المنشور

بأي أسئلة يجب أن ننشغل؟

ما أكثر الندوات والمؤتمرات وورش العمل وحلقات البحث التي تقام في مدننا العربية كل يوم تقريباً، حول قضايا عديدة، ولكن المتمعن في الأمر سيلاحظ أننا ننصرف إلى التفاصيل وننسى الأساس، أو نتحاشاه ونهرب منه. السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح هنا: هل تذهب المناقشات في هذه الأنشطة نحو العمق لتفضي إلى نتائج تستحق الدراسة والتمحيص، وتتحول إلى إرادة عمل لدى الحكومات أو حتى المنظمات غير الحكومية، كل في حقل اختصاصه، فلا يعود المشاركون في هذه الفعاليات يكتفون بسماع صدى أصواتهم بين الجدران الأربعة للقاعات التي ينظمون فيها هذه الورش، ولا تذهب توصياتهم إلى الأدراج والاضبارات، فنعود بعد حين لنقول الكلام نفسه، ونصدر توصيات مشابهة، تزيد أو تنقص، لكنها تذهب إلى المصير نفسه. جدوى مثل هذه الأنشطة لن تقاس إلا إذا نظرت أجهزة الحكومات بعمق إلى القضايا المطروحة فيها، واستجابت لما يصدر عنها من قرارات، فقامت بسن قوانين إصلاحية بعيدة المدى، واتخذت تدابير في الإطار ذاته وفق إستراتيجية واضحة وإرادة ممنهجة وذلك بغية الحد من تناسل الأسئلة اليائسة من قبيل: « إلى أي مستقبل نحن ذاهبون، عن أي تنمية نتحدث، ما جدوى الثقافة وما جدوى التعليم». ونصف هذه الأسئلة باليائسة، لا من قبيل الاستخفاف بها، فنحن نعلم جيداً مدى دقتها وخطورتها، وإنما من قبيل الإشارة إلى أن كثرة طرحها، دون مقاربات جريئة لها، يكسبها هذه الصفة. ومثل هذه الأسئلة اليائسة تخصنا هنا في بلدان الخليج العربية بصورة عميقة، أخذا بعين الاعتبار إننا ما زلنا نعد مجتمعات فتية في انفتاحها على العصر وعلى العالم، وهي بالكاد تؤسس لتقاليد ثقافية وتربوية متينة وراسخة، فإذا بنا نداهم بطوفان الثقافة الاستهلاكية التي تحتفل بالمظاهر وتفصل بين الوسيلة والهدف. والأمر هنا ليس مقتصرا على العناوين التي غالبا ما تكون كبيرة وجذابة، فيما المعالجة سطحية وعجلى، إنما هو تحديدا في المعالجات الجريئة التي لا تهاب أن تنكأ الجروح، لإخراج ما تحت قشرتها. مثل هذا النوع من المناقشات، في صورة مؤتمرات وطنية موسعة ومعمقة، وفي صورة مناقشات في الصحافة ووسائل الإعلام، هو حاجة لمجتمعات الخليج عامة حين تنطرح أمامنا قضايا قد تكون أكثر دقة وحساسية في أشكال تجليها عندنا منها في البلدان العربية الأخرى. إن جزءا كبيرا من هذه القضايا مغيب أو مسكوت عنه، وليس مطروحا حتى على شكل أسئلة. وطرح الأمور والظواهر للنقاش لا يعني بالضرورة إمكانية حلها الفوري، وإنما يكون مقدمة ضرورية للتفكر ملياً في أمر وضع أجندات للحل، الذي وإن أخذ وقتاً، لكن وجود هذه الأجندات ومتابعة تنفيذها، يخلق حالاً من الاطمئنان إلى أنها في طريقها للحل. قضايا من هذا النوع هي أكثر عمقا وتعقيدا وتشابكا من أن تحل بين عشية وضحاها، ولكن مجرد إثارة الأسئلة، وجعلها مدار بحث دائم، مما يفضي إلى تفريعات جديدة ومعالجات متنوعة، هو المدخل السليم لوعي المجتمع بمشاكله. والوعي بالمشكلة هو نصف حلها.
 
صحيفة الايام
6 مايو 2009

اقرأ المزيد

مداخلة الأستاذ شوقي العلوي في ندوة المنبر التقدمي: “أي حوار نريد”؟

الإخوة الأعزاء
مساء الخير لكم جميعاً
بداية أتوجه بالشكر الجزيل للمنبر الديمقراطي التقدمي قيادة وأعضاء على الدعوة لي للمشاركة في هذه الأمسية متحدثاً مع أخي الدكتور حسن، الذي دعاني مشكوراً لمشاركته الحديث، ولم أجد إلا أن ألبي رغبته بالرغم من أنني لم أتعود أن أكون منتدياً ولا حتى مشاركاً في الحوارات التي تتم في الندوات العامة، حيث أن الحديث المباشر يحتاج إلى ملكات خاصة لا تجلب الملل للحاضرين، لذاك أعتذر مقدماً على التقصير.
انتقل إلى موضوع الحوار الوطني الذي يجري الحديث عنه، لأقول إنه من مصلحة النظام السياسي ومن مصلحة المواطنين ومن مصلحة القوى السياسية أن يكون هناك وطن آمن مستقر مزدهر تصان فيه الحقوق والواجبات، والحوار بين كافة الأطراف هو أمر واجب ومطلوب في كل الأوقات، وهو يساهم بكل تأكيد في خلق الأمن والاستقرار والازدهار.
على صلة بموضوع الحوار الوطني المطلوب، هناك الكثير من التساؤلات والعناوين يجب علينا تناولها والبحث لها عن إجابات، فمع كل التقدير والدعم للمبادرة الوطنية المتزنة التي صدرت عن المنبر الديمقراطي التقدمي، إلا أنها جاءت في وقت كان فيه هناك احتقان متفجر في الشارع وتصاعد في أحداث مؤسفة، لذلك جاءت المبادرة وكأنها تهدف إلى نزع فتيل التوتر القائم.
العنوان الأول الذي أعتقد أنه مهم وذو علاقة بأي حوار وطني، هو الواقع الذي نعيشه نحن ذاتياً، وأقصد بـ “نحن” هي قوى التيار الوطني الديمقراطي. فهل واقعنا يؤهلنا إلى أن نشكل رقماً فاعلاً يدع قوى الإسلام السياسي بداية أن تعطينا الاعتبار الذي نستحقه بدلاً من أن تستخدمنا هذه القوى ورقة بيدها ساعة تشاء وتعطينا ظهرها ساعة تشاء؟ أقول: إنه بيدنا أن نقزم أنفسنا تجاه الإسلام السياسي وتجاه السلطة، لذا فإن الطرفين يتعاملان معنا وفقاً لذلك، وكذلك بيدنا أن نعيد الاعتبار لأنفسنا.
في هذا الشأن أطرح على قيادتي المنبر الديمقراطي التقدمي والعمل الوطني الديمقراطي التقدمي ” وعد” جملة من التساؤلات، باعتبارهما الجمعيتين اللتين تشكلان الركن الأساسي لقوى التيار الوطني الديمقراطي، وهي تساؤلات كانت ومازالت مطروحة من قبل الكثيرين الحريصين على قوة وفعل هذا التيار. هل نحن نعيش وهماً اسمه التيار الوطني الديمقراطي؟ بالرغم مما تعلنه الجمعيتان بين وقت وآخر عن اجتماع بين قياديتهما وصدور بلاغ عن الاجتماع واحتفال مشترك بمناسبة ذكرى اسشهاد الشهيدين محمد بوجيري وسعيد العويناتي هل هو أقصي ما تستطيع الجمعيتان الوصول إليه؟ عندما تعصف بالوطن أحداث خطيرة كالتي جرت خلال الشهور الماضية، هل اجتمعت قيادتا الجمعيتين وتدارستا ما يجري لاتخاذ موقف مشترك، بدلاً من غطاء الرباعي والسداسي؟ ما الذي يحول دون دخول الجمعيتين في حوار معمق وجريء؟ لماذا لا تسعى الجمعيتان إلى خلق آلية تمتاز بالوضوح والشفافية نحو إيجاد طاولة حوار مستمرة تأخذ وقتاً قد يكون طويلاً تكون أداة معلنة تجاه قواعدهما وأنصارهما يشارك فيها من يملك رؤية ووجهة نظر تتناول واقع هذا التيار وأفاقه المستقبلية بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال وتجهيل النفس والآخر؟
إن لم نعِ واقعنا وقدراتنا لا نستطيع الدخول في حوار مع الآخر سواء سلطة أو قوى سياسية أخرى. نتراكض خلف دعوة حوار يطلقها الناشط السياسي عبدالوهاب حسين لأهداف تخصه وتخص تيار الإسلام السياسي الشيعي، في الوقت الذي نمتنع فيه عن قبول دعوات توجه من أوساطنا للحوار أولاً فيما بيننا؟ لماذا لا نكون نحن أصحاب مبادرة لدعوة الآخرين للحوار؟
بدأت بتناول جانب من وضعنا الذاتي؛ فالسعي نحو الحوار الوطني الشامل، وهو الحوار الذي يجب أن يشارك فيه الحكم، هو مطلوب ومرغوب فيه، لكن لا بد أن يسبقه حوار مع الذات وحوار مع بقية القوى السياسية ومن ثم التوجه للحكم لطلب الحوار معه.
العنوان الثاني الذي أرى أنه ذو علاقة بالحوار الوطني المنشود هو لماذا الحوار الوطني مطلوب ومرغوب فيه؟ ومن هي أطراف هذا الحوار؟ وهل التوجيه الذي قال به جلالة الملك هو أن مكان هذا الحوار هو المجلس الوطني هو ما نوافق عليه؟ هذه بعض التساؤلات، فهناك أسئلة كثيرة وعديدة لدينا جميعاً. أحاول من وجهة نظري المتواضعة أن أقول بعض الرأي فيها. لا بد لنا من أن نقر مجتمعين أن هناك الكثير من التطورات الإيجابية منذ تسلم جلالة الملك مقاليد السلطة، هذا مقارنة بحقب سوداء عاشها الوطن على مدار عقود طويلة من الزمن، لكن هذا لا يعني أن ما هو مرجو قد تحقق، وأن الأيام الجميلة التي لم نعشها و وعدنا بها قد جاءت، فمقابل ما هو إيجابي وبطبيعة الصراع ما بين الخير والشر، هناك من هم أصحاب مصلحة بإبقاء العجلة عند مكانها، بل والعمل على إعادتها إلى الخلف. لذا فإن الكثير من الملفات التي تؤدي إلى إيجاد الأرضية الخصبة لأعمال العنف المتكررة لا زالت قائمة وربما تفاقم وضع البعض منها، وما يعيب الحكم في ذلك أنه يتنكر ويتهرب منها، وهي ملفات خطيرة تستدعي الحوار حولها، ليس المجال هنا لتعدادها والحديث عنها فهي معروفة لدينا جميعاً.
من هي أطراف الحوار المطلوب؟ إن الأمر المؤسف له في هذا المجال أن الحكم قد اتبع سياسة التفاوض وليس الحوار مع زعماء الطوائف سراً، وهذا يتكرر دائماً وهو ما حصل أخيراً قبل العفو الملكي الأخير، حيث لجأ الحكم إلى التفاوض مع زعماء طائفة، وهذا التفاوض لم يجرِ حول المسائل الوطنية التي تخص الوطن بمجمله، فالذي تسرب إلينا حول ما تم في هذا التفاوض هو بناء المآتم والمساجد وإطلاق سراح الموقوفين والمحكومين، والأمر المؤسف له هو قبول الجمعية الرئيسية من جمعيات الإسلام السياسي الشيعي وهي جمعية الوفاق الإسلامية لذلك عبر مرجعيتها الدينية، متجاهلة في ذلك بقية الجمعيات السياسية الأخرى.
إن أطراف الحوار المطلوب مشاركتها هي جميع القوى السياسية دون استثناء وممثلي مؤسسات المجتمع المدني وعلى وجه الخصوص اتحاد نقابات العمال والاتحاد النسائي وغرفة صناعة وتجارة البحرين والشخصيات الوطنية صاحبة الرأي والخبرة ورئيسي مجلسي الشورى والنواب وممثلي الحكم المفوضين.
وحول توجيه جلالة الملك ليكون المجلس الوطني المكان المناسب لإجراء الحوار، أقول: فمع كل الاحترام والتقدير لتوجيه جلالته، إلا أنه باعتقادي المتواضع أن التوجيه لا يمتاز بالوضوح الكافي؛ فهل المطلوب أن يتفاوض أعضاء المجلس الوطني مع بعضهم البعض باعتبارهم ممثلي الشعب المعينين والمنتخبين؟ إن التجربة طوال السنوات السبع الماضية أثبتت أن تشكيلة المجلس المنتخب لم تنتج أعضاء مؤهلين للحوار مع بعضهم البعض حول القضايا الوطنية الهامة، فالاصطفاف الطائفي هو الغالب عليهم حقاً أو باطلاً.
المطلوب ليس حواراً بين أعضاء المجلس الوطني، بل المطلوب هو حوار بين الحكم وقوى المجتمع.
ما هي الآلية للحوار المطلوب؟ أعتقد أن جلالة الملك بما يملك من صلاحيات ومبادرات جريئة هو القادر على قيادة مثل هذا الحوار ووضع الآليات المناسبة له. فهو صاحب مبادرة الميثاق الوطني الذي حصل على ما يقارب الاجماع الوطني عند التصويت عليه. لذلك هو القادر على إطلاق مباردة وطنية شجاعة لإجراء حوار جريء وشفاف حول جميع الملفات دون استثناء.
العنوان الثالث هو الشروط اللازمة لتحقيق الحد الأدنى من النجاح للحوار، فليس المطلوب منا أن نكون متفائلين بنتائج هي أكبر بكثير من الواقع المتاح، أرى أن هذه الشروط قد تحقق جانب منها في مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي، لكنني أضيف عليها ما يؤكد على فحواها، أضيف عليها العنوان الأول الذي أشرت إليه وهو شرط خاص بنا ومتعلق بذاتنا، وأعيد هنا للتأكيد عليه، فما لم نبني ذاتنا بشكل جيد لن نكون مسموعين ولن يعطينا الآخر الاعتبار الذي نستحقه. علينا وعلى الآخرين أن نقر جميعا و بوضوح وصدق وبشفافية بشرعية الحكم واختيارنا الحر له وإن اختلفنا معه وإن كنا نعارضه في الكثير من السياسات، علينا أن نرفض وبوضوح بعض الخطابات التي تصدر من هنا أو هناك وهي خطابات ضارة بالعمل الوطني وبحقوقنا المشروعة، قد يسأل البعض هنا عن الخطابات التي أقصدها، فأقول بوضوح هي خطابات تصدر من بعض الناشطين في العمل السياسي في داخل البحرين وبعضها يصدر في خارج البحرين من أشخاص اختاروا لأنفسهم خطاباً متشنجاً بعيداً عن الواقع.
كذلك على الحكم أن يكون واثقاً أننا حريصون على استتباب أمن هذا الوطن وازدهاره، بمثل ما نحن حريصون على نيل الحقوق المشروعة، بمثل ما نحن حريصون على رفض السياسات الخاطئة، يجب علينا أن نكون حريصين على النضال السلمي البعيد عن كل أشكال العنف قولاً وفعلاً.
 
هذه عناوين قليلة لموضوع كبير، بالتأكيد لدى الجميع ما يختلف عما قلته ويضيف إليه، أرغب دائماً أن أكون مستمعاً أكثر من أن أكون متحدثاً.
 أشكر لكم وأكرر شكري لأخي الدكتور حسن.

الأحد 3 مايو 2009

اقرأ المزيد

أزماتُ الأريافِ وغليانُ المنطقة (2)

في كلِ بلدٍ تشكلُ أزمة الريفِ جزءاً من أزمةِ التركيبة البنيويةِ للمجتمع، فالاختلالاتُ قديمة، وتوجه المجتمعات العربية والإسلامية نحو الحداثة كان بشكلٍ تلقائي فوضوي، وكان إعمار المدن وتغييرها والارتكاز على ريف متخلف هو الشكل الأساسي، والشكل الثانوي كان إزالة الريف بشكل كامل، عبر العمليات التجارية والاقتصادية نفسها غير السليمة وغير المخططة كذلك.
عموماً أُعتبر الريف مخزناً للمواد الزراعية والحرفية بذات الأسعار المتردية النازلة، فنضبتْ الحقولُ شيئاً فشيئاً، وأخذت تضخ قواها للخارج، أو غدت مادة للصراعات السياسية والعسكرية، وقد تباطأ إيقاعُ لحاقِ الريف بالمدينة، وتراكمت مشاكله وتضخمت فانفجرت.
وتفاقمتْ أزماتُ الأرياف لتصير مشكلة مناطقية مركبة تتفاعل مع بعضها بعضا، وتغذي المشكلات والصراعات بين الدول، ولهذا سنجدُ أن كل حروب العصابات وقلاقل القوميات ومسائل تطبيق الشريعة وتعني الانفصال السياسي، وثورات البدو بشكل القاعدة، وغربة الفلاحين عن الوطن الواحد، هي كلها تفاعلات لمشكلات الأرياف والبوادي المأزومة اقتصادياً والتي لا تجد حلولاً اقتصادية وسياسية وتحيلها إلى صراعات مناطقية.
وليس صعود الاخوان والدينيين عامة وليبرمان في كل من مصر وفلسطين وإسرائيل وغيرها سوى أزمات الأرياف والاستغلال السياسي للأديان وقد تداخلا في ظاهرة مركبة.
عادة يُجيرُ هذا الاستغلالُ المادةَ التراثية المشحونة بتعصب وبغياب أي خطط مستقبلية موضوعية، كما لا تستطيع الدول بمستوى إداراتها الراهنة أن تعيد بناء المجتمعات المندفعة للتحديث الرأسمالي الفوضوي غير الإنتاجي بصورةٍ عامة، فالدول العربية والإسلامية لم تصنعْ الاريافَ، وتحولها إلى مزارع حديثة بشتى أشكال الملكيات.
في أغلب دول مجلس التعاون تمت إزالة الأرياف والبوادي، وكانت هذه الأجسام الاقتصادية العريقة: الأرياف والبوداي، تمثل قوى اقتصادية مهمة وخلفيات وطنية، وكان رقم 85% من السكان المتكدسين في المدن يُعتبر إنجازاً حضارياً في فهم بعض الاجتماعيين الدارسين ولدى الحكومات، رغم انه كارثة، وقاد الالتهامُ التجاري والقضاءُ على المحميات الريفية والبدوية والبحرية، إلى إغراق هذه المدن السائرة بفوضوية رأسمالية في تكوينات اجتماعية وبشرية مضطربة ذات سكان عالميين لا تجانس بينهم ولا وحدة اقتصادية واجتماعية تجمعهم ولا إمكان لأن يشكلوا مدينة حديثة، ثم أخذت هذه المجتمعات تستورد كل شيء نظراً لتصديرها مواد خاماً عالية الأسعار. فهي تغدو للريفيين من الكثير من البلدان ينقلون إليها اضطراباتهم الوطنية والعشائرية والاجتماعية.
ولهذا فإن نتائج هذه السياسات على المدى المتوسط مع انخفاض أسعار المواد الثمينة سيكون حاداً ورهيباً.
في حين إن بلداً مثل إيران حافظت على ريفها بشكله التقليدي، لكن الشكل التقليدي لا يمنع كذلك تفاقم الاضطرابات، وهو أمرٌ يقود السياسة الإيرانية لتصدير مشكلاتها للخارج، والارتكاز على سياسات قومية متطرفة جربتها الأنظمة العسكرية العربية السابقة وفشلت.
محافظة فارس التي يسكنها أربعة ملايين نسمة ضربها الجفاف.
(وقال وزير الزراعة الإيراني، إن الإنتاج الزراعي قد تراجع بنسبة 13 مليون طن منذ بداية العام المالي الحالي من إبريل (نيسان) 2008 حتى مارس (آذار) 2009، مما ساهم في رفع أسعار السلع الغذائية المرتفعة بالفعل. وقامت بتقديم مساعدات بلغت 8،4 تريليونات ريال (528 مليون دولار أمريكي) لـ14 محافظة من أكثر المحافظات المتضررة من موجة الجفاف في إيران في محاولة لتقليل أثر هذه الموجة على المزارعين. ولمعادلة الانخفاض الذي بلغ 13 مليون طن في الإنتاجية الزراعية، قامت إيران بفرض ضرائب على صادرات عدد من السلع الزراعية)، من تقرير لوكالة انباء. كذلك عدلت عملتها، وألغت صفرين من العملة النقدية بسبب تصاعد التضخم لمستويات غير مسبوقة، وقد بلغت قيمة الدولار الامريكي حالياً 9650 ريالاً في حين كانت قيمته تناهز 70 ريالاً عند قيام الثورة الاسلامية في 1979، بحسب وكالة فرانس برس. كذلك اشترت قمحاً من أمريكا لأول مرة ونزلت عن المرتبة الأولى لتصدير الفستق في العالم، الخ.
أما العراق فقد راح يشتري نخيلاً من إيران وآلات زراعية!
ولكن بدلاً من مراجعات للسياسات الزراعية والتنموية واصلت الدولُ عملياتها الاقتصادية بذات الطرق القديمة، خاصة إفقار الأرياف، وراحت تتصارع في العديد من المناطق مستغلة أزمات الأرياف، وقوى السكان الريفيين كذلك، مثلما يحدث في جنوب لبنان، أو اليمن، أو السودان وغيرها.
تعبر هذه السياسات عموماً عن غيابِ رأسماليةٍ منتجة، سواءً من خلال أجهزة الدول، أو من قوى الرأسمالية الخاصة، وهذا يـُنتج مشكلات واضطرابات على مستوى كل دولة، وخاصة في المناطق الريفية التي تضخ مشكلاتها للمدن، كما أن العديد من الدول بدلاً من إعادة النظر في الأزمة البنيوية لمجتمعها تقوم بتصديرها للخارج، أو تحاول أن تقضي عليها بتغيير العمالة أو بإعادة النظر في الهيكل السكاني أو بالتهجير، من دون أن تتوجه للأرياف وتحل المشكلات هناك، في جذورها، في غياب الزراعة أو تدهورها وضعف تقنياتها وعدم حصول الأغلبية الريفية على أراض زراعية أو تعاونيات وغير ذلك من الإجراءات التي تؤدي لتماسك التربة الاجتماعية.
ويحيل الغربُ هذه الأزمة إلى مسائل الارهاب أو ما يسميه تطرف (الإسلام السياسي)، من دون تذكرٍ لإفقار الأرياف الإسلامية خلال نصف قرن.
لكن أزمات البوادي خاصة ومن ثم أزمات الأرياف في الدول العربية الإسلامية على مدى التاريخ تتحولُ إلى حروب، فالفيضُ السكاني الذي يتحولُ إلى أزمةٍ معيشية، يتحول كذلك إلى أزمةٍ أخلاقية، كالتجارة بالأطفال والنساء، وهو أمرٌ يدفع القبائل إلى الحرب.
وتتداخل مع هذه الأزمات المعيشية والأخلاقية الحادة في تلك المناطق البدوية والريفية، غزو (ثقافي) عبر الإعلام الذي يدخلُ الكثيرَ من (المحرمات) والإغراءات لنساء وصبية هذه المناطق، مما يدفعهم من جراء ذلك كله إلى(الانحراف)، ومن هنا يغدو ما يُسمى التشدد وسيلة للقبائل لحفظ أعراضها من الانتهاك وهذا يغذي الجماعات الدينية السياسية وبرامجها في الصراع السياسي المناطقي أو العالمي.
وتغدو الحروب ضد هذه القبائل والمناطق صروفات جديدةً وثاراتٍ لا تتوقف. والحربُ في المنطقةِ العربية الإسلامية هي قاطرة التاريخ ولكن للوراء وللدمار!

صحيفة اخبار الخليج
5 مايو 2009

اقرأ المزيد

عن دور التجار وغرفتهم في سبعينيتها

تساءلنا أمس: ماذا كان سيضر الدولة لو أنها أقرت بحرية العمل النقابي، وسمحت بقيام النقابات في البحرين قبل ثلاثين أو عشرين سنة من تاريخ إقرار هذا الحق عند بداية المشروع الإصلاحي؟ وتساءلنا أيضاً: أين الضرر الذي لحق بعد قيام هذه النقابات، وليس متعيناً علي أن أجيب، فالجواب ماثل أمام أعين الجميع، وفي مقدمتهم الدولة التي يجب أن ترى أننا صرنا، من هذه الزاوية بالذات، في حال أكثر صحية. من مفارقات تاريخنا السياسي المعاصر أن الدولة سمحت بقيام ما يشبه النقابة للتجار ورجال الأعمال، هي غرفة تجارة وصناعة البحرين، التي نهنئ مجلس إدارتها وجميع أعضائها بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيسها، ولكنها، صادرت لأكثر من نصف قرن حق قيام النقابات العمالية، وحددنا هذا المدى الزمني انطلاقاً من أن الدعوة لإطلاق حرية العمل النقابي ابتدأت منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين، يوم شكلت قيادة الحركة الوطنية، ممثلة في هيئة الاتحاد الوطني أول اتحاد للعمال في البلاد. لكن هذه المفارقة، أو حتى التناقض، لن يمنعانا من أن ننظر إلى أن تأسيس غرفة التجارة والصناعة، قبل سبعين عاماً حدث مهم ليس بالنسبة للتجار وأصحاب الأعمال وحدهم، وإنما بالنسبة لمجمل التطور الاجتماعي الاقتصادي، وأكاد أقول السياسي للبحرين. وفي هذا المجال استوقفني منذ أيام قلائل مقال كتبه الصحافي الشاب حيدر محمد بمناسبة ذكرى تأسس الغرفة، لأنه لم يكن فقط مقالاً احتفائياً بهذه المناسبة المهمة، فكاتب المقال أراد تذكير النخبة التجارية في البلاد بدور لعبه أسلافها منذ عقود في الحراك الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البحريني، كأنه يريد القول أن تجار اليوم تنازلوا عن هذا الدور أو، في حالٍ أحسن، تقاعسوا أو تراجعوا عن أدائه. ذكّرنا كاتب المقال بهذا الدور، خاصة في المرحلة التي سبقت وتزامنت مع حقبة الاستقلال، للدرجة التي جعلت من مذكرات المستشار البريطاني تشارلز بلغريف لا تكاد في يومٍ تخلو من الإشارة إلى أسماء مجموعة من التجار الذين كانوا بمثابة المرجع لمعرفة نبض الشارع. سيستمر هذا الدور بعد إعلان الاستقلال، وفي التجربة النيابية الأولى، التي كان إيقافها ايذاناً بتحول قطاع التجار إلى الانكفاء عن الاضطلاع بدور اجتماعي وسياسي كان منتظراً منهم، وما زال هذا الانكفاء مستمراً حتى اليوم وسط حال من التردد وحتى التهيب من ولوج هذا المجال، مما أفقد الساحة السياسية والمجتمعية دور قوة فعالة يعول عليها الكثير في ضبط التوازن المجتمعي، أمام صعود التيارات المذهبية المحافظة، وتغير لعبة التحالفات السياسية للدولة. وفاقم من الأمر ما آل إليه التيار الوطني الديمقراطي من ضعف ومن تشتت في الجهود، ومن ارتباك في الأداء وفي صوغ التحالفات، فغلب على المظهر السائد في الساحة السياسية والمجتمعية الطابع المحافظ، الذي ينزع أكثر فأكثر نحو صور الانقسام المذهبي الذي ليس بوسع تيارات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي على حد سواء تجاوزه، لأنه يعكس الخلل الهيكلي أو البنيوي الناجم عن جينات تكوين هذا التيار في ظروف الثنائية الطائفية في مجتمع البحرين. ربما كانت لنا عودة لهذا الحديث.
 
صحيفة الايام
5 مايو 2009

اقرأ المزيد

الكراهية والحلم في الصراعات الإنسانية

في الحرب الباردة ظلت كل الحركات التحررية مقبولة ومشروعة ’ وقد كان العنف المشروع حقا من حقوق كفاح الحركات التحررية ’ وقد فرضت حركات تحرر عنيفة ومسلحة نفسها ’ وجلست على طاولة الأمم المتحدة تفاوض ’ فيما كانت القذائف مستمرة والمواجهات متواصلة ’ كما هي تجربة الفيتكونغ مع الفرنسيين وفيما بعد مع الأمريكيين . وعندما نشأت حركات قومية واثنية في البلد الواحد ونشب الصراع الدموي ’ والذي كانت تغذيه الدول العظمى بالمال والسلاح ’ كان صوت تلك الحركات الانفصالية عاليا ومصرا على حق تأسيس دولته المستقلة ’ كما هي السياسات القائمة وبإشراف الأمم المتحدة في التجربة اليوغسلافية ’ حتى فيما بعد انهيار الحرب الباردة . وقد اندلعت نزاعات عرقية عدة في القارة الأفريقية وأوروبا الوسطى والشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفيتي السابق ’ فتم تكوين منظمات وقوى سياسية تم تمويلها بالأسلحة والمال ’ فما كان من الأمم المتحدة إلا دعوتها ودعمها داخل تلك الأروقة بأنها شعوب لها حقوق اثنية ومن حقها بناء دولتها وحلمها القومي . ولو نقلنا عيوننا للمشهد السياسي خلال العقدين المنصرمين لوجدنا أمثلة عدة ’ ولكن ما حيرنا إننا أمام معادلات غريبة ’ إشكالية ’ ومتناقضة في تبايناتها الشرعية ’ فما يتم تحقيقه ودعمه لتلك القضية يتم رفضه لهاتيك ’ ويصبح الحق الشرعي لأية قومية واثنية – تناشد العالم بحق الانفصال – ’ أمرا مرفوضا وحقا لا يمكن قبوله ويتم التنازل لتلك الدولة التي ينشأ فيها النزاع القومي ’ والأعجب من ذلك وجدنا إن تلك الموازين بدأت تفرض نفسها كقانون للقوة وليس للحق ’ بفرض الشروط والاتهامات على حركات تحررية ’ بأنها إرهابية فيما يتم الطبطبة والصمت عن كل ما تمارسه إسرائيل علانية إزاء الشعب الفلسطيني والمنطقة. وما نراه اليوم فاضحا في مؤتمر عن العنصرية في دربان ’ هو ذلك البيان الختامي حول ’’ تنظيف ’’ يد الدولة العبرية من دم الآخرين ’ فيما راحت هي وحدها توزع بطاقاتها ودعوات حفلاتها الناعمة لمن تشاء من الأصدقاء . ولكن بما إن عالم السياسة جسد عاري مغطى بثياب كثيفة قابلة للارتداء والإزاحة ’ فان خلف الكواليس لا يمنع تلك الدول العظمى التي صوتت على قائمة المعنيين باتهامهم بالإرهاب ’ نجدها تجلس معهم صمتا وتدعوهم علانية للحوار ’ تحت حجج كثيرة واهية ’ ولدينا امثلة كثيرة وحية أيضا ’ فهناك حوار سوداني – سوداني في فرنسا وهناك حوار بين الحكومة البريطانية وحماس وحوار بين حزب الله والأروقة الصامتة في نيويورك ’ وحوار بين الشيطان الأعظم مع احد بلدان متهمة بكونها محور الشر . فإذا ما كانت تلك الأصوات العالية تعلن الكراهية ’ وتعود من جديد ترقص لنا رقصا فاضحا يفزعك بأن الحرب النووية ستندلع بعد أيام ’ فتضع يدك على قلبك كون منطقتك تقع بين تلك الأهداف ’ وبأن إسرائيل لابد وان تدمر المفاعل النووية الإيرانية في هذه اللحظة إن لم تفعل الولايات المتحدة أمرا بشأنها فورا . فيتحرك الرئيس اوباما ’ معلنا بصوت صريح انه لن يسمح لإيران بان تمتلك مفاعلات نووية ’ مع انه في أيامه الأولى كان كالحمل الوديع وأكثر ميلا للجوانب الإنسانية والاجتماعية والسياسية العادلة . من جديد يحاول العالم حمل الكراهية والحلم الإنساني معا في يد واحدة دون محاكمة أي واحد منهما حكما عادلا. ومن هنا يبدو واضحا محاولة إرضاء الأتراك والأرمن في تلك المعادلة التاريخية القديمة حول المذابح والاتهام الفاضح ’ وهذا الاتهام وحده يزعج إسرائيل من جهة وينعش قلبها من جهة أخرى ’ مما جعلها مسرعة تحرك كل آليتها الإعلامية في العالم لتأكيد أرقام المحرقة’ لكي لا يتحرك خصومها العرب والمؤيدين بقوة مزعجة ’ فكان مؤتمر العنصرية منحازا لإسرائيل . وما زال الخبراء والباحثون المدفوع لهم أجرا يتجادلون حول زيادة جرعة الأرقام وزيادة الاصفار فصارت المحرقات والمذابح أرقامها أسطورية ’ فيما تجادل تركيا على إن الرقم غير صحيح ويؤكد الأرمن إن الرقم اقل بكثير ’ ’ متناسين أن الحقوق الفعلية داخل دولة واحدة متنوعة الأعراق والأديان ’ وبحاجة إلى تعديلات دستورية تضمن حقوق الطرفين دستوريا لكي تخمد تلك الكراهية ’ ويتم التغاضي بالفعل عن مسألة الانفصال وإيقاف كراهية الدم والقبول بالعيش المشترك ’ من اجل وطن مختلف يقدم لكل مواطنيه حقوقا متساوية وفرصا متساوية كما هي التجربة الهندية ’ ولكن خلف كل تلك المعارك الدموية مصالح أعمق مما ينشر في الإعلام الكاذب. اعتقد إن العالم ينبغي ان يكون منصفا وخارج معادلة دول محددة لم تكن عادلة ولكنها كانت أنانية وقوية وظالمة .
 
صحيفة الايام
5 مايو 2009

اقرأ المزيد

غسل السلالم من الأسفل..

‘’عندما تكون المخازن مليئة بالسلع، يستطيع المستهلك الذهاب إليها متى شاء، أما عندما تكون السلع نادرة، عندها يتوجب على المستهلك الوقوف في الطابور. وعندما يكون الطابور طويلاً جداً، يصبح من الضروري إرسال شرطي للمحافظة على النظام.. من هنا انطلقت البيروقراطية السوفيتية وهي تعرف لمن تعطي ومن يجب عليه الانتظار’’. ليون تروتسكي[1].
تعالوا نسأل: ماذا لو وجدت أوساخ متراكمة على درجات السلم في منزلنا/منزلكم، كيف لنا/لكم غسلها؟ هل نبدأ من الأسفل إلى الأعلى أم العكس؟ الجواب على هذا السؤال ليس سهلاً كما نتصور، خصوصا حين ‘’نُعبِّر بالمجازات’’ عن أمراض اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية’’ وفق كتاب أخينا علي الديري: ‘’كيف نعبر بالمجازات؟’’.
الطبيعي، غسل درجات السلالم من الأعلى إلى الأسفل، لا تنظيفها من الأسفل إلى الأعلى، حيث ما نُظِف سيكون عبثاً وإهداراً للجهد والعمل، هذا من الناحية الطبيعية المتعارف عليها، ولأن الأمور لا تسير بشكل طبيعي في العادة، في معظم المجتمعات، نتيجة للفوارق الاجتماعية، فإن الأمراض في مجمل حقول الحياة من الصعب معالجتها والشفاء منها تماماً كما يتطلع الساسة والمواطنون إلى حد سواء.
ما تقدم أعلاه، ليس حكراً بالمجتمع السوفيتي السابق، الذي كانت انطلاقته الأولى بطبيعة الحال، أكثر عدلاً قبل أن تنتفخ بيروقراطيته وتحرم جماهيره من منافع ومحاسن الاشتراكية التي من المفترض، بحسب النظرية الاشتراكية، أن تعم الخيرات على الغالبية العظمى لتتقرب صوب العدالة الاجتماعية المنشودة في جل المجتمعات الحية، لكنه كما يقال: ‘’في كل بيت بالوعة!’’، وعليه، لا يوجد مجتمع خالٍ من الأمراض، لكن المسألة الأخطر، تراكم هذه الأمراض حتى تستفحل وتكون عصية على الفهم والتشخيص والمعالجة في آن، وبالتالي يصبح من الضروري تجنيد شرطة وجنود جدد لـ’’حماية الأمن’’، أو لـ’’حفظ النظام العام’’، أو لـ’’مكافحة الشغب والتخريب’’، وفق المصطلحات المتعارف عليها في المجتمعات الفقيرة التي عادة ما تكون مضطربة، ومنفوخة بملفات قابلة للانفجار في أية لحظة.
في إحدى مراسلاتي الخاصة مع أحد الأصحاب السياسيين المرموقين، وذلك في العام 2005 كتب لي في جزئية من رسالته الآتي: ‘’لقد كان في النصِ إشـــارة، ألغيتُها في آخر لحظة، إلى مقالك الأخير في (الوسط)..’’.
وفي تلك الإشــارة اقتطاف سطرين منه، أي كما فعلتُ في مجموعة أوال، إن أصعب الأسئلة أبسطه، إلا أنني ألغيتُها لأسباب منها عدم الزج باسمك في معركة لم تُستشر في مســـألة الدخول فيها ولا أنت قادرٌ بالتالي على التحكم في مســارها’’.
هذا من ناحية قضية ‘’التعديلات الدستورية’’ التي كانت حامية الوطيس منذ العام 2002 إلى ما قبل انتخابات ,2006 حيث المطالبات برفع العرائض والمسيرات الضخمة، وشعارات ‘’وقع ثم وقع’’، تلاشت أو كادت، والبقية تعرفونها، وظل الحال كما هو عليه بانتظار انتخابات .2010 غير أنه ماذا بشأن الملفات الأخرى، /البيئة، السواحل، الأراضي، السكن، البطالة، التجنيس السياسي، تحسين مستوى المعيشة إلى آخره؟. كيف يمكن حلحلة هذه الملفات؟ بطبيعة الحال عبر الحوار السلمي الحضاري، ولكن مع مَنْ، وكيف، وما هي الآلية إذا كانت من داخل قبة مجلسي الشورى والنواب؟
هنا على ما يبدو، سنصطدم بإشكالية دستورية، حيث إن المادة (75) من دستور ,1973 حذفت من دستور ,2002 وتنص المادة ‘’السبعينية’’ على الآتي: ‘’يشكل المجلس ضمن لجانه لجنة خاصة لبحث العرائض والشكاوى التي يبعث بها المواطنون إلى المجلس، وتستوضح اللجنة الأمر من الجهات المختصة، وتعلم صاحب الشأن بالنتيجة.
ولا يجوز لعضو المجلس الوطني أن يتدخل في عمل أي من السلطتين القضائية والتنفيذية’’.
ووفق هذه الإشكالية الدستورية، فإن مجلس النواب المحتكم لدستور 2002 لم يشكل ‘’لجنة خاصة لبحث العرائض والشكاوى’’، فبأية آلية اللجوء إليه لحلحلة هذه الملفات التي يراد معالجتها عبر الحوار من تحت قبة البرلمان للحد من الاحتقانات؟؟.
والحل؟، ربما عبر غسل السلالم من الأعلى إلى الأسفل، وإلا سنجده بعد بحث طويل في مقولة للمفكر العراقي هادي العلوي مفادها: ‘’إن كل واحد منا يخفي والياً عثمانياً تحث ثيابه رغم كل رطاناتنا الثقافية العنيدة[2]’’.
[1] انظر: ‘’تروتسكي بين الأسطورة والحقيقة’’ـ تأليف عدد من الصحافيين السوفييت ص.43
[2] راجع: هادي العلوي، ‘’المرئي واللامرئي في الأدب والسِّياسة’’ ص.114
 
صحيفة الوقت
4 مايو 2009

اقرأ المزيد

أزمات الأرياف وغليان المنطقة (1)

كانت الأرياف في المنطقة خلال قرون هي مصدر المنتجات الزراعية والاستقرار السياسي، رغم الجمود الاجتماعي السائد فيها، بل كانت الحياة الراكدة فيها والمحافظة أساس تلك التكوينات السياسية الامبراطورية التي دامت فترات مديدة.
لكن مع تحول بلدان الشرق الأوسط إلى الحداثة الاستيرادية ولعدم وجود خطط تنمية شاملة في البلدان العربية والإسلامية وفي غياب التحول الإنتاجي المتعدد الصور للأرياف خاصة، دبت الاضطرابات في المنطقة خلال القرن العشرين، ويمكن أن نعتبر الانقلابات خاصة أنها تمثل غليانا مستمرا نابعا من الأرياف المضطربة.
ولم تتوقف الاضطرابات في الأرياف حتى لحظتنا الراهنة، فنظراً لتدهور حال الزراعة وتدني أسعار المحاصيل الزراعية، وتمدد المدن الفوضوي فوق أجسام الريف، وتلاشي طبقات الفلاحين للهجرة نحو المدن أو للخارج، وغياب الأجيال الجديدة للعمل الزراعي، واقتلاع الأشجار وتحويل البساتين والأراضي الزراعية إلى مبان، وإزالة الحرف واتساع فترات الجفاف ونقص المياه وغيرها من الأسباب، غدت الأرياف المصدر الأكثر خطورة للحركات السياسية الضائعة أو الفاقدة الأمل التي تقودها مواريثها الدينية إلى الصدامات المختلفة الفوضوية أو المغامرة غالباً.
وقد فهم مؤسسو الحركة الصهيونية وإسرائيل فيما بعد أهمية خلق ريف مختلف عن أرياف المنطقة، وأن يكون متقدماً، فنشأت حركة الكيبوتسات أو المستعمرات بدءا من سنة 1908، وصلت أعدادها سنة 2004 إلى 278 وتضم 126800 نسمة وهي تنتج 40% من محاصيل إسرائيل الزراعية، و8% من إنتاجها الصناعي في وقت سابق. (راجع موسوعة عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، 2004). وقد عادى المهاجرون من الدول الشرقية كالروس هذه المستعمرات وتدفقوا على المدن الصغيرة وتراجعتْ أعدادُ المستعمراتِ كثيراً عما كانت عليه وقت ازدهارها، وقد ظهرَ معظمُ قادة إسرائيل الكبار من هذه المستعمرات.
وعلى ذمة جريدة القدس فإن نصفَ المزارع التعاونية هذه قد أفلست في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وقد بدأت الحكومات بإعادة تجديد المستعمرات وإنشائها بصور مختلفة تقنية وفنية، لتغيير واقع معين وإظهار إسرائيل بصورة مختلفة.
كان ذلك في الماضي تفكيرا استراتيجيا، وغدت هذه المستعمرات أساس الوعي السياسي العلماني الشائع، ولكن تدفق المهاجرين الشرقيين وهبوط حركة المستعمرات وتلاشي دورها السياسي، صعّد القوى الدينية المتطرفة، وهو أمرٌ مماثلٌ في الجانبين العربي والإسلامي ولكن لأسباب مختلفة.
فهذا شيءٌ مختلف عن دولة المواجهة والقيادة العربية وهي مصر التي لم تقم الطبقات المهيمنة العليا فيها بمثل هذه الخطة أو بمقاربتها، بل تركت الأرياف تعاني التخلف وسيادة الملكيات الكبيرة وأدوات الإنتاج المتخلفة، وقد حاولت ثورة يوليو إجراء تغييرات في هذا الواقع، لكن الارتدادات السياسية مع السادات أعادت الريف المصري لما كان عليه، إن لم يكن اسوأ، فقد زاد عدد السكان وبقيت الأرض الزراعية بمحدوديتها ووسائل إنتاجها السابقة وتنامت طرائق الاستغلال العتيقة.
كانت أسرة البدراوي وحدها تمتلك أيام الثورة سنة 1952(36 الفَ فدان)، وقـُلصت في الإصلاح الزراعي الأول، وحتى زمن الإصلاح الزراعي الثاني سنة 1965 كانت تلك الأسرة تحتفظ بالكثير من أراضيها، وأعطي قسمٌ منها للعائلات الفلاحية الفقيرة ويبلغ (سبعة وخمسين فداناً).
في عهد السادات صدر قانون العلاقة بين المالك والمستأجر يتضمن فعليا تحويل الأملاك المصادرة سابقاً لمالكيها السابقين.
“وقد قام القانون رقم 96 لسنة 1992 برفع القيمة الايجارية إلى 22 مثل الضريبة، بزيادة تجاوزت 300% وأعطى المالك منفرداً الحق في إنهاء عقود الإيجار الزراعية اعتبارا من عام 1997” وهو أمر يحول الفلاح إلى قن.
“وازداد الوضع سوءاً بعد انخفاض أسعار المحاصيل وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من تقاو وكيماوي وإيجار ومعدات، إضافة لقصر دور وزارة الزراعة على الجانب الإرشادي بعد أن كان دورا خدميا يشمل تقديم مستلزمات الزراعة بأسعار منخفضة وحماية المزارعين من التجار والمرابين وبيع المحاصيل وتسويقها بأسعار تشجيعية حماية للفلاح من سيطرة الاحتكارات”، موقع إسلام أون لاين.
“ويرصد عريان نصيف – مستشار اتحاد الفلاحين تحت التأسيس – تطور أحوال الفلاح المصري في دراسة له حيث يقول إن 22% من ملاك الأراضي كانوا حتى عام 1894 يحوزون أكثر من 50% من جملة الأراضي، وإنه وفقا لاحصاءات 1950 كان حوالي 75% من الفلاحين أجراء في أراض مملوكة لكبار الملاك”، السابق.
وكان من جراء هذه الظروف السيئة كلها تدفق المقتلعين من أراضيهم وظروف عملهم المستقرة نسبيا، الموروثة، إلى ضياعهم في المدن، وفي خارج مصر، واستغلالهم سياسيا واقتصاديا. (90% من عمال الأرصفة والمشردين من الفلاحين في المدن).
(إن وعي هذه الجماهير الريفية سواء كانت لاتزال في القرى أو هي مهاجرة منها، هو وعي ديني، فهي غير منظمة، ولا تعرف جذور مشكلاتها، وهي أمية وبالتالي تجذبها الشعارات الدينية ففيها عبادتها وحياتها، لكن يتم تنحية هذا الوعي باتجاه سياسي معين تغيب فيه قضية الريف وتغييره الاقتصادي فـُتستخدم هذه الجماعات للصراعات السياسية في المركز، وكان أغلب قادة وجمهور الحركات الدينية من هذه الأرياف. ووعيهم يوجه القضية باتجاه الاصطدامات مع الكفر والخيانة والردة وغيرها من هذه المطلقات غير المناسبة، فتضيع قضيتهم التي سببت اقتلاعهم من ريفهم.
ويكفي من سخرية الموقف أن أكبر طبقة مُعرضة لأقسى المشكلات وهي طبقة الفلاحين أن يكون اتحادها حتى الآن تحت التأسيس.

صحيفة اخبار الخليج
4 مايو 2009

اقرأ المزيد

خطر في ذهني في الأول من مايو

نهنئ جميع عمال بلادنا بالأول من مايو عيد الطبقة العاملة في العالم كله، ونتمنى لهم المزيد من العطاء ومن الحقوق، محيين فيهم الدور الذي لعبوه ويلعبونه في صنع البحرين الحديثة بسواعدهم وأذهانهم وتفانيهم وإخلاصهم، هم الذين كانوا وسيظلون مدرسة لنا جميعاً في الصلابة وصنع الأمل. كما هو عهدي منذ سنوات أحضر – بصفتي ممثلاً لمنبرنا التقدمي – في هذا اليوم من كل سنة فعاليتين، واحدة في الصباح حيث المهرجان الخطابي التكريمي الذي يقيمه الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وواحدة في عصر اليوم نفسه حيث المسيرة الحاشدة التي تقطع شوارع العاصمة مكللة بألوان الفرح، وعلى إيقاع الموسيقى، منذ التقليد الجميل الذي أدخله المنبر التقدمي على هذه المسيرة بإشراك الآلات الموسيقية في طقس المسيرة. في حفل اتحاد العمال رأيت وزير العمل يلقي كلمة تحية، ويشارك في تكريم المتميزين من العمال والعاملات، كما استمعت إلى رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين، يخاطب الطبقة العاملة بصفة الغرفة طرفاً من أطراف العمل. وفي المسيرة التي انطلقت من أمام صندوق التقاعد باتجاه المرفأ المالي، رأيت رواد العمل النقابي والعمالي في البحرين من أمثال عباس عواجي وعبد الجليل عمران والسيد جعفر الوداعي يرقصون مبتهجين في مقدمة مسيرة المنبر التقدمي. في الحالين خطر في ذهني خاطر: لقد أفنى هؤلاء زهرات شبابهم في السجون وفي الملاحقة لأنهم كانوا يحلمون ويعملون في أن تنشأ في البلاد نقابات عمالية تدافع عن حقوق الشغيلة، وأن يكون الأول من مايو عطلة رسمية، تكريماً لأصحاب السواعد السمراء التي أخذت من شمس البحرين لونها. بوسع كل منا أن يتخيل مقدار البهجة في نفوس هؤلاء وسواهم من ذلك الرعيل، فبعض ما حلموا به قد تحقق، فها هي النقابات العمالية قد تشكلت، والأول من مايو أصبح عطلة رسمية، بعد أن كان التفوه بفكرة الاحتفال يقود إلى السجن، وكم نتمنى من قيادة الاتحاد العام لنقابات العمال أن تقدر ذلك حق قدره بأن تضع لمثل هؤلاء الرواد مكانة. لكن.. خطر في ذهني خاطر آخر يخص الدولة، ماذا لو أنها اهتدت إلى مثل هذا التفكير السديد قبل ثلاثين أو عشرين عاماً؟، فلم تجد في النقابات رجساً من الشيطان، ولا في عطلة الأول من مايو بعبعاً يخيف. ما الذي تضررت منه الدولة بعد قيام النقابات، وما الخطر الذي حل يوم أصبح الأول من مايو عطلة رسمية يحتفل بها؟ في هذا درس وعبرة، فالكثير من الآلام والتضحيات والصراعات والاحتقانات يمكن تلافيها، إذا ما ساد بُعد النظر، وإذا ما وضع كل شيء في حجمه الحقيقي بدون تهويل ومبالغة وتكبير. وحين يسود التفكير السديد سندرك ان الناس لا تريد أكثر من حقوقها الطبيعية في حياة حرة كريمة، وفي أن تكون شريكة في الثروة وفي اتخاذ القرار، ولو أن الحكمة هي التي سادت لما احتجنا لعقود كي نسمح بقيام النقابات، أو نجعل من مايو عيداً وعطلة للعمال. وعلى هذا الأمر علينا القياس، فهل نحتاج عقوداً أخرى من الآلام والاحتقانات لتلبي الدولة مطالب بديهية تطرح اليوم، لا تكلف تلبيتها اليوم إلا القليل، لنتركها تتراكم طبقة فوق طبقة فتصبح الكلفة المعنوية والاجتماعية مضاعفةً مرات؟
 
صحيفة الايام
4 مايو 2009

اقرأ المزيد

هل هي‮ ‬عودة لـ‮ »‬الكينزية‮« ‬ أم منــاورة التفــاف بارعة عليها؟

مع انتصاف عقد ستينيات القرن العشرين المنصرم،‮ ‬أضحت نظرية الاقتصاد الكلي‮ ‬‭(‬Macroeconomic Theory‭)‬،‮ ‬المذهب الأكثر اعتناقاً‮ ‬من قبل الاقتصاديين عبر العالم،‮ ‬وأضحى صاحبها الاقتصادي‮ ‬البريطاني‮ ‬جون مينارد كينز،‮ ‬العالِم الاقتصادي‮ ‬الأكثر شهرة في‮ ‬العالم‮.‬ فبعد أن كانت مرئيات كينز بشأن أنجع التطبيقات لتحقيق نمو متوازن‮ ‬يستوعب مدخلات الإنتــاج كـافـة،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك التوظيف الكامل لقـــوة العمـــل،‮ ‬مجــــرد أفكار أخرجها كينـــز في‮ ‬قـــالب نظري‮ ‬خصب سطره في‮ ‬كتابه الأشهر‮ ‘‬النظـــريــة العامــة في‮ ‬التــوظيـف والفائدة والنقود‮ ‬‭(‬General Theory of Employment‭, ‬Interest and Money‭)‬‮ ‬نشره في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1936‮ ‬استطاع كينز توظيف أزمة الكساد العظيم التي‮ ‬هزت الاقتصاد الأمريكي‮ ‬والاقتصادات العالمية في‮ ‬1929‮-‬‭,‬1934‮ ‬ليقـدم أجـوبته على الأسئلة الكبرى التي‮ ‬طرحتها أزمة الرأسمالية الكبرى،‮ ‬وملخصها أن انخفاض الطلب الكلي‮ ‬‭(‬Aggregate demand‭)‬‮ ‬يمكن أن‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى حالة اقتصادية خطية مفعمة ببطالة واسعة النطاق‮.‬ ولخص كينز نموذجه الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬الأدوار التي‮ ‬يلعبها الاستهلاك والاستثمار،‮ ‬ليشرح بعد ذلك الهوية الحسابية لإجمالي‮ ‬الناتج‮ (‬إجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬GDP‭ -‬‮) ‬المعبر عنه بحرف‮ ‬Y‮ ‬والذي‮ ‬يساوي‮:‬ Y‭ = ‬C‭ + ‬I‭ + ‬G حيث‮ ‘‬C‮’ ‬تمثل الاستهلاك،‮ ‬و‮’‬I‮’ ‬الاستثمار،‮ ‬و‮’‬G‮’ ‬الإنفاق الحكومي‮. ‬بحيث أن جميع هذه العناصر تقرر مستوى توازن الناتج الإجمالي‮.‬ وتكمن أهمية نظرية كينز‮ (‬في‮ ‬حينها‮) ‬ليس في‮ ‬قدرتها على تشخيص تفاصيل أزمة الكساد العظيم وتوصيفها وحسب،‮ ‬وإنما في‮ ‬إظهار القدرة على تحقيق توازن باستيعاب شبه كامل لقوة العمل‮.‬ فإذا كان معدل الأجر الحقيقي‮ ‬‭(‬Real wage rate‭)‬‮ ‬يُعدَّل في‮ ‬النموذج الكلاسيكي‮ ‬لدفع الاقتصاد نحو التوظيف الكامل‮ ‬‭(‬Full employment‭)‬،‮ ‬فإن معدل الأجر الحقيقي‮ ‬لا‮ ‬يظهر في‮ ‬نموذج كينز البسيط،‮ ‬حيث إن التوازن‮ ‬يتحقق من خلال إحداث تحويرات في‮ ‬الطلب الكلي‮ ‬الذي‮ ‬يساوي‮ ‬الدخل الكلي،‮ ‬وإن توازن الدخل الكلي‮ ‬لا‮ ‬يفترض توظيفاً‮ ‬كاملاً‮.‬ وقـد أزاحـت نظرية كينز بإجابتها على أسـئلة الكساد والبطالة الإطـار النظري‮ ‬القديم للدورة الاقتصادية والنظرية الكمية‮ ‬‭(‬Quantity theory‭)‬‮ ‬التي‮ ‬تذهب إلى أن النقود لا قيمة لها بذاتها،‮ ‬وأن قيمتها تنالها في‮ ‬نطاق التداول تبعاً‮ ‬لكميتها فيه‮ (‬العرض النقدي‮ ‬‭- ‬Money Supply‮)‬،‮ ‬وأن كمية النقود المتداولة هي‮ ‬التي‮ ‬تحدد أسعار السلع لا أنَّ‮ ‬كمية النقود الضرورية للتداول‮ ‬يحددها مقدار أسعار السلع المتحققة،‮ ‬بمعنى أن السلع تدخل عملية التداول بدون سعر كما تدخل النقود هذه العملية بدون قيمة،‮ ‬مع أن نظرية كينز في‮ ‬التداول النقدي‮ ‬هي‮ ‬في‮ ‬المحصلة خليط من النظرية الكمية والنظرية الاسمية في‮ ‬النقود‮ (‬القائلة بأن النقود ليست سلعة ولا تملك قيمة بذاتها بل لها قيمة اتفاقية،‮ ‬اسمية فقط وتعتبر وحدة حسابية اتفاقية‮. ‬وبما أن الدولة هي‮ ‬التي‮ ‬تخلق النقود وتعطيها هذه القيمة الاسمية فإن النقود الورقية التي‮ ‬تصدرها تصبح نقوداً‮ ‬فعلية،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإن هذه النظرية تبرر نظرياً،‮ ‬هي‮ ‬الأخرى،‮ ‬سياسة الإصدار النقدي‮ ‬المكشوف المؤدي‮ ‬إلى التضخم‮).‬ وطرح كينز شكلاً‮ ‬جديداً‮ ‬للنظرية الكمية مؤداه توجيه الاقتصاد من قبل الدولة للسيطرة على تناقضات الرأسمالية التي‮ ‬قال إن أسباب نقائصها ليست كامنة في‮ ‬طبيعتها وإنما في‮ ‬نفسية الناس،‮ ‬فالبطالة هي‮ ‬نتيجة نقص الطلب الكلي‮ ‬على مواد الإستهلاكين الشخصي‮ ‬والإنتاجي،‮ ‬مُرجعاً‮ ‬ذلك إلى رغبة الناس في‮ ‬إدخار جزء من مداخيلهم وإلى ضعف حافز الرأسماليين في‮ ‬استثمارهم نتيجة لانخفاض ريعية توظيفات الرساميل،‮ ‬واقترح علاجاً‮ ‬لذلك قيام الدولة بتأمين زيادة ريعية الرأسمال عن طريق تخفيض الأجور الفعلية،‮ ‬وخفض معدلات فوائد القروض والسماح بهامش للتضخم بزيادة الإنفاق العام على الأغراض الإنتاجية وغير الإنتاجية‮ (‬التسلح‮).‬ وهكذا فإن كينز قد أعاد الأمور في‮ ‬الاقتصاد السياسي‮ ‬في‮ ‬نصابها بجعل سوق إنتاج السلع والخدمات كميدان أساسي‮ ‬للفعل الاقتصادي‮ ‬بينما العمليات الأخرى ومنها العمليات النقدية،‮ ‬هي‮ ‬عمليات مكملة تجاري‮ ‬العمل في‮ ‬الرواق الأصلي‮ ‬وليس العكس كما ذهبت النظرية الكمية‮. ‬وهو لذلك‮ ‬يشدد،‮ ‬من خلال دالة الدولة،‮ ‬على أهمية تحقيق التوازن العام في‮ ‬الأجل القصير وهو التعادل بين الاحتفاظ بالنقد وبين إطلاقه في‮ ‬التداول أي‮ ‬تعادل الطلب على النقود وعرض النقود،‮ ‬وتحقيق التوازن العام في‮ ‬الأمد الطويل وذلك بين الادخار والاستثمار‮.‬ ‮- ‬للحديث صلة‮ –
 
صحيفة الوطن
3 مايو 2009

اقرأ المزيد

إنفلونزا الخنازير

في عشية انهيار دول المعسكر الاشتراكي بأوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وتحديدا عام 1988م صدر لمجموعة من العلماء الاطباء والمؤرخين البريطانيين وعلى رأسهم ديفيد ارنولد أستاذ التاريخ بجامعة لانكستر كتاب تاريخي علمي يهم شعوب البلدان التي وقعت تحت نير الاستعمار الغربي، حيث يفضح دور هذا الاستعمار في انتشار الكثير من الامراض والاوبئة، أو على الاقل تخاذله بعدم مكافحتها وحصرها والقضاء عليها سريعا. كان الكتاب الذي صدر حينذاك بعنوان “الطب الامبريالي والمجتمعات المحلية” وقد ترجمته بعدئذ سلسلة عالم المعرفة الكويتية إلى العربية وصدر مترجما عنها عام 1998م، وكان من اهم الموضوعات التي اهتم بها مؤلفو الكتاب توضيح اذا ما كان الطب الغربي في المستعمرات نزيها انسانيا كما يفترض الكثيرون، ومن ثم إذا كان يمثل منجزا علميا جلبه المستعمرون إلى شعوب البلدان المتخلفة المستعمَرة، كما كان يروج ذلك منظرو الدول الاستعمارية الغربية الذين زعموا بأن الامراض والاوبئة المنتشرة في البلدان المستعمَرة (بفتح الميم الثانية) انما ترجع إلى فقر وجهل شعوبها، في حين يتجاهل هؤلاء المنظرون دور أسيادهم المستعمرين في استنزاف ثرواتها واحتكار العلم والتكنولوجيا بما في ذلك العلوم الطبية التي تقدمت بفضل ذلك النهب الوحشي لبلدان المستعمرات مما أفضى إلى تفريخ وانتشار تلك الاوبئة، ناهيك عن ان الاوروبيين المستعمرين ظلوا عقودا طويلة يقتصرون في تقديم خدماتهم الطبية لقواتهم المحتلة وجالياتهم المقيمة في تلك البلدان المستعمَرة.
وكان من ابرز الامراض والاوبئة التي تناولها الكتاب والتي انتشرت في هذه البلدان المتخلفة ونكبت بالاستعمار الغربي أوبئة مرض النوم، والكوليرا، والجدري، والبلهارسيا، والطاعون، والإنفلونزا في روديسيا الجنوبية.
وعند الكتاب لم يكن يعرف العالم حينذاك اجيالا جديدة من الاوبئة التي اخذت تظهر تباعا منذ تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا بدءا من الطاعون الحيواني المعروف بجنون البقر وليس انتهاء بإنفلونزا الدجاج الذي تعمم ليشمل كل الطيور الداجنة والطائرة على السواء.. وأخيرا ها هي الانباء تطالعنا بمرض جديد آخر أشد فتكا من إنفلونزا الطيور يعرف باسم “انفلونزا الخنازير” وبات يهدد جديا باجتياحه بلدانا عديدة ما لم يتم حصره. كان اشد الامراض فتكا ويثير رعبا من الامراض المعدية حين صدور الكتاب في نهاية الثمانينيات هو “الإيدز” وهو فيروس جنسي لم يسبق للبشرية أن عرفته في زمن الاستعمار او على مدى تاريخ نشوئها وتطورها.
تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى ان فيروس وباء المرض الجديد اشد فتكا بالفئة العمرية ما بين الـ 25 عاما والـ 45 عاما وهو يماثل تاريخيا وباء الإنفلونزا الاسبانية الشهيرة في أوائل القرن الفائت التي فتكت بملايين البشر، والمفارقة الخطيرة المدهشة ان الشعوب التي تحرم دياناتها اكل لحم الخنزير كشعوبنا العربية الاسلامية وكاليهود أضحوا ليسوا بمنجاة من شره لأن الوباء لا ينتقل من اكله، بل من الجو وعبر احتكاك المصابين بعدواه بغيرهم من البشر من خلال المصافحة أو التقبيل أو الملامسة وغير ذلك من اشكال الاجتماع والاحتكاك والمعاملات البشرية المختلفة.
ومع ان المرض ظهر في اقصى اقاصي القارة الغربية انطلاقا من المكسيك تحديدا إلا أنه سرعان ما ظهر بعض بوادره في “اسرائيل”، وكان قد ضرب عشرات المصابين في الولايات المتحدة وكندا وأسبانيا ونيوزيلندا والحبل على الجرار.. والله يستر.
وهكذا فان الحضارة الغربية التي لطالما تباهت بتفوقها العلمي والطبي وبغطرستها وتعاليها على شعوب العالم الثالث التي تنعتها بـ “الجاهلة” والتي وصفتها بأنها مرتع لتفريخ وانتشار الاوبئة، ومنت على هذه الشعوب بفضل طبها في القضاء على تلك الاوبئة والامراض، هذه الحضارة ذاتها وفي عصر العولمة، أو ما بعد “الامبريالية”، هي نفسها اليوم مصدر لتصدير اجيال جديدة غير معروفة من الأوبئة مع تعاظم العبث الرأسمالي بالتوازن البيئي والطبيعي والتصنيع “الهرموني” الغذائي والمؤثر بدوره في الطبيعة والحيوان والانسان مما يستحق معه ان تضطلع ثلة من علماء الطب الانسانيين بتأليف كتاب على شاكلة ثلة العلماء التي الفت الكتاب المتقدم ذكره يتضمن دراسة علمية طبية خاصة لأمراض العولمة الراهنة وفي عدادها بالطبع امراض جرائم التصنيع والعبث الرأسمالي العالمي بالتوازن البيئي وتلويث البيئة العالمية ارضاء لنهم وجشع الرأسمالية العالمية اللذين لا يعرفان حدودا.
وإذ اننا نعيش عصر العولمة او عصر القرية العالمية الصغيرة التي تنتشر بين ارجائها وفضاءاتها المفتوحة الامراض في سرعة البرق، تماما كسرعة انتشار الافكار والمعلومات.. وإذ اتخذت كل الدول الغربية المتقدمة والعديد من دول العالم الثالث احتياطاتها القصوى لمنع اختراق الوباء لفضاء بلدانها، فان مما يدعو إلى الأسف الشديد ألا يبدو حتى الآن ان الدول العربية، وبضمنها بلادنا، التي تعد من اكثر هذه الدول في فتح ابوابها على وافدين متعددي الجنسية، وعلى الاخص الامريكيون والاوروبيون الاكثر تعرضا للعدوى، قد اتخذت ما يكفي من الاحتياطات الجادة المشددة القصوى لمنع تسلل العدوى لبلادنا.

صحيفة اخبار الخليج
3 مايو 2009

اقرأ المزيد