المنشور

العمال في الآخر

كان العمال هم الذين بنوا المصانع، وحولوا أوروبا المتخلفة إلى قارة تملك الدنيا!
ثم كان حصادهم قليلاً!
وقالت الرأسمالية الشرقية: (الطبقة العاملة قائدة النضال من أجل الاشتراكية!) ثم خربوا هذه (الاشتراكية) وعاد العمال إلى بيوتهم الصغيرة والبطالة والتسول أكثر بؤسا من عمال الغرب!
وقالت الرأسمالية الحكومية الدينية الشرقية: (العمالُ هم أكثر المضحين في الثورة الإسلامية)، فكانوا هم القتلى على خطوط النار، والمتحملين للغلاء والفقر والبطالة!
ومازال العمال يخدعون.
ونسوهم بعد الثورات والتضحيات وأنزلوهم من طبقات الأحلام العالية إلى حضيض الأرض.
يتناغم حضور الطبقات العمالية مع نضالية الفئات الوسطى حين تدخل الفئات الأخيرة في عمليات تغيير تاريخية كبيرة، وعبر استعمال الأخيرة أدوات دكتاتورية سياسية وفكرية، تقوم بتعبئة العمال لمصلحة صعودها.
ثمة فوائد مشتركة للجانبين، لكن العمال سوف يدفعون هم الجهد الأكبر والتضحيات، وإذا لم يشكلوا أدواتهم المدافعة عن مصالحهم، فسيبجدون أنفسهم في النهاية في حالات فقر مدقع.
العمال هم في تطور التاريخ من سيكونون القوى المستمرة في النضال والبحث عن التغيير فهم ليس عندهم سوى أجورهم، ومن لديه أكثر من ذلك سوف ينضم لحركات المالكين السياسية.
(الحرية، الاخاء، المساواة)، صرخة البرجوازية الفرنسية، لغة سياسية مجردة، تفضي إلى تغيير عالم ديني محافظ ذي طوائف وامتيازات مجحفة للأقلية، والشعارات ذاتها تشكيل لمجتمع تهيمن عليه عبر العلاقات الاقتصادية الرأسمالية من دون هيمنة قطاع حكومي.
(الماركسية – اللينينية، الماوية، الكاستروية الخ)، شعارات البرجوازية الشرقية أو اللاتينية ذات الرأسمالية الحكومية وهي تشكل نهضة مغايرة لنهضة البورجوازية الغربية لكنها مماثلة لها في صعود النظام الرأسمالي الحكومي الشرقي وبأدوات الدكتاتورية، حسب الدول وتجاربها ومستويات تطورها.
(الطائفيات الإسلامية) صرخات لصعود البورجوازية الطائفية لتشكيل أنظمة رأسمالية حكومية بأدوات دكتاتورية بهذا المستوى من القمع أو ذاك، بتقزيم أكبر للعمال والنساء وللحريات. وهي طائفيات لأنها تعجز عن التوحيد الاجتماعي للمواطنين في مثل هذه اللحظة التاريخية المشتركة.
بعد كل فترة تحالفية اجتماعية التي تسودُ فيها أدواتُ التخدير الايديولوجية، وهي تتماثلُ من حيث النصوصية الدينية اللاعقلانية وغياب النقد وشخصنة السياسة وعبادة الأفراد، تصعدُ الفئاتُ التي استحوذت على الثورات – الثروات، وتنفصلُ عن العمال وهي القوى التي تطوعتْ لخدمة مستغلِيها نظرا لعوامل التخدير السابقة الذكر والمهمات الطبقية والوطنية المشتركة، وتجدُ نفسَها في وضع متدنٍ فقير وهو من الناحية الفكرية مزر، وقد فقدت أدواتها النقابية والرقابية، وتشكلت طواقم انتهازية فيها، تضعُ قدما هنا وقدما هناك، بغية استمرار الاستغلال والتغييب السياسي للعمال.
وخلال الفترة الطويلة لغياب العقل العمالي المستقل، حسب تجارب الدول والأمم، تكون العودة للنضال أصعب، بعد عقود من التبعية.
هذا إذا لم تدخلْ العمالَ القوى المسيطرة في مغامرات الحروب وكوارث التسلح، وهي كلها من جهودهم.
وغالبا ما يتضررُ العمالُ اقتصاديا من وضع الرأسماليات الحكومية وهي تـُخرجُ شياطينها من داخلها، أي حين تبيعُ شركات القطاع العام، وحين تعلن انفصالها عن الايديولوجيات الشمولية التي صنعتها وجيّرتها واعتبرتها مقدسة، وتعود لقانون السوق المرفوضة سابقا، وهو أمرٌ يعني ترك العمال في ظروفهم المتدنية، وتشغيل آليات الأسعار غير المسيطر عليها حكوميا، ويجرى التداولُ الحرُ للنقد والبضائع، وتوضع القطاعات العامة التي صنعوها خلال عقود في مجرى البضائع المتحركة في السوق الداخلية ولصيد أرباب العمل من الخارج، فيكتشف العمالُ مدى تدني قوى عملهم التي تباع من خلال بطالة واسعة وحريات تنقل كبيرة للعمال المهاجرين.
في أزمنة وجود القطاعات العامة رغم كل فسادها وبيروقراطيتها تكون لهم فسحٌ من درس وتنظيم لكن أغلبها يضيع بسبب جهل أغلبية العمال لكون الرأسمالية الحكومية عابرة، لن تظل إلى الأبد، وسوف تتحول إلى بضائع خاضعة لأسعار السوق، وهم في هذه الأثناء كانوا يتبعون قوى البورجوازية الصغيرة الشمولية، مجيّرين لمشروعات سياسية أكثر من الدفاع عن مصالحهم المستقلة، وهي المشروعات التي فككت صفوفهم، وجمدت مداركهم، ثم سوف تتسارع عمليات نمو الرأسمالية في كل بلد، حتى تصير عواصف تلف الشرق بقوة واسعة.

صحيفة اخبار الخليج
4 يونيو 2009

اقرأ المزيد

هل تكرر البحرينيات معجزة الكويتيات ؟ (1 ــ 2)

في المقال الذي كتبته هنا قبل نحو أسبوعين تحت عنوان “المرأة.. والتغييرات الوزارية العربية” أشرت الى أن لا ضير من تعيين عدد محدود من النساء وزيرات في التشكيلات الوزارية الخليجية، مادمن يتمتعن بالكفاءة الحقيقية التي تشهد لهن الدولة والمجتمع بغالبيته العظمى، حتى لو كان تعيين كهذا لا يعكس بالضرورة درجة نضج المجتمع أو تمتع النساء بالمشاركة السياسية وبالمساواة والحقوق الكاملة.
وذكرت أيضا أنه لربما جاء مثل هذا التعيين، اذا ما تم التشديد مقدما على متطلبات الكفاءة والخبرة في الوزيرة التي يقع عليها الاختيار، واختيار الحقيبة الوزارية التي تناسبها ومن ثم أثبتت جدارتها في المنصب، فإن ذلك سيكون عاملا مساعدا على تغيير وعي الفئات الاجتماعية التي تشكك في جدارة النساء لتولي المناصب الوزارية ولو تدريجيا، وبالتالي نستطيع القول بناء على هذه الفرضية ان عاملاً من عوامل نجاح معصومة المبارك في الانتخابات الكويتية الأخيرة انها أثبتت جدارتها كوزيرة في قيادة عدة وزارات ومنها وزارة الصحة، على الرغم، كما ذكرنا، أن هذه الوزارة في كل الدول العربية من أكثر الوزارات الخدمية التي تعج بالمشكلات والأزمات العويصة المتراكمة.
والحال ثمة عوامل عديدة سياسية واجتماعية متشابكة أدت الى فوز النساء الأربع، فعلاوة على العامل المذكور فيما يتعلق بفوز المبارك فإن لا أحد باعتقادي يمكنه ان يماري في أن الامكانيات المادية للمرشحات الكويتيات اللاتي خضن الانتخابات الأخيرة لا تقارن البتة بإمكانيات مرشحاتنا حتى بافتراض تلقيهن دعما رسميا، فالفائزات الأربع جميعهن من خريجي الولايات المتحدة، وجميعهن على ما يبدو ينحدرن من عوائل ميسورة ثرية.
ومن نافلة القول ان قوة الحملة الانتخابية من عوامل الفوز، فكلما تعاظمت إمكانيات وأموال الحملة الانتخابية للمرشحة عزّز ذلك الى جانب عوامل أخرى من فرص فوزها ولاسيما حينما توظف تلك الإمكانيات والأموال في تنظيم أكبر حملة إعلامية ضخمة ذكية ومؤثرة لصالح المرشحة بمختلف الوسائل.
ولعل هذا العامل الموضوعي يقودنا الى قضية أخرى تتصل بمدى قدرة المرشحات الأربع الفائزات بعدئذ على تمثيل مصالح مختلف الشرائح الاجتماعية، سواء من بنات جنسهن أم من كلا الجنسين معا داخل البرلمان. وكيف سيترجم مدى عمق وعيهن السياسي والاجتماعي في الاصطفافات البرلمانية حول القضايا السياسية والاقتصادية والمعيشية الكبرى التي تهم السواد الأعظم من شعبهن وهذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.
ولعل من مفارقات هذا الفوز التاريخي الذي حققته المرأة الكويتية، بالرغم من ان البحرين والكويت تتشابهان كثيرا في تاريخ وعراقة الحركة السياسية والحركة النسائية في كل منهما، فإن الانتصار الانتخابي الذي حققته الحركة النسائية الكويتية، بدا أشبه بالانتصار المخملي الفوقي ان صح القول، منه الى الانتصار الملحمي الاجتماعي الجماهيري الصعب. ومكمن المفارقة الظاهرية هنا ان الحركة النسائية الكويتية حققت هذا التفوق الانتصاري على شقيقتها الحركة النسائية البحرينية على الرغم مما قدمته وتقدمه هذه الأخيرة على امتداد نحو 60 عاما ونيفا من تضحيات جسيمة وهائلة لا تقارن البتة بتضحيات الحركة النسائية الكويتية.
وهنا نصل الى بيت القصيد في موضوعنا وذلك بالسؤال عما اذا يشكل الانتصار النسائي الانتخابي الكويتي الأخير حافزا قويا لأن تحقق المرأة البحرينية فوزا مماثلا ولو بمقعد واحد أو مقعدين؟
وعلى الرغم مما يجمع الكويت والبحرين من أوجه تشابه في الكثير من الظواهر السياسية والاجتماعية فإن ثمة تباينا في تركيبة كلتيهما الاجتماعية والطبقية، ناهيك عن التفاوت الكبير في الدخل القومي لكلا البلدين، وفي الأجور بين مختلف فئات وطبقات كلا البلدين، ومن هنا فإنه في الوقت الذي لا يستطيع المرء الجزم من الآن بتحقيق المرأة البحرينية في الانتخابات النيابية المقبلة اختراقا مهما في نتائجها، فإنه ينبغي أيضا ألا نفاجأ اذا ما تكررت مأساة هزيمة المرأة البحرينية في الانتخابات القادمة بعدم فوزها ولو بمقعد واحد كما حدث في الدورتين السابقتين، وذلك لعدة أسباب منها:
أولا: لقد لعبت كل من الحكومة الكويتية والنخبة الليبرالية والمرشحات الفائزات أنفسهن دورا كبيرا بمختلف الوسائل، وعلى الأخص من خلال التمويل السخي لحملاتهن الانتخابية، وهذا ما لا يتوقع ان يكون بمقدور الأطراف النظيرة البحرينية أن تضاهي الكويتية فيه.
ثانيا: ان أهم قوى بحرينية تستطيع ان تلعب دورا محوريا في فرز ومساعدة المرشحات القديرات ودعمهن بكل السبل هي القوى الليبرالية واليسارية، على اختلاف انتماءاتها، وهذه القوى هي نفسها مازالت تعاني، للأسف، الوهن والتفتت وتفتقر الى العناصر الشبابية التي تشكل جيوش حرب حماسية مقاتلة في المعارك الانتخابية الضارية، كما تفتقر الى العناصر النسائية الشعبية غير النخبوية، فقد أضحت معظم أو كل عناصرها النسوية الشعبية السابقة عناصر نخبوية معزولات القواعد الشعبية النسائية.
ثالثا: ان الحركة النسائية أيضا هي الأخرى ورغم انتزاعها حق تشكيل منظمتها النسائية، فإنها تعاني الضعف والتفتت وتفتقر الى الوجود القوي الفاعل في صفوف الغالبية العظمى من النساء، وعلى الأخص الشابات ولاسيما في القرى المعروفة بكثافتها السكانية.
رابعا: ان كل القوى السياسية ممثلة في الجمعيات السياسية مازال التمثيل النسائي فيها ضعيفا إن في جمعياتها العمومية أو في قياداتها وخاصة في الجمعيات السياسية الدينية.
على أية حال ليس من السابق لأوانه التنبؤ بفوز المرأة بأي مقعد في الانتخابات المقبلة فحسب، بل من السابق لأوانه أيضا التنبؤ بحظوظ فرص فوز أهم قوى نصيرة لها ممثلة في القوى اليسارية والليبرالية. والأهم من كل ذلك فمن السابق لأوانه أيضا التنبؤ بنسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات القادمة، وهذا عنصر مهم من العناصر التي يمكن البناء عليها لتوقع فوز المرأة البحرينية. لكن تظل النتائج الكويتية جديرة بالتأمل لاتعاظ ما يمكن اتعاظه منها.

صحيفة اخبار الخليج
3 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الرأسمالية الحكومية الإيرانية (2 – 2)

إن الإجراءات ومسارات تشكيل المجتمع كانت توضح تباين طريقي الدينيين والليبراليين، وفيما كان الليبراليون يسعون لإضعافِ الدولة وتقوية المجتمع المدني، كان الآخرون على الضد منهم، ولكن لنر ما لدى الليبراليين من أدوات لتحقيق نظامهم المفترض.
كان تحالفهم مع الدينيين يتوجه لضرب الحريات التي كان يُـفترض أن يكونوا هم المدافعون عنها بوجه الموجة الدينية الشمولية:
(وافقَ كلٌ من قادة الحزب الجمهوري والليبراليون على فكرة الثورة الثقافية من خلال الفعل المباشر للجماهير الذين حرضوا على التظاهر فى ساحات الجامعات. كان ذلك بالنسبة إلى الليبراليين وسيلة للتخلص من المحرضين اليساريين في النقابات العامة والمصانع والمناطق الريفية، حتى يمكن اعادة الاستقرار الاقتصادي والسياسي للبلاد.)، السابق.
وبتصعيد مثل هذه الأدوات وبإدخال الغوغاء لضرب المثقفين والعمال والجرائد اليسارية، وهي أدوات طالما استخدمتها الرأسماليات الحكومية المستبدة خاصة نظام ماو تسي تونج وغيره، قام الليبراليون بعزل أنفسهم عن الجمهور الطليعي.
وكانت جذورهم الاقتصادية التصنيعية ضعيفة، ولهذا كانوا يُسمون قوى البازار، كما أن رفاهيتهم الكبيرة ساعدت الدينيين على تصويرهم بالقوى الطفيلية.
كما أن قواعد الدينيين الاجتماعية من جهةٍ أخرى كانت واسعة بسبب الاقتصاد التقليدي العريض: قطائع زراعية، وعقارات، وحرف، فكان الجمهور مشكلا من غياب الاقتصاد الحديث، وعبر هذا الجمهور المتمسك بالعادات الإسلامية في اللباس والعبادات، في هذا المجتمع، كان التراث الديني التقليدي الشعائري هو السائد، ولكن الدينيين حولوه لفعلٍ سياسي مضادٍ للحريات ولهذا الجمهور الكادح نفسه، ومن أجل تركيز السلطة بين أيديهم، تجاه التقدميين واليساريين ركزوا على الطبيعة (الإلحادية) لفكرهم، وقد ساعدهم هؤلاء أنفسهم نظراً لعدم تشكل النظرة التغييرية من داخل التاريخ الإسلامي وعبر الارتكاز على التراث، فـُصورتْ غربتهم عن التراث كفعلٍ معادٍ للإسلام، وليس كنقلٍ ثقافي حضاري مهم للشعب الإيراني في وقت لم تكن فيه أدواتٌ فكرية نضالية إيرانية مُنتـجة محلياً، وخاصة أن الإسلامَ تم السيطرة عليه من قبل المحافظين وتجييرهِ لخدمةِ السلاطين والشاهنشاهات عبر القرون السابقة، ولكن اليساريين من جهة أخرى، لم تتطور نظراتـُهم مع تصاعد الصراع الاجتماعي، وظلت شعاراتـُهم السياسية مفصولة عن فهم القوى الاجتماعية والإرث وكون الدينيين المحافظين يعبرون عن قوى الاستغلال المتصاعدة في حراكها من الإقطاع الحكومي إلى الرأسمالية الحكومية المرتكزة على تخلف القوى الشعبية الريفية خاصة، لأجل استخدامها في مشروع الرسملة المتصاعد بأجورٍ زهيدة، وبلا حقوق كبيرة، وعبر تخلف ثقافي يتيحُ لتلك القوى القيام بمختلف المشروعات السياسية.
إن استخدام الإرث كان فعلاً سياسياً مباشراً، فعبر تصوير اليساريين بالملحدين أعداء الإسلام، وتصوير الليبراليين كخدم للغرب، كانت تجرى عمليات قمع واسعة لتجسيد ما يصوره الدينيون المحافظون بأنه الإسلام:
(احتلت فرق حزب الله الجامعات، اصابت وقتلت أعضاء الجماعات السياسية التي كانت تعارض الثورة الثقافية، واحرقتْ الكتب والصحف التي اعتقد أنها “غير اسلامية”، وأغلقت الحكومة كل الجامعات والكليات مدة ثلاث سنوات تم خلالها اعادة كتابة مناهج الجامعات.)، السابق.
إن الهيمنة الدكتاتورية تنتقل من القيادة السياسية إلى الاقتصاد وتستثمر الفوائض النفطية خاصة في توسيع القواعد الاقتصادية والمشروعات وأنظمة التسلح وتوسيع عسكرة المجتمع، وقمع الحريات السياسية ثم الفكرية والاجتماعية، تقوية لذلك البناء الاقتصادي البيروقراطي.
وهكذا فإن الليبرالية يُقضى عليها من الجانبين عبر توسيع الملكية العامة لتغدو هي الهيكل الاقتصادي المسيطر، وبإزالة الحريات والتفكير الحر، وبفرض قالب عام مؤدلج تجرى عبره الاحتفالات والمفاسد والمسالخ والحروب.
الماضي أقوى، والاقتصاد التقليدي أوسع، والجماهير أغلبها أمي، وحينئذٍ تأتي عمليات الغسل العقلية الجماهيرية لتنمية خط اقتصادي، يوسع مشروعات، لكنه يفسدها عبر التحكم البيروقراطي، وتزداد الصناعات الاستهلاكية بسبب ذلك ولعجز الاقتصاد بهذه التسربات الكثيرة والعسكرة عن إنشاء الصناعات الثقيلة.
وإذا كان الليبراليون متحالفين متعاونين في ضرب اليسار مع الدينيين فقد حاولت فصائل العمال الدفاع عن أنفسهم ولقمة عيشهم فانتشرت موجة من الاضرابات:
(كان اليسار مسيطراً في أوساط الطلاب برغم الموجة الاولى من القمع الذي تعرض له في أغسطس 1979، وكانت مجالس شورى المصانع قد انهكت نتيجة لموجة القمع ذاتها، لكن استمر الكثير منها قائما لعام آخر، وبالطبع لم يكن استعداد العمال للصراع قد انتهى – ففى عام 79-1980 كان هناك 360 اضرابا متنوعا “الاعتصام بالمصنع أو احتلاله” و180 اضرابا في 80-1981 و82 اضرابا في 81 – 1982)، (السابق).
لكن نظرا لكون الفصائل اليسارية ماشت الموجة الدينية بقوة في البداية، وأيدت صعود الرأسمالية الحكومية ذات القناع الديني، واعترضت على أشياء جزئية، وانساقت مع موجة العداء المضلل للاستعمار الذي يصطنعهُ النظامُ وسيلة تخديرية للجمهور، ولم تفرق بين جوانب التبعية وبين جوانب الحضارة الغربية الديمقراطية، الضرورية لمنع الاستبداد، وهذا يبين الطبيعة العقلية ليسار ديني غائر تحت الجلد السياسي، فاليسار نفسه يعيش ظروف الدينيين الاجتماعية العقلية المحافظة، من حيث العلاقة بالدين والنساء والتاريخ، ولهذا فإن حراكه إضرابي جزئي اقتصادي، أو عسكري إرهابي أو جماهيري نقدي عقلاني مفيد لكنه يُقمع وينتهي.
بقعُ اليسار والليبرالية صغيرة في هكذا مجتمع ديني محافظ، يبدو للجمهور فيه أن الدينيين هم الجذر والأصل والتراث، نظراً لطبيعة الثقافة والمهن والتاريخ القومي.
وككل الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية فإن الطبقة المسيطرة من العسكريين والموظفين الكبار المتضافرين مع رجال المال والمعبرين عن مصالح هذه الرأسمالية سوف يتوجهون لليبرالية المنسوجة على قياس مصالحهم، وإلى إيجاد مجتمع أقل استبدادا، وتخفيف الطابع الديني الشمولي للنظام من دون الخروج التام منه، إذا لم تفجرْ الحروبُ والثوراتُ هذا النسيج.
وهكذا فإن خيار الرأسمالية الحكومية الروسية أو الصينية الشاملة قاد إلى نشر العلاقات الرأسمالية الحديثة بصورة جذرية، مثل خيار الرأسماليات الخاصة في اليابان واستراليا والهند، ومن منطلق آخر، ومن مستوى اقتصادي مختلف.
لكن خيار الرأسماليات الحكومية الدينية في العالم الإسلامي يستندُ إلى واقع قوى إنتاج متخلفة، ذات جذور قروية وبدوية(فتصير قوى شيعية وسنية متصارعة)، ويتم عرقلة تطور العلاقات الرأسمالية والتحديثية في الريف ولقوى الإنتاج البشرية، خاصة النساء، نظرا لتخلف العلاقات الاجتماعية والثقافة، وهو ما يؤدي إلى رأسماليات حكومية ذات تناقضات هيكلية اقتصادية كبيرة، فتتجمدُ الأريافُ والنساءُ والذهنية العقلية عن التطور، ويُعرقلُ التلاقح بين العلوم والصناعات، وتتضخم الأجهزة الإدارية وتتحكم في الأسواق، وتزداد القيودُ الحكومية في كل مجال، مما يوسعُ الفساد من جهة أخرى، ويؤدي بالكثير من الفوائض نحو الغرب أو للبذخ الخاص أو للعسكرة أو إلى جلب العمالة الأجنبية الرخيصة،(في إيران تتضخم العمالة الأفغانية) وهو تعبير عن العجز عن تطوير القوى المنتجة البشرية المحلية. وكل هذا يُصور باعتباره الطريق الإسلامي للثورة أو التطور السياسي الرشيد للدول الإسلامية!
وهذا الطابع المتخلف للرأسماليات الحكومية في العالم الإسلامي يقودُ إلى استمرار العلاقات الإقطاعية السابقةِ بكلِ مخلفاتها من عجزٍ عن توحيد المواطنين، وطبع نسخ مشوهة لا عقلانية للإسلام، وإلى تقسيم الدول إلى أثنيات متصارعة، وإلى الحروب والتدخلات بين الدول الدينية هذه، التي امتلكت الحقائق الكلية واعتبرت نفسها الخادمة الأمينة لتعاليم السماء النقية، وهذا كله يقود لهدر الموارد والدوران الدائم في طاحونة التخلف.

صحيفة اخبار الخليج
3 يونيو 2009

اقرأ المزيد

المزيد من الحريات وليس العكس

الحق في حرية التعبير والتظاهر والاحتجاج وممارسة أشكال الضغط والتعبير السلمية المتعارف عليها يجب أن يكون مضموناً، بل إن مثل هذه الفعاليات تقدم دليلاً على حيوية المجتمع ويقظة قواه المدنية والسياسية إزاء القضايا المختلفة. ولدينا في البحرين تراث نعتز به في هذا المجال، ومهم أن تكون هذه الفعاليات في إطار القانون ووفق ضوابطه، لكن التشريعات يحب ألا توضع للرد الفوري على مظاهرة حدثت هنا أو هناك خرجت فيها الأمور عن السيطرة، وإنما توضع بأفق مستقبلي يراعي جوهر الحق والحريات، ويحول دون سوء استخدام هذا الحق. الأمور تؤخذ بالمنظور النسبي، فحجم الحريات المتوقعة في بلد مثل البحرين يجب أن يكون أكبر من بلدان أخرى لا تمتلك الديناميكية السياسية والاجتماعية والفكرية التي تتسم بها بلادنا، والمتوقع من الصحافة أن تواكب هذه الحيوية، لكن العقبات في وجه ذلك كثيرة، وفي مقدمتها أن قانون المطبوعات والنشر والمعمول به قانون لا يليق بمستوى الحريات المتاحة في البلد بعد المشروع الاصلاحي. فالقيود التي يتضمنها هذا القانون كثيرة جداً، وهي قيود على أساسها اقتيد للمحاكم رؤساء تحرير صحف ومحررون، بل إن هذا المرسوم بقانون ينص على حبس الصحافيين، وهي عقوبة تخلى عنها الكثير من الحكومات التي عرفت بالصرامة في التعاطي مع الصحافة. ويبدو غريباً أننا في الوقت الذي نذهب فيه إلى إصدار صحف جديدة ما يدعم التعددية الإعلامية في البلاد، فإن البنية التشريعية التي تنظم العمل الإعلامي والصحافي عندنا مازالت بنية محافظة ومقيدة ومثقلة بالكوابح والممنوعات. ولا تقل خطورة عن ذلك تلك «القوانين» غير المكتوبة المستقرة في الأذهان والتي يجري اعتمادها قواعد في تحديد ما هو الممكن وما هو غير الممكن في العمل الصحافي، أي ما هي الحدود التي يجب عدم الاقتراب منها. إنها حدود غير مكتوبة، ولكنها أشد صرامة من تلك المكتوبة. لم تعد أشكال الرقابة، في صورها المكتوبة: أي المنصوص عليها قانوناً، أو تلك التي تحتكم إلى الأمزجة أو إلى القوانين غير المكتوبة، قادرة على منع تدفق المعلومات. لذا بات ملحاً أن تتطور التشريعات المتصلة بالموضوع ممثلة في قانون المطبوعات والصحافة والنشر. اتساع نطاق هذه الحريات هو الذي سيوفر إمكانيات تطوير العمل السياسي في جوانبه المختلفة من أجل تحقيق الإصلاحات الدستورية والتشريعية وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتطوير الحياة الحزبية حتى تُرسى على قواعد وأسس ثابتة، ولتكون ضمانة من ضمانات الحياة الديمقراطية التي توفر آليات ومناهج حل الاحتقانات والاختلافات بالآليات الديمقراطية نفسها، تأكيداً على المقولة الذهبية التي تقول بأن حل مشاكل الديمقراطية هو بالمزيد من الديمقراطية. وليس العكس كما يحاول البعض القول، فما أن تنشأ بعض الصعوبات أو التوترات حتى تعلو أصوات هذا البعض مطالباً بالعودة إلى الإجراءات الصارمة والترحم على مرحلة قانون أمن الدولة. إن مساحة الحريات السياسية المضمونة بتشريعات تقدمية والمُسيجة بالمجتمع المدني الواعي والحريص على المصلحة الوطنية وعلى استقرار البلاد وعلى الوحدة الوطنية هي ضمانات التنمية الحقة وضمانات التطور الهادئ.
 
صحيفة الايام
3 يونيو 2009

اقرأ المزيد

حديث في الديمقراطية والمحاصصة والتوافق

كان هناك من يعرّف الديمقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب». وقد جرى اعتبار هذا التعريف ، على مدى طويل، تعريفاً كلاسيكياً للديمقراطية . غير ان الفقه القانوني تخلى عن هذا التعريف منذ امد بعيد . واتجه الى تعريف الديمقراطية بأنها «حكم الاكثرية « المنبثق عن انتخابات حرة لكل البالغين من ابناء الشعب، الذين لهم حق الانتخاب .مع ضمان حق الاقلية في ممارسة حقوقها الديمقراطية والعمل من اجل ان تكون هي الاكثرية في انتخابات قادمة ، وهذا هو ما استقر عليه الحال في الديمقراطيات العريقة مثل الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والسويد وفرنسا وغيرها من البلدان . إلا ان حكم الاكثرية هذا واجه صعوبات جدية في البلدان المتعددة القوميات والاديان والمذاهب، حتى في بلدان اوروبية متطورة ديمقراطياً. وخير مثال على هذه الحالة دولة بلجيكا. ذلك ان دستورها ، وهو احدث دستور اوروبي ،إذ جرى تشريعه في العام 1993 ، وجرت عليه تعديلات جاوزت العشرة منذ اقراره حتى الآن ، ينص في مواضع اساسية فيه على ان شعبها يتألف من اربع مجموعات قومية . وينبغي ان تراعى هذه التعددية في ادارة الحكم وتشكيل هيئات السلطة التنفيذية حفاظاًعلى حق كل مكوّن من مكونات الشعب في المشاركة في السلطة، وادارة شؤون المكون القومي الخاصة . جئت على ذكر هذه المقدمة تمهيداً لتناول الوضع في العراق في ضوء الجدل المثار بسبب تصريحات السيد المالكي رئيس الوزراء ، وتداعياتها في الحقل السياسي العراقي ، ابتداءً من رئيس الجمهورية مروراً بالعديد من الكتل السياسية ، التي رأت في ما طرحه رئيس الوزراء امراً خطيراً لاينسجم مع الواقع العراقي ، غير المؤهل في الظروف الحالية ، لتطبيق حكم الاكثرية ، بشكل مجرد ، من دون مراعاة ما درجت عليه العملية السياسية في العراق حتى الآن .وما جرى إدراجه في الدستور لمنع امكانية احتكار السلطة ، بإسم اليمقراطية والاستحقاق الانتخابي من قبل مكون واحد من مكونات الشعب العراقي ،القومية اوالدينية اوالمذهبية. وقد ترسخ هذا الفهم ، اي ضرورة اشتراك كل مكنونات الشعب العراقي في العملية السياسية وفي ممارسة السلطة التنفيذية (اي الحكومة) ما دام العراق يعيش فترة انتقالية تستوجب التوافق بين هذه المكونات . هذه الفترة التي قد تطول نسبياً بسبب السياسة الامريكية التي اعتبرت الشعب العراقي، منذ ما قبل اسقاط النظام السابق : سنة وشيعة واكراد ، وليس قوى سياسية واتجاهات فكرية ، لا تتأسس على اساس ديني او مذهبي او قومي ، وبسبب ما خلفته تدابير المحتل التي نفذها بريمر ، إذ جعل من مبدأ التوافق،المطلوب في الفترة الانتقالية ، محاصصة صارمة ما زالت العملية السياسية تعاني منها اشد المعاناة حتى الآن . وبسبب من هذا الفهم قوبلت تصريحات السيد القبانجي خطيب صلاة الجمعة في النجف الاشرف ، واحد القياديين في المجلس الاعلى الاسلامي ، قبل حوالي الاسبوع، التي دعا فيها الى تولي الشيعة للحكم في العراق بإعتبارهم اكثرية الشعب ، بالرفض الواسع من قبل غالبية القوى السياسية ، إن لم يكن كلها ، الامر الذي اضطر المجلس الاعلى الى محاولة ازالة تأثيرها السيء على الرأي العام بالقول انه جرى فهمها بشكل خاطىء. وحسناً ما اقدمت عليه مرجعية السيد السيستاني برفض ماطرحه السيد القبانجي ، والقول بأن الاكثرية التي يحق لها ان تحكم هي الاكثرية السياسية وليس المذهبية . ولئن كان مبدأ التوافق مطلوباً في البلدان المتطورة المتعددة القوميات والأديان والمذاهب كبلجيكا ، فهو مطلوب بشكل اكثر الحاحاً في البلدان من هذا النوع في بداية سيرها لبناء ديمقراطياتها الخاصة المتلائمة مع ظروفها الملموسة . سواء اكانت هذه البلدان قد تخلصت من السيطرة الاستعمارية أو من حكم دكتاتوري بشع دام عدة عقود من السنين ولم يسبق لها ان مارست حقوقها الديمقراطية ، كما هو حال العراق اليوم . ولذا فإن الدعوة الى اقامة النظام الرئاسي وإعتماد الاستحقاق الانتخابي وحده ، كما يريد السيد المالكي ، ربما تجد مبرراتها كوجهة نظر ، غير انها ، قطعاً، لا تلائم ظروف العراق حالياً، ومن حق معارضيها، وبعضهم يرى فيها نزعة انفرادية ، ان لم تكن ديكتاتورية في نظر هذا البعض ، التشكك في الدوافع لطرح هذا الموضوع ، بدلاً من معالجة الخلافات القائمة بين القوى السياسية عن طريق الحوار البناء ، وجعل مصلحة الشعب وتطور العملية السياسية فوق كل اعتبار . غير ان ضرورة اعتماد مبدأ التوافق ، ومشاركة كل مكونات الشعب في ادارة شؤون البلاد ، ينبغي ان لا تتحول من قبل البعض ، انطلاقاً من مصالح فئوية او مذهبية ضيقة ، الى وسيلة لعرقلة العمل من اجل استكمال اسس النظام الديمقراطي الإتحادي التعددي للعراق الموحد المستقل، وإعمار الخراب الذي سببه الحكم الدكتاتوري وحروبه ضد الشعب والجيران والاشقاء والحصار الظالم الذي طال ثلاثة عشر عاماً ، والاحتلال البغيض وتخريبات الارهابيين والفساد الاداري والمالي الذي استشرى في جميع اجهزة الدولة .وان من حق الشعب ان يطالب القوى السياسية المتنفذة التي تلعن الطائفية والمحاصصة الطائفية ، ان تتخلى عن لعنها قولاً وتتمسك بها فعلاً.
 
صحيفة الايام
3 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الرأسمالية الحكومية الإيرانية (1 – 2)

من دون تراث ديمقراطي طويل في البلدان الشرقية لا تستطيع ملكية الدولة إلا أن تتحول إلى رأسمالية حكومية شمولية.
هناك الكثير من الآراء والمناقشات حول الثورة الإيرانية وأسباب تحولها لنظام ديني شمولي بدلاً من أن تكون حتى نظاما ليبراليا ديمقراطيا.
لقد أسس الشاه دكتاتورية الحكم وقطاع الدولة الاقتصادي الكبير، الذي تغدو فيه ملكية النفط الحكومية أداة السيطرة الكبيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن دينامية الثورة تعود للجماهير الشعبية التي شاركت فيها، لكن القوى السياسية الليبرالية واليسارية لم تفهم قوانين الأنظمة الحكومية الرأسمالية في الشرق. فصعودُ الدولة ذات القوة الكلية في المجتمع لا يمكن مقارنته بتطور الصراعات الاجتماعية في الغرب.
لم ينفصل النظام الملكي السابق عن المحافظة الدينية، وتجسيد القومية الفارسية، فجاءَ النظامُ الديني ليكمل ذلك التاريخ.
ورغم منطلقات الحزب البلشفي في روسيا، واختلافها عن أفكار حزب الجمهورية الإيرانية كثيراً، فإنه كان تتويج النظامين في توليفة واحدة: هي دكتاتورية الدولة وهيمنتها على القطاع الاقتصادي الأكبر، ثم إنتاج برجوازية (سوداء) من داخل مؤسسات النظام، وإذا تأخر ظهورها في إيران فإنها سوفَ تظهرُ لاحقاً.
“كان الضعف فى حركة العمال جزئيا نتيجة لعوامل موضوعية، فكان هناك انقسام داخل الطبقة العاملة بين أولئك العاملين فى القطاع الحديث في المصانع الكبيرة وهؤلاء العاملين فى القطاعات التقليدية في الورش الصغيرة (التي معظمها كانت تـُدار من أصحابها أو أعضاء العائلة). وكانت المناطق التي يسكنها العمالُ غالباً يسودها عدديا القطاعات البائسة من البرجوازية الصغيرة، فقد كان يوجد 750 الف تاجر ومن الطبقة الوسطى، وتجار صغار، في طهران في 1980 في مقابل 400 الف عامل في المؤسسات الصناعية الكبيرة. وكانت أعداد كبيرة جدا من العمال جديدة على الصناعة ولديهم تراث ضئيل من الصراع الصناعي – 80% منهم كانوا من أصول ريفية – وكل عام تغرقُ الاحياءُ بحوالي 330 الف من الفلاحين السابقين، وكان ثلثهم فقط متعلماً ولذلك كان قادراً على قراءة الاعلام اليساري، برغم أن 80% كانوا يمتلكون جهاز تليفزيونات. وأخيراً كان حجم القمع في ظل الشاه يعني أن عدد المناضلين الموجودين في أماكن العمل كان قليلا جداً” (الموقع: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر).
إن التدفق الريفي على المدن هو عامل مهم في نشر الايديولوجيا الدينية المحافظة لكنه ليس هو السبب المحوري، فالبنية الاجتماعية بنية إقطاعية قديمة، والفهم المذهبي المحافظ هو نتيجة طويلة لسيطرة الإقطاع على إنتاج الإسلام، وهزيمة النزعات الديمقراطية الأولى، ولكن ذلك يتبدى بصورة كبرى مع هيمنة الأجنحة الريفية على عملية الإنتاج هذه، وهي الأشد محافظة، ومن هنا فهذا الفهم موجود في الأحزاب اليمينية وكذلك (اليسارية)، فنظراً لعدم وجود فئات متوسطة إيرانية مستقلة على مدى التاريخ السابق، إلا من لحظات ثقافية صوفية شعبية انتقادية، ومن نزعة تحررية لبعض الشخصيات الفكرية والأدبية، فإن الفهم الإقطاعي المحافظ سيطر على الحياة بكل جوانبها وبتاريخها السابق، وتقوم الدولُ ذات الملكية المركزية بإدامة هذا التراث، في لحظات تشكيل جهاز الدولة وملكياته المختلفة، إلى مستوى معين من تطور قوى الإنتاج، ولهذا وجدنا البلشفية تتصدع في زمن، كما تتصدع الماوية في زمن آخر، فلإيران البيروقراطية الدينية لحظة تصدعها القادمة، من داخل جهازها نفسه.
إن المظلة الدينية التقليدية تظلل الجميع، ولهذا ليس وجود قوى عاملة ثورية كافيا بحد ذاته، ما لم تكن ثمة قوى رأسمالية خاصة واسعة، وما لم تكن الدولة ليس في يدها معظم الثروة، فإذا كانت كذلك تستحيل الديمقراطية.
لقد قام المحافظون على مدى ألف سنة بتشكيل وعي ديني (إسلامي) مقلوب على رأسه، وقد أقاموا ثقافتهم على رفض توزيع الأملاك الزراعية على القرويين، والهيمنة على خيرات الأملاك العامة، ونشر ثقافة اللاعقل والأحكام الفقهية الجزئية العاكسة لذلك المبنى الاجتماعي، ويُكملُ هذا بإضعاف الأسرة الصغيرة الفاعلة المنتجة والثقافة العقلانية الديمقراطية.
وبهذا فإن الحزب الجمهوري الإيراني كان يواصل هذا التفرد، بادعاءات ثورية، أما النسب الطبقية الاجتماعية المعبرة عن نشوء أجسامٍ للحداثةِ في العهدين الملكي والجمهوري، فهو نشوء أغلبه استيرادي، فهذه الأجسام الصغيرة في بحر الريفيين المقتلعين من قراهم، تعتمدُ على صناعة مستوردة وصناعية نفطية (نخبوية) وصناعة استهلاكية، وهي تنمو الآن نحو صناعات أكثر تطوراً، وهذا سوف ينعكس على مجريات التطور الاجتماعي القادم.
إن قوة الثقافة المحافظة الإقطاعية كانت تتغلغل في المنشآت السياسية والاجتماعية كافة، بقيادة جهاز الدولة، وهو يقوم عبر سيطرة فئات البرجوازية الصغيرة التي استولت على السلطة بعد ركوب الموجة الثورية، بما فعله الضباط الأحرار في كثير من الأنظمة العربية، وهو توسيعُ قطاعات الاقتصاد الحكومي، وفي إيران فإن إعطاء الأجهزة العسكرية قطاعات اقتصادية يؤدي إلى توسيع الخنق السياسي للقطاعات المدنية، وإلى مخاطر الحروب.
لهذا فقد تم نمو الدكتاتورية عبر مراحل وأول مرحلة هي إبعاد اليسار، فقد كان الحضور اليساري الواسع يعرقل تحكم البرجوازية الصغيرة في المنشآت العامة الموجودة من العهد الملكي والمؤمّمة أو الجديدة، فهو يقوي الرقابة وحضور العمال المستقل والانتقادي لهذا التحكم في الثروة العامة.
وكانت مغامراتُ بعضِ فصائل اليسار وعدم فهم الفصائل الأخرى لطبيعة نظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، يؤججان من تصاعد نفوذ البرجوازية الصغيرة التي تصعدُ سلالمَ النظام، والتي تجدُ في الصعود ثروة ومنافع ونفوذا متصاعدا، وهي تتحول بهذا إلى برجوازية كبرى، وذات يوم ستجدُ أن سقفَ النظام بات ضيقاً عليها.
ومن ثم كان ضرب الاتجاهات الليبرالية (بني صدر وحزب بازركان وغيرهما )محطة أخرى لنمو الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يعبر ليس عن ضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة في إيران فمهما تكن توجهات الدينيين، فهم لا يقدرون على رفض هذه العلاقات لأنها مؤيدة من قبل الدين، وكان التجار عاملا مهما في تصاعد النضال السياسي، ولكنهم يرفضون تمدد الرأسمالية الخاصة وتحولها إلى نظام، وما يترتب على ذلك من نشوء نظام رأسمالي خاص بأثاثه الديمقراطي وحرياته المختلفة.
كذلك فإن النظام الرأسمالي الخاص يكون تعدديا ومنفتحا فيغدو مغايرا لمشروع الدولة القومية التوسعية أو ذات الجمهور المذهبي المفترض المنتمي إليها، فهي دولة مذهبية فوق قومية كذلك، فليس ضرب الاتجاه الليبرالي الديمقراطي هو لمجرد محاككات شخصية وتنافسية بين المتحالفين الدينيين – الليبراليين الذين استولوا على السلطة بتعاون مرحلي، بل لاختلاف المشروعين الرأسماليين: مشروع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية ومشروع الرأسمالية الخاصة.
ورغم أن التكتيكات السياسية لعبت دوراً في تغليب الاتجاه الأول على الثاني فإنه حتى من دون هذه التكتيكات والمناورات فإن القواعد الاقتصادية الاجتماعية الكبرى للمجتمع تعطي الدينيين الشموليين فرصة هائلة لتشكيل دكتاتوريتهم أكبر من حلفائهم في فترة ثم خصومهم في فترة لاحقة.
ليس لينين أو ماو أو الخميني، هم الذين شكلوا هذه الرأسماليات الحكومية لكنها الظروف الموضوعية التي جعلتهم، كلا في بلده وظروفه، يتوجه نحو تصعيد دور الدولة الكبرى، حسب المنظار الايديولوجي لكل منهم، وهو منظارٌ يعكس تلك الظروف الموضوعية والذاتية.

صحيفة اخبار الخليج
2 يونيو 2009

اقرأ المزيد

طيف عبد الخالق محجوب

الذي مات أمس الأول هو الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، لكن ليس اسمه هو الذي يحضر في الذهن الآن، وإنما يحضر طيف واسم رجل آخر من السودان اسمه عبدالخالق محجوب، علقه النميري على المشنقة منذ نحو أربعين عاماً، هو والشفيع أحمد الشيخ زوج القائدة النسوية فاطمة إبراهيم التي تعرفها السودان من أقصاها الى أقصاها، ويعرفها الديمقراطيون والتقدميون في العالم العربي والعالم. محجوب هو أكثر وجوه السياسة والوطنية في السودان إشراقاً وإخلاصاً ووعياً، أما الشفيع فقد خرج من صفوف عمال سكك الحديد ليؤسس للسودانيين نقاباتهم ويُدربهم على النضال المطلبي، فيجعل منهم قوة منظمة، والتف حبل المشنقة إياها على أعناق رفاق آخرين لهما. يومها كتب الشهيد الكبير كمال جنبلاط مقالاً مطولاً في «النهار» البيروتية، قرأه اللبنانيون والعرب، استفظع فيه هول ما حدث: كيف جرأ النميري أن يعلق على المشتقة عبدالخالق محجوب، وهو رجل الحوار والوعي المتقد، الذي أعطى السودان واحداً من أهم تياراتها السياسية، واستطاع بذهنه الخلاق أن يفهم الواقع السوداني من خلال المنهاج العلمي. ما زلت أذكر أن الشاعر محمد الفيتوري أتى البحرين بعد تلك الفاجعة بسنوات قليلة جداً، لعل ذلك كان في العام 1972وأقام فيها أمسيات شعرية، في المنامة وفي المحرق، وكذلك في القرى، وفي كل تلك الأمسيات ألقى قصيدته الرائعة في رثاء محجوب. واحدة من هذه الأمسيات أقيمت في إحدى قرى سترة إن لم تخنِ الذاكرة، ولم تكن شوارع معظم القرى مضاءة بعد في ذلك الحين، وفي ليلة ممطرة، لكن المطر لم يمنع الناس من الحضور الكثيف. حين همّ الفيتوري بالنزول عن المنصة في ختام الأمسية دون أن يلقي القصيدة، فاجأه الجمهور المحتشد في الصالة بإلحاح ألا يبارح مكانه قبل إلقائها. وبصوتٍ متهدج خاطب الفيتوري محجوباً: «قادماً من بعيد على صهوة الفرس/ الفارس الحلم ذو الحربة الذهبية / يا فارس الحزن مرّغ حوافر خيلك/ فوق مقابرنا الهمجية.» وعلى لسان محجوب قال: «لا تحفروا لي قبراً/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل / أرقد كالشمس فوق حقول بلادي / مثلى أنا ليس يسكن قبرا(000) لا تحفروا لي قبرا / سأصعد مشنقتي / وأغسل بالدم رأسي / وأقطع كفى / وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر / فوق حوائط تاريخه المائلة / وأبذر قمحي للطير والسابلة». صعد عبد الخالق محجوب مشنقته بإباء الرجال وهو لما يزل شاباً، وما زلت أذكر صورة له نشرتها الصحافة اللبنانية حينها، وهو وسط الصحافيين وعلى محياه ابتسامة مُشعة متحدية بعد خروجه من المحكمة التي حكمت بإعدامه. وعاش النميري مديداً من العمر، حتى بلغ أرذله، حيث تقلب في السلطة، التي قلبت أهواءه يمنة ويسرة، فمن بزة الجنرال وعصاه، إلى عمامة التدين، ثم في المنفى قبل أن يعود في سنواته الأخيرة إلى الخرطوم. رحل النميري، أما محجوب فيبقى.
 
صحيفة الايام
2 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الإنتاج الثقافي وأزمة الاستهلاك

مثل أي إنتاج لابد له من مادة الحياة، أي من مواد حقيقية، لكن ليس من مطاط وجلود ومياه بل من مشاعر وأفكار وتحليلات إبداعية.
ومثل الإنتاج المادي فالإنتاج الثقافي ينحرف، ويصب في أسواق ناضبة من المشترين، ويتورم في إنتاج هزيل رغم المظاهر الخارجية الفاتنة والدعاية الخلابة.
الإنتاج الحقيقي والعميق والمتصل بجذور حالات الإنسان وقضاياه لا يجد له سوقاً مزدهرة، لأن المشترين يعيشون هم كذلك في حالات من الغربة والضياع عن الإنتاج الوطني، هم مهمشين أو فائضين عن الحاجة في أجهزة دول متضخمة في الثانوي، محدودة فيما هو جوهري وغائبة عما هو تصنيعي وتحويلي للتخلف، تشكل استقطابات بين الغنى والفقر، بين المدينة والقرية، بين المادة والثقافة.
ولهذا هم يتراكضون نحو هامشيات الحياة، نحو الماديات التي تهترئ، نحو أوقات التسلية المضيعة للعقل، وتصاب الروحيات بالجفاف واللامبالاة والهامشية واليأس والأحزان والأفراح الفارغة والضياع.
غياب الإنتاجيات الحقيقية في أي بلد يدفعه للأزمات، الذهب يذهب للخارج، العملة الوطنية تترنح وتتضخم أوراقها وتقل قيمتها، يتكاثر الوسطاءُ البيروقراطيون الحكوميون وتجار العملة والأجهزة والخدم.
في أزمنة الكفاح يجد المنتجون الثقافيون أنفسهم في حالة خصب إبداعي، فهنا توازن بين تحليل الحياة ومعرفة عناصر إنتاجها وقوى تغييرها، ووجود قراء ومشاهدين مشاركين يعتبرون هذا الإنتاج جزءًا من وجودهم الجماعي، ويغدو الشاعر صوت (القبيلة) الحديثة بنضالها ومآسيها وأفراحها، ويغدو القاص كاشفاً للنقاط السلبية والإيجابية في الناس والحياة، يقيم جدل التغيير، يحس القراء أنه بينهم، يراقبهم، يشاركهم، ينفعل بما يحدث لهم، يكشف لهم ما لم يروه، يساعدهم على التطور، يغذونه هم أيضاً بملاحظاتهم، ينفعلون لأخطائه، يصوبون صوره.
ويمكن أن يطير الإنتاج الثقافي نحو التجارب والابتكارات ليكشف مناطق جديدة، ودائماً هناك مشكلة القفزة عن مستوى المتلقين، فقد يتغربُ الإنتاجُ الثقافي، ويعجزُ الناسُ عن فهمه، ويعجز المنتجُ عن الوصول إلى المستهلكين، مثل مواد الإنتاج المادي من فواكه وأزهار وحرير، قد تـُؤخذ للحريق، ويتم اعدامها من أجل أن يبقى مستوى الأسعار عالياً، رغم أن المنتج الثقافي بحاجة إلى أبسط أدوات العيش.
ويمكن كذلك أن يصير الإنتاج الثقافي منحرفاً عن طبيعته، طبيعة التلاقي البشري، وطبيعة التأثير وخلق الجمال في الحياة، فيصيرُ أمراضاً بدلاً من علاج وسمو ومتعة ونضال مشترك. الجمال في الثقافة يصبح القبح في الحياة الاجتماعية.
هنا تزدهر الأشكال الخارجية التي لا ترتبط بحقل منتج، تطلق أشباحاً تسبب الأمراض.
أغلب النقد لا يريد أن يتفاعل مع معارك الحياة، النقاد أغلبهم أساتذة جامعات وموظفون، يتطلعون لتحسين مستوى عيشهم وإلى الارتفاع في أجهزة الدول ولهذا هم يبتكرون النقد الذي لا يكشف الصراعات الاجتماعية، والسياسية، والذي لا يتوغل في أمراض البشر، ويُنزلون على النصوص هياكلَ خارجية تفضي بهم لعدم قراءة الواقع ومصائبه ومشاركة الناس التغيير.
مثل ذلك مثل وعي الجامعات العام لا يقيم جدلاً مع البناء الإنتاجي ولا يكشف الهدر الاقتصادي فيه، فلا يريد أن يتعرض هنا لمساءلة الجهات المتحكمة في هذا الإنتاج المادي.
مع عقم الثقافة يزدهر الجدب والمظاهر الخارجية الخلابة المحدودة المضامين، وتكثر الاستعراضات، والمنتج الذي فقد العلاقة مع الواقع، والذي لا يعني أن يركب باصاً ليدون ملاحظاته على التذاكر، بل أن يكشف المشكلات العميقة في الحياة، أي الأزمات الداخلية غير المرئية التي تحيل حياتهم حروباً وفقراً أو بذخاً على حساب المنتجين.
عقم الثقافة يتجسد في صعود التضخمات الروحانية والاستعراضات الصوفية وفي تفاقم كم الإنتاج على حساب كيفه أو غيابه تماماً وهو أمر يعكس فقد الروح بسبب المادة وتوسع حبسها، ويؤدي إلى تيبس الكلمة، وعدم ارتعاشاتها بالصراع والتطورات وبالفضح والسخريات وتنوع أشكالها وغياب تجريبيتها النوعية المتغلغلة في حياة الجمهور ودينه وواقعه، في تأمله المفارق ومستنقعات حياته المغمورة بالدماء.
يغدو الإنتاجُ عاقراً حين يكون مرتبطاً بجهات عليا فاسدة أو بمصالح ذاتية، صادراً عن كليشيهات مسبقة، معدومة التحليلات الموضوعية، وعن فورمات ينتجها أقطاب المذهب، الديني أو الأدبي، أو الفني، أو تحدث بسبب متابعة الموضات المفيدة تجاريا، التي يتلبسُ بها ادعاءات العملقة والابتكارات المذهلة وهي خاوية.
موجات الثقافة المتصاعدة المتراكمة النمو تتعلق بمدى جرأتها على تحليل الواقع ونقده، وهي الشرط الحاسم في بقاء الكلام أو اندثاره، فإذا تلكأت أو تراجعت يتضح ذلك في النتاج.
ولعل التطرف ومحدودية الثقافة وعدم القراءة الواسعة هي التي تجعل المبدعين يموتون في ريعان شبابهم، من دون أن تتفتق عقولـُهم عن ابتكاراتٍ ومواقف وتجسيدات ذات ذكاء تجمع بين تأصلهم واستفاداتهم من نتاجهم ومن ارتفاع مكانتهم.
وهذا يحدث حين يجدون صيغاً ذكية، فيها الطموحات الشخصية والالتزام بتعرية الواقع الفاسد، والابتكارات الفنية التي تغدو ذات شعبية.
استطاع كتاب وفنانون في الغرب والشرق خلق مثل هذه الابتكارات، كما صنع والت ديزني الذي جعل الرسوم المتحركة أداة تربية ومتعة للملايين وشركة مربحة كذلك، أو كما فعل كبار الكتاب.
فالتظاهر بالعملقة والادعاءات وتشكيل نسخ مقلدة لا تعني سوى التراجعات الثقافية، ولن ينفع هنا تجنيد وكالات الدعاية والأجهزة الرسمية، فمن المستحيل أن يقوم أناسٌ لا يريدون أي مواجهة تقدمية بخلق ثقافة.
الثقافة تعني تأصيل الجمال لا القبح، والدفاع عن الإنسان، والاستقلال عن الأجهزة الاستغلالية والحزبية المحدودة الأفق، ونكران الذات، وعدم قبول الرشا السياسية والاقتصادية، لكي يبقى الصوت صوتاً لا صدى، وحينئذٍ تتدفق الكلمة والريشة والأغنية.

صحيفة اخبار الخليج
1 يونيو 2009

اقرأ المزيد

أزمة من طراز خاص ونظام من طراز جديد

يعترف كل الخبراء عمليا أن الأزمة التي يعيشها العالم اليوم تختلف جذريا عن كل الأزمات السابقة. غير أن ما يميزها ليس سعتها الكونية بقدر ما هو دورها التاريخي بالنسبة لمستقبل النظام الاقتصادي الاجتماعي. ولإدراك كنهها من الضروري مقاربتها في إطار السياق التاريخي للتطور المجتمعي. في البدء جرت مقاربة الأزمة على أنها مالية وأن من الممكن التغلب عليها بإزالة مشكلات القطاع المالي. وقد تفيد هذه الحلول بعض الشيء. لكن استمرار اعتقاد بعض المفكرين بأن جذر الأزمة يكمن فقط في عدم كمال آليات الرقابة أو في الأخطاء في عمل المنظمات المالية سيبقيهم في ضلال.
لم يفعل الجالسون في وول ستريت فعلتهم من دون إدراك، أو نتيجة أخطاء ناجمة عن جهل. إنهم أناس عرفوا كيف يصنعون، ببساطة، نقودا كثيرة من لا شيء. وهذه كانت رسالتهم التي من أجلها جاؤوا إلى هناك. مشكلاتهم تكمن في أمر آخر: في القيم والسلوك المهني. ينفخون الفقاعات ليقتنع الجميع أن هناك مالا كثيرا ويغتنوا هم دون أن يقدموا للاقتصاد العالمي شيئا ذا قيمة. ومنذ زمن طويل قال عنهم رائد الأعمال الأميركي الشهير هنري فورد الأول بدلالة: ‘يصنع الفلاح الخبز، ونصنع نحن السيارات. وبيننا يقف وول ستريت والمصارف التي تريد أن تمتلك حصة من عملنا دون أن تصنع شيئا. إنهم يتقنون عملا واحدا فقط، هو ممارسة السحر والخداع’.
انتقد المفكر العبقري كارل ماركس أبطال كمونة باريس لعدم تأميمهم المصارف والتحكم بالنظام المالي النقدي أولا. وبالعكس، رأيت مبنى المصرف المركزي لكمبوديا عندما زرتها في الثمانينات وقد سوي بالأرض بعد أن ألغى الدكتاتور بول بوت النظام المالي وتداول النقد كلية اعتقادا بأن هذه هي الاشتراكية.
وبين هذه المفارقات التاريخية يبقى أنه ليس من الصحيح الاعتقاد بأن المؤسسات المالية العاملة حاليا وما تستخدمه من أدوات مالية ‘سفسطائية وبلا حدود غالبا’ وعمليات ستظل موجودة كمكونات ضرورية بشكل مطلق. ما تفعله هذه المؤسسات أنها توجد قيما تصورية وتنشر مالا وهميا وتحدث آليات لإعادة التوزيع غير العادل للخيرات الحقيقية لمصلحتها. لكنها عن طريق النفخ في الفقاعات تنسف كل التوازنات مولدة الأزمات الاقتصادية. وإذا كان من الطبيعي والضروري أن تحدث تغييرات جذرية في القطاع المالي، فإن من الإنصاف التأكيد على أن هذا القطاع لم يكن سوى مسرّع للأزمة لا أكثر. فالأزمة الاقتصادية اليوم هي عرض لمظاهر نهاية النظام الاقتصادي الذي يقع في أساس الاقتصاد الرأسمالي.
في إطار هذا النظام تغيرت نوعية القوى المنتجة جذريا. لم يعد العامل تابعا للآلة بالقدر الذي اتسم به الاقتصاد الصناعي. تميز تطور المراحل السابقة بظهور عمال المعرفة(knowledge workers) الذين لا يشاركون فقط في إنتاج السلع، ولكنهم يسهمون في رأسمال الشركة، ويستطيعون أن يأخذوا معهم إسهامهم عندما يتركونها. وبما أن حصة ما يسمى بالأصول غير المحسوسة تتنامى بثبات، فإن العمال الأجراء بعد أن يصبحوا مالكين لقسم من الأصول غير المحسوسة، وبالخصوص المعارف، فإنهم يصبحون مالكين بحكم الواقع. ويرى البروفيسور د.أوليغ فيخانسكي، مدير معهد الأبحاث الاستراتيجية المركبة في روسيا أن هذا سينسف الجوهر ذاته للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية ويخلق أساسا لعلاقات إنتاجية جديدة ليست واضحة النموذج بعد. وأنه إلى جانب الملكية الرأسمالية ستظهر شبه ملكية سوف يتغير مكانها ودورها باستمرار، أما أهميتها فستأخذ في التزايد[1]. وقد يحمل ذلك البعض على الاعتقاد بأن ما يحدث يعني إرهاصات نظام رأسمالي معدل بإدخال عناصر الاشتراكية عليه. وذلك يعني أن الرأسمالية في النهاية هي الحدود التاريخية لتطور البشرية، خصوصا وأن نماذج النظام الاشتراكي الذي جربته البشرية قد انهار بين قبيل مطلع تسعينات القرن الماضي. غير أن نظرية ‘نهاية التاريخ’ قد دحضت من قبل علماء جديين كثيرين، كما أن ‘فوكوياما’ نفسه أخضعها للنقد والمراجعة. وأصبح واضحا أن الإنسانية لن تقف عند مرحلة الرأسمالية مهما عدلت، ولا الاشتراكية بنموذجها السابق. المقتنعون بذلك يرون أنه سيظهر نمط مجتمعي جديد لن يكون جمعا لهذين النمطين، بل سيكتسب ملامحه الخاصة. وهنا أيضا يختلف المفكرون في ماهية نظام المستقبل، ويبحثون عن نواته في الواقع الاقتصادي الاجتماعي الحالي. يتفق معظمهم على أن النظام الاقتصادي الجديد سيقوم على نظام السوق، لأن جوهر الاقتصاد كأحد مكونات المجتمع هو خلق الخيرات وتبادلها. ويتفقون أيضا على أن الأساسين المهمين لنموذج آدم سميث: الإنسان الاقتصادي ويد السوق الخفية سيختفيان.
لكن العلماء يختلفون في رؤاهم للنموذج البديل. البروفيسور فيخانسكي يرى إضافة إلى ما ذكر أعلاه بأنه إلى جانب توسع الحركة العمالية وتمكن النقابات سيضاف أيضا تأثير العاملين الأجراء. وستنشأ اتحادات تضم هؤلاء وشركاء كالمشترين والمتعاقدين والمجتمع المحلي والمنظمات والحركات الاجتماعية المختلفة الاتجاهات بحيث يصبح المالك الأصلي واحدا من صناع قرارات المؤسسة. وستشمل هذه الاتحادات مجالات العلم والتعليم والبيئة والحركات الاجتماعية. كل ذلك سيغير نوعيا رسالة القطاع الخاص ودوره في المجتمع. وهكذا يصبح الربح نتاجا للنشاط وليس هدفه. ويرى أن دور الدولة سيتعاظم في تنظيم الاقتصاد داخليا وفيما بين الدول، وصولا إلى ‘الحكومة العالمية’. ولربما صح إطلاق تسمية الاقتصاد التحالفي على النظام الاقتصادي الجديد الذي تجري عملية ولادته الآن. وهو يرى في وادي السلكون في أميركا نواة لهذا النموذج.
أما الصين فقد طرحت نموذجها البديل الفاعل على الأرض. والذي يعتمد معايير السوق في كثير من جوانبها واحتفظت الدولة برياديتها ليس في إدارة الاقتصاد والرقابة عليه، بل وفي السيطرة المطلقة على النظام المالي وفي تشديد التزاماتها باستمرار تلبية الحاجات المادية والروحية للمجتمع. ومهما قيل عن ماهية هذا النظام فإن فلاسفته يقدمونه على أنه الذي أنقد الاشتراكية تاريخيا بعد انهيار نموذجها السوفييتي، وهو المعني في ظروف الأزمة الراهنة بإنقاذ النظام الاقتصادي العالمي، وعلى أنه نموذج اشتراكية القرن الحادي والعشرين.

[1] انظر: »Expert« ، 11 مايو/ أيار 2009
 
صحيفة الوقت
1 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الفال للبحرينية

هذا هو لسان حال الفائزات الكويتيات في انتخابات مجلس الامة، والتي شكل وصول 4 نساء الى المقاعد الخضراء في مجلس الامة مفاجأة كبيرة للمتابعين. وخلال زيارتي للكويت بدعوة من السفارة الكويتية كتبت خبرا مسبقاً توقعت فيه بحسب ما تمخض من آراء المراقبين فوز امرأتين على الاكثر، ولكن جاءت النتيجة مغايرة لهذه التوقعات، فقد قفزت المراة عن توقعات المراقبين الى الضعف، ووصلت 4 نساء بكل جدارة الى مجلس الامة الكويتي بعد اربع سنوات فقط من اعطاء المرأة الكويتية حقها السياسي في الترشح والانتخاب. المؤشرات كانت مؤكدة بان المراة في هذه الانتخابات ستكون رقما صعباً، ولهذا استشعر بعض الاسلامويون هذا الامر، فلجأوا الى الفتاوى التضليلية التي تحرم على الناخب التصويت للمرأة. وعلى الرغم من هذه الفتاوى التضليلية، كان الناخب الكويتي واع بدرجة كبيرة، ولم يجد معه هذا الاسلوب نتيجة للخبرة السياسية التي اكتسبها الناخب الكويتي والذي ذهب 13 مرة للإدلاء بالتصويت لانتخاب من يمثلون الامة. البحرينيون كانوا من أكثر المهتمين للانتخابات الكويتية، حيث شارك وفد من جمعية الوفاق «100 شخص»، ومن جمعية العمل الوطني الديمقراطي 20 شخصاً، ووفد آخر من جمعيتي العمل الاسلامي ومراقبة حقوق الانسان الشفافية البحرينية، في الانتخابات الكويتية للاطلاع على هذه التجربة. ويرجع سبب اهتمام البحرينيين بهذه الانتخابات الى الموروث الاجتماعي المشترك الذي يجمع البلدين فضلاً عن القرب الجغرافي. التقيت في خضم المعركة الانتخابية بعدد من المترشحات الكويتيات، وكان لسان حالهن «الفال للبحرينية» في ان تصل الى قبة البرلمان البحريني لتوازي نظيرتها الكويتية، وإذا استمر الحال في تشكيل الكتل الايمانية فقد لا نجد امرأة تصل بمنافسة إلى كرسي البرلمان. خلافاً للحالة الكويتية فإن النساء الكويتيات جميعاً ترشحن مستقلات، فلم تحتوي اية قائمة اسلامية أو ليبرالية على إمراة، بل كانت نسياً منسياً من هذه القوائم، وهذا يدل على ان اجندة الاسلاميين وحتى الليبراليين كما اشارت عضو مجلس الامة سلوى الجسار خلال حديثها لـ «الأيام» غير واضحة بالنسبة للمرأة. الانتخابات البحرينية تبقى عليها ما يقارب 17 شهراً، وما زال الامل يحدوا بنا ان نرى نساء على قوائم القوى السياسية حتى يتمكن من الوصول الى البرلمان.
 
صحيفة الايام
1 يونيو 2009

اقرأ المزيد