يعتبر معهد التنمية السياسية محطة مهمة لتعزيز الثقافة السياسية، خصوصاً بعد الانفراج السياسي. فبعد الخلاف القانوني مع المعهد الأمريكي الذي كان يمثل لدى العديد من الجمعيات السياسية بيتا للخبرة، رغم الاعتراضات على طبيعته وتحركاته، ولد معهد التنمية السياسية، ورصدت له ميزانية رسمية، وطبيعة محددة لمجلس الامناء. أهداف المعهد طموحة جداً إلا ان الطاقم العامل على نشر وتنمية الوعي السياسي بين المواطنين وفقاً لأحكام الدستور ومبادئ ميثاق العمل الوطني كما جاء في أهدافه، لم يكن قادرا على تحقيقها. لا أتحامل على معهد التنمية، بل بالعكس تماما، أتمنى ان يحقق المعهد جميع أهدافه النبيلة التي تقوم على دعم وتنمية البحوث العلمية في مجال النظم السياسية والقانون الدستوري، ودعم التجربة البرلمانية من خلال شرح آلياتها، وأساليب عملها، وبيان دور السلطة التشريعية الرقابي والتشريعي، ودعم تجربة المجالس البلدية. ولكن الفعاليات التي قام بها المعهد طوال الفترة الماضية لا تعدو كونها مكانا يتجمع فيه عدد بأصابع اليد يحاضر فيهم شخص من خارج البحرين، وبعد انتهاء المحاضرة يكون طريقهم الى (البوفيه) ومن ثم ينتهي الأمر، اللهم إلا مؤتمر واحد ويتيم أصدر توصيات أعتقد انها ذهبت في مهب الريح. حسن فعل معهد التنمية في إحالة قضية الفساد والمتورطين فيها الى النيابة العامة، ولكن يحتاج الامر الى إعادة النظر في كل ما يتعلق بمعهد التنمية السياسية، من حيث الانشطة والفعاليات والتوظيف والتعيين، والمشتريات والصادرات والواردات. على معهد التنمية دور أكبر، في المرحلة المقبلة، عليه ان يتجاوز ما مر به من مراحل مختلفة مع مدرائه التنفيذيين خصوصا اننا نمر بمرحلة انتخابات نيابية مقبلة، تحتاج الى وعي بين المواطنين.
صحيفة الايام
27 يوليو 2009
عن معهد التنمية السياسية
ثقافة العطالة العقلية: العام
لا شك أن المجتمعات الصغيرة ذات إنتاجية فكرية أقل، خاصة إذا ارتبطت بمناطق متصحرة أو ذات تاريخ نازف من الهجرة والانغلاق.
في مجتمع مثل العراق لم تستطع قوى القمع الرهيب على مدى نصف قرن أو أكثر، أن تعطل قواه العقلية عن الإنتاج، لأن مثقفيه في التيارات الحديثة السياسية كانوا ينتجون، رغم أن ربط الإنتاج الفكري بالسياسة أضر بعمق هذه التيارات في الرؤية وكشف الحياة والتاريخ.
لهذا نجد أن رواد النهضة العربية الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، اصدروا موسوعات حفرية، مثل جواد علي الذي كان كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام” في عشرة أجزاء هو المرجع الرئيسي لمن أراد أن يعرف كيف كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام، والذي لم يقم فيه بتعميمات تاريخية، بل قام يرصد عبر الأدلة ما كان قبل الإسلام، من دون قفزات وافتراضات خيالية كما فعل آخرون في الفترة الأخيرة.
وعيب التيارات التي نشأت بعد عصر الرواد أنها – إضافة إلى ما قلناه عن الربط السريع والآلي بين السياسة وشتى ظواهر الحياة – أنها لم تطور ثقافة الرواد الموسوعية الليبرالية النهضوية.
لقد كانت الأرض بكراً وعمل هؤلاء في مشاغلهم على إنتاج البنية التحتية للعقلانية العربية التراثية، ووضع الأسس الأولى للأنواع الأدبية، فجاءتْ التياراتُ السياسية من يساريين وقوميين ودينيين، بأدلجةِ الثقافة، وجعل كل شيء خاضعاً للسياسة، وبدلاً من إنتاج الموسوعة صار إنتاج الدراسة ثم المقالة ثم العمود الصحفي.
حتى في الأطروحات الفكرية والتراثية خضعت الثقافة لهذه الأدلجة الوقتية، المتحولة، المتضاربة، المتضادة، القشورية.
لم يكن بإمكان مثل هذه الثقافة أن تنتقل من القشرة إلى الأعماق، فغدا الإنتاج، مثل الفئات المنتجة، طافيا فوق تيارات الحياة السياسية القوية، خاضعا لتقلباتها وجزئياتها وشعاراتها.
وفي حين كان الرواد مرتبطين بمشروع الحداثة العالمي، ذي المشتركات بين الشرق والغرب، خضعت التيارات الجديدة للصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، فغدت أصداء لشمولياته المختلفة، وبهذا عجزت عن مراكمة أشياء كبيرة متصاعدة.
فيما كانت الثقافة التأسيسية تستبصر التأثير في مدى مرحلة تاريخية كاملة رأت الثقافة الراهنة التأثير في الراهن، وفي التقلبات السياسية.
وفيما رأت الأولى تغيير المجتمع رأت الثانية الوصول إلى السلطة بأسرع طريق.
غاب الخط الاستراتيجي النهضوي عن هذه الثقافة فدخلت في القفز على الواقع وسببيات الفنون والآداب.
وكما كانت مغامرات العسكريين فوق البنى الاجتماعية ولم تكن تحولاً تغييراً عميقاً من داخلها، كذلك كانت الثقافة والإنتاجات الأدبية والفنية، لكن هناك آداباً تعسرت على القفزة العسكرية ومن ثم الدينية والأنظمة الغريبة التي نتجت عن قوى التحولات، وهي الأنواع الأدبية التي اتصلت خاصة بالإنتاج الفردي الذي كان من الصعب على الدبابة أن تصل إلى سده، ولهذا فإن الرواية والقصة القصيرة والقصيدة استطاعت أن تهرب بجلدها الفني وتحقق تطوراتها من دون أن تتمكن بطبيعة الحال من التمثل العميق الواسع للواقع.
ولهذا فإن الفنون الجماهيرية هي التي تعرضت للتدهور؛ خاصة المسرح، المسلسل الدرامي المسلسل الإذاعي، ولحق بها الشعر الجماهيري، لأن انكفاءات الشعر الداخلية ظلت متوهجة.
إن الرواية ككائن أدبي مركب وعميق وناءٍ عن الرقابة غير الفنون(الهشة) المعرضة للاختراق والمنع وإعادة الإنتاج كما تريد السلطات، بأشكال شديدة التنوع والخبث.
في الأدب والفن عموماً كانت أضرار الأفكار الشمولية الشرقية، المرتبطة بصعود الرأسماليات الحكومية المتعددة الأنواع (ماركسية، وقومية، ووطنية، ودينية)، أقل تضرراً من الرؤى الفكرية والسياسية. ولهذا كانت المرحلة السابقة، مرحلة الشموليات القومية، مرحلة أدبية، فالتفكير السياسي تغلف بالصور والأخيلة والرموز.
لكن الكثير من التشوهات تنتج عن الوعي السائد في المرحلة، وعي القفزات والمغامرات، وهو وعي يعكس أفكار الأمم الشرقية في رفضها الهيمنة الخارجية، في زمن تطور اقتصاداتها الضعيفة، ومن هنا كان الرفض الواسع لليبرالية الديمقراطية الوطنية، وهي كانت الحاضنة الواسعة لتفتحها التدريجي، فاشتغلت الفئات الوسطى الصغيرة على القفزات في السياسة والثقافة.
والمرحلة الليبرالية الجديدة الآن تأتي ليس من خلال تراكم واسع تم في السابق، في كل حقول المعرفة والثقافة، بل تأتي في زمن فوضوي، وسوف يزداد فوضوية، مع انهيار آخر الأنظمة الشمولية الشرقية، التي لا تعطي فرصة للقوى الداخلية الليبرالية فيها أن تتنفس، وتشق طريق التطور الديمقراطي وسط مفردات الدين والقومية المتصلبة.
إن المرحلة الليبرالية الجديدة تشهد فسيفساء من الكواكب السياسية المحطمة سابقاً، والمتناثرة في الأجواء، وغدا الغرب الحكومي المتسع شرقاً هو اللاعب الأكبر، سواء كانت شركات عابرة للقارات اصبحت حكومات، أو من قبل الحكومات التي لم تعد ممثلة كلية لتلك الشركات، ولهذا فإن مهمات الثقافة العربية السياسية والفكرية والإبداعية خاصة مع تحطم آخر الكواكب الشرقية الشمولية وتناثر بقاياها ومعاركها في الأجواء تغدو رهيبة.
صحيفة اخبار الخليج
26 يوليو 2009
البنك الدولي ومؤشرات الحكم الصالح
مع نهاية شهر يونيو الماضي أصدر البنك الدولي تقريره السنوي لمؤشرات الحكم الصالح للعام 2009 والمتضمن ستة أبعاد أساسية، تتمثل في مؤشرات التمثيل السياسي والمحاسبة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، وفاعلية الحكومات، والنوعية التنظيمية أو ما اصطلح على تسميته بجودة الإجراءات، وسيادة القانون ومكافحة الفساد. وحيث إن المؤشرات المذكورة تعتبر مقومات أساسية لا يصح تقييم أي نظام حكم من دون الرجوع إليها لمقاربتها بما هو قائم من تشريعات وأدوات رقابية ومن فاعلية لمؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر مسألة تحقيق مستويات فضلى من الشراكة بينها وبين الحكومات في حد ذاتها هي الأخرى مؤشر وعامل صحة لا يمكن إهماله، حتى نستطيع أن نحكم على مدى قدرة أنظمة الحكم من الاستفادة من تقويم ما أعوج من سياسات وما تفشى من فساد وما تم التراجع عنه من وعود، وقدرتها على النهوض بأي عملية إصلاح مفترضة. التقارير السنوية التي اعتاد البنك الدولي أن يصدرها منذ العام 1996، باتت تحظى في السنوات العشر الأخيرة باهتمام منقطع النظير من قبل المؤسسات الدولية المعنية بقضايا مكافحة الفساد والنزاهة والعمل الرقابي، خاصة وان التقرير أصبح يغطي بمؤشراته تلك أكثر من 202 بلد حول العالم، لتصبح تقاريره على درجة كبيرة من الأهمية للأمم المتحدة ومنظماتها حول العالم، مثل برلمانيون ضد الفساد والشفافية الدولية ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان. فعلى الرغم من السمعة والدور الذي لعبه ويلعبه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في ما تعتبره قوى المعارضة السياسية وبشكل خاص التقدمية والوطنية منها من دور تخريبي يراد منه تشويه مسار الحراك الاجتماعي والاقتصادي في العديد من بلدان العالم، إلا أن تلك التقارير بدون شك، باتت تعتبر أحد المقاييس التي يمكن الرجوع إليها، وأحيانا مقارنتها بتقارير مماثلة لمنظمات الشفافية الدولية وبرلمانيون ضد الفساد ذات الصلة بمؤشرات الحكم الصالح. كبير الاقتصاديين في البنك الدولي “آرت كراي” ذكر بأن النبأ السار هو أن بعض الدول قد بدأت الاعتراف بتلك المؤشرات، فيما يتخذها البعض الآخر منطلقا لأجراء التحسينات المطلوبة على تشريعاتها وقوانينها وأدواتها الرقابية، ضمن الاستجابة لتحديات الحكم الصالح، التي يجب أن تتضافر فيها جهود صناع القرار في الحكومات والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والمعارضة، باعتبارها مؤشرات مقوِمة لاتجاهات التنمية، خاصة في مجال مكافحة الفساد أو جودة الاجراءات. وفيما يشبه التوافق بين مختلف التقارير الدولية المعنية بمؤشرات الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، تبقى دول بعينها باستمرار على رأس قائمة الدول الأكثر نزاهة وشفافية، وتمثيلا سياسيا جيدا ومستقرا، وإسهاما لمؤسسات المجتمع المدني، ومنها دول مثل نيوزيلندا ومعظم الدول الاسكندنافية والأوروبية، فيما تبقى غالبية دولنا العربية والآسيوية والافريقية متمسكة بذيل تلك القائمة، التي لا يمكنها أن تخطئ على الدوام، لنجد أن بعض دولنا العربية تحتفي بتقارير أقل شأنا وأكثر انحيازا وتوظيفا، رغم علم الجميع بعدم جدوى وأهمية تلك التقارير التي هي ليست محل مصداقية أصلا! لقد أطلقت جامعة الدول العربية ومنذ العام 2005 مبادرة ما اصطلح على تسميته “بمبادرة الإدارة الرشيدة” تحاشيا لأي حساسيات متوقعة لمعنى الحكم الصالح. فقد ذكرت الجامعة أن تلك المبادرة تأتي تلبية لتحقيق أهداف الألفية الجديدة مع حلول العام 2015 ومن بينها الحكم الصالح، وقد اهتدت دولنا العربية إلى عدة حيل التفافية، لتكتفي بمسميات عديدة. خلاصة القول، ستبقى محاولات حكوماتنا العربية المستمرة للهروب للأمام وعدم إعطاء الاعتبار لمقومات الحكم الصالح، هي محاولات بائسة لن تغير من واقع الأمر سوى تأجيله لسنوات معدودة، إلا أنها بكل تأكيد ستبقى مطالبة بتنفيذ شروط واتفاقيات العولمة وضرورة التعاطي مع تلك المؤشرات، خاصة وأن تفعيل الاتفاقيات وجلب الاستثمارات والترويج لها، والتي تحتاجها دولنا بشدة، أضحت مربوطة بكل تلك المؤشرات، التي لا مفر من التعاطي معها، فلابد من إيجاد تمثيل واستقرار سياسي تسنده التشريعات المتطورة، ولابد من مكافحة الفساد وتحقيق النزاهة، وتحسين التشريعات وجودة الأداء وزيادة مستويات وأدوات الرقابة، وفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني وتحقيق تداول سلمي للسلطات، وتحقيق دولة المؤسسات والقانون وازدهار الحريات العامة.
صحيفة الايام
26 يوليو 2009
«جزي اللحى» في الزمن الروسي !
لم يكن الروائيون الروس العظام من أمثال تولستوي وديستوفيسكي يطلقون لحاهم إن لم تكن تلك الظاهرة تمثل حالة من الثقافة والإرث السلافي لمجتمع ما زال في جذوره مرهونا بالماضي الإقطاعي. في مثل هذه المناخات والبيئة الثقافية كانت روسيا تعيش مخاضا من الصراع والتحولات بين ماضٍ إقطاعي آسيو – أوروبي وحاضر أوروبي ينحو نحو التطور والغربنة والتجديد والتحولات العصرية. هنا كانت محنة النبيلين، بوينوسوف ومورنوسوف، اللذين كانا يعيشان في موسكو، وهي تنشد بقوة وتنجذب نحو التغيير. وكانا ينتميان إلى أصول عريقة ويفيضان بالخيرات والثروة ويمتلكان أقناناً وفلاحين يقدرون ببضعة آلاف، غير أن أكثر ما كان كل منهما يتباهى به هو: لحيته، فلكل منهما لحية كثيفة وطويلة، الأول تمثلت بشكل عريض شبهت بالجاروف والثانية طويلة كذيل الحصان. فجأة صدر مرسوم قيصري بإزالة اللحى. ففي عصر بطرس سادت أنحاء روسيا أوضاع جديدة: كحلق اللحى، ارتداء الملابس الأجنبية وشرب القهوة وتدخين التبغ الخ من الغرائب القيصرية!! وحالما وصل الخبر إلى النبيلين وقعا في حيرة وذهول، ومع ذلك قررا ألا يحلقا لحيتيهما وان يتحاشيا مقابلة القيصر تعللا بالمرض. تذكر فيما بعد القيصر غيابهما المفاجئ فاستدعاهما. مكثا يتجادلان أيهما يذهب أولا ولم يخرجهما من ذلك الجدل والإصرار إلا قطعة النقد التي حسمت الجدل، إذ اختارت القطعة النبيل بوينوسوف. لحظتها ارتعشت أوصاله وحال وصوله إلى القيصر ارتمى عند أقدامه متوسلا: عفوك يا مولاي لا تحكم علي بالهوان في آخر العمر، ثم يمسك بيد القيصر محاولا لثمها، فصرخ به القيصر: قف! العقل يا نبيل لا يكمن في اللحية بل في الرأس ويوينوسوف لا يزال يخطو على أربع، ويتوسل: لا تحكم عليّ بالهوان يا مولاي. استشاط بطرس غضبا فنادى على خدمه وأمرهم بحلق لحية النبيل بالقوة. عاد يوينوسوف إلى كورنوسوف ودموعه تسيل مدرارة وهو يخفي بيديه ذقنه الاجرد، ولا يقوى على سرد ما جرى له. دخل الذعر كورنوسوف عند تفكيره بلقاء ينتظره مع القيصر. لحظتها قرر أن يزور منشيكوف طالبا نصيحته ومساعدته، وهو يرتجف: تشفع لي عند القيصر، عندها فكر منشيكوف في الأمر ومن أين يبدأ حديثه مع القيصر، ولما انتهى إلى أمره قال للقيصر. ما رأيك يا مولاي لو فرضت جزية على النبلاء تكفيرا عن إطالة اللحى؟ ألا تستفيد الخزينة من ذلك؟ وبالفعل كانت الخزينة الروسية في حالة سيئة، فقبل بالاقتراح فورا. فرح كورنوسوف وسارع بدفع الجزية ومنح ميدالية نحاسية منقوشاً عليها »تم توريد النقود«. طوق كورنوسوف عنقه بالميدالية وكأنها صليب، فبعد ذلك اليوم من ذا الذي يجرؤ على التعرض له بالسؤال »لماذا لم تحلق ذقنك ؟« صار بوسعه أن يمشي رافع اللحية، ويشير إلى الميدالية. بعد مضي عام من الحادثة، جاء محصلو الضرائب إليه لدفع جزية جديدة فقد انتهت صلاحية ميداليته ولم تعد لها أي قيمة وعليه ان يدفع للحصول على غيرها وإلا تعرض للعقاب. اضطر كورنوسوف إلى دفع جزية جديدة. بعد عام تكررت القصة، عندئذ لجأ كورنوسوف إلى عقله واخذ يقلب النظر في الأمر، هامسا إلى نفسه »يعني ذلك أنني في القريب لن يبقى لي شيء من ثروتي غير اللحية!«. في المرة الثالثة جاء الجباة فرأوا النبيل كورنوسوف يجلس حليق الذقن، وهو ينظر لهم بأعين حانقة. روى في اليوم التالي منشيكوف للقيصر عن مصير كورنوسوف، فضحك بطرس قائلا: هذا ما يستحقه هؤلاء. فليعتادوا على الأوضاع الجديدة. أما مشورتك بصدد الجزية فقد كانت ذكية. تصور أن لحية كورنوسوف وحدها غطت تكاليف ملابس فرقة عسكرية كاملة! لم تستمر الفكرة بعد فلسفة التغيير الأوروبي عند بطرس، فتحديث روسيا الفلاحية المشبعة بروح الاقنان والعبودية لا تكمن في بقاء أو حلق لحى النبلاء، ففقراء واقنان روسيا بمئات الآلاف ظلوا بلحاهم الأطول والاكثف من لحى النبيلين! إلى أن تحولت تلك الظاهرة إلى مزاج وحالة شخصية وفنية وتراثية عند النخب الثقافية الأوروبية وليست روسيا وحدها، ولكن ليست على الطريقة الروسية السلافية، كما هي لحيتا تولستوي وديستوفسكي وعصرهما المتلاطم بالصراع بين القديم والجديد.
صحيفة الايام
26 يوليو 2009
بريـــق أوبـــامــا.. هــل يــحــتــفــظ بــوهــجــه؟
يثبت الرئيس الأمريكي ‘الجديد’ باراك أوباما يوماً بعد يوم عدم مقدرته، أو محدوديتها، على تجاوز كي لا نقول شق عصا الطاعة صقور اليمين الكلاسيكي المتجذر في النظام السياسي الأمريكي بجناحيه الحزب الديمقراطي الحاكم (راهناً) والحزب الجمهوري. فإبان الأزمة الإيرانية التي فجرها الإعلان المثير للجدل لنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، بذل أوباما جهداً كي ينأى بنفسه عن استغلال الفرصة للتدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية، كما جرت عليه عادة الإدارات الأمريكية في دس أنفها في كل ما يعنيها أو لا يعنيها من أوضاع عالمية، في محاولة منه للتناسق مع نفسه ومع العهود التي قطعها على نفسه في غير مكان وفي غير مناسبة بانتهاج سياسة مغايرة لسياسة سلفه جورج بوش في التعاطي مع القضايا العالمية لاسيما مع قضايا العالم الإسلامي. إلا أنه، وتحت ضغط اليمين داخل حزبه والحزب الجمهوري، فقد اضطر فيما بعد للاستجابة لتلك الضغوط وذهب في خطاباته الموجهة للداخل الإيراني لحد الانحياز السافر لمرشح المعارضة مير حسين موسوي. في رحلة تصويب العلاقة مع موسكو التي شابها التوتر إبان ولاية صقور الجمهوريين بقيادة جورج بوش الابن، سجل الرئيس الأمريكي الجديد نقطة أخرى انهزامية أمام ضغط ‘المؤسسة’ المتمسكنة والمتمكنة (أي المتنفذة والنافذة حتى عظم ‘المؤسسة’، وهي هنا النظام السياسي الأمريكي). ففي تصريح له لإحدى شبكات التلفزة الأمريكية عشية زيارته لموسكو استخدم أوباما خطابين مختلفين في تقييم علاقته مع كل من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس وزرائه فلاديمير بوتين. ففي حين اعتبر أنه يمتلك علاقة وطيدة مع الرئيس الروسي وأن الأخير يتحلى بصفات إيجابية مشجعة على التعاون معه، فإنه وجه نقداً لاذعاً لرئيس الوزراء بوتين معتبراً أنه يعمل بعقلية الحرب الباردة إذ يضع رجلاً في الماضي وأخرى في الحاضر، على حد تعبيره، وذلك في محاولة لإحداث بلبلة بين الطاقم الحاكم في الكرملين. وكرر أوباما هذا الموقف اللافت في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع ميدفيديف في اليوم الأول من زيارته لموسكو (يوم السادس من يوليو الجاري)، حيث قال في تقييمه للرئيس ميدفيديف ‘لقد وجدته صريحاً ومهنياً وأنه واضح بالنسبة إلى مصالح الروس، لكنه يسعى أيضاً إلى معرفة مصالح الولايات المتحدة’. في حين أشار إلى لقائه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين على مائدة إفطار في اليوم الثاني من زيارته بالقول ‘على حد علمي، أن الرئيس ميدفيديف هو الرئيس، ورئيس الوزراء بوتين هو رئيس الوزراء’، متابعاً: ‘ما يهمني هو التعامع مع نظيري الرئيس’. هذه المواقف، خصوصاً التصريح الأول الذي أطلقه أوباما عشية زيارته لموسكو، أثارت حفيظة النخبة في موسكو وأجهزة الميديا الروسية، حيث كتب أحد المحررين يوم ٦ يوليو (اليوم الأول للزيارة) في صحيفة إزفيسيتا ‘ماذا جلب أوباما إلى روسيا؟’، قال فيه إن أوباما شخصية لازال يكتنفها الغموض حتى بعد مرور ستة أشهر على تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. فقد وعد بإعادة الحيوية للعلاقات الروسية الأمريكية، ووعد بتحقيق اختراق في العالمين العربي والإسلامي، ووعد بتسوية الأوضاع في العراق وأفغانستان، إلا أن الرؤساء الأمريكيين اعتادوا - كما يذهب الكاتب - على إظهار ‘الوفاء’ للثقافة الأمريكية السائدة وذلك بأن يعد مرشحو الرئاسة جمهورهم ويشوِّقونه ثم لا يوفون بتلك الوعود. كاتب آخر في صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس كتب يقول بأن الرئيس أوباما اتخذ موقفاً لا سابقة له في علاقات البلدين عشية زيارته لموسكو، حين أعلن أنه متفاهم مع الرئيس ميدفيديف بينما وجه انتقادات لاذعة لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين حين وصفه بأنه يضع رجلاً في الماضي وأخرى في الحاضر. يقول الكاتب إن بعض البلدان الغربية حاولت دق أسفين بين الرئيس الروسي ورئيس وزرائه إلا أن أوباما كان أجرؤهم وأكثرهم سفوراً في التحريض على هذا المنحى، وهو بذلك ارتكب خطأً فادحاً - حسب رأي الكاتب - بإثباته عدم جدارته لنيل ثقة الروس. لقد استمتع الأمريكيون بأيام عسل وحبور عندما كان الراحل بوريس يلتسن يحكم روسيا، فكان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون يتلاعب به كيفما شاء ويوهمه بالصداقة الشخصية ويغدق عليه الوعود السياسية والاقتصادية والعسكرية من دون أن يمكنه من أي منها، بينما حصل منه على ما لم يكن يحلم به. كذلك كان الحال مع الرئيس الروسي الأسبق ميخائيل جورباتشوف الذي أدهش الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ‘بكرم’ عطاياه السياسية والاقتصادية والعسكرية. مع فلاديمير بوتين الأمر اختلف، فالرجل يفكر بنفس طريقتهم البراغماتية، فهو صعب المراس، لا يقدم تنازلات فيما يخص مصالح بلاده من دون أن يحصل على مقابل. فروسيا بوتين ربما تكون قد تفوقت على مهد الفلسفة البراغماتية (الولايات المتحدة) وآبائها الروحيين، حتى صح القول إن التلميذ تفوق على أستاذه، حيث لطالما تعامل الأمريكيون مع الروس بوحي من هذه المدرسة النفعية وتطبيقاتها الصارمة. سوف يكون من الصعب، من الناحية الموضوعية، الحكم في هذه المرحلة على الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وعلى مدى تطابق وعوده مع ممارساته، على الرغم من الإشارات السلبية الصادرة عنه حتى الآن. فهو واقع تحت ضغط نائبه جون بايدن وأنصاره داخل حزبه الحاكم وداخل إدارته في شأن الملف النووي الإيراني، وهو يتعرض لضغط مماثل من جانب اللوبي الصهيوني في واشنطن للإذعان لحكومة نتنياهو وسياستها الاستيطانية التوسعية. وفي النهاية سيجد نفسه محاصراً وغير قادر على الحركة إلا بما تسمح به ‘المؤسسة’، وفي الاتجاه الذي تحدده له.
صحيفة الوطن
25 يوليو 2009
حراك عالمي واسع من أجل الحريات
عبر تغير نمط الدول الاشتراكية الشرقية عن لحظة تطورية كبيرة في العالم، فظهرت مقاربة أكبر مع نمط نموذج الحريات في العالم الغربي، وإدغام دور القطاعات العامة الإنتاجية القيادية في الاقتصاد لتغيير حياة الملايين في عيش أفضل، ولكن ذلك اندمج مع رفض الشموليات والمطالبة بالحريات الواسعة في الحياة العامة والخاصة.
فأصبحت حتى القرى الصغيرة تطالب بتغيير أحوالها وإيصال الخدمات إليها، ووضع حد للتلوث والبطالة والفقر فيها.
ما كان لهذا المناخ أن يغدو شاملاً في العالم وخاصة الدول النامية لولا اهتزاز نمط الدول الشمولية، الدول التي في يدها أغلب شؤون العيش والإعلام والتحكم، فلم يعد من الممكن الركون لدولة كلية بأي شعارات رفعت وطنية أو تقدمية أو قومية أو دينية أو ليبرالية.
إن هذا الحراك الكوني الصاخب لم يكن ممكناً لولا الانهيار في المعسكر(الاشتراكي)، وقد حدث بشكل انهيار لأن القوى فيه قفزت نحو التغيير الشامل وعبر محاولة الجمع بين الدولة الديمقراطية والاشتراكية، لكنها لم تستطع ذلك لغياب التراكم الإصلاحي الديمقراطي الطويل، فانكسرت بين نماذج شتى، جمعَ بعضُها بين الديمقراطية والحكم اليساري، وهو أمرٌ راح يتكررُ في بقاعٍ عالمية أخرى، لجعل الانتقال للديمقراطية يجري ليس على حساب الطبقات الفقيرة، كما يحدث في دول أخرى، توجهت للديمقراطية مع خسارة مكاسب اجتماعية كبيرة فقدتها القوى الشعبية.
كما أن مثل هذه الحكومات الجديدة الجامعة بين الديمقراطية وبرامج اليسار رفضت معزوفة التنمية المجردة، وأن تكون هذه التنمية مجرد حريات فقط للرأسمال، بل أن تجمع كذلك مع التقدم الديمقراطي السياسي، حريات للعمال والفقراء وتبدل نمط عيشهم، وارتفاع أجورهم، وعدم اعتبارهم كبش الفداء في التنمية والتغييرات السياسية!
فالكبار يرون أن الديمقراطية هي الخصخصة وبيع القطاعات العامة بخسارة واستقدام أي عمالة رخيصة وبعضهم يبيع أشياء كثيرة.
لقد أصبح البطش صعباً أكثر فأكثر لكنه لم ينته، ويحدث في الدول التي لم تنتقل للديمقراطية أو إلى عتبات نموذجها ولاتزال الهياكل الشمولية فيها مترسخة، حراكٌ شعبي متواصل، هو جزءٌ من التأثر بما يجري في العالم، فالعالم صار شديد الترابط، متداخل العلاقات والتأثيرات على نحو متسارع، تقوده ديمقراطياتٌ غربية راسخة.
بطبيعة الحال فإن هذا الحراك المتوجه إلى اقتصاد السوق وتفكيك الرأسماليات الحكومية يجري عبر برامج مخلتفة، وتسعى الدول الغربية لاستثماره، لكنه يهيئ المناخ للمطالبات الجماهيرية بالحريات من كل القطاعات في الدول الوطنية، فأصبحت القيود على الاقتصاد والإعلام والثقافة والحريات مرفوضة، وبدأت شعوبٌ عديدة أو مناطق مسيطرٌ عليها ضمنَ دولٍ شمولية تطالب بإستعادةِ الحريات في أديانها ومذاهبها وشعائرها ولغاتها واعتبارها جزءًا من كيان الدول التي تريد بعضاً من الدخول والمشروعات المقتصرة على الحكومات ونخبها.
ويجري بعض ذلك في المناطق المتخلفة والقليلة الوعي السياسي بأشكال دموية وبصدامات عرقية ودينية، تعود بالنتائج السيئة على المحتجين والمطالبين، وتؤدي على العكس إلى تشديد قبضات الدول وتبرير مشروعاتها السياسية التقييدية والعسكرية.
هذا عادة ما يجري في المناطق النائية أو الجبلية أو الريفية فيتخذ طابعاً إرهابياً وقتلاً لأناس أبرياء كالسياح أو ضرباً للاقتصاد وإجراماً اقتصادياً بحق الشركات والاستثمارات، بسبب عدم نضج الوعي السياسي في هذه المناطق، ما تستغلهُ الدوائرُ الحاكمة في جوانب مضادة.
في حين تتمكن قوى أخرى أكثر حصافة في المدن الكبرى من جمع الشعب حولها بطرقٍ سلمية، ونقل مطالبها لعمق المجتمع والسلطة، فتجعل أهدافها قابلة للتنفيذ، وإذا لم تستطع حالياً فإنها تجعل دوائر عديدة شعبية ورسمية تقتنع بوجهات نظرها مستقبلاً، والعالم يسير بسرعة خارقة الآن، وما رفضته الدوائر الرسمية قبل شهور يصبح مطلوباً ويعلو من درسه على أسس موضوعية، ويغدو الجامدون مرفوضين حتى للدوائر الحاكمة.
وعلى المستوى الاجتماعي المحض فإن الجمهور في كل مكان يستعيد حريات أكبر في البحث العلمي والحريات الشخصية، وتنمو قدراته في التحرر من القيود، والقوالب الاجتماعية المحنطة، ويتعامل مع أكثر أجهزة العصر حرية واتصالاً، مؤثراً في محيطه عبر البحث والكتابة فاتسعت قوى الصحافة الشعبية على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
كما أن المناظرات والحوارات وتبادل المعلومات في حالاتِ تدفقٍ لا يتوقف، وهي كلها تسلط الضوء على عقد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، موجهة الانتقادات لكل القوى السياسية الجامدة، وهكذا بدأت تذوب الثلوج الشمولية في قارات بأسرها وهي فقط خطوات أولى لتنتظم الناس وتتعزز حرياتها وتقدمها وتسهم أكثر في التنمية والقرارات السياسية الكبيرة.
بين أناس تناضل لأبسط الحقوق كمشاهدة أفلام السينما وأناس تناضل لتقرير حكم الأقاليم والميزانيات والحكومات تجرى عمليات الحراك من أجل الحرية، وكل شعب بمستواه وبدرجة تطوره، وبكم التراكم النضالي داخله.
صحيفة اخبار الخليج
25 يوليو 2009
عفوا يالنواخذة.. وين السياحة؟
لفتت انتباهي التصريحات الصحفية التي أطلقها الوكيل المساعد لشؤون السياحة أحمد النواخذة بشأن السياحة في البحرين و(الخطط الاستراتيجية) التي تهدف للنهوض بالقطاع السياحي بشتى أنواعه. كلام جميل، ان تكون لنا استراتيجية سياحية، بدلا من قرارات متخبطة، تتخذ في ليلة وضحاها، لذلك نتفق تماماً مع النواخذة ولكننا نرغب ان تعرض مسودة الاستراتيجية على المستثمرين ورجال الاعمال وغرفة تجارة وصناعة البحرين، حتى يضعوا ملاحظلاتهم عليها، فالامر يجب ان يكون تشاركيا، لا ان يتخذ بقرارات فردية، كما حصل في بعض القرارات التي اتخذت بشكل أحادي. يقول النواخذة ان السياحة في البحرين واسعة وبالامكان الحديث عنها من أبواب مختلفة، اتمنى ذلك، فإن كانت السياحة واسعة فإن الاماكن السياحية يجب ان تكون بمقدار هذا الاتساع، ولكن ما نراه هو ان الاهالي لا يتلمسون هذا الاتساع، فهل سمعتم عن غير المجمعات التجارية ملجأ للمواطن (الغلبان). دلني يا سعادة الوكيل عن ساحل يجذب المواطنين فضلاً عن السياح، وأتحدى الوكيل ان يجيب، خصوصا بعد ان أعلنت لجنة التحقيق في الدفان ان 80% من السواحل أملاك خاصة، فأين المقومات السياحة المتوافرة لدينا؟ لذلك، فإن المستثمرين يترقبون انشاء هيئة مستقلة للسياحة، على ان تكون بعناصر وطنية قادرة على التطوير، وهناك العديد من هذه الوجوه، القادرة على ان تقيد زمام المبادرات السياحية.
صحيفة الايام
25 يوليو 2009
الحكم الصالح…!
ارجو الا يسبب الكلام في شأن موضوع الحكم الصالح والمؤشرات التي اصدرها مؤخراً البنك الدولي، اي نوع من الحساسية خاصة لدى الذين الفناهم شديدي الحساسية حيال كل شيء.. وأي شيء.. ونعلم جيداً ان مفهوم الحكم الصالح في عموم المنطقة العربية لم يتبلور بعد، أو انه لايزال غائباً، أو انه في مراحله الاولى، او انه مفهوم لا تستسيغه الحكومات، كما لا يستسيغه ولا يتقبله ولا يهضمه مسؤولون كثر في المنطقة الذين من فرط حساسيتهم من مفهوم الحكم الصالح استبدلوه بمصطلح بات يعرف الآن بحكم الادارة الرشيدة. ما يهمنا ليس هذا المصطلح او ذلك الذي في الحالتين يعني بايجاز الحكم الذي يوفر النزاهة والمساءلة بواسطة الناس ويضمن احترام المصلحة العامة ويعزز ويدعم رفاهية الانسان ويقوم على توسيع قدرات المواطنين وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم. وكل ما يتيح لنا ان نحلم بمستقبل افضل، مع مراعاة أنه كمفهوم هو اوسع من الحكومة لأنه يتضمن بالاضافة الى عمل اجهزة الدولة الرسمية من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية وإدارات عامة، عمل كل المؤسسات غير الرسمية ومنظمات المجتمع المدني بالاضافة الى القطاع الخاص. ما يهمنا حقاً هو الجانب المتصل بالبحرين فهو مقارنة بمؤشرات عام 2008 بالعام 2007 نجد بأن البحرين قد تقدمت في مؤشرين هما (الاستقرار السياسي وفاعلية الحكومة) فيما تراجعت في ثلاث مؤشرات هي التمثيل السياسي والمساءلة وجودة الاجراءات ومكافحة الفساد. ما يهمنا ثانياً هو كيف سنتعامل مع هذه المؤشرات والخلاصات ونحن الذين تعودنا ان نحتفي ونهلل بكل ما يصدر عن اي هيئة او منظمة او مؤسسة دولية، فما بالكم وان هذه المؤشرات صادرة عن البنك الدولي. نعلم بأن على البنك الدولي مؤاخذات عدة من حيث المنطلقات السياسية التي تحكم عمله، والاعتبارات التي تطغى على بعض تقاريره، وليس غائباً عن البال ذلك اللغط والجدل والانتقادات التي وجهت اليه ومنها تلك التي تتهمه بالفساد السياسي والمالي واستمراره في تمويل اصلاحات تنتهي بالفشل الى جانب تلك المشاكل الخطيرة من الفساد التي عانت منها قبل سنوات إدارة المؤسسة الدولية. ولكن رغم كل ما قد يثار من مؤاخذات عن تلك المؤسسة، الا ان امامنا رؤية اقتصادية للبحرين تضع الشفافية وتتبنى مبادىء الحكم الصالح او الادارة الرشيدة، وهي رؤية باتت وزارات ومؤسسات الدولة تتسابق بالاعلان عن بحث آليات تفعيل دورها حيال تطبيق هذه الرؤية والالتزام بمبادئها. حسناً مادام الأمر كذلك ومادامت الجهات الرسمية كافة توحي لنا بأنها بدأت اهتماماً بالعمل على الالتزام بتلك الرؤية فعلى هذه الجهات اذا كانت جادة حقاً ان تعي بأن المطلوب لتعزيز وضع البحرين سواء في مؤشر الحكم الصالح، او مؤشر مدركات الفساد وبقية المؤشرات والتقارير الدولية الاخرى بأن تعمل على تحقيق متطلبات كثيرة مثل ايجاد آليات سليمة لتحقيق مبادىء الحكم الصالح، وتعزيز العلاقة بين المواطن والدولة عبر توسيع المشاركة في اتخاذ القرار وخاصة من خلال قوانين انتخابية ديمقراطية عادلة ونزيهة ينتخب من خلالها الشعب نواباً قادرين على تفعيل دورهم الرقابي الى جانب التشريعي، علاوة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني وعدم محاولة الهيمنة عليها والتدخل في شؤونها، وكذلك العمل على ايجاد المعايير في اختيار القيادات استناداً على معايير الكفاءة. كما لا يغيب عن البال الحاجة الى وقف تداخل المصالح الخاصة مع المصلحة العامة ووقف تغلغل اصحاب النفوذ في توجيه الموارد العامة للدولة واستغلالها لمصالح خاصة، والحيلولة دون شخصنة العمل العام والمسؤولية العامة، والمسارعة في ايجاد المؤسسات الرقابية الرسمية والاهلية. كل ذلك واكثر مطلوب ومحكوم علينا ان ننجح في تبنيها ليس ارضاءً للبنك الدولي، بقدر ما هو ارضاء للمواطن واستجابة لمصلحة الوطن العليا لأن كل تحسين محتمل في اي من تلك المبادىء أو المؤشرات لا يمكن الا ان ينعكس ايجاباً على الوضع المحلي برمته. وندعو كل من يخشى ويتحسس بأن يمعن في قراءة المستجدات قراءة صحيحة وفك رموزها لعل هذا من اولى واجباتهم ودافعاً لتجاوز الشطط ولاحاجة الى الاستزادة والاستفاضة…!!
صحيفة الايام
25 يوليو 2009
غشاوة أيديولوجية
إذا أردت أن تنهي حديثاً مع شخص ما، قُل لمحدثك: «إنك على صواب.. كلامك صحيح، أو.. أنت على حق، وكرر هذه المفردات مرات عدة لكي يقتنع أنه على صواب وأنت المخطئ!».. هذا، أو عليك مواصلة النقاش حتى مطلع الفجر، وبعدها تحمل أعباء الصراخ والمناكفات، والمتشعبات، وما إلى ذلك من «ثقافة تلويث الآذان»، خصوصاً عندما يكون الحوار بين اثنين «مسطولين»، أو مصابين بمرض أنفلونزا «الغشاوة الأيديولوجية المنغلقة على ذاتها»، التي لا تسمع إلا صوتها، ولا ترى الألوان إلا بنظارتها، وقس على ذلك ما شئت، رغم ما يحتويه «قوس قزح» من ألوان، بما فيها «الرمادي» الذي ينبغي القبول به وإن كان على مضض أحياناً.
مناسبة ما جاء أعلاه، ورود تعليقين من أخوين كريمين لم تلدهما أمي، أشكر لهما عناء متابعة «افتتاحية أسبوعية» لملف أسبوعي سياسي مهتم بالشأن العربي والدولي، تصدره «الوقت» في «المشهد السياسي» تحت مسمى «نهاية الأسبوع»، حيث إنني مجرد موظف مكلّف من قبل إدارة التحرير بكتابة هذه الافتتاحية، ضمن مهماتي الصحافية التي أتقاضى منها راتبي الشهري، وهو بالمناسبة المصدر الوحيد لرزقي ولقمة عيش أسرتي، ولا أريد أن أضيف المزيد، لا لـ «إثبات براءة الذمة» لمهنة الصحافة أو لـ «خبثها».
أحد التعليقين وصمني بـ «السذاجة»، ولا قول عندي له غير: «إنه على صواب، وقد أصاب كبد الحقيقة»، رغم أن افتتاحية الأسبوع الماضي لم يدّعِ أحد فيها بالذكاء أو اللعب بـ «البيضة والحجر»، ومع ذلك، يا أخ جعفر «لا ناقة عندي لك أهديها.. ولا مال!»، لهذا الاكتشاف العظيم، أما الأخ الثاني، واسمه «صادق»، اتهمني باتهام خطير، أو كاد، حيث وصمني بـ «المعادي للإسلام»، فاستفز الذاكرة لأتذكر مفزوعاً ما قاله الصحابي الجليل، الجنيد، في حق الحسين بن منصور بن محمي الملقب بالحلاج، حين لقائه: «لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك»، وذلك فقط، لأنّ الحلاج قال: «أنا الحق»، وفسَّرها بعض الفقهاء، على أنه يدعي الإلوهية، أي كأنه يقول: «أنا الله»، لأن الحق اسم من أسماء الله، ومعناه الثابت الوجود، فكفّره القاضي أبوعمر المالكي في بغداد ونفّذ الخليفة المقتدر بالله حكمه: «قطعت يدا الحلاج ورجلاه ثم قطعت رقبته، وبعد ذلك، أحرقت جثته ورُمي رماده في نهر دجلة».
وهذه البشاعة في طريقة القتل، من وجهة نظري، مازال فقهاء المسلمين مختلفين عليها، فبعضهم مؤيد بشدة، باعتباره من أفضل الأحكام في الإسلام، وآخرون يرون فيه العكس، والسجال قائم منذ القرن الرابع الهجري إلى يومنا هذا.
أيها الأخ صادق، اسمح لي أن أخالفك الرأي هذه المرة لأقول كلمة.. وأمشي، لأنني لا أقوى على أن يقطع أحد، مسلم كان أم بلا دين، إبهامي أو سبابتي اليمنى، حيث أمسك بهما القلم، أو أن يخلع أحد إحدى عينيّ، اللتين أقرأ بهما؛ لأنهما مصدر رزقي الوحيد، فكيف بالذي حصل للحلاج؟ فلا تدعني إلى إشعال «ثورة التوابين»، وهي كما تعرف، وأدرى مني بحكاياتها، وهي أوّل انتفاضة مهمّة بعد مقتل الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في كربلاء، قام بها الذين خذلوه في واقعة «الطف» الشهيرة، حيث تزعمهم في هذه الثورة، سليمان بن صُر الخزاعي، وهو صحابي جليل كان اسمه «يسار»، ويقال بحسب ما قرأت، سماه رسول الله (ص) سليمان، وهو من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (ع) وشارك معه في حروبه.
وأيضاً أيها الأخ، لا تُزودني بآيات من الذكر الحكيم، فذكر بعضها أحياناً، يتعارض ومصالح متنفذين في المجتمعات الإسلامية وحكام يعتبرون أنفسهم «ظل الله في الأرض» إلى يومنا هذا، وما لا يخفيك، ما أصاب الصحابي أبوذر الغفاري، من أذى تجار قريش، حين ذكر آية من كتاب الله: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم»، وأعتقد، والله أعلم، «سبيل الله» يُقصد بها عموم الناس الفقراء، وقال قولته الشهيرة: أينهيني خليفة المسلمين، من ذكر آية من كتاب الله؟!.. حيث سجن وعذب ونفي إلى الربذة، وكذا الحال، لا تزودني بخطب ومقولات قالها أمير المؤمنين (ع) الذي يطلق عليه اليساريون: «رمز الفقراء»، كما ينعتون أبا ذر الغفاري بـ «كاهن الاشتراكية الإسلامية»، لأن كتاب الله، «القرآن الكريم» و«نهج البلاغة»، و«كنزا ربا» – الكنز العظيم، الكتاب المقدس عند الصابئة المندائية – وإن شئت «الإنجيل» وكتب ماركس ولينين، وروايات لملحدين ومؤمنين، وأساطير بابل وسومر، وكل ما يتعلق بـ «الفكر الحر»، لا أنام إلا وهذه الكتب بالقرب من وسادتي، تماماً مثلما يضع الحكام الطغاة كتاب «الأمير» لمكيافيللي تحت وسادة نومهم ليبرروا قمع شعوبهم من نصوصه.
صحيفة الوقت
24 يوليو 2009
الوطن العربي والإنفاق العسكري وغياب الديمقراطية
لقد باتت صفقات الاسلحة وتجارة السلاح في دول العالم الثالث عامة والوطن العربي خاصة تمثلان القاعدة المألوفة للأنظمة الغنية والمتخلفة على حد سواء، وتجسد استراتيجية سياسية تتبناها هذه الانظمة، جاءت على حساب التنظيم الاجتماعي.. مثلما احتلت مسألة الامن القومي المرتبة الاولى بامتياز من اهتمامات الحكومات العربية، اما قضايا المواطن وبناء الانسان واعداد المجتمع وقضايا التنمية، فهي عادة ما تحتل المراتب الاخيرة من الدونية والتهميش.. بقدر ما جاءت صفقات هذه الاسلحة على حساب تدهور الاقتصاد الوطني، ورزوح الدولة تحت طائلة المديونية الطائلة.
وعلى الرغم من ابرام الاتفاقيات الامنية والعسكرية ما بين حكومات اقطار الوطن العربي والدول الرأسمالية، فإن هذه الحكومات قد اكدت دائما وابدا سعيها الحثيث إلى مواصلة عملية ابرام وتوقيع هذه الصفقات الكبيرة من الاسلحة.. ومن المؤسف القول حقا ان المستفيد الوحيد من هذه الصفقات هي الدول الرأسمالية والمصدرة للسلاح، التي تستأثر بنصيب حصة الاسد من المليارات من الدولارات.. ليس هذا فحسب ولكن الاهم من ذلك هو سعي هذه الدول الرأسمالية الى عملية التخلص من اسلحتها المصنعة الزائدة المخزنة والمكدسة في مستودعات السلاح، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية التي “لاتزال تمثل أكبر مزود للأنظمة العربية بالمعدات العسكرية التي تبلغ مبيعاتها 31% من صادرات العالم” بحسب ما اوردته الدراسة التي اعدها معهد ستوكهولم مؤخرا.
لعل طرح هذه المقدمة هو رغبتنا التطرق الى عقد صفقات الاسلحة الكبيرة والمبرمة ما بين الدول الغنية المستوردة للسلاح والدول الرأسمالية المصدرة لهذا السلاح.. وفي مقدمة هذه الدول المستوردة للسلاح: دولة الامارات العربية المتحدة التي “اصبحت ثالث اكبر مستورد للأسلحة في العالم” حسبما صرح به معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في شهر ابريل 2009،. كما ان المعهد ذاته قد نشر احصائية مؤخرا حول تجارة السلاح تقول “استوردت الدول الغنية بالنفط نحو 6% من واردات الاسلحة العالمية في الفترة من 2004 الى 2008″، ويسترسل المعهد في دراسة اخرى بالقول “إن ما بين سنتي 1999 و2003 كان ترتيب الامارات المرتبة السادسة عشرة من بين اكبر المستوردين للأسلحة في العالم.. ثم صعدت الامارات الى المرتبة الثالثة”.
إن هذه النسب وهذه الاحصائيات التي اوردها معهد ستوكهولم الدولي حول استيراد وشراء الدول الغنية تلك الاسلحة من خلال الصفقات الكبيرة التي تقدر بمليارات الدولارات وفي مقدمتها الامارات العربية المتحدة، هي صفقات ان دلت على شيء فإنما تدل على اهتمام الانظمة العربية بمسألة الأمن القومي بالدرجة الأولى، وسعي هذه الانظمة في الوقت ذاته الى فصل مسألة الامن القومي عن قضايا التنمية وعن قضايا الديمقراطية والحريات العامة.. ليس هذا فحسب ولكن تأتي عملية هذه الصفقات من الاسلحة، لتشيع المديونية للدولة التي تمثل سمة من سمات تخلف الوطن العربي.. ولكون مسألة الامن القومي قد تجاوزت ميزانيتها موازنة النفقات الاخرى بنسبة كبيرة، كالتعليم والصحة والاسكان والبحث العلمي التي لا تمثل موازناتها سوى نسبة ضئيلة لا تذكر بل بالغة التحقير.
ومثلما طغت مسألة الامن القومي بكفتها الراجحة، على جميع القضايا المجتمعية الملحة.. فإنها (أي مسألة الامن القومي) جاءت على حساب تخلف المؤسسات التعليمية بسمتها التقليدية، والجامدة بمناهجها ومخرجاتها التي لا تنسجم ومتطلبات سوق العمل.. وكذلك بيروقراطية الوسائل الاعلامية وجمود آلياتها واجهزتها وقنواتها، وتهميش مراكز البحوث العلمية، اضف الى ذلك تدني التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والبشرية، وتدهور القاعدة الانتاجية، مقرونة بتهميش الكفاءات من العلماء والمفكرين والباحثين ومصادرة ابسط حقوقهم العلمية والانسانية، وتجاهل المواطن وانتهاك حقوق الانسان لافتقاره الى مبدأ العدالة الاجتماعية من جهة التي محورها ازدياد الفقراء فقرا، وحرمان هذا المواطن من الحرية السياسية التي مرتكزاتها مصادرة حرية الفكر والرأي والمعتقد والتعددية وتكميم الافواه من جهة اخرى.
لعل القول يبقى صحيحا ان ابرام الصفقات الكبيرة لمختلف وشتى الاسلحة ترافقه المديونية الطائلة التي يعانيها الوطن العربي.. تعود حقائقها وتداعياتها الى اسباب سياسية متردية وظروف موضوعية وذاتية بالغة التعقيد.. طالما ثمة التفكير الرسمي الاستبدادي المهيمن والفوقي للنظام القطري بخطابه الانعزالي.. ولكون المفسدين والمتسلقين والانتهازيين لدى النظام يمثلون محورا لتفشي مظاهر البيروقراطية والمحسوبية، واستشراء الفساد بجميع اشكاله، في ظل سوء الحكم والادارة وغياب الديمقراطية والمؤسسات المدنية والدستورية، وغياب مبدأ فصل السلطات الثلاث ومبدأ تداول السلطة.. فتغيب بذلك المساءلة القانونية والدستورية للسلطة التنفيذية وللمتجاوزين والمفسدين.. بقدر هيمنة المتجاوزين والمستبدين والمتلاعبين بالمال العام، وهدر مقدرات الشعب لدى الوطن العربي ودول العالم الثالث على حد سواء.
صحيفة اخبار الخليج
24 يوليو 2009