِ النظرية، وضغطها المباشر وغير المباشر على رجال الدين الذين يُعارضون النظرية، والحرب والظروف الحرجة للدولة خلال فترات مُعينة، التي بررت ضرورة التظاهر بالوحدة الوطنية، كل هذا كان لهُ دور في خلق هذا النموذج الجديد. بالإضافة إلى محاولة الحكومة جعل طلاب المدارس الدينية والمعلمين – خاصة رجال الدين الشباب الذين يشكلون بُنية المدارس الدينية – مَدِينين للنظام بواسطة تقديمه الدعم الاقتصادي والإجار السياسي لهم، عزز هذا النموذج يوم بعد يوم. وأخيراً، إن إقامة ”مجلس إداري لعلوم المدارس الدينية“ لإدارة شئون رجال الدين – والذي كان سابقاً تحت إشراف المَرجع المُقًلَد – وتوظيف رئيس هذا المجلس بواسطة أمر مباشر من المرشد الأعلى كانت خطوة أسست لتحول البنية السياسية لرجال الدين ومحت استقلاليتها تماماً. كان هذا التحول عميقاً جداً إلى حد أن مهمة المصادقة على تأهيل طلاب المدارس الدينية للقب المجتهد أخِذَت من المَرجع المُقلد وأسنِدت ”لمجلس الوصاية“ (على ما يبدو كمقياس للمشاركة المستقبلية لطلاب المدارس الدينية في ”مجلس الخبراء“).
 
إن تأسيس ”المحكمة الخاصة لرجال الدين“ في نظام القضاء، و ”المكتب الخاص لرجال الدين“ في وزارة الاستخبارات كانت بمثابة الروابط المُتممة بقصد ضمان اعتماد رجال الدين السياسي على النظام ولضمان خضوعهم القسري لسياستهِ. إن ما فعلتهُ هذهِ المراكز لآيات الله من أمثال حسين علي مُنتظري، ومحمد شيرازي، وغيرهم من المعارضين المسجونين من المراجع المُقَلَدين، كان رسالة واضحة هدفت لترهيب رجال الدين بواسطة العواقب السيئة التي ستحل بالمعارضين لسياسة النظام وإزاحة البُنية المُزيف المُهيمنة.
 
كانت فترة الاربع سنوات لحكم محمود أحمدي نجاد التي أفضت إلى الأزمة الراهنة في البلاد بمثابة اختباراً جيداً لتقييم كفاءة هذا النظام الهيكلي التابع. لقد أظهرت الأربع سنوات الأخيرة أن الغالبية العُظمى من رجال الدين والمراجع المُقَلدين لا يعتبرون محمود أحمدي نجاد الرئيس المناسب للبلاد، ومقارنة بالرؤساء الآخرون ، لم يُقيم إلا علاقة هزيلة معهم. لقد انتقدوا سياسته أيضاً بشكل مباشر أو ضمني خلال الاربع سنوات تلك. ولكن عند هذهِ النقطة، وبعد تلاعب محمود أحمدي نجاد بالأصوات، وتَحَيّزْ المُرشد الأعلى في الدفاع عن هذا الانغلاب الانتخابي قد ربط مصير الجمهورية الإسلامية بمصير محمود أحمدي نجاد. ولهذا السبب، لقد اعتبر رجال الدين والسلطات الدينية معارضة سياسات محمود أحمدي نجاد المُخَرِبة خلال الحملات الانتخابية وبعدها بمثابة إهانة للنظام الديني. فهم يرفضون انتقاد محمود أحمدي نجاد لأنهم أما يخشون عواقبهِ الوخيمة أو يخشون خسران إمتيازاتهم أو أنهم يؤمنون حقيقةً بتفوق الحُكم الديني على الأنظمة السياسية الأخرى.
 
في الحقيقة يجب أن نُأكد على أن صمت رجال الدين عن الحوادث الأخير في البلاد وخضوعهم للقرار المستبد للمرشد الأعلى قد أظهر أن هذا النظام الهيكلي التابع، بالرغم من جِدتهِ عند مقارنتهِ لتاريخ المدارس الدينية ذي القرون العديدة، قد أثبت فاعليتهِ ووفقاً لأهداف من هندسوا بنائه. 
 


إنتهى
 

اقرأ المزيد

إنهم يهــزون الأرض

 

 

 

majed gulf news.bmp 

مجيد مرهون


في تلك العشش التي نبتتْ في السبخة، في حوار البحر مع اليابسة، في ذلك الخوصِ المشتعلِ في القيظ، وجدَ نفسَهُ يخرجُ من بطنِ أمهِ الأرض وهو يرقص! عارياً في المياه يستعيدُ رحلة العبيد المسلسلين في السفن، يمسكُ أداته الموسيقية ويعزف، في كلِ الدروبِ، في يقظةِ الخلايا، بجسمهِ القصير، وبوجهه الأسمر وعينيه النفاذتين كأنه فهدٌ يطالعُ الأشياءَ والبشر، يغرز حربتـَهُ في الترابِ والورق وخرائط الأرواح.

في زنزانتهِ في وسطِ الـ jail كما يرددُ السجناء يشعلُ النورَ في ظلمةِ الجزيرة، ويكتبُ في دفاترهِ التي لا تنتهي، ويحدقُ في الكتبِ الأجنبية، يستلُ حروفاً وكلمات، يترجمُها، يعربُها، يُحضرُ عالماً من الفرح والأنين والغناء والهمس وانفجارات الموسيقى، بين بحرٍ من القتلة واللصوص.

حين وُلد هناك في العششِ على موج الطبول والطارات، حيث النعل تجثمُ فيما وراء الأقدام العارية والرقص الجماعي الذي يدورُ حول صارية، حول ثلة تضربُ الجلودَ بقوة، لتهز الأرض، تدورُ حول صارية السفينة التي تاهتْ في البحار، وترنحتْ على جرفِ جزرٍ يابسةٍ جرداء، يرقصون، نساءً ورجالاً، يفرحون، يتجمعون، يأتون من كلِ مخزنٍ غارقٍ تحت الأرض، ومن الحفر، ومن الموانئِ التي سلختْ ظهورَهم ببضائعِها وشمسِها، ويطلقون الأرواحَ المحبوسة فتصيرُ وردة أو تصيرُ سكيناً تغوصُ في صدرٍ ما، أو تصيرُ نشوة في كوخٍ يضجُ بعدها طفلٌ بصراخ الولادة، أو تصيرُ لحناً يبتكرُ المشاعر.

كان عليهِ أن يرى هذا العالمَ يغرق، الأكواخ تحترقُ، والطبول تـُدفنُ في بيوتٍ حجريةٍ تائهة، والمغنين والراقصين يتوارون وراء الذاكرة، ومجيدٌ يفقدُ أباه، يرحلُ ذلك الكائن الغامض الذي لم يره كثيراً، تبخر وترك شبحاً يحوم على أيامه، ونزلتْ المرأة للعيش، أمهُ المصنوعة من الحجر والرهافة والضنى، مشتْ للمكاتب والمدارس تنتزعُ اللقمة، وهو يغادرُ المدرسة ليلتحق بالمعمل، من الورقِ للزيت والدخان، ومن الحلمِ للهوان، ومن مستنقعاتِ النفط تصعدُ نجمة.

وفي سيارةِ الشركةِ الطويلة، وامتدادها الثعباني السائر نحو البرية، هذا الثعبانُ الذي يبلعُهُم كلَ يوم، ليقذفهم في الصحراء، يُخرجون ذلك الساحرَ من بطنِ الأرضِ ليضعوهُ في البراميل والأنابيب، كان يعزفُ، العمالُ الذين تهدهدُهم سيارة (سالم الخطر) وتتقلبُ بهم، وينعسون، يوقظـُهم مجيد بصراخهِ وعزفهِ وضحكاته. كانوا ينتزعون الساحرَ الأسودَ الذي لعبَ في الأعماق ويحيلونه إلى أسماك صغيرة في أيديهم.

أمهُ الصامتة، الهادئة، تترنمُ بالفارسية والعربية، صنعتْ أولاداً انغمروا في العيش الصعب، لا أحد يسمع ما تهمسُ به، لا تغضبُ من رفاقهِ الذين يتدفقون على بيته، يجثمون ليتكلموا كثيراً، هو ينتزعُ منها تلك الأغاني التي ضاعتْ في البراري والجبال والسفن الغارقة، وحملها المهاجرون إلى أصقاع البحر النائية، يدونها، يحركُ موسيقاها الداخلية، ويجلبُ المعاجم، هذا الفارسي العربي العالمي، هذا الأسودُ القحمي المضيء، يدسُ رأسَهُ الصغير في جبال الكلمات، وسيجارته لا تفارقه، حLucky strike الأمريكية الحمراء، عدوة الإضرابات والصدر، يصنعُ الشاي الأحمرَ المميز، ويرى نفسَهُ يصعد، يصيرُ بتهوفن آخر في الشرق، العازفون حوله، وهو يصعدُ المسرح، الخشبة عالية، وهو يمسكُ عصا المايسترو ويحركُ العالمَ والبشرَ بموسيقاه.

في باحةِ السجنِ يجلسُ قربَ الزنزانة لم يبق معه سوى قطه، المدلل، يعطيه من الأكل أكثر مما يأكل، قط كسول، ينام أغلب الوقت، لا يصيد حتى صرصاراً، وموتهُ كان فجيعة، ومجيد طوال الوقت يعزف، سبورتهُ في عمقِ الزنزانة، شهدتْ أجيالاً من المتعلمين للنوتة، رؤوسٌ من الصخور، ماعزٌ بري يهجمُ على الحشائش الغضة، وحين يخرجون ينسون، ينغمرون في حقول الجرجير والحفاظات، وهو يُعلم، يدقُ الأرضَ بقدميه، يُصدّعُ رؤوسَ السجناء، وخاصة جار الزنزانة أبوسعيد اليماني القاتل، ملك الفجل والليمون والطماطم في السجن، الذي يعود متعباً ويريد أن ينام، لينهض باكراً يقطعُ بمنجلهِ رؤوسَ البصل والقطط، فينهضُ كلَ لحظةٍ صارخاً على مجيد: (دعنا ننام!)، الليلُ في أولهِ وهو يحفرُ في الكتبِ الأجنبية القادمة من وراء الأسلاك والمياه، اشترتها أمهُ من المكتبةِ القريبة من الحي، وجاءتْ لمكتب السجن، وتغلغلتْ بين غابةٍ وحشية من السواعد والأنصال والعيون، خيوط قلبها تتوجه للفتى الذي حلمتْ أن يتزوج، وأن ترى عياله، وها هو في السجن المؤبد، أو اشتراها أخوه، ثمة خيوط ملتهبة تشده لما وراء البحر، وكل سنة نسخة من السنة الأخرى، كربونٌ بشعٌ مشع، نفس الوجبات الحامضة، نفس السجناء المعتوهين، النفوس الطيبة التي كان يتخيلها مع غوركي في تشرده، ليست هي، ليس كما كتبَ هو، إنها مخيفة، متعبة، مُدمرة ومُدمرة، كل سنة تحومُ عليهِ وتحاككهُ وتسخرُ منه وتتعلمُ وتراه في صمتهِ الكثيف، في سيرهِ نحو محطة الطاقة الصغيرة، في إشعاله للنور، حين يمرض تـُصابُ الجزيرة بالعتمة التامة، ويأتي إليه العريف، لينهض قبل أن تلتهمَ الحوتة الجزيرة العمياء في البحر.

مراتٍ قليلة ينفجر، تلك الأرض المتفحمة، ذلك الجبل الصغير، يطلقُ صرخاتهِ ومعزوفاته الهادرة، يحركُ يديه ويَخرجُ المايسترو من بدلةِ السجن المهترئة، التي فقدتْ لونها فيما قبل تاريخ الألم، ويتراءى حوله حشدٌ من العازفين، واللحنُ يهدرُ ويرتخي وينامُ وينقضُ على بقعِ الظلام ويصرخُ في الأنام، فيرى السجناءُ موجَ البحر يتحرك وتمشي الجبالُ الصغيرة نحو الحرية، وتهرولُ ضفافُ الحلم القريبة من مصائدهِم وجراحِهم إلى النساء والشوارع والبيوت.

قليلٌ من الكوابيس تطارده، الكابوسُ المستمر، جثومه في جوفِ السمكةِ الكبيرة العفنة، التي تبدو أنها لا تمضي، متكلسة في المياه العميقة، وتفرز عليه أحماضها، وصديدها وماء نارها، وهو يزحف في الظلام نحو سيارة الضابط الأجنبي، يضعُ قنبلتـَه، لتصعد السيارة في اليوم التالي إلى الطابق الثاني من العمارة تنزلُ الملابسَ المعلقة والحديد، الشابُ الغامضُ المجنون والغريب العازف، العامل الساحر، لم يظنْ أحدٌ أنه يفعل شيئاً، لكن العيون تسللت إلى مخدعه، ينهضُ في عمق الليل وهو مغسولٌ بالعرق والقيود تطبقُ على رقبته. ويرى الأمهات اللواتي تعذبن يمسحن ماءه.

السنواتُ تمرُ وهو الذي كان يجرجرُ سلاسلـَهُ في الجزيرة تعبَ منهُ الحديدُ وغادرهُ، ولم ير أمَهُ وهي تموتُ في المستشفى نازفة آخر أمعائها، تلك المرأة الكستناء، بائعة الحلوى للأطفال في الحي، بعباءتها الجاثمة على البساط، في الشارع، المشعة، التي تواصلتْ معه طوال خمسة وعشرين عاماً تركتهُ أخيراً، رحلتْ، وهو يصرخ عند الأسلاك الصدئة، والعالم نائم، العالم كله تركه، لكن السجناء جاءوا إليه في عمق الظلام والصمت.

يهزُ الأرضَ بقدمه، تعبَ الزمانُ منه والوحوشُ التي أكلتْ من جسمهِ يئست، وغادرتْ قوقعته الضاجة بالأنين والحنين والأصداء المخيفة، والأوراقُ تعبرُ الحدود، تسكنُ في مدينة السين والتماثيل، يظهر مايسترو هناك، يتطلع إلى ورقٍ أصفر ممزقٍ قادم من جزيرة صغيرة بحجم نملة في الخليج، يحدقُ فيه بإعجاب ويحركُ عصاه ليحرك الأرض ويهزُ طبقات الصمت.

لا شيء يبقى، لا شيء يزول، ومجيد راقدٌ ينزفُ رئته من التبغ والموسيقى، حوله صبية، وزوجة، وأصدقاء كثيرون، يحملُ جزيرته الشبحية الدامية معه كما يحمل النوتات والدفاتر الكثيرة التي كتبها، وما تزال قدماه الشيطانيتان تدقان الأرض بتوتر.


 

اقرأ المزيد

ســر الدفتـر القديـم


طلب منه احدهم أن يكتب رواية ضمن سلسلة يشارك فيها رجال الفلسفة والسياسة والاقتصاد. لم يُظهر حماساً للفكرة، بل إنه رفضها كلية لاعتقاده انه غير قادر على تأليف حوار.
 
عندما عاد الى بيته أخذت الفكرة تدور في رأسه، فقال في نفسه: “لم لا أجرب؟”. وشرع يفتش عن دفتر قديم كان قد دون عليه بعض الأسماء وبعض الأفكار لأحداث جرت في العصور الوسطى.
 
لماذا كان قد دون هذه الأفكار في ذلك الدفتر القديم؟ أكان يفكر في تأليف رواية قبل أن يقترح عليه ذلك الرجل الكتابة؟
 
إجابته كانت مخاتلة. قال: “كنت أدون تلك الأشياء للتسلية كما لو كنت أحل كلمات متقاطعة”.
 
ستحتل السخرية حيزاً ملحوظاً في كتابته الأدبية، ولكن لذلك ما يبرره من وجهة نظره، فالسخرية هي أسلوب قول الضد في ما هو سائد، لكن للسخرية دوراً أعمق، انها لا تثير الالتباس، لأنها تفترض ان الشخص الذي يتلقاها يعرف الحقيقة، لأنه لو كان جاهلاً بها، فهو حتماً لن يفهم مغزاها كسخرية.
 
من هنا كانت السخرية الأعمق هي التي لا تظهر. انها سخرية تتضمن الحقيقة ونقيضها، وهكذا تصبح وسيلة رائعة للتعبير ضمن استراتيجية فعالة، عندما تقول للغبي: “كم أنت ذكي!”، فالمعنى المقصود هنا يتجاوز اللغة، بحيث لا يعود الفهم اللغوي هو المقياس، فإذا استطعنا، عبر اللغة، أن نظهر السخرية، فذلك هو الخلق الكبير.
 
الحديث يدور عن الايطالي امبرتو ايكو الذي وضع على نفسه السؤال التالي قبل ان يكتب روايته الأولى، وقبل ان تعرف هذه الرواية النجاح: “هل أنا قادر على أن اكتب بعدها رواية ثانية، وإذا كنت قادراً، فماذا سيكون موضوعها؟”. لقد طرح السؤال لأن أحداث “اسم الوردة” تدور في العصور الوسطى، حيث كان هو منهمكاً بالبحث فيها، لذا فإنه اذا كان سيكتب رواية أخرى فما الذي سيجعله يكتب؟
 
مع الوقت اكتشف أن ذكرياته غنية، خاصة أيام مراهقته، وتلح عليه دوما مجموعة رؤى وبقايا أحداث. لم تكن هناك بالضرورة صلة بينها، ولكن مهمة الروائي هي إقامة هذه العلاقة من دون ان يبدو الأمر مفتعلاً. هكذا بدأ عنده الرهان ليدرك في ما بعد ان في الرواية شيئاً أشبه بالسحر، وأن الروائي أشبه بالحاوي.
 

اقرأ المزيد

دمــوعُ البقــرة


يمشي تحت الأشجار في دروبِ الجزيرةِ ملتقطاً اللوز، يضعهُ في خرجٍ كبير.
جسدهُ الممتلئُ يعوق انحناءاته الكثيرة، يبعثرُ ورقَ الشجر الكثيف المتساقط، يرى وزغاً يتدافع قرب قدميه الحافيتين يبتسم: (ماذا تفعلين هنا؟ تتناسلين؟ اذهبي إلى تلك الأحجار الصلبة عند البحر. هيا، هيا، امضي قبل أن يخرج القيدية من الساحة ويدوسونكِ.). تتطلعُ إليه الكائناتُ الهزيلة الطويلة وتتصادمُ بورق اللوز وتسرع نحو التراب وشقوق الأحجار.

هذه الغابة سبق أن رآها، هناك على البحر، قرب قدور الكاز الكبيرة، البيضاء الواسعة، في سترة الشمس، تأتيها الأنابيبُ من الصحراء، ووراءها البحرُ الأزرق الذي لعبَ وسبحَ فيه، كانت الغابة قبل تلك القدور، تمتدُ في الأرض، أشجاراً متلاصقة، كثيفة الأوراق، ويجرون هم ويندفعون، كل ربعه بثياب (الشماطيط) التي يلبسونها، وكان هو شبه عار، الرمان، اللوز، الرطب، تتكدسُ في جيوبهم، يجلسون عند الجذوع، تمتلئُ أيديهم بالقشور واللون الأحمر، يتهامسون، ينهضون عنه، يقذفون (العنكيش) عليه، تضربهُ تلك الأشياء الممصوصة على وجهه، يغضب، ويجري نحو ربعه الملاعين، وأغصانُ الغابةِ تصفعه، والأولاد يختبئون، وهو يبحثُ عنهم، ثم فجأة يخرجون من تحت التراب، من فوق الغصون، من لحاء الأشجار، ويضربونه بقوة. 
 
يملأ خرجَهُ بنوى اللوز، أصبح ثقيلاً، يضحكُ بسرور، ضحكة ناشفة، موجزة، يتحركُ خداه بعصبيةٍ فقط، ثم يعودُ لليباس، يرفعُ الخرجَ ويضعهُ على ظهره، ويمشي.
كلما ذهبَ للضابط كي يعودَ إلى بيتهِ يضحكُ الرجلُ ذو البدلة المزوقة الملونة ذات النياشين الغريبة، يقولُ له زملاؤه السجناء القريبون منه ؛ (أنت محكوم بالمؤبد فكيف تريد أن تعودَ لبيتك؟!)، ألا تنتهي هذه المهمة أبداً؟ أليس فيها إجازة؟! منذ أن أحضروه إلى هنا وقيدوه بسلسلةٍ في الجدار قبل زمان طويل لا يعرفُ متى بدأ وهو لم يزر قريته، ولم يعدْ لأمه.

يعبرُ الساحةَ الفارغةَ من السجناء، قدماه تغوصان في الرمل، الشمسُ تلاحقه، لا تزالُ الأغصانُ تضربُ وجهَه، الدودُ ملأ الثمار وتساقطتْ شهيدةً على التراب، يجثمُ على مقعدهِ الترابي، الخرجُ جثم قربه، ومضتْ يدهُ للوز، يخرجُ واحدةً، يضربُها بحجارتهِ، تتكسرُ، تنفلقُ، ويسيحُ سائلها ويقتلُ دوداً يتغذى متوارياً هناك، كان يمصُ رحيقَها، مثلما فعل عمه: اذهبْ يا مهدي واسرقْ الحظرة، اجلبْ كل السمك المتجمع في (حلق) المصيدة، خذْ كل الزجاجات التي يخبئها محمد عبدالزهرة، ستجدُها في الصندوق الكبير في الكراج. يتساءلُ؛ وإذا كان عليه قفل؟ يصيحُ به: اكسره يا ثور! كلُ شيءٍ يجلبهُ لعمهِ، الأسماكُ المتلاعبةُ بجلده، المقززة لأظافره، الفاكهةُ التي يقطفها من البساتين، الزجاجاتُ الكثيرة التي تلْوثُ وتنام على الساحل، الدراجاتُ المتوقفةُ عند الأبواب، الكلماتُ التي تتناثرُ في الدكاكين والمقاهي، ثم يحصلُ على روبية واحدة يفرح بها كثيراً.

يضربُ بقايا الثمار بقوة، يُخرجُ البذرَ الأبيض ذا القشرة الصفراء، تتساقطُ الحبيباتُ الجميلةُ في الزجاجة النظيفة: واحدة، اثنتان، عشر، تمتلئُ الزجاجة، وظهرهُ ما زال قوياً، والشمسُ تمشي، والسجناءُ في الحدائق يزرعون، وفي الأرض ينظفون، وهو يرفع الزجاجة بفخر.

يصرخُ على أمه؛ (عمي يأخذ كل شيء، ثوبي تمزق ولا يعطيني نقوداً)، ترفعُ أمهُ صوتـَها عليه؛ (وماذا تريد بالثوب يا أبله؟).
كانت مراراتهُ كثيفةً هنا، غير أنه لا يبكي، يمضي حانقاً، يكلم صديقَهُ سلطان في العمل، (لماذا يفعلون بي ذلك؟ أمي لا تنتبه لي أبداً. تكرهني!)، ينزلان من الشاحنة ويتوجهان لكومةِ الحجارة والألواح والأسياخ ويبدآن في تحميلها. يقولُ له سلطان: (صرتَ كبيراً الآن، أجر غرفةً أو عشةً وعشْ وحيداً!).

زاويتهُ في البيت معروفة، شقٌ بين جدارين، هناك كومةُ أشيائهِ، وعمهُ يجمعُ الرجالَ والنقودَ ويمضي في سيارات كثيرة ملأى بزينة وبأصواتٍ صاخبة، والرجالُ معهم أوراقٌ وصور، ويغنون وينشدون، ثم يعم هدوءٌ لطيف. يكره هذه الزفات الغريبة والحشود الهائجة، ويحبُ النومَ ورؤيةَ النساء العاريات في المجلات، والسباحةَ في البحر وصيد السمك. كم سفّط السمكَ في سوق القرية! لماذا لا يفرُ ويمضي إليها؟

تتلألأ الموجاتُ في عينيه، ترقصُ ثيابُ النسوةِ الملونة، وهو يطوفُ بين سُحبِ الحَمام، كلما اكتملتْ عدةُ زجاجاتٍ بالبذر لبسَ أفضل ثوبٍ عنده، ومشى بنعالهِ الوحيدة، ومضى للضابط أو للضيف القادم لجزيرة السجناء، أو حتى أنهُ يتمارضُ ويضع زجاجاته في حقيبة ويركب لنجَ الشرطة حين تمضي للمدينة محملةً بالمرضى من السجناء أو المحظوظين من الذين لم ينسهم أهلُهم وحصلوا على زيارات، وهناك يقدمُها بكلِ تواضعٍ لضابط السجن، ومساعديه، الذين يتابعون الزيارات ويقرأون رسائلَ السجناء قبل أن تمضي لأهلِهم ويضربون المساكينَ بعقابِ الفلقة، ومرةً سمعهم يضحكون بعد استلامهم كلَ تلك الزجاجات ويقولون: (إنها لذيذة وتصلح للسكرة كمزة هذه الليلة!)، وهو يعودُ مثقلاً، السفينةُ الصغيرةُ تتقلبُ في المياه، ومعدتهُ حامضة، لم يأكلْ حتى الطبخة اللذيذة التي يصنعُها سجناءُ المنامة في القلعة.
وكل تلك الزجاجات وتلك السحب الخضراء من اللوز، والعصافير المقلية والحَمام الغريب المُصاد الموضوع في أقفاص والأسماك الكبيرة المجففة، لم تفتحْ بابَ الخروج له، ظل قروناً في زنزانته، يرى وجوهاً مثل نقاط البحر حتى اختلطت عليه، وتاهت الأسماءُ والأيام، ويأتي فتيةٌ ويرونه ثم يخرجون ويعودون رجالاً ويتطلعون لموقعهِ في ذاتِ المكان، عند أول زنزانة من جهة الشرق، ويفتحون أفواهَهم دهشةً وعيونهم دموعاً.

كثيراً ما يتمددُ متطلعاً للسقف ساعات طويلة، يتذكرُ تلك البقرة الوديعة التي لاطفتْ أيامه، يرضعُ منها جائعاً، وترمقهُ بود، حتى قرروا ذبحها، فبكى وحمل سكيناً مُهدداً من يقتربَ منها، لكن بضعة رجال هجموا عليه وربطوه وهو يقطعُ الحبالَ ويهزُ الرجالَ، وحين تمكنوا من ذبحِها فكوه ليتلوى على التراب.

في الليالي الطويلة التي تمشي بلا رحمة، في الليالي القائظة التي لا يتحركُ فيها عشٌ أو ريش، التي يرقدُ فيها وهو يسبح، يتساءلُ بذهولٍ لماذا هو هنا؟ ترتعشُ حبيباتُ ذهنه، تضيء. كان عمهُ مذهولاً وهو يراهُ يحدقُ فيهم وهم يسرقون المخزن. ظهرَ من حيث لا يعلمون، يسألُ عن نقودهِ التي يأخذها عمهُ ولا يشتري له حلوى ولا يعرسهُ مثل الآخرين.

يضربهُ العمُ بشدة ويحذره: (لا تتحدث بشيء). كانت دموعُ البقرة تتحولُ إلى روافد في الجزيرة، خرير مياه، وهو جاثم تحت الأشجار، يدهشُ كيف تبكي تلك الأم ولماذا لا تخرجُ مياهٌ من عيون البشر؟ يكلمُ النوارسَ ويطيرُ معها مغادراً بفرح.

كان ثمة رجل في المحكمة يقول بغضب: (جريمة مع سبق الإصرار والترصد)، جملةٌ كلمَ أناساً كثيرين ليفهمها من دون فائدة، لم يسمعْ سوى ولولة أمه لاحقاً، أنشبتْ أظافرها في لحمه، وكلما جاء مساجين جددٌ سألهم عنها، ورأى القريةَ على شموعِ كلماتهِم ولم ير البساتين والحظور، وفي أحلامه الكثيرة مشى فيها ودخلتْ في مسامهِ كالغازاتِ المشتعلة، وأخذ البقرةَ من الحظيرة إلى الحقول، ووضع أمه على عربة ومضى بها.

يضربُ اللوزَ، يضربُ، وتتطايرُ الأماني، ويحملُ الزجاجات في عواصفِ البحر، يضربُ يتطاير السائلُ الأحمرُ منها، يتفجرُ الدم، يضربُ رؤوسَ السجناء بالحصى، يضربُ جدران زنزانات العقاب، حيث يجثم قطاً متوحشاً، يصرخُ الرجلُ في المحكمة: (جريمة . . !)، وهو الذي غطى رأسَهُ عن ضرباتِ عمه وصحبه، وسالَ السائلُ اللوزي من جسده، ثم أمسك زوجَ أمه بقوة، وحضنه بشدة حتى صمت صوته البشع، يضربُ الثمارَ اليابسة، بساطٌ منها يجثم في الشمس ليجف، سجاجيد كثيرة تصفر ثم تزهر في الزجاج، تهاوى عمهُ، صار خرجةً، كلمه لينهض بلا فائدة وأمه تولول.
هل فعل شيئاً؟ متى يعود لقريته؟!


 

اقرأ المزيد

ملكوت الحرية


لاحظ الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، من خلال تجربته الشخصية المعروفة، أن البشر ليسوا ضحايا السجون المادية والموضوعية التي قد يعرفونها أو لا يعرفونها فحسب، بل إنهم ضحايا سجون وأسوار يشيدونها داخل ذواتهم على شكل مركبات من الأنانية وحب التملك والارتكاسات القمعية المكتسبة.
 
ويشير اللعبي عن حق الى أن كل مشروع تحرر لا يستهدف إلا كسر القيود الخارجية محكوم عليه بإعادة تشييد سلسلة جديدة من السجون، لأن الأسوار الداخلية أكثر مناعة وتأثيراً من الأولى.
 
شاعر الهند وحكيمها الكبير طاغور يرى أن كل ما فعلته حضارة الحجر أنها دمرت الإنسان، وكي “تتأنسن” البشرية من جديد عليها التحرر من جملة المصادرات التي نفذتها هذه الحضارة لحريات الإنسان.
 
هذه العودة إلى “داخل” الإنسان أو إلى ذاته أضحت مظهراً من مظاهر الاتجاهات الفكرية والفلسفية الجديدة التي تنبهت إلى أن العقلانية الفجة بكافة مظاهرها إذا انصرفت إلى الخارجي أو الموضوعي، فإنها صادرت قسطاً كبيراً من قدرات الإنسان وحرياته.
 
من هنا التأكيد على قدرة الحضور الداخلي، على تحرير الذات من القيود المنيعة التي نسجت حولها، وليست هناك مفارقة في أن تجري العودة للفلسفات الشرقية التي كانت أولت العالم الروحي، الداخلي، للإنسان اهتمامها الأكبر.
 
وحتى مفهوم الاغتراب، الذي هو إحدى ثمار الفلسفة العقلانية منذ هيغل ركز على اغتراب الإنسان عن الأشياء من حوله، عن العمل وعن السلعة وسواها، ولم يكترث، كما يليق، باغتراب الإنسان عن الذات، على النحو الذي تصورته بعض اتجاهات علم النفس كافتقاد الشعور بالذات وبالعفوية والفردية.
 
ولو تأمل المرء في حياته للاحظ أن القمع الداخلي للذات يضاهي القمع الخارجي لها، فبينما تتحول الأشياء من حولنا وتتراخى صرامة القيود الموضوعية، تزداد القيود التي سبكناها نحن داخل ذواتنا قوة وتماسكا، فتعيقنا من الانعتاق، من الجرأة ليس فقط في السلوك الشخصي، وإنما عن تفهم سلوك الآخرين والتسامح مع رغباتهم، التي هي بالمناسبة رغبات مكبوتة في دواخلنا نكابر إذ نتجاهلها.
 
لو تساوق الإنسان مع حريته التي جبل عليها، لو ولج ملكوت الحرية الجميل بتفاصيله المدهشة، لرأى ما رآه شاعر الهند وحكيمها طاغور حين طفا بعيدا إلى مكان قصيّ، ودفع الباب الموصد في ذهنه فانفتح على دار خرافية.
 
 

اقرأ المزيد

المحاربُ الذي لم يحارب


في الزنزانةِ الواسعةِ تخشب. لا ينطق. لا يأكل. قرب الجدار جلسَ متمددا. اللحافُ إزارٌ قديمٌ مهترئٌ ألوانهُ ذابت. مجموعةُ السجناءِ تطالعهُ كثيراً، يمرُ الليلُ والنهار، تجري الأيام، وهو عند الجدارِ صامت، جسدهُ يتآكل، تـُوضعُ قربه صينية الطعام ولا يمسها. يتحدث السجناءُ الغرباءُ الذين التقوا بصدفةِ المكان. هذا سقطتْ من سيارتهِ امرأةٌ. ذاك أجنبي طعنَ زميلَهُ في الباخرة الراسية في الميناء. آخر قَدِمَ من جزيرةِ السجناءِ يقرأ الإنجيل.

في داخلهِ ضجيجٌ هائلٌ، دواماتٌ من الأشياءِ والصورِ والصرخاتِ، يحاولُ أن يقبضَ على شيء، على وجهٍ أو حركةٍ، لكنها تمورُ، تنخطفُ من يديهِ وتتحولُ إلى وهجٍ يحرقه، يحاولُ أن يهدأَ، المرئياتُ تنطلقُ؛ صرخاتُ أمهِ: يا عبدالرحيم ماذا تضعُ تحت السرير؟ إنها أسلحة !.. الضابطان يضعان يديه وراءَ ظهره. الغرفةُ المعتمةُ والضرباتُ الموجعة، وهو يرى نفسه الآن في الخندق، في أغوارِ الأردنِ، المياهُ الباردةُ تنزلُ عليه، يمسكُ البندقيةَ حارساً، تصيحُ أمه: يا عبدالرحيم! 
 الوقفةُ الطويلةُ المؤلمة بين الجدران، النهارُ المتداخلُ بالليل، سلكٌ صغيرٌ وجدوه في البيتِ دل عليه، سلكٌ تافهٌ نسيهُ علقهُ في تلك الغرفة، ربطوهُ من قدميه وتدلى، رأى الموتَ الأزرق، سُلخَ جلدُهُ حياً.

لا يتكلم، لا يأكل، جسدهُ يرحل، الرفيق الذي يكلمه في الزنزانة ويقرأ الإنجيل لا ينظرُ إليه، نظرهُ متخشبٌ على الجدار، موجهٌ لجهةِ الصورِ الهاربةِ السوداء البيضاء، (نعم ألقيتُ القنبلة على مركز الشرطة)، انتهى كل شيء، بالنسبة إليه، صارَ جثةً، علموه أن الأعترافَ كارثةٌ، انتهاءٌ، موتٌ، وها هو يموت، لكنه لم يمتْ بالنسبة للمحققين، انفتحتْ شهيتهم على ذاكرتهِ وضلوعه.

نظرهُ متحجرٌ، والحياةُ تنزفُ عنه، السجناءُ يتبدلون، مثل حقل من الرمل والمرايا، الرفيقُ الإنجيلي يعودُ لجزيرة السجناء، الأجنبي يُحكم عليه بالسجن الطويل، يسمعهم يتكلمون، لا يشارك، الرجلُ صاحبُ العشيقة المنتحرة يُخلى سبيله، يأتي لصوصٌ، قوادون، رثاثُ الأزقةِ كله يتجمعُ حوله، ونظرهُ منصهرٌ، يبدأ جسمهُ يمضغُ اللقمات القليلة، الجسمُ يستجيبُ للحياة، قررَ الموتَ سابقاً، لا مكانَ لخائنٍ، الجندي الذي تدربَ في الأغوار سلمَ سلاحَهُ للعدو.

في الزلزالِ الطويلِ لأرضهِ وأحشائهِ كان يطيرُ في الهواء. البيتُ الكبيرُ لربان البحر العظيم يستقبله، هناك في الخلفية البحرية حشودٌ من السفن وعقود اللآلئ والموانئ، المدينةُ الأسطورةُ ذات المعلقاتِ المائة تدشنُ روحَهُ للسفر، البيتُ يضجُ بالكلماتِ المطرية المخصبة، وهو الفتى يصحو في نوبةِ السهرِ على موعدٍ مع الخطرِ:
– يا عبدالرحيم اخترتكَ لتكون أول المتدربين.
حين يعود للأزقة الضيقة، حين يدخلُ بيتَهم الواسع، ويرى الغرفَ الكثيرة، وأمه وأباه، وإخوته، ينتعشُ ويصنعُ أجنحة.
البيتُ الواسعُ للربان العظيم يضخُ شباباً وفتوةً وورقاً وكلُ أحجارهِ تنزفُ من عذابِ الغواصين، يحيلُ الورقَ قنابل ودفاتر وتقارير وعيوناً، وأخشابُ البيتِ تصدرُ أصواتاً غامضة.

يقولُ لأمهِ وأبيهِ سوف أذهبُ للسياحة، وهو لا يملكُ شيئاً، التذكرةُ تابوتٌ، وهو يرمي العدوَ منذ الآن، يطلقُ بلا خوف، الطائرةُ تحطُ على بركانِ قلبهِ، يصلُ الأغوارَ، يجلسُ ببدلتهِ الأنيقةِ منتظراً صلة الوصل، المدربُ يأتي ويتطلع إليه بدهشة يقول: (أجئت لحفلة ؟ قمْ انزعْ هذه البدلة!)، يأخذونه تحت الأرض، كهوفٌ، وظلامٌ، وجري عنيف، المياهُ الموحلةُ تطرطشُ على جسمهِ، البردُ عاصفٌ، يضربُ الأغصانَ، يحس بدمٍ على وجههِ، صرخاتُ المدرب: أجرِ، أجر!، حبلٌ يتدلى من السماء، الأنبياءُ صعدوا هنا إلى النور، الحبلُ يرتعشُ، وهو يتدلى بلهبِ النجوم، يصعدُ، من تلك المدينةِ الحجريةِ الرثةِ يصعد، يقتربُ من وجوهِ ملائكة السماء، أئمة الروح المسيطرين على الضوء والعتمة، ينقعُ في بحيرةٍ من الروث والدم، يذبحُ دمى كثيرة، يطعنُ أصناماً تتحكمُ في آبار الكلام والزيت.
يقدمون له شهادةً؛ خريطةً من الجراحِ في جسدهِ، ويعودُ لأزقتهِ، لبيتهِ الواسع، ونفس البشر يجلسون عند الدكان يتهامسون:
– أليس هذا عبدالرحيم؟!
– ذهب لإجازة.
– إنه لم يعمل بعد.
– لا أشتغل في شركة تأمين على الحياة.

وهو موعودٌ بإطفاءِ حيوات كثيرة. كل تلك البوم الرابضة في بستان. ولكن بيت الربان العظيم الذي استقبلهُ بحرارةٍ تركهُ في الظلال، عاد إلى المدنيين، أنغرزَ في شركة التأمين، يستقبلُ الضحايا والمفلسين والعيارين، منذ الصباح وهو يعاين التقارير والسيارات وأسعار الكراجات، ويخرجُ في المساءِ مغبراً بالآلام، ويتوارى في الظلام، يطيرُ بأجنحةِ الريش وبندقيته صدئت، يقولُ بترددٍ لابن الربان: (هل سأظل هكذا عاطلاً؟!)، الرجلُ التاجرُ الأنيق مشغولٌ بالصحف وبقهوة الصباح في الشيرتون وبمكالماتٍ هاتفية كثيرة، وبمتابعةِ كل شيء في الكون، يتركُ عبدالرحيم بيت الربان الكبير، الذي يصيرُ سكناً للعمال المهاجرين الذين ينشرون ملابسهم الرطبة على الشرفات، الشرفات التي كانت تستقبلُ الغواصين والمحاربين، يقول : (تغير كلُ شيء يا عبدالرحيم، لم تعدْ الرصاصةُ كلمةَ السر !)، يغرقُ في الكتب والورق والكلام، ينعزلُ، يشيبُ، يعتني بصحته، يقول له التاجر: (يا عبدالرحيم أقرأ، أقرأ، أنت شبه أمي !). يغضب، يتطلع لبركة السباحة التي يقفز إليها، إلى البار الجميل قربها، وبه كل الزجاجات، يهمس (يا لضيعة النضال!)، يتدفق في الحارات التي تتهدمُ شيئاً فشيئاً مثل رجل مشلول يموتُ ببطءٍ، يصرخُ في وجهِ الربان الغارق في عتمة المساء: (أنت الذي علمتني.. الحياة..)، يطلقُ رصاصةً في عينيه.

حشدٌ من الشباب يخيمُ في ظلال الزيزفون والبؤساء والغثيان والفولاذ الذي سقيناه، أشجارُ النخيل تنزلُ عليهم بركاتها الأسطورية، تحتضنُهم بمودةِ العذراء الإلهية، السواحلُ تمتدُ تحت أرجلهم مثل ألسنة عطشى للقبل، وجوهٌ كثيرة متلونة، متقلبة، متغيرة، منصهرة، يحرقون الورقَ والكلامَ ويسبحون في مياه النار. يشعرُ بفرح، يجدفُ، يسبحُ محترقاً، تعودُ الكلمات إلى مجاريه اليابسة، يجدُ رئيسَهُ في شركة الموت صديقاً، يمضيان في كل مساء للشيرتون يحتسيان الجعةَ الباردةَ ويشاهدان مياهَ الخليج المستباحة لكل قرصان.

طيورٌ جارحة تحلق، أصدقاء غابة الزيزفون يسقطون في شبكات الشر، آلهةُ الجحيم تستدعيهم لحفلاتِها الصاخبة، برميلُ القمامة الكبير مكونٌ من ورق وخيبات واعترافات وصواعق لم تنطلق، ومرايا مشوهة وأجنة أطفال مرمية. يُصابُ بأزمةٍ كحولية، مديرُ شركة الموت المتأنق، المتزوج كل سنة، الناقع في برك العطور، يقودهُ للفندق ولمرقصه المليء بالسيقان اللاعبة في القلوب، نهر البيرة يتدفق حتى يغرق في الأغوار، يصيحُ: (كلما ظهرت بندقية نظيفة كسروها، انظر إنهم يحرقون الخيام)، الدباباتُ تدخلُ المخيمات. والكحولُ الذي لا يزول لا يفعل شيئاً لرأس عصية على النوم والاستسلام.
ببدلتهِ المكوية دائماً، الشاحبة اللون، وبشعرهِ الكثيف الأسود، وبمشيه الهادئ الرصين في الخط المستقيم، وبنظرتهِ القلقة الحذرة، يتوجه عبدالرحيم إلى سيارته.

حشدُ الرجالِ على الكراسي يرمقه، يهمسون:
– لم يتغير كثيراً، كأنه يوم غادرنا.
– سمن بعض الشيء، يبدو أنهم يطعمونهم بشكل زين في السجن.
– بل من الجلسة الطويلة هناك.
التعليقاتُ نفسها، لكن يتبدلَ الرجال، تتغيرُ الملابسُ والسحنات، صبيةٌ يحتلون مكانهم ويدخنون نفس السجائر والنارجيلات، يستعيرون نفسَ الأمراض والخرافات، نفسَ الدروبِ الحجرية الذائبة التي تخرجُ منها هذه الأشباح.
حتى النساء حاملات القفف على رؤوسهن يطالعنه:
– يصلح لابنتك يا خديجة، شاب من الأجاويد!
– لا نريد أهل الحبوس، ابحثي عن ابن أغنياء.

لم تصبهُ الإبرُ، سمعهُ مرهفٌ، والأسى لا يعرفهُ، تمازجَ جلدهُ وجدرانُ مدينتهِ العتيقة، التي تتساقطُ أحجارُها، وتتمددُ فوق جهات البحر، وتنفقُ الأسماكُ في جداولها. زوايا الروح هنا وأجنحتُها اليابسة، احترقتْ في الزنزانات ورفرفتْ على الشهداء.

كان في قاعةِ المحكمة، رجالٌ قليلون، وهو مقيدٌ نازف، محاميه خالد وحده يصلهُ بالفراشات، وبأهلهِ، وبمرضِ أبيه، وبموت أمه، يكّونُ حلقةَ وصلٍ بين انفجارات الخلايا وبفواتير الحياة والموت، لا يسخر من فعلهِ الغريب وإلقائه قذيفة على مركز شرطة، قذيفة انفجرت ولم تـُصبْ سوى الهواء، يواسيه، يبحثُ عن كلِ ثغرة في شبكةٍ مهلهة، اعترافات زائفة، وصلات مصطنعة، لكن جسمَ القذيفة موجودٌ على الطاولة، القذيفةُ التي في فسيفساء من لحمه وأيامه.

– حُكم عليكَ بعشرِ سنوات من السجن، ماذا تقول؟
– عشر، عشر ليكن.

تنفتحُ البوابةُ الصدئة ويخرج. عشرُ سنواتٍ احترقتْ وراء ظهره. بيتُ الأهل خرابة. المدينةُ احتلها الغرباءُ البؤساء. عشرُ حياتٍ ضخمة بلعتهُ ولفظتهُ سميناً بعض الشيء، كل يوم كان مدىً، في الجزيرةِ المقذوفةِ في اليم، لم يرْ سوى ظهور الرجال المجلودة، والصخور، ومستنقعات الدماء والأحلام، ونسرُ النجمةِ سقط على الحصى، بين الضحايا، وأمعاؤه مفتوحة للبوم، وللعيون، ويرى رصاصاته لا تطير في المدى، والمخيمات تحترق دائماً، لا يموت أسى، يتعلمُ الحروفَ وينسج كلمات مبعثرة بالندى، يخرجُ من البوابة الصدئة لمدينةٍ نازفةٍ من كل حصاة. يعودُ لشركة التأمين على الحياة ليوسع الموت، ورئيسهُ يأخذه لخمس نجوم كي ينسى ولا ينسى. في الرغوةِ الفضيةِ رشوة، في الأجر الزهيد الذي يعطيه إياه دعاية وسخة واصطياد عصفور خرجَ محروقاً من الزنزانة، وعليه أن يأكل ويركبَ الباصَ لبيته الخرابة، وينقعَ من الصباح حتى المساء يعاين الحروق والصدمات والصدأ في السيارات والرجال. رئيسه يحتضنه وكلٌ منهما يدفع فاتورته.

الظلامُ خيم على الأرض، وليس ثمة سوى الخفافيش تطير في الشوارع والعيون. المجالسُ التي يحضرها تهذي، برقيات وأوراق كثيرة تأتي من الخارج، يسحبُها عبدالرحيم من الآلة، ويرى الحارات تحترق، يقول رئيسه: هي الولادة الحقيقية، تضحيتك لم تذهب سدى، مستشفى ولادة يحترق، يهتفُ رئيسهُ: كفاحنا يتقدم، يتوقفُ عن نسخ الأوراق، يصرخُ به رئيسهُ: ما نفعلهُ انتقامٌ لك. ماذا فعلتَ غير أن قذفت علبة طماطم على مبنى وخسرتَ عشر سنين من شبابك، عشر سنين، انتقمْ الآن!
الحشد عند الدكان:

– أليس هذا هو عبدالرحيم؟
– كأنه مريض!
– لا إنه وحيد!

البيتُ معتمٌ، فواتير عديدة لم تـُدفع، إخوتهُ الصغارُ تزوجوا وانجبوا وملأوا الدنيا ضحكاً، وهو يعودُ كلَ مساء معتم، في نفس طرق المدينة الرثة، بين حشود اللغات الأجنبية، يبحثُ عن فتاتٍ معدني ليشتري خبزاً وقهوة، قتلوكَ خلال عشر سنين ملعونة، طردوكَ من كلِ وظيفة، ماذا تريدُ من هذا البلد الذي أكلك؟ دعهُ يحترق، تعود للشركة، تتجمدُ أصابعُك وأنت ترى سطور الكلمات: حرائق وأجنة ناضبة، وثللٌ تسكرُ وراء زجاج مرفه، وتتبادل الأنخاب.
(لا أستطيع أن انسخ ذلك وأنشره)، رئيسهُ يتجمد ولا يكلمه، يعود بالباص، تأتيهِ رسالةُ فصل. يمشي بين الحشود، يسمع صرخة رئيسه: (صرتَ جباناً!)، حتى حقوقه تبخرت، يعودُ لزقاقهِ، نفس الأحجار البحرية الصلدة، نفس الإيقاعات البحرية الراقصة والدور المهدمة والغربة، ويرى الثلة تجلس عند الدكان وتحدق فيه بعيونها المعشية.


 

اقرأ المزيد

الا نشـقاق أو الا ندماج


هناك آفتان تهددان الفرد في عالم اليوم. الآفة الأولى هي قوة الامتثال للعادة، الامتثال للسائد. في “مقالات امرسون” فصل أسماه: “الاعتماد علي النفس”، خص فيه هذه الآفة بالذات بكلام كثير، حين لاحظ أن الطبيعة نفسها لا تتلكأ في تزويدنا ببدلة السجن العائد للجماعة التي نشايعها أو ننتمي إليها.

الإنسان لكي يكون إنساناً عليه أن يكون مُختلفاً، غير خانع لما يملى عليه دون التبصر في أمر هذا الذي يُملى، رغم أن العالم يعاقبك على انشقاقك عنه بالجلد بسوط استيائه، لكن على المرء أن يمارس حرية اختياره لما يراه صائبا طالما اطمأن أن نطاق هذه الحرية مسؤول.

هذه الآفة ناجمة عن ذلك التناقض بين ما نظنه صائبا وبين ما يظنه المحيط الذي يحتوينا غير ذلك، فنقع في مأزق التوفيق المستعصي بين ما نراه نحن وما يراه الآخرون، ويتعين علينا حينها إما الانحياز الجسور لما نظنه صائبا، أو الانسياق إلى ما يراه الآخرون، إما الانشقاق أو الاندماج في القطيع.
والناس فيما يذهبون إليه مذاهب، فمن أُعطي من القوة والجسارة ما هو كافٍ لتحمل تبعات ذلك التمرد فعل، أما من اختار طريق السلامة، فهو ميسر له بإعلان ذلك الاندماج الذي من ضروراته أن نخسر ذواتنا.

لكن ثمة آفة أُخرى كامنة في ذواتنا، هذه المرة، هي الثبات، وعلى المرء بالطبع إن تكون له في هذه الحياة ثوابت، لكن التمسك ببعض ما قلناه أو فعلناه حتى لو كشفت الحياة عدم صوابه هو من قبيل العتة. عن ذلك يقول مقال امرسون المشار إليه أعلاه: الثبات الأحمق هو بعبع العقول الصغيرة، حيث يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة، إن الروح العظيمة لا شأن لها بالثبات. انه بالنسبة لها مثل الانشغال بظل المرء على الجدار. هذا كلام كتب في القرن الماضي، لكنه كلام يصح على الحاضر كما صح على الماضي وكما سيصح على المستقبل أيضاً، بمعنى أن على الإنسان أن يضع أفكاره دائما على محك الاختبار في الحياة، يطورها ويضيف إليها ويتخلص من الزوائد فيها، أن تكون للمرء جرأة في أن يقول لا للمحيط حين يعجز عن التآلف مع هذا المحيط، وان يقول لا لنفسه أيضاً حين يشعر أن هذه النفس تخونه فيما يراه صائبا.
 

اقرأ المزيد

الفقر والفساد في الوطن العربي


حول العلاقة الجدلية بين ظاهرتي الفقر والفساد يعالج “سمير التنير” في إصداره الحديث “الفقر والفساد في العالم العربي” هذه العلاقة مسلطاً في البدء الضوء على الفساد من حيث أسبابه وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة وميادينه في المجتمع التي يقول عنها “سليم الحص” في مقدمة الكتاب متعددة ومتشعبة ويقول أيضا أن اخطر درجاته تتجلى في تنامي ظاهرته على وجه يبرر الحديث عن ثقافة الفساد او بالأحرى عندما يدخل في صلب ثقافة المجتمع فان مكافحته تغدو صعبة وشديدة التعقيد.
ويرى “التنير” ان الفساد كظاهرة منتشرة بين مختلف الأنظمة السياسية من الجمهوريات الديمقراطية الأولى هي التسبّب بإضعاف الدولة وهيبتها وفي الدكتاتوريات العسكرية وفي النظم الاقتصادية المختلفة من الاقتصادات المفتوحة والاقتصادات المغلقة له أنواع عديدة ومن الأسئلة التي تثير الكاتب هل هو ظاهرة يصعب السيطرة عليها ام انه ظاهرة يختص بها بلد معين في وقف معين؟ كيف يمكن اكتشافه بسرعة وما هي الوسائل المتاحة للقضاء عليه؟ واي دور يلعبه في هذا المجال أصحاب السلطة المرتبطون بالطبقة السياسية الاقتصادية الفاسدة؟

ويلفت المؤلف الانتباه الى النتائج السياسية والاقتصادية للفساد، اذ يعتقد ان النتيجة السياسية الأولى هي التسبّب بإضعاف الدولة وهيبتها في الداخل والخارج وعند ذاك تتهاوى الرقابة والمتابعة وينتشر جو الفساد، أما الحكم على مدى قوة وضعف الدولة فيمكن ان يتبين أولا من مدى الغموض والشفافية في معاملات الدولة الاقتصادية وثانياً من مدى إتباع الإجراءات والنظم الموضوعة في التعيينات وثالثاً من قصور أجهزة الرقابة وفعاليتها.

على الصعيد الاقتصادي هناك تأثيرات سلبية للفساد فهو يعوق الاستثمار والتنمية الاقتصادية ايضاً ويرفع من كلفتها ومن هنا وفي إطار التأثيرات ذاتها يتحدث عن الفساد كسبب يؤدي إلى انخفاض الإيرادات العامة ويزيد من النفقات ويقلل من التنوع والجودة والكفاءة ويحجب الإنفاق العام عن مجالات مطلوبة تهم المجتمع والاهم انه يزيد من الفقر وعدم العدالة في توزيع الدخل ويؤدي الى تقليل فرص الفقراء في الحصول على حقهم الطبيعي في وظائف الدولة.

وعلى صعيد آخر، يكشف المؤلف عن أهمية مكافحة الفساد السياسي وسوء استخدام السلطة ليس في دول العالم الثالث فحسب بل في العديد من الدول المتحضرة ومن هنا يعتقد ان مكافحة الفساد السياسي يتطلب إجراءات ضرورية حماية للمجتمع والديمقراطية لأنه يهدد القوانين القاضية بالمساواة في العدالة وفي التمثيل الصالح ويؤدي الأداء المشوه للأحزاب السياسية وللأفراد حين استعمال المال إلى انصرام الثقة بالمجالس السياسية.

ومن هذه الإجراءات الهامة أيضا وضع قواعد للتمويل السياسي ووضع قوانين للإنفاق السياسي وبخاصة فيما يتعلق بشراء الأصوات في الانتخابات العامة وبالتالي لابد من مراقبة التبرعات كما يجب الالتزام بالشفافية بواسطة الإعلان عن المال السياسي والتحقق من وجهته والتحقق من فاعلية أنظمة الرقابة وأنظمة فرض تطبيق القانون.

أما بخصوص الفقر لكونه ظاهرة تتصدر المشهد الاجتماعي في الدول العربية فمؤشراته خطيرة مقلقة وبالتالي فالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعتها هذه الدول لم تساهم فقط في تعميق هذه الظاهرة بل أصبحت البيئة الحاضنة للسياسات الاقتصادية الخارجية التي ساعدت في تنامي الفقر أي ارتفع معدل هذه الظاهرة إلى ما يزيد عن ثلث السكان (34 – 36 في المائة). ويرى المؤلف ان التباين في النظر إلى أهمية الفقر يعود إلى التباين في توزيع الدخل ولا سيما ذلك الجزء الذي يسمى “بالفائض” والذي يتحقق من النشاط الاقتصادي في الدول العربية متوسطة الدخل ومن “الريع” في البلدان النفطية ويقود الفقر الى تفشي ثقافته التي تؤدي في النهاية إلى إحساس غالبية المهمشين ولاسيما الشباب منهم بالغربة عن وطنهم وتطلعاتهم الى الهجرة، كما يؤدي عدم المساواة الى صراعات تقيد حركة المجتمع في سعيه الى الحداثة والتقدم بسبب استبعاد كتلة بشرية ضخمة هي مجموعة الفقراء.. ولا تقتصر – كما يقول المؤلف أسباب انتشار الفقر على ندرة الموارد الطبيعية وعلى السياسات الاقتصادية، بل تشمل أيضا اتجاهات الاقتصاد العالمي والمتغيّرات الخارجية المؤثرة في ظاهرة الفقر او في الحد منها ولاسيما ان الحكومات العربية سارعت الى توسيع حالة الانفتاح الاقتصادي والتجاوب مع أجواء العولمة خلال العقدين الماضيين. وأدى تطبيق تلك السياسات الى نشوء أوضاع اقتصادية جديدة ساعدت على انتشار الفقر الذي تتطلب مكافحته وضع برامج إنمائية خاصة تنسجم مع البيئة الاقتصادية والثقافية والتمسك بدولة الرعاية الاجتماعية وتحسين مناخ الاستثمار ويتطلب أيضا فرض سيادة القانون والحكم الصالح.


الأيام 4 يوليو 2009

اقرأ المزيد