برغم كل شبكة التعقيدات التي أحاطت طيلة السنوات الماضية بمسألة العملة الخليجية الموحدة، فقد أعلنت الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الأسبوع الماضي عن اختيار الرياض مقرا للمصرف المركزي الخليجي المزمع. هذا الإعلان هو الآخر لم يكن موضوع إجماع. فعمان كانت قد انسحبت أصلا من مشروع العملة الخليجية الموحدة، بينما تحفظت الإمارات مقابل عدم اختيارها مقرا للمصرف المركزي، وهي التي لا تستضيف أيا من المؤسسات التابعة للأمانة العامة للمجلس. وكل تلك اختلافات طبيعية حصلت، مثلا، أثناء عملية الوحدة النقدية الأوربية قبل ظهور منطقة اليورو. ورغم أن الموعد المضروب لإطلاق العملة الخليجية الموحدة في العام 2010م كاد أن يفلت إلى أجل غير مسمى، إلا أن إعلان مقر المصرف المركزي وضع لانزياح موعد إعلان العملة حدا زمنيا بحدود العام 2013م. وهذه أيضا من المشكلات الطبيعية التي يمكن أن تواجه عملية اقتصادية – سياسية بحجم إقامة اتحاد نقدي مالي.
لا يصعب على المراقب إدراك أن الأزمة النقدية – المالية العالمية خلقت عاملا موضوعيا ساعد في اختصار المخاض وتعجيل اتخاذ هذه القرارات التي تشكل خطوات مهمة في الاتجاه الصحيح. وهي خطوات ضرورية، لكنها تبقى غير كافية تفتقر إلى إنضاج العامل الذاتي المتمثل في وعي جوهر التحولات العملية والنظرية الجارية بانهيار الهرم النقدي – المالي العالمي الراهن وولادة آخر جديد. إنضاج هذا العامل الذاتي سيحدد مكان ودور مجلس التعاون في النظام العالمي الجديد. والفرصة تاريخية، لأن السعودية – مقر المصرف المركزي الخليجي – هي الدولة الخليجية والعربية الوحيدة الداخلة ضمن مجموعة العشرين والتي قد يكون لها حظ معقول في صياغة هذا النظام. دعونا نتأمل بعض ملامح هذه التحولات.
الحقيقة التي أصبح يقر بها الاقتصاديون الواقعيون اليوم هي أن النظام النقدي – المالي العالمي قد نضج فعلا، لكن إلى درجة العفن، وأن مآله التاريخي هو الانهيار القريب بتفاعل على هيئة حلقات سلسلة. الذين بقوا يسخرون من هذا السيناريو هم إما الذين يعتاشون ويسمنون على الأزمة أو الذين لم يفقهوا كنهها بعد. لكن السؤال الذي أصبح يطرح بإلحاح، وخارج أميركا غالبا، هو: ما الشكل الملموس الذي سيبدو عليه نمط العلاقات الذي يجب أن يحل محل النظام النقدي – المالي العالمي الحالي؟
خطوات أكثر جرأة للإجابة على هذا السؤال يجري اتخاذها منذ زمن في منطقتي شرق وجنوب شرقي آسيا. بدأ ذلك من اللحظة التي أصر فيها رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير بن محمد على اتخاذ إجراءات بشأن التنظيم والرقابة النقدية المالية، والتي لم يعد مجال للشك في نجاحها. وحتى ردود الأفعال اليائسة والاستفزازية التي أبداها لاري سامرز وألان غرينسبان لم تفعل سوى أن نشطت الجدل حول هذه المواضيع خارج آسيا أيضا. الحديث يجري، من حيث الجوهر، عن ظهور نظم اقتصادية إقليمية للتعاون. وبتكرارها في أقاليم أخرى فإنها يمكن أن تشكل لبنات بناء النظام النقدي المالي العالمي الجديد، الذي يجب أن يظهر عندما ستدق ساعة الحقيقة. وستدق هذه الساعة بأحد السيناريوهين: إما أن يطلق أقطاب الاقتصاد العالمي رصاصة الرحمة على صندوق النقد الدولي فيعلنون إفلاسه، وإما، وهو الأسوأ، أن ينهار الصندوق تلقائيا عبر مخاض مؤلم لبلدان ومناطق وللاقتصاد العالمي ككل.
مناطق العالم المختلفة بدأت في طرح البدائل الإقليمية لصندوق النقد الدولي. هناك فرضية تقول بأن الدور السابق للدولار الأميركي في الاحتياطي الذهبي للنظام النقدي – المالي العالمي بأسعاره التبادلية الثابتة التي كان عليها بين العامين 1945 – 6691 وتخلت عنه أميركا فيما بعد، يمكن أن يستبدل الآن بنظام جديد لأسعار صرف تبادلية ثابتة مؤسسة على ‘سلة عملات’ إقليمية أو غير إقليمية. مقترحات من هذا القبيل قدمتها مجموعة البلدان الآسيوية ‘ آسيان + ‘3 وبعض الأوساط المؤثرة في أوروبا الغربية. كما جرت نقاشات مشابهة وسط بلدان منظمة المؤتمر الإسلامي.
في بعض الأوساط الأوربية يتركز الاهتمام على خصوصا على مقترح حقوق السحب الخاصة (CDR) لصندوق النقد الدولي، وكذلك مشروع النظام النقدي الأوروبي بالشكل الذي طرحه في نهاية سبعينات القرن الماضي الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان ومستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية هلموت شميت. كما طرح الاقتصادي الشهير لاوروش في أواسط السبعينات مبادرة تأسيس بنك دولي للتنمية أثارت بالغ الحساسية لدى وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر ودوائره.
في الغرب يعترفون بأن جهود الرئيس الأميركي ف. روزفلت لإيجاد النظام النقدي لما بعد الحرب قادت إلى نجاحات كبيرة في أميركا وأوروبا. وقد ازدهر هذا النظام حتى العام .1963 ماذا حدث بعد؟ اضطر المستشار الألماني كونراد أديناور إلى الاستقالة، تم اغتيال الرئيس الأميركي جون كندي، أما الرئيس الفرنسي شارل ديغول فقد تعرض إلى ضغوط وصلت حد التهديد بالقتل، واستمرت حتى قبيل الانزياح الثقافي الذي رافق الاضطرابات الكبرى في فرنسا بين العامين 1967 و1969م.
غير أن الدولار الأميركي يوجد الآن في حالة رثة للغاية مقارنة بدولار الاقتصاد الأميركي الذي كان قائما أيام حياة الرئيس كندي. وهذا ما تتجاهله دعوات استمرار الربط بالدولار في منطقة الخليج. ومنذ مرحلة بوش أدرك عدد من الاقتصاديين أن هذه الإدارة لن تحول دون انهيار الدولار إلى مستويات خارج نطاق التنبؤ. وأدركوا في الوقت نفسه أن المقاومة الأكثر عنادا ضد إعادة بعث نظام أسعار الصرف الثابتة إنما تأتي من جانب أميركا ذاتها. ولهذه وغيرها من الأسباب يطرح هؤلاء الاقتصاديون مسألة أن تلعب ‘سلة العملات’ في النظام النقدي – المالي – التجاري الجديد الدور نفسه الذي لعبه الدولار في نظام الاحتياطي الذهبي لفترة سنوات 1945 – .1955
غير أن نموذج ‘سلة العملات’، كما نموذج حقوق السحب الخاصة (CDR) أو البدائل الأخرى لاتزال موضوع جدل قبل اعتمادها إقليميا أو في النظام النقدي المالي العالمي الجديد. وهذا موضوع بحث آخر.
صحيفة الوقت
11 مايو 2009
على طريق النظام النقدي – المالي الخليجي
وماذا عن لجنة تحقيق جرائم غزة .. هل هي معادية للسامية؟
داة انتهاء مؤتمر مكافحة العنصرية “دوربان 2” في جنيف أواخر الشهر الماضي الذي قاطعته ته اسرائيل وحليفاتها الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة لمقتهم جميعا الشديد الاستماع الى أي حوار أو مداخلات داخل المؤتمر تدين جرائم اسرائيل أو تصفها بالعنصرية، وهي المقاطعة التي زاد من تصميمهم عليها بعد ما علموا بعزم الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد على القاء كلمة في المؤتمر يدين فيها بشدة جرائم اسرائيل ويصفها بالعنصرية، وهو ما حدث بالفعل الامر الذي أثار زوبعة وعاصفة من الاحتجاجات الشديدة من قبل اسرائيل وحليفاتها ضد كلمة احمدي نجاد، وضد المؤتمر برمته على حد سواء، وحيث اعتبرت كلمة نجاد معادية للسامية.. حينها قلنا، في ختام مقال لنا تعليقا على ذلك الموقف: فلكأنما عواصم العالم لم تشهد كل تلك المسيرات الاحتجاجية الشعبية الغاضبة منذ أسابيع قليلة فقط على جرائم الابادة الوحشية التي ارتكبها الفاشيون الصهاينة بحق أهالي غزة المدنيين طوال 23 يوما من العدوان، وقلنا أيضا: ولكأنما الامم المتحدة نفسها، التي أعرب أمينها العام الحالي بان كي مون عن استيائه من كلمة نجاد في انحياز مفضوح من قبله الى جانب دولة عضو في الامم المتحدة هي “اسرائيل” ضد دولة أخرى عضو في المنظمة ذاتها هي ايران لم تصوت جمعيتها العامة عام 1975 لقرار يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، وهو القرار الذي ألغي بعدئذ مطلع عام 1991 بضغوط أمريكية غربية صهيونية محمومة شديدة داخل الامم المتحدة.
وقلنا أيضا: ولكأنما جنودهم الفاشيون العنصريون لم يعترفوا بعيد نهاية العدوان بتعمدهم وامعانهم في القتل العنصري والوحشي المقصود ضد المدنيين من أطفال ورجال، وعلى الاخص النساء الحوامل وذلك عن تخطيط مسبق.
وها هي لم تمض سوى أيام قليلة معدودة على زوبعة اسرائيل والدول الغربية الكبرى ضد مؤتمر “دوربان 2” وعلى تعاطف أمين عام الأمم المتحدة الخجول معها واذا باسرائيل تتلقى صفعة سياسية أخلاقية ملطفة تدين عنصريتها من داخل الامم المتحدة أيضا.
والصفعة هي عبارة عن شهادة جديدة بشأن بعض الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل بحق الانسانية وبحق المجتمع الدولي خلال عدوانها على غزة، وجاءت هذه الشهادة في تقرير صدر مؤخرا عن لجنة تحقيق شكلتها الامم المتحدة لهذا الغرض ينتقد اسرائيل ويتهم جيشها بسلسلة من الانتهاكات خلال حربها على غزة، ومن ضمنها التعمد باستهداف المدنيين وضرب مؤسسات الامم المتحدة “الاونروا”.
ويوصي التقرير بمطالبة اسرائيل “بالاعتراف رسميا بأن بياناتها التي ادعت ان الفلسطينيين هم الذين اطلقوا النار على مدرسة تابعة للأمم المتحدة غير صحيحة ويأسفون لها”، كما طالبت اللجنة في توصية أخرى باتخاذ اجراءات مناسبة لمتابعة طلبات تأمين اصلاح الدمار أو تعويض ثمن النفقات التي دفعتها الأمم المتحدة.
وعلى الرغم مما أسفرت عنه الجهود التي بذلها أصدقاء اسرائيل في الامم المتحدة وداخل اللجنة من التوصل الى صياغة تلطيفية على عبارات التقرير من قبيل بدل ان يقول التقرير “بيانات اسرائيل مضللة أو كاذبة” قال: “غير صحيحة وينبغي ان تأسف لها اسرائيل”، وبدل ان يقول التقرير ان وسائل القصف الاسرائيلية كانت وحشية ومتعمدة ضد مدنيين ولا تناسب قوة عسكرية محدودة جدا (قوى المقاومة) قال: “استخدمت اسرائيل وسائل قصف لا تتلاءم أبدا وتوازن القوى في المنطقة”.
وعلى الرغم أيضا من ان تقرير اللجنة أعد من قبل باحث بريطاني يوصف بأنه عريق في قضايا حقوق الانسان ورحبت اسرائيل بتعيينه وتعاونت معه ووفرت له كل الوثائق التي طلبها خلال التحقيق.. نقول على الرغم من كل ما تقدم فإن اسرائيل ثارت عقيرتها وجن جنونها لمجرد صدور تلك الشهادة الملطفة عن لجنة التحقيق مادام مضمون هذه الشهادة يدينها عمليا، فما معنى اذاً العنصرية؟ وما معنى الجرائم؟ فإذا لم يكن الامعان والتعمد بقتل الابرياء العرب المدنيين، باعتراف لجنة دولية تميل كفتها نسبيا لصالح اسرائيل، عنصرية، واذا لم يكن قصف الاهداف المدنية بشكل متعمد وبضمنها مدارس ومؤسسات دولية، جريمة فما هي الجريمة؟
واذا كان تحقيق اللجنة الدولية بشأن جرائم العدوان الاسرائيلي على غزة قد تمخض وأثمر عن هذا الحد الادنى الملطف من الاتهام الذي يدين اسرائيل في ظل ليس غياب عربي كامل وموازين قوى دولية مختلة بشدة لصالح اسرائيل فحسب، بل للأسف وبالتزامن مع الجهود التي تبذلها قوى حقوقية اسبانية نزيهة وقضاة شرفاء وحدهم من دون مساندة عربية لافشال مخطط اسرائيل للحيلولة دون انعقاد محكمة اسبانية للتحقيق في جرائم اسرائيل ضد الانسانية خلال حربها على غزة، فلنا ان نتخيل كيف سيكون الوضع الدولي سياسيا لصالح العرب لو لم يكونوا جميعا على ذلك النحو المخزي غير المسبوق من التمزق والتخاذل والتخلي عن قضيتهم الفلسطينية سواء خلال العدوان أم بعده الى يومنا هذا؟
صحيفة اخبار الخليج
11 مايو 2009
اليابان: تجربة الرأسمالية الخاصة (2)
إذاً مثلت تجربة اليابان تجربة نحت نحو الرأسمالية الخاصة خلافاً لتجارب الشرق حيث تسودُ الرأسماليات الحكومية.
إن تحويلَ القطاع العام إلى قائدٍ سياسي للقطاع الخاص، يتطلب ألا تـُثقل أجهزة الدولة بالعمليات الاقتصادية الواسعة التي تعوقُ دورَ القيادة السياسية للرأسماليةِ الناميةِ في محيطِ التخلف.
لماذا يجب أن تكون الدولة قيادة سياسية وليست اقتصادية، ولماذا يجب ألا تأخذ دور أرباب العمل، بل تشجعَ أربابَ العمل على الاستقلال عنها، وأن يفجروا طاقات الصناعات الثقيلة والخفيفة بقيادتها التخطيطية وليست الإدارية؟
لأنها تكون مشغولة بتلك القيادة السياسية ذات المهام الجسيمة الواسعة، فلديها مهمات نقل التجارب العلمية الغربية للمصانع، وتغيير مناهج التعليم لتواكب عمليات التغيير الاقتصادي، ولديها العمليات السياسية الخارجية المختلفة من إنشاء الجيوش والتوسع التجاري الخارجي إلى المجابهة التدخلات وغيرها.
كذلك فإن تدخل الدولة في تملك المصانع والمؤسسات التجارية وغيرهما، يفسد عملية النمو الاقتصادي في مرحلة التشكيل الأولى للعلاقات الرأسمالية، فتغدو العمليات الاقتصادية مربوطة بأجهزةِ الحكم ومصالح الموظفين، وبتدخل الوزارات فيما ليس من اختصاصها، وليس هو مجالها، ويضع بين أيديها ثروات هائلة ليست من ملكها، فتتسرب إليها وتضيعها.
ولا تتشكل سوقٌ حديثة تقومُ بتطوير البضائع، بل يحدثُ توجيهٌ بيروقراطي من أعلى، يجمد نمو العلاقات الاقتصادية في مخططات بيروقراطية وعمليات فساد واسعة. وفي مثل هذه المراحل التكوينية ليست سوى السوق تلعبُ دور المطور للسلع.
وتتكفل القيادة السياسية من قبل الدولة اليابانية بفرش الأرضية لنمو القطاعات الخاصة والثورة العلمية والتقنية في مجالي الصناعة الثقيلة والخفيفة على التوالي والتداخل في مراحل لاحقة.
كذلك فإن هذا يرتبط بعمليات الحريات في مختلف أشكال الوعي وأشكال الحياة، فالجامعات ومؤسسات البحث العلمي تكون حرة، غير موجهة بخطة حكومية لإعاقة العقول عن البحث المستقل كما تفعل المؤسسات العلمية العربية، ثم يغدو الصراع الطبقي محكوماً بمؤسسات دستورية، لا تجعل العمال مجمدين من دون تطور في مختلف جوانب حياتهم، بل يتابعون تطور الصناعات ويطورون أوضاعهم المادية والعلمية.
تقومُ الرأسمالياتُ الحكومية الشرقية بتوجيه التطور الاقتصادي نحو أهداف سياسية واقتصادية مسبقة، بما فيها من صواب وأخطاء، وبما يفهمه رجالها من معرفة اقتصادية، نظرية، وهو أمرٌ مضادٌ لتشكل الأسواق الحرة، وبُنية الرأسمالية الحديثة.
فلم تقم النخبة السياسية المسيطرة في اليابان بفكرة الأخذ الجزئي من الحضارة الغربية، بالاستيراد الانتقائي لأجزاء من تلك البنية الحديثة الصناعية – السياسية – العلمية، فقد درستها وطبقت هيكلها الأساسي على المجتمع، ولم تقل سوف آخذ التقنية وأتوجه للصناعات الخفيفة أو الاستخراجية حتى لا أرهق الأجيال، بل توجهت للصناعات الثقيلة بشكل أساسي لترافقها وتليها بعدئذ الصناعات الخفيفة، وكذلك لم تفصل بين مستويات البنية هذه: مستواها السياسي الديمقراطي، وكذلك مستواها الثقافي العلمي التقني بصورة خاصة، لأنه هو المرتبط بالصناعة، أما مسائل الفلسفة والأدب والفنون فهي تـُنتج من خلال الوعي الوطني.
إن نمو الرأسمالية الخاصة اليابانية جرى من خلال السوق، وليس من خلال هيمنة الدولة، وهذا أدى إلى حراك رؤوس الأموال باتجاه القطاعات المربحة والمفيدة للتطور الاقتصادي الوطني، وهذا أدى إلى تطور قوى الإنتاج والعلوم مع تطور السوق.
وقد شجعت الحكومة “البيوتات” المالية لتتحول إلى شركات كبرى وليس أن تحجم دور تلك “البيوتات” وتأخذ مكانها، وهو أمرٌ أدى إلى فوضوية السوق وتآكل الفوائض الاقتصادية في أجهزة الدول، وإلى هروب رؤوس الأموال وتشوه البنية.
هذا لا ينفي جملة من التناقضات كأي اقتصاد رأسمالي خاص، فطبيعة التوجهات الحكومية اليابانية التي أشرفت على تصنيع البنية الرأسمالية الحداثية في الأرض اليابانية، قامت بالإسراع فيها، تجنباً للسيطرات الأجنبية وخاصة الغربية منها، وكذلك للحصول على المستعمرات والمواد الخام بأسعار رخيصة، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التدخلات اليابانية وإنشاء المستعمرات، مما كان له أثر سلبي في طبيعة هذه الرأسمالية التي غدت عسكرية توسعية فجرت نفسها للحروب وللمحور الفاشي، وكان آخرها الحرب العالمية الثانية التي انتهت بمأساة كبرى على اليابان.
وأعطت التجربة اليابانية حراكاً لدول جنوب وجنوب شرقي آسيا التي حذت حذوها فغدت الرأسمالية الخاصة الصناعية أساساً لتقدم نصف قارة آسيا.
إن أساسيات التحديث الغربي تم وضعها هناك، والمبنية على الوعي العقلاني العلماني الديمقراطي، وعلى الحريات المختلفة، وتشكلت دساتير ومؤسسات على هذا الأساس، مما وسع بشكل هائل من قدرات المنطقة.
لا ينفي هذا صراع العمال والقوى الشعبية ضد هذه الرأسمالية الخاصة، بل هي قوى مشاركة في مثل هذا البناء، ويمكن أن تصل إلى السلطة من خلال الأدوات التي وفرتها المؤسسات، لكن لتطرح برنامجا تطويريا للاقتصاد لكن من وجهة نظر العمال، أي يتواصل النمو الاقتصادي ذاته الخاص من خلال مصالح المنتجين.
في حين ان الرأسماليات الحكومية تطرح أنظمة شمولية، ولهذا ترفض العلمانية والديمقراطية، ويمكن أن تتحدث باسم العمال والفقراء، لكن من دون منظماتهم الخاصة المستقلة.
في الرأسمالية الخاصة على غرار النموذج الياباني يحدث نمو التراكم الاقتصادي داخل عمليات الإنتاج، ورغم تقسيم الفوائض الذي يقرره المالكون لا العاملون فإن العاملين يناضلون إلى لإعادة تقسيم هذا الفائض باستمرار.
صحيفة اخبار الخليج
11 مايو 2009
التاريخ لم ولن يبلغ نهايته
كان على الغارقين في النعيم، النائمين في عسل العولمة، والمتبارين في تمجيد كرنفالها، أن يصدموا بالأزمة المالية العالمية الراهنة، ليفيقوا على حقيقة مُرة تناسوها، هي أن العولمة بين أشياء أخرى كثيرة تعولمها، «تعولم» الفقر أيضاً. القسمة الضيزى القائمة بين عالم غني يسبح في الثراء وبين محيطات واسعة من الفقر والعوز، لا بل والمجاعة في معناها الحرفي التي تودي بحياة آلاف البشر لأنهم لايجدون ما يسد الرمق، لم تنشأ مع العولمة في صورتها الراهنة. هذا صحيح، لكن هذه العولمة أعطت أبعاداً غير مسبوقة على ظاهرة الفقر، هي التي ترافق صعودها على خلفية الإفقار المتزايد لقطاعات شعبية واسعة، بما في ذلك الفئات الوسطى، وصودرت الكثير من الضمانات الاجتماعية التي كانت الرأسمالية قد اضطرت إليها مُكرهةً في مراحل سابقة تحت ضغوط نضالات الحركتين النقابية والديمقراطية، خاصة في البلدان المتطورة. منذ نحو عقدين من الزمان هُلل للنظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه الرئيس جورج بوش الأب حين كانت قواته قد أحكمت سيطرتها على منابع النفط في الخليج، فيما كان الاتحاد السوفييتي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وقدمت العولمة في أبهى وأبهج صورها. حينها تبارت الأقلام والشاشات في إظهار مفاتن ومحاسن العصر الجديد، الذي سيضع حداً للأنظمة الشمولية، وسيعمم الرفاه على العالم كله. سرقوا من هيغل، هذا الفيلسوف العظيم صاحب المنظومة الفلسفية المعقدة أضعف ما فيها، فقالوا لنا إن التاريخ بلغ نهايته، بعد العولمة لم يعد أمامنا مستقبل آخر نذهب إليه. من يحلم بالمستقبل فعليه أن يرفع الرايات البيضاء استسلاماً، فعهد الأحلام الكبرى وأفكار التغيير قد ولى من دون رجعة، وسادت ثقافة ملغومة أطلق عليها ثقافة المراجعة، بموجبها تخلى الكثيرون عن أحلامهم، والتحقوا بالعربة الأخيرة في القطار الذي تحدث عنه فرانسيس فوكاياما في كتابه الشهير عن “نهاية التاريخ وخاتم البشر”. كان فوكاياما قد حذّر هؤلاء من أن وصول هذه العربة الأخيرة قد يعرقله بعض قطّاع الطرق، ولكنها في النهاية لاحقة ببقية عربات القطار إلى جنة الليبرالية الموعودة. نحو عقدين فقط مرا على هذا الكرنفال، علينا أن نجول بأعيننا حول العالم لنرى أن هذا العالم يزداد فقراً كلما زاد ثراء القلة الذين أحكموا الخناق على ثرواته. يبحث الناس عن السلوى والخلاص فلا يجدونهما في مكان، حتى عصر الجوعُ البطونَ من الألم.
صحيفة الايام
11 مايو 2009
الفقر في الوطن غربة
وزيرة التنمية الاجتماعية د. فاطمة البلوشي، من الوزيرات التي استطاعت ان توجد اضاءات عديدة حقيبتها الوزارية، حالها ليس حال بعض الوزراء، بل هي تحمل هماً تطويريا نأمل ان توفق في ذلك. الملفات التي تقع على عاتق الوزيرة عديدة، الجمعيات الاهلية وعلاوة الغلاء والفقر وغيرها من الملفات الحساسة كان الله في عونها، ومهما عملت الوزيرة من جهد لن ينال رضا السواد الاعظم من الناس. لمعرفتي المتواضعة بوزيرة التنمية أعرف انها تتقبل كل ما يأتي من الصحافة فهي من الوزراء المنفتحين على الصحافة. الملف المتعلق بالوزارة والذي نتوقف امامه، هو ملف الفقر، ولما لهذا الملف من أهمية كبيرة وهم يشغل البال، فإن عدد الاسئلة النيابية التي تلقتها الوزيرة عن الفقر في البحرين وصل عددها 10 وجميعها تدور حول محور واحد، بحسب ما اشارت اليه البلوشي في جلسة النواب يوم الثلاثاء الماضي. نقول للبلوشي لا تسأمي من هذه الاسئلة، فالملف معقد، ويحتاج الى وقفة جدية لكي نستطيع ان نواجه هذا الملف بكل حزم، حتى ننقل حال المواطن من حال الى حال، بمعاييرنا نحن الدولة الخليجية، لا بتعاريف ومعايير أي منظمة أخرى، التي تحدد الدولار معيار للقياس فقر الفرد إذا اعتمدنا على هذا المعيار فإن أصغر طفل للتو بدا يحبو هو الاغنياء ومن أصحاب الثراء. لأننا بصراحة نتحدى ان يستطيع أي مواطن مهما اختلف عمره ان يستطيع ان يعيش بأقل من دولار واحد في اليوم، وإذا وجد شخص يعيش بأقل من دولار واحد في البحرين فهذا يعتبر معجزة، وأنا أطلب من وزارة التنمية ان تدلني على صاحب الاعجاز لأجري مقابلة صحفية معه. الوزيرة اكدت انه لا يوجد فقر مدقع في البحرين أي لا يوجد من يعيش بدولار واحد في البحرين، ولكن الفقر المدقع لدينا معياره ليس الدولار الواحد الجمهور والمواطنون لا تهمهم أرقام المنظمات ولا معايير الامم المتحدة، المواطن الذي تأتي عليه أيام يتمنى ان تنشق الارض لتبتلعه لأنه لا يستطيع ان يحقق (الأمن الغذائي) لأسرته هو الذي يعيش الفقر المدقع، المواطن الذي راتبه الشهري 150 دينارا ولديه أسرة هو الذي يعيش الفقر المدقع.. هذا هو معيارنا يا سعادة الوزيرة. فلا تجزعي ولا تسأمي من كثرة الاسئلة عن الفقر.. فالفقر في الوطن غربة.
صحيفة الايام
11 مايو 2009
التفــاف علــى الكينزية لا عودة إليها
في حين انتقد كينز الليبرالية (أو الكلاسيكية) عدم اهتمامها بمشكلة البطالة، إذ اعتقد أنصارها أن كل شخص يستطيع إذا رغب أن يجد العمل الذي يناسبه، فقد ركز (كينز) على البطالة والنقد. فإذا كانت الكلاسيكية قد نظرت للنقد نظرة سطحية لا تتجاوز كون النقد مجرد ظاهرة ثانوية لا أهمية لها في العملية الاقتصادية فالناس لا يتبادلون نقوداً بل بضائع ببضائع وما النقد إلا واسطة، فإن كينز رأى أن ليس هناك شيئاً في الواقع الاقتصادي أهم من النقد. وعلى مستوى الرؤية الاقتصادية عاب كينز على الليبرالية (الكلاسيكية) افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد الذين ينبغي أن تُعطى لهم الحرية المطلقة في الفعل أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائياً بناءً على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم. بينما أثبتت الأزمة (1929-1933) التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي. هذا فضلاً عن تأكيد الكينزية من الناحية المنهجية على ضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستثمار وسعر الفائدة ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة. وكما نعلم فلقد أعادت أزمة عام 1973 الاقتصادية في البلدان الغربية الناجمة عن أزمة الطاقة (طفرة أسعار النفط جراء الحظر النفطي العربي للدول الداعمة لإسرائيل إبان حرب أكتوبر 1973)، لقد أعادت تلك الأزمة الاعتبار من جديد للنظرية الليبرالية (الكلاسيكية) على أيدي الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان وتلامذته وأتباعه من أنصار مدرسة شيكاغو النقدية، حيث خرجت الليبرالية (الكلاسيكية) في ‘حلة حديدة’ أُسميت بالليبرالية الجديدة (الكلاسيكية الجديدة)، اتسمت، كردة فعل قوية على الكينزية، بالغلو والمزايدة على الآباء المؤسسين للمدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (الاقتصادية الليبرالية)، آدم سميث وديفيد ريكاردو. حيث نادوا بالحرية الاقتصادية المطلقة وإخضاع كل شيء (الأسعار، الإنتاج، المداخيل) في الأسواق للعرض والطلب، وأن السوق سوف يتكفل بإحداث التعديلات (Adjustments) اللازمة لتحقيق التوازن اعتماداً على نظرية الخيارات العقلانية للناس (Rational Choice Theory)، حيث يقوم الأفراد بتعظيم طاقاتهم، والقصد طلب المستهلكين في النظرية الكلاسيكية الجديدة ومنحنى عرض قوة العمل، فيما تقوم الشركات بتعظيم أرباحها، وإن تفاعل طلب عرض وطلب الأفراد والشركات في السوق يؤدي إلى توازن الإنتاج والأسعار، ما يوضح بأن الكلاسيكية الجديدة تعول أكثر على مكونات الاقتصاد الجزئي (Microeconomics)، وعلى حاسية سلوك الأفراد. بيد أن أنصار الكينزية قاموا بمحاولة لإعادة الاعتبار لنظرية كينز بعد النقد الذي تعرضت له من أنصار الكلاسيكية الجديدة، حيث وافقوا على طروحات الكلاسيكية الجديدة في القول إن تصرفات الأفراد (Households) والشركات (Firms) تتميز بالعقلانية، إلا أنهم هنا اختلفوا عن الكلاسيكية الجديدة بالتأكيد أن نتيجة نتائج تفاعل العرض والطلب في السوق ليست دائماً سليمة وإنما يمكن أن تترتب عليها إخفاقات خصوصاً فيما يتعلق بالأسعار والأجور واستيعاب قوة العمل، ما يستوجب وجود دور إيجابي وفاعل (تدخلي) لإعادة التوازن في الاقتصاد الكلي من خلال تدخل الدولة باستخدامها أداة السياسة المالية (Fiscal Policy) على أيدي وزارة المالية أو الخزانة، أو أدوات السياسة النقدية (Monitory Policy) بواسطة البنك المركزي، بما يفضي إلى نتائج أكثر فاعلية على الاقتصاد الكلي من سياسة ‘السوق الرشيد’ التي تعتمدها الكلاسيكية الجديدة. ولكن علينا أن نلاحظ هنا أن الكينزيين الجدد أقل تفاؤلاً عن كينز نفسه فيما يتعلق بقدرة الأدوات الاقتصادية (الكينزية) على تأمين التوظف الكامل (Full employment). كما أن الكينزيين الجدد والكلاسيكيين الجدد قد التقوا ووجد التقاء رؤيتهم الاقتصادية تطبيقاته في عالم اليوم حتى إلى ما قبل الأزمة. حيث زاوج الكلاسيكيين الجدد الذين سيطروا على مواقع صناعة السياسة والقرار الاقتصاديين في الدول الرأسمالية المتقدمة – زاوجوا بين تركيزهم على سياسات الاقتصاد الجزئي وأدوات الاقتصاد الكلي للكينزية لينتجو تركيبة نيوكلاسيكية توفيقية. ولكن مع أهمية الإشارة هنا إلى أن الكلاسيكيين الجدد قد جعلوا الأصل في سياساتهم الاقتصادية، الحرية المطلقة للأسواق ولمكونات الاقتصاد الجزئي، من إنتاج وأسعار وأجور، فيما تركوا حيزاً ضيقاً فقط للسياسات الكينزية يعودون إليه كلما أربكتهم حركة الأسواق المنفلتة. ولذلك عندما يسال الحبر وتتوالى الأحاديث اليوم حول ارتفاع أسهم الكينزية من جديد وترشيحها للعب دور قيادي من جديد في الاقتصاد السياسي للرأسمالية العالمية على خلفية فشل روشتات تطبيقات الـ ‘نيوكلاسيكية’ الذي كشفته الأزمة، فإن ذلك يحتاج إلى تدقيق. فالاحتماء والارتماء فجأة في أحضان الماركسية ووصفاتها العلاجية لأسقام الرأسمالية، على النحو الذي فعله جون جينز نفسه مستغلاً ردة الفعل العنيفة ضد تطبيقات الرأسمالية بنسختها الكلاسيكية (الحرية الاقتصادية المطلقة) جراء أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، من توسل التأميم وعودة الدولة وأجهزتها لتسلم كامل زمام أمور الإدارة الاقتصادية الكلية – كل ذلك لا يرق إلى مستوى العودة للكينزية (التي سرقت أفكار كارل ماركس وفريدريك انجلز خصوصاً منها المدونة بحثاً في ‘رأس المال’ بأجزائه الثلاثة)، وإنما هو التفاف بارع عليها.
صحيفة الوطن
10 مايو 2009
العدد الربيعي للدراسات الاستراتيجية
صدر مؤخرا منذ أيام قليلة خلت، العدد الربيعي من مجلة الدراسات الاستراتيجية التي يصدرها مركز البحرين للدراسات والبحوث وهو يحمل الرقم 14، المجلد الخامس، ربيع 2009م، ويشير رقم العدد ورقم مجلده الى النجاح المتواصل الذي تحققه هذه المجلة البحرينية السياسية ــ الاستراتيجية العلمية الرصينة منذ صدور العدد الأول لها في مثل هذا الوقت تقريبا قبل أربع سنوات، وتحديداً في ابريل من عام 2005م، وبهذا فإن العدد الأخير جاء متزامنا تماما مع الذكرى الرابعة لولادة هذه المجلة النوعية في مملكة البحرين والخليج العربي.
وقد جاء العدد دسماً كالعادة في موضوعاته الحيوية التي تعالج وتحلل أبرز قضايا الساعة محليا وإقليميا ودوليا، وفي مقدمة هذه الموضوعات يكتب رئيس التحرير د.محمد بن جاسم الغتم موضوعاً تحت عنوان “إيران وأمن الخليج: ما بين التصريحات والكتابات الإيرانية والواقع السياسي: تحليل المضمون” يتناول فيه بالتحليل أبعاد التصريحات والكتابات الصحفية الإيرانية لمسئولين ايرانيين حول الادعاء بتبعية البحرين لإيران ومواقفها وممارساتها من قضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها، وهي التصريحات والكتابات التي أفضت الى تعكير صفو العلاقات بين ايران ودول مجلس التعاون وتركت صدى غير طيب لدى هذه الدول يثير الريبة في الجارة إيران ويدعو إلى القلق حول مستقبل الأمن الإقليمي في المنطقة.
وفي باب الدراسات والبحوث يكتب كل من حسن عبدالله العايد عن مستقبل العلاقات الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وأحمد عبدالرزاق شكارة عن التعاون المدني العسكري في الصراعات المسلحة، الاعتبارات السياسية والقانونية، وخالد وليد محمود عن الانفاق العسكري في إسرائيل وأثره على صنع القرار السياسي، ويكتب منصور صباح الفضلي وعدد من الباحثين دراسة تحليلية تحت عنوان “نظرة استراتيجية على الملاءة المالية لشركات التأمين الكويتية”.
وفي باب التحليلات السياسية يكتب رضي السماك مقالا تحليليا تحت عنوان “آفاق استعادة روسيا لنفوذها في الشرق الأوسط”، وتحت عنوان “العدوان الإسرائيلي على غزة وأبعاده في ضوء قرار مجلس الأمن 1860” يحلل مدير تحرير المجلة د.محمد نعمان جلال الأهداف الإسرائيلية المعلنة والخفية من العدوان على غزة، ويرصد الباحث جلال ما يميز عمليات هذا العدوان من سمات وحشية همجية غير مسبوقة، وأهداف عسكرية ــ سياسية خبيثة تجاه السكان المدنيين، وتجاه المؤسسات الفلسطينية ومؤسسات الأمم المتحدة التي تخدم السكان المدنيين كالأونروا والمستشفيات والاسعاف ورجال الإعلام.
كما يتناول الباحث ردود الفعل العربية والعالمية، ويمضي محللا أبعاد مداولات قرار مجلس الأمن رقم 1860 الصادر بشأن وقف إطلاق النار متناولاً في عداد ذلك أهم بنود القرار، وتحليل القرار، ورد الفعل الإسرائيلي عليه، وموقف البحرين من العدوان، ومرئيات مركز البحرين للدراسات تجاهه.
ويكتب كل من جعفر كرار احمد عن زيارة الرئيس الصيني خو جنتاو للسعودية والتحول في استراتيجية الصين الشرق الأوسطية، وعبدالنبي العكري عن مؤتمر الحوار الثقافي الأوروبي المتوسطي الخليجي، ورضا شحاتة عن حوار المنامة الخامس: قراءة وتحليل للرؤى الإقليمية والدولية.
وفي باب عروض الكتب تكتب كل من ميساء الذوادي عن رسالة الماجستير التي تقدمت بها الباحثة الإعلامية هدى هزيم تحت عنوان “دور الصحافة المحلية في تفعيل العمل البرلماني بمملكة البحرين”، ومنى عباس عن كتاب باقر النجار الموسوم “الديمقراطية العصية في الخليج العربي”، كما يعرض الزميل مكي حسن لأهم النقاط التي جاءت في محاضرة الباحث الأمريكي الدكتور نورمان فينسكين التي ألقاها خلال يناير الماضي في البحرين تحت عنوان “تأثير اللوبي الإسرائيلي على سياسة واشنطن الخارجية” بدعوة من جمعية مناصرة فلسطين.
وفي باب الملخصات يكتب احمد الحايكي وعدد من الباحثين دراسة تحت عنوان “الوحدة النقدية الخليجية: الاختيار الأمثل لنظام سعر الصرف”. وأخيرا يتضمن باب الوثائق والمستندات نصوصاً للبيان الختامي الصادر عن المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار، والبيان الختامي للدورة التاسعة والعشرين لقمة مجلس التعاون، والبيان الختامي لقمة الكويت عن الوضع في غزة.
مع تمنياتنا لإدارة المجلة وجميع العاملين فيها والمساهمين في تحرير موادها اطراد التقدم والتطور والنجاح في مسيرة هذه المجلة الرائدة.
صحيفة اخبار الخليج
10 مايو 2009
اليابان: تجربة الرأسمالية الخاصة (1)
حين نقرأ بعض الحيثيات المفيدة التي يقدمها مؤلفون عرب حول مسار التجربة اليابانية، وخاصة كيفية الانتقال من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي، فإنهم يضعونها في إطار المعجزة، الخارجة عن قوانين الانتقال نحو الرأسمالية في الشرق، لكونهم لا يقرأونها ضمن قوانين الانتقال العامة للرأسمالية الشرقية ذات الخصائص المختلفة عن الرأسمالية الغربية.
لقد قفزت اليابان نحو نمط الرأسمالية الغربية الخاصة، خلافاً للرأسماليات المعرقلة بتدخل الدول الشمولية في الشرق، بل على العكس قامت الطبقة الحاكمة اليابانية بتوجيه قوى الأغنياء نحو تلك الرأسمالية الصناعية الخاصة، وهو جانبٌ سياسي فريد نشأ بسبب صغر اليابان تجاه الدول الكبرى المحاصرة لها التي تريد التهامها كالولايات المتحدة وروسيا والصين.
لقد عملت الطبقة الحاكمة التي قلصتْ نفسها إلى أسرة صغيرة حاكمة، مزيلة طبقة الإقطاع الكبيرة وموجهة إياها نحو الاستثمارات التجارية والصناعية.
لكن قيادة الامبراطور لهذه التحولات لم تكن دفعة واحدة بل جرى تذويب الطبقة الإقطاعية على مراحل:
“أطاحت القوى السياسية بالشوجون (قادة الجيوش) وانتقلت مقاليد السلطة للإمبراطور من جديد بعد ان كانت في يد مجموعة من نبلاء البلاط استأثروا بها، نظراً لصغر سن الامبراطور مايجي، وقد كان عليهم باعتبارهم قوة جديدة ان يواجهوا المشكلات الملحة وعلى رأسها الزحف الغربي على بلادهم والفساد المالي، لأن مواجهة الاطماع الاوروبية في اليابان تتطلب قاعدة اقتصادية صلبة، بعد ان بدأت السلطة الحاكمة في اليابان بالعمل على تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، حيث قامت بإجراء العديد من التعديلات والقوانين التي تنظم الطبقات، تمهيداً لإلغاء النظام الاقطاعي، وكانت البداية عام 1869 حيث وضعت تصنيفاً جديداً للطبقات جعلت بمقتضاه ارستقراطية البلاط وحكام المقاطعات طبقة واحدة باسم النبلاء، وقسمت الساموراي الى مستويين: ساموراي كبار، وساموراي صغار. وفي عام 1870 ادخلت الحكومة تعديلات على أوضاع الطبقة العاملة فصار من حقها بمقتضى هذه التعديلات اتخاذ ألقاب عائلية، وسمحت لأبنائها في العام التالي بالتزاوج مع ابناء الطبقة العليا. كما سمحت الحكومة للنبلاء والساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والحرف. وفي عام 1872 أعادت الحكومة تقسيم القوى الاجتماعية الى ثلاث طبقات: هي النبلاء، والساموراي و”الهيمين”، والأخيرة تضمنت العامة وصغار الساموراي القدامى والمنبوذين وأصبحت جميع الطبقات بعد ذلك – نظريا – أمام القانون سواء، وقد اضطرت الحكومة عام 1872 الى ان تسن قانوناً يجرم الاسترقاق ويحرم الاتجار في الرقيق.”.
كان إبعاد الطبقة الإقطاعية الكبيرة العدد عن الدخول الحكومية مهما لأجل إبعاد أجهزة الدولة عن التبعية لطبقة من الطبقات، أي أن تكون محايدة بشكلٍ نسبي، بين الطبقتين الكبريين: الطبقة الإقطاعية الآفلة، والطبقة الرأسمالية الصاعدة، فقد أدركَ الامبراطور ان المستقبل للأخيرة وللصناعة وللحداثة، وهو بحاجةٍ إلى القوى العاملة الحديثة وإلى العلوم، ولابد بالتالي من الانفصال عن إرث الماضي الإقطاعي، ومن جعل الصناعة بؤرة الحياة الاقتصادية، ومن تحرير الفلاحين والنساء، وتشابك ذلك المنحى الاقتصادي بالشعور القومي الاستقلالي، بل الاستعماري التوسعي كذلك، الذي تحول فيما بعد إلى عدوانية خارجية.
ولنلاحظ كيف كانت اليابان مربوطة بوشائج متخلفة مع علاقات الإنتاج القديمة، كالعبودية، وعلاقات اجتماعية متخلفة كثيرة، لكن جهاز الدولة المركزي استقل عن الطبقات القديمة، وحسم الخيار الحضاري باتجاه مماثلة تقدم الغرب في جوهره، وهو التصنيع الواسع.
“وقد أدى إلغاء النظام الطبقي وتطبيق نظام المعاشات واستبدال نظام سندات حكومية به الى تجريد طبقة الساموراي بشكلٍ كامل من امتيازاتها المادية، ورفع عبئاً كبيراً كانت ميزانية الدولة تتحمله كل عام قامت بتوجيهه للتنمية”، (السابق).
إن خلق التراكم البدائي في التجربة اليابانية كان على الطريقة السوفيتية، بأن تـُجلب الفوائض المالية من الطبقات المثقلة بالاستهلاك والبذخ أو الموظفة في الزراعة، وأن تصب في الصناعات الثقيلة والخفيفة. لكن من دون أن تنتقل الثروة المُصادرة وعمليات التراكم المختلفة من ضرائب وغيرها، لتشكيل رأسمالية حكومية على الطريقة السوفيتية، بل أن تكون لعمليات التوجيه المركزي نحو المجتمع الرأسمالي من خلال قيادة الامبراطور.
وهنا فروق كبيرة بين هذه القيادة وما جرى في بعض دول الشرق، فكثيراً ما تـُقارن عملية القيادة اليابانية بمصر في عهد إسماعيل باشا خاصة، كما يقول عارض الكتاب: “يتحدث الكتاب في فصله الثالث عن حركة التصنيع ونمو الرأسمالية في اليابان، برصدها في عهد مايجي بشكل يذكرنا بحركة التحديث التي حاول اسماعيل باشا في مصر أن يقودها، وبالأسلوب نفسه، حيث لجأ كلٌ منهما إلى الاستدانة من بيوت المال الفرنسية والانجليزية لبناء وتحديث بلاده، وكانت القروض أداة كل منهما لاقامة مشاريعه التي رآها مناسبة لنقل بلاده الى مرحلة التطور والتقدم الصناعي التي تعيش أوروبا في ظلها”.
إن عمليات الاستدانة والتثقف من الغرب والقيام بإجراء تغييرات في الريف لم تكن متماثلة مع نظام إسماعيل، لفارق جوهري هو طبيعة الدولة اليابانية في هذا الوقت التي اختارت التوجه نحو الاندماج في المنظومة الرأسمالية العالمية، وأن تكون منها بل من قياداتها، في حين ظل إسماعيل في دائرة النظام الإقطاعي، وتغدو الاستيرادات المجلوبة من الغرب لديه استيرادات جزئية، تحديثية فوق جسد متخلف تقليدي.
في حين توجهت الطبقة الحاكمة اليابانية في تلك الأسرة الصغيرة الامبراطورية إلى إزالة الإقطاع بكل تشكيلاته وتداخلاته في الحياة الاقتصادية والدراسية، فجمعت التراكمات المالية لتوسيع الصناعات، وجعلت الأرياف مُلحقة بها، ولهذا كانت ثمة عملية قسوة شديدة موجهة للريف، أدت إلى حدوث ثورة فيه، نظراً لهذا الجلب الحاد لفوائضه من أجل الصناعة البؤرة الكلية التي توجه الدولة المداخيل نحوها.
هذا ما مثل لستالين تجربة مهمة سوقها فيما تلا تحت شعار الاشتراكية.
وفي حين انتهى عهد إسماعيل وخلفائه من بعده بتراكم الديون ظهرت الفوائضُ النقدية الكبيرة في اليابان.
صحيفة اخبار الخليج
10 مايو 2009
قمم واُمم!! «2-2»
وتأسيسا على ما أسلفنا في حلقة الأسبوع الماضي من هذه المقالة، جاءت قمة الدوحة الأخيرة لتكرس ذات النغمة المعهودة التي باتت تنفرد بها دولنا العربية من بين سائر أمم الأرض، إنها نغمة الدوران الأزلي في حلقات مفرغة، إلا من الكلام المباح في مثل تلك المؤتمرات دون ملامسة فاعلة لجراحاتنا وأوجاعنا المزمنة في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها، وحيث تُضَيع مواردنا وخيرات أرضنا العربية لتصبح نهبا لنوزاع الجشع التي لا يعنيها ما يدور في عالمنا الواسع من أزمات ومصاعب واستقطابات وتحالفات حتى أصبحنا بالفعل خارج التاريخ، ولم نوظف شيئا ولو يسيرا من طاقاتنا ومواردنا الكامنة والمعلنة لأحداث نهضة طال انتظارها حتى أصبحت حلما بعيد المنال دونه أجيالنا الحاضرة واللاحقة. وعلى النقيض من ذلك تصر كافة أمم الأرض الناهضة على إبهارنا بقدرتها المتجددة على الدوام في الاستفادة من تجاربها ومن عوامل فشلها وتراجعاتها وقدراتها وإمكاناتها وإبداعاتها، لتوظف كل ذلك باستمرار في عملية ومسيرة لا تتوقف مهما كان الخطب جللا أو كانت المهمة عصية ومعقدة، كذاك الذي تقوم به الدول الكبرى والصناعية من جهود تضافرت جميعها في قمة العشرين الأخيرة التي عقدت في…. والتي لم تستغرق سوى يومين اثنين لكنها نجحت في تسخير كافة عقول أبنائها وخبرائها الاستراتيجيين ومواردها المادية والبشرية والفنية ومؤسساتها المالية ومراكز أبحاثها لخدمة عوامل نهوض مجتمعاتها، والتي أنجزت بفعل حسن تعاملها الحضاري قفزات صناعية وتنموي هائلة حققت من خلالها تعاونا بين مختلف دولها بغض النظر عن صغر أو كبر حجم اقتصادياتها وهي التي كانت ومازالت تتباين في لغاتها، وحكمتها يوما صراعات مريرة فاقت كثيرا ما مر به تاريخنا القديم والحديث، إلا أنها عرفت الطريق إلى مصالحها وعبرت بحور وعوائق تخلفها التي غرقت فيها دهورا إلى حيث مجتمعات الحريات العامة والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والعدالة والرقي الحضاري. وكان آخر تلك القمم المتتالية قمة دول أمريكا اللاتينية الأخيرة والتي حضرها الرئيس الأمريكي «باراك اوباما» والتي دشنت عهدا جديدا من التعاون بعد طول قطيعة امتدت لعقود كما هو الحال بين كوبا وأمريكا، وبرهنت على قدرة دول أمريكا اللاتينية مجتمعة في توظيف صراعاتها المريرة مع جارتها القوية سيدة العالم الكبرى لصالح تعزيز مواقعها التفاوضية ومصالح شعوبها دون انتقاص من سيادتها الوطنية. وعلى العكس منها وكما أسلفنا جاءت جل مؤتمراتنا وقممنا العربية الطارئة منها قبل العادية دون أن تستطيع دولنا وأنظمتنا السياسية مجتمعة أن تعطينا ولو بصيص أمل للخروج مما نعانيه من تراجع حضاري وفوضى مربكة تتهدد مصائرنا المثقلة بتركات البؤس والتخلف وضياع القيم وانتشار الحروب والصراعات المهلكة التي تدفعنا إليها سياسات بائسة، وحيث نتراجع دوما إلى الوراء تتقدم أمم وشعوب الأرض الأخرى التي لا يملك جزء كبير منها ما نملك من إمكانات مادية وبشرية أو حتى حضارية، لنبقى أسرى لحالات متكررة من الصراعات العدمية الدائمة دون جدوى، فلا النظام العربي بقادر على أن يغادر سوءاته تلك ولا الشعوب هي الأخرى بقادرة على أن تمتلك زمام المبادرة لتبادر بإصلاح ما أفسدته السياسات في ظل زحمة المفاهيم وفوضى الأيديولوجيات وضياع الهوية وخلط المفاهيم وظلاميتها. إنها ليست دعوة لجلد الذات كما سيذهب إلى ذلك البعض بل هي دعوة للخروج من واقعنا العربي المأزوم عبر صياغة عقد عربي جديد يكفل الخروج من حالات التردي والتراجعات الجارية، والتي تتجلى في أشد صورها كآبة إبان انعقاد قممنا العربية لا فرق بين أن تكون اعتيادية أم طارئة، في موازات ما يدور ويعتمل مـــن تحــــولات فــــي العالم الواسع من حولنا من تحولات كبرى ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، إنها إذا مسؤولية نخبنا السياسية والثقافية ووسائل إعلامنا وأحزابنا السياسية، الليبرالية منها على وجه التحديد، في توجيه دفة الوعي المجتمعي والدفع بتحقيق شراكات ذات وقـــع ونهــــج مغايـــر لكنـــه إيجابـــي وفاعـــل، بحيـــث يفــــرض قناعاتـــه على الأنظمة ويكفل دعم البرلمانـــات والشعـــوب على حــــد ســــواء توطئـــة للخروج مما تعانيـــه امتنــــا مــــن هـــوان وتراجــع حضاريين وعلى مختلف المستويات.
صحيفة الايام
10 مايو 2009
كابوس جائحة انفلونزا الخنازير
احتلت أخبار انفلونزا الخنازير موقع الصدارة في وكالات الأنباء والصحف اليومية ’ جنبا إلى جنب مع أخبار العنف والاقتتال والأزمة المالية العالمية ’ التي لم تضف إليها مسألة أنفلونزا الخنازير إلا عبئا جديدا إلى قائمة الأعباء الأخرى ’ فمن أولى مؤشرات أزمة الخنازير أنها ستكون مؤثرة اقتصاديا على قطاعي السياحة والسفر وعلى الموردين والمصدرين للحوم الخنازير ’ خاصة الدول التي تعني بتلك الحالة الصحية بصورة جادة ’ ولكن بطريقة أكثر تأن ودراسة ’ وليس كما هي الطريقة المصرية المستعجلة ’ حيث ارتفعت أصوات منادية بضرورة تصفية الخنازير دون انتظار ’ وكل ما فعله القرار هو بتعويض مربي الخنازير لمواشيهم التي تم مصادرتها ’’ قانونيا ’’ بحجة الحفاظ على صحة الناس من ذلك الوباء ’ غير اننا لاحظنا في الحالة المصرية – والتي لم نر مثلها في أي مكان آخر !! – إذ لم تسارع أية دولة بقتل خنازيرها أو تجميد لحومها لكونهم يدركون ان تسمية أنفلونزا الخنازير ليست تعني بالدرجة الأولى إن الخنازير هي وحدها المصدر الأساسي للمرض متناسية الإنسان ’ وهو الكائن الذي ليس بإمكاننا تصفيته على طريقة الشوارع العراقية أو الأفغانية أو الباكستانية ’ حيث يموتون الناس دون قيمة أو حساب . وبما ان البشر لا يمكن إنهاء حياتهم بسرعة عاجلة كما هي الطريقة المصرية وتعويضهم أيضا ’ بل وتجميدهم في الثلاجات ’ فان الانتباه من انتقال الوباء من الإنسان للإنسان هو الأكثر خطورة داخل المجتمع ’ وعلى هذا الأساس تصبح الجوانب الوقائية هي العملية المثلى في المجتمع بدلا من الدخول في أفلام الرعب والعويل . ولحسن الحظ إننا نعيش في العقد الثاني من الألفية الثالثة ’ حيث صار لدينا كل أشكال اللقاحات والأدوية والمخازن اللازمة بما فيها تلك الأدوية التي تروج لها شركاتها عمدا وقصدا ’ كونهم يدركون قيمة المبالغة لحقيقة الحالة ’ ولقيمة دفع المؤسسات والناس لشراء أدويتهم – المحتمل نفاذ تاريخها أيضا – ففي ظل الكوارث المضخمة من جراء هلع الناس وجهلهم وجهل شخوص في الإعلام والصحافة بمسؤولية أقلامهم ’ في نشر وباء مواز له اسمه الهلع ’’ . وبما ان ’’ أنفلونزا الهلع ’’ يتحول بحد ذاته جائحة مستمرة مع كل مرض جديد وطارئ وخطير ينتشر أو ظاهرة غامضة على الرأي العام تفرض نفسها ’ فان المتصيدين والمستهدفين للجهل وأصحابه وضحاياه ’ هم أكثر الناس كسبا من وراء لعبة المبالغة ونشر لعبة الرعب . وكيف نلاحظ عملية نشر الرعب مع كل حالة غريبة وجديدة ؟ ’ كان ذلك مع الانثراكس ومع جنون البقر وأنفلونزا الطيور والايدز والأسهم والأزمات المتعددة والتلويح بخطورة برميل من أسلحة الدمار الشامل يسرقها الإرهابيون دون علمنا ويتمكنون من صنع قنبلة نووية. هذا الاستغلال المستمر لوعي الناس المحدود وخداعهم صار لعبة موازية للعبة الترويج لكل مشروع سياسي أو مالي يستهدف من خلاله الأثرياء وأصحاب المصالح استثماره في اللحظة المناسبة. ولكي لا يفهمنا القارئ خطأ كالعادة ’ فان ما نعنيه هو ان هناك مؤسسات منظمة تستفيد من كل حالة ’ فتستثمرها لصالحها ولديها محيط كامل من الناس يقومون بتلك التوليفة المناسبة ابتداء من الأقلام الصحفية وانتهاء بمعلني المبيعات والتسويق ’ وعلينا في كل هذه الحالات توظيف عقلنا بشكل هادئ ’ والعودة لأهل الاختصاص والاستعانة بهم وهو انسب تصرف لكل حالة أو ظاهرة . ومن خلال متابعتي اليومية للأخبار ومواقع الانترنيت ومصادرها المتنوعة ’ الخبيثة والمفيدة ’ بما فيها وكالات تحسب نفسها محترمة ’ إذ وجدت ان الأرقام التي تم تقديمها في البداية تختلف عن مساراتها اليومية ’ بل ونشهد كل يوم متغيرات غريبة اقل ما يمكن وصفها هو إما بالمتشوشة أو المشوشة ’ وهي تخدع أيضا الصحافة والصحف التي تستمد منها معلوماتها ’ فتنشر أخبارا لا تتميز بالمصداقية والدقة ’ بل ونجزم أنها كيدية وتتقصد التكذيب على الناس بهدف دفعهم نحو محلات الأدوية والركض بأسرع ما يمكن نحوها ’ خاصة في الدول التي أعلنت عن وجود حالة الإصابة . وبدلا من الانتظار والاستعانة بمصادر رسمية في بلدها نراها تتخبط هنا وهناك بحثا عن مصل المعجزة يحميها من كابوس جائحة أنفلونزا الخنازير . ومن استفادوا من مفردة الخنازير جماعات متعددة الأطياف ’ خاصة المتنافسين في السوق والأطباء الأقرب إلى مسالخ اللحوم . والمفيد في حالتنا الجديدة ’ حالة أنفلونزا الخنازير ’ خاصة في مدن الفقراء والبؤس ’ اكتشافنا كم هي المأساة الكامنة في تلك الحياة المدقعة ’ إذ تلمسنا بكل وضوح ان الإنسان لا قيمة له ’ فلا مسافة بينه وبين البهائم ’ ولا قيمة للحضارة والنظافة والتعليم في حياته . وقد عكست كل المعطيات ان الفيروس قادم من مناطق فقيرة كالمكسيك بل وناس فقراء كالمكسيكيين ’ حيث يعيش الناس مع طيورهم وحيواناتهم فلا توجد مسافة فعلية ولا جدران عازلة بينهم وبين بهائمهم ’ بل ولا توجد رقابة صحية فعلية تؤهل الفرد والمجتمع في أن يحمي نفسه عندما تفاجئه كارثة صحية مفزعة فعلا . ولكي تواجه المكسيك المحنة بصورة فعالة ’ فان أفضل خيار وجدته حكومتها هو أن تمنح الشعب عطلة لمدة خمسة أيام تبدأ من أول مايو ’ مناشدا رئيس الجمهورية شعب المكسيك بالالتزام في بيوتهم فهو خير وأفضل مكان لا تنتقل به العدوى ’ لتؤكد لنا المكسيك – مصدر المشكلة – ان مصدرها الأساسي هو الإنسان وليست الخنازير ’ بل ولم نر أي إجراء فيها يدعو ’’ لإعدام ’’ الخنازير المكسيكية بالطريقة المكسيكية التقليدية ! فيما راح مجلس الشعب المصري وبكل هلع يعلن قرار الإعدام متناسيا بؤس أصحابها . والمشكلة ليست في إعدامها وتجميد اللحوم ولا التعويض وإنما بتوفير العمل فيما بعد لتربية الخنازير وتوليدها وتكاثرها ’ وهذا ما جعل أصوات أصحاب الخنازير ’’ ضحايا ’’ يبكون ويحتجون ضياع ثروتهم سدى ! وصارت حياتهم كابوسا من جراء تلك الأصوات الفزعة الهلعة ولأهداف غير معلنة بحجة الحفاظ على صحة الناس !
صحيفة الايام
10 مايو 2009