كانت التجربة الديمقراطية في الكويت محطة أمل بالنسبة لنا في البحرين وفي بلدان الخليج، وفي السنوات الصعبة التي غابت فيها الحياة النيابية في بلادنا، لطالما نظرنا بغبطة لاستمرار الحياة الديمقراطية في هذا البلد، وبتوق لأن نرى مثيلاً لها في البحرين. والكويت كانت لنا مدرسة وهي تطور تجربتها الديمقراطية خطوة فخطوة نحو آفاق جديدة، وقد حدث ذلك منذ أعوام قليلة، حين نجح الكويتيون في تطوير النظام الانتخابي وإعادة توزيع الدوائر الانتخابية بصورة جذرية لتصبح خمس دوائر كبيرة، متخطية تجربة الدوائر الصغيرة على النحو القائم لدينا في البحرين حالياً. مرة أخرى، فان الكويت في انتخاباتها الأخيرة قدمت لنا درساً جديداً حري بنا أن نتعلم منه في بلادنا، فبفضل هذا النظام الانتخابي الأكثر مرونة وديمقراطية، وبفضل نضج المجتمع الكويتي وتراكم تجربته السياسية، فان الملمح الأساسي الذي ميز الانتخابات الكويتية الأخيرة هو الاختراق النوعي الذي أحدثته النساء بالفوز بمقاعد في مجلس الأمة لأول مرة في تاريخ الكويت، وهو أمر سيحسب للتجربة الديمقراطية الأعرق في منطقة الخليج. لو فازت امرأة واحدة فقط في هذه الانتخابات لنظر للأمر على انه خطوة مهمة في اتجاه كسر احتكار الرجال لمقاعد مجلس الأمة، ونجاح مهم يعبر عن دور المرأة في المجتمع الكويتي، وقدرتها على المنافسة في الانتخابات بعد ما أثبتت قدراتها في المجالات الأخرى: الإدارية والعلمية والأكاديمية.لكن فوز أربع نساء مرة واحدة كان مفاجأة حتى لأكثر الناس تفاؤلاً، وهو يقدم مؤشرات ودلالات اجتماعية في المقام الأول، دون الانتقاص من دلالته السياسية التي تظهر رسوخ واستقرار التجربة الديمقراطية في الكويت، خاصة وأن المرأة الكويتية حرمت طويلاً من حقوقها السياسية. وحتى عندما حزمت الدولة أمرها بتخطي هذه العقبة في عهد الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، فان بعض القوى المحافظة في مجلس النواب وفي المجتمع سعت جاهدة بالأظافر وحتى الأنياب للحيلولة دون أن تقف النساء الكويتيات في طابور المقترعين، ناهيك عن أن يرشحن أنفسهن للانتخابات. لكن للتطور منطقه القوي الذي ليس بوسع أحد منعه إلى ما لانهاية، خاصة في عالم اليوم المفتوح الذي باتت آليات الدمقرطة وتمكين المرأة سياسيا واجتماعيا من ثوابته، ولم يكن بوسع الكويت، وهي البلد المنفتح أساساً ويمتلك تقليدياً تراثاً من التسامح والتنوير، أن تكون بعيدة عن تأثيرات موجات التغيير التي تجتاح العالم. لم توفق المرأة في الانتخابات السابقة، ولكن الأمور تأتي بالتراكم، خاصة مع وجود روح العزيمة والمثابرة التي تسلحت بها النساء الكويتيات وهن يخضن المنافسة الانتخابية ليحققن، في نهاية المطاف، النصر الذي استحققنه بجدارة. فوز النساء الكويتيات الأربع هو نصر للمرأة الكويتية وللكويت كلها، ونصر للمرأة في بلدان الخليج قاطبة، ونصر للممارسة الديمقراطية التي لا يمكن أن تستقيم بدون إشراك المرأة وتمكينها. وليس عبثاً أن العالم كله، بما في ذلك العالم المتحضر، صار ينظر إلى نسبة النساء في الحكومات وفي المجالس المنتخبة كمعيار من معايير التطور السياسي ونضج المجتمع المعني. والمؤمل أن يشكل فوز المرأة في انتخابات الكويت مدخلاً لفوز شقيقاتهن في البحرين في انتخابات 2010 القادمة.
صحيفة الايام
19 مايو 2009
النساء قادمات على الدوام
الخطاب الانتخابي الدعائي العدائي
تمنح ظروف ومناخ الانتخابات المرشح حرية وحصانة أوسع لترويج أفكاره وبرنامجه السياسي، خاصة المرشحين المرتبطين بتوجهات سياسية وينتمون لجمعيات ومنظمات سياسية، سواء كانت تلك التجمعات السياسية المنظمة جماعية أو تعلن نفسها تمويها بأنها مستقلة، وإذا ما كانت مستقلة بصورة تنظيمية، فإنها واحدة في البرنامج والاتجاه الفكري أو الخطاب السياسي أثناء الانتخابات أو قبله وبعده، وهذا ما نراه في مناخ الانتخابات الكويتية، وهي شبيهة بإخوتها البحرينية، مع وجود فوارق دائما كجزء من خصائص أي مجتمع. وتبرز من خلال الحملة الانتخابية حقيقة كل خطاب معلن أو غير معلن للفكر المؤدلج دينيا، على خلاف تلك التوجهات الدينية التقليدية التي عرفها تاريخ المنطقة. ويحاول في الحملة الانتخابية كل مرشح مؤدلج تمرير أفكاره وبرنامجه وتكتيكاته، التي تفصح عن الحقائق التي يحملها ويدعو لها ذلك التيار المؤدلج، هذا أو ذاك، إذ من المهم الإفصاح من خلال البرنامج الانتخابي عما سيعمل المرشح على فعله للشعب ! متى ما نجح بفضل هذا الشعب أو الناخب المؤمن الواعي. وجميعنا يدرك كم هي الشعارات مغوية ومضللة (بالكسر) للناخب المحدود، والمشبع أساسا طوال تلك الفترة بالمناخ الدعوي الديني وبالمحيط الدعائي الخارجي والداخلي لأهداف ونجاحات ذلك التيار (تيارنا الذي سيغير وجه العالم ) هكذا يبدأ الوهم الدائم لخطاب سياسي مستمر ما قبل الحملة الانتخابية وما بعدها وأثنائها. كل تلك المفردات الرنانة والمخادعة تتيح لكل مرشح الفرصة الذهبية ( وبما إن الذهبية حرام ) سنقول الفرصة الفضية، التي تجيز لهم وتتيح بلوغ قبة المجلس النيابي، فهناك سيعلو صوته بما وراء سقف المبنى، وإذا ما قيل له هناك عدسات الأضواء والمقابلات الصحفية أيام الحملة الانتخابية تنتظرك، فإنها بالفعل فرصة ذهبية لتمرير كل ما ينوي فعله التيار المؤدلج دينيا أو حتى غيره من التيارات. والغريب إن التيارات المتعصبة والمعادية للمرأة والحريات المجتمعية، باتوا أكثر من غيرهم يتحدثون أيضا عن حقوق الإنسان والمرأة كجزء مكمل للرجل في دورة الحياة وصيرورتها. وبما إن المناخ الانتخابي يتحفنا بالهزلي والتراجيدي، باعتبار أن التاريخ قائم على تلك الثنائية وان كانت أحيانا تتكرر مرتين إحدى تلك الثنائيات المتناقضة، وهذا ما نجده في ثنائيات، التصويت / المنع أو الحجب ضد المرأة، فمن جهة نادت تلك الأصوات السلفية بدعوة المرأة للتصويت، وهي نفسها من تدعو المرأة والمجتمع برمته بعدم جواز ترشيح المرأة كونه عملا آثما لا يجيزه الشرع. تلك الثنائية العجائبية تعكس صورتها الحقيقية وكأنها أمام مرآة مشروخة إلى نصفين فيجعل من المشهد السياسي الانتخابي اليومي والدعائي ليس إلا خطابا مشروخا في دعائيته ’ ومن جهة أخرى خطابا مشوها وعدائيا يعزل المرأة ويدعوها حسبما يراه حلالا وحراما كالعادة، ومن الجانب الآخر يشكل ذلك الخطاب الانتخابي في جوهره نصا تحريضيا ضد المرأة وحقوقها الدستورية، بل ويتناقض هؤلاء المولعون – عندما يرون حقوق الإنسان تناسبهم ويرفضونها عندما يختلفون ولا تناسبهم – فيتم تجزيء الحقوق والمبادئ المتكاملة وفقا للنص العالمي، فتتعالى أصواتهم التنديدية للمرأة، فيتم تشبيه حالتها الانتخابية، بالإثم !، فيا للجريمة. من هنا ينبغي للمجتمع بكل منظماته المدنية المنادية بحق المرأة المتساوي والكامل دون أي نقصان «وفق الدستور الكويتي ووفق إعلانات مبادئ الحقوق الدولية والتشريعات جميعها، والتي منحت المرأة كل تلك المناسبات والاحتفالات بيومها، كحقوق تم الاتفاق عليها من جميع الدول والمنظمات والهيئات التابعة للأمم المتحدة والكويت عضو فيها» غير أن أصحاب الدعوة السلفية، يمارسون كل الانتهاكات دون أي مراعاة أولا لكون الدستور الكويتي وثيقة على الجميع احترامها طالما اتفق الجميع على نصوصه، ومن الجانب الأخر احترام الوثائق والتشريعات الدولية التي تدعو لمنح المرأة كامل حقوقها ولا يجوز انتهاكها، فهي في عمق مضمونها العدائي تدعو للكراهية والتحريض. ولهذا على جميع المنظمات الحقوقية وغيرها، بعد الانتهاء من الانتخابات رفع دعاوى في محاكم الكويت تقاضي كل من حرَض على الموقف العدائي، وان تنقل تلك الانتهاكات للمحاكم الدولية المعنية بتلك الحالات، والاتصال بكل منظمات حقوق الإنسان العالمية لكي تساهم بالدفع لمحاكمة مثل تلك الخطابات العدائية للمرأة، فهي في جوهرها لا تختلف إطلاقا عن أنواع معينة من العنف المجتمعي المتنوع ضد المرأة وحقوقها. وإذا ما أهمل الكويتيون وخاصة النساء حقوقهن، فان مثل تلك الخطابات المعادية لها ستستمر وان كان بخطابات متلونة ومتعددة ولكنها ليست إلا صوتا واحدا منسجما مع معدنها المعادي – والمطلق – لحقوق المرأة المتساوي في الترشح والتصويت في عصر يدعو لحقوق الإنسان.
صحيفة الايام
19 مايو 2009
خليل زينل لـ ” الوطن “الفصل سيستمر وإن حققت البنوك أرباحاً .. أعــداد كبيرة مـن المصــرفيين علـى قـائمـة انتظار التسريح
أكد رئيس نقابة المصرفين خليل زينل وجود أعداد كبيرة من الموظفين في القطاع المصرفي على قائمة انتظار الاستغناء. وخصوصاً في البنوك الاستثمارية التقليدية .
واعتبر زينل أن البنوك تنتظر الوقت المناسب للشروع في الفصل، حتى وإن حققت أرباحاً. رافضاً تحديد نسب معينة لاختلاف أوضاع البنوك المالية .
وانتقد زينل سياسة ترشيد المؤسسات المالية التي تستهدف صغار الموظفين البحرينيين دون المساس بالأجانب وأوضح في أول حوار له بعد الأزمة المالية لـ’الوطن’، تبتكر المؤسسات طرقاً للاستغناء عن الموظفين منها الفصل، والتقاعد المبكر، وترك المناصب شاغرة، كما تعمل بعضها على تقليص الرواتب والنيل من امتيازات العاملين، نافياً في الوقت ذاته أن يكون تقلص العمل سبباً في الفصل. داعياً إلى تدوير الموظف إلى الإدارات التي يزداد العمل فيها، ومتوقعاً أن يتراجع التوظيف في القطاع 10٪ بسبب الأزمة .
وتخوف زينل من ضياع حقوق الموظفين وامتيازاتهم بسبب الاندماجات والاستحواذات. لافتاً إلى أنه لا يحق لمؤسسة حققت ربحاً حرمان الموظف من ‘ البونس’. مشيراً إلى أن للموظف المطالبة الرسمية به .
ولفت زينل إلى أن رغبة الاقتراض لدى المستهلك تراجعت بسبب الأزمة، والتبعات التي يخلفها القرض. متوقعاً استمرار التراجع 10٪ في الفترة المقبلة .
حاوره – إيهاب أحمد
” الوطن ” : كيف أسست نقابة المصرفيين؟
زينل : جرت محاولات عديدة لتشكيل إطار قانوني يخدم القطاع المصرفي خصوصاً فبفترة السبعينات، حيث نشط العاملون في أحد البنوك التجارية لإنشاء نقابة للدفاع عن حقوقهم، إلا أن هذا المشروع لم يكتب له النجاح، وجرت محاولات أخرى مطلع التسعينات، ولم يصادفها النجاح أيضاً .
وكانت النواة الأولى لتأسيس جمعية العاملين في القطاع المصرفي جهة مهنية وليست نقابية تعمل تحت مظلة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية -وزارة التنمية الاجتماعية حالياً- حتى صدر المرسوم الملكي رقم 33 في ,2002 وغير اسمها إلى نقابة المصرفيين. وعقد الاجتماع التأسيسي الأول في .2003 وبذلك تكون هذه هي الدورة الثالثة للنقابة – كل سنتين .
” الوطن ” : كم عدد أعضاء النقابة حالياً؟
زينل : المنتسبون للنقابة قرابة 500 موظف يشملون العاملين في جميع المصارف والمؤسسات الخدمية، إضافة إلى إمكانية دخول من يريد يدخل تحت مظلة مصرف البحرين المركزي، كالعاملين في مجال الصرافة، باستثناء أصحاب المناصب القيادية الذين ينتمون لجمعية المصرفيين، والعاملين في قطاع التأمين الذين ينضوون تحت جمعية التأمين، ويشكلون10٪ من العاملين في القطاع، والبالغ عددهم قرابة 14 ألف موظف، بحسب آخر مسح لمصرف البحرين المركزي .
النقابة تحمي حقوق العاملين
” الوطن “: ما الفرق بين عمل النقابة وجمعية المصرفيين؟
زينل : نقابة المصرفيين جهة شبه إدارية تضم كل مستخدم من غير راسمي سياسات البنوك، وتهدف إلى حماية حقوق العاملين، وتطوير قدراتهم المهنية، إضافة إلى بناء جسور التواصل مع إدارات البنوك، ووزارة العمل، والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، ومؤسسات المجتمع المدني، والجهات الرسمية لحفظ حقوق الموظفين .
أما جمعية المصرفيين فهي جهة مهنية تمثل رؤساء مجلس الإدارات أو من ينوب عنهم في البنوك العاملة بالمملكة، وأسست في 1979 وتضم في عضويتها 94 بنكاً، وتهتم بمصالح البنوك وبالسياسة والأنظمة المصرفية والاستثمارات، وبعض القضايا الاقتصادية ذات الصلة بالبنوك فيما يخص مصالح إدارات البنوك دون الاهتمام بحقوق الموظفين .
” الوطن “: ما خططكم لتقوية دور النقابة؟
زينل : من الأمور على نركز عليها في خطتنا لتقوية دور النقابة القيام بزيارات رسمية لتجديد العلاقة والتعريف بالنقابة، ويشمل برنامج الزيارات القيادات السياسية، ومصرف البحرين المركزي، وبعض إدارات البنوك، لإعادة الصلة بها، ولإزالة حالة التهميش التي نعاني منها، كما إن لدينا برامج للتوعية وتثقيف الموظفين في القطاع .
” الوطن “: ما قراءتكم للأزمة المالية؟
زينل : تعتبر هذه الأزمة هي الأقوى عالمياً، فأزمة عام 1929 والتي استمرت حتى 1934 ساهمت في حدتها الحرب العالمية، أما هذه الأزمة فأخذت تجليات مالية واقتصادية وحقوقية واجتماعية حين ضربت قلب النظام الاقتصادي العالمي في امريكا ‘وول ستريت’ وأدت لاختفاء شركات في ساعات .
ونتجت هذه الأزمة هي ترسبات المفاهيم السابقة الخاطئة للعمل الخاص، الذي عمل دون ضوابط أو قيود منذ أن رسخ النظام الرأسمالي، وترك المجال للاستثمار والمستثمرين، وبدأت الترهلات في الأسواق العالمية، لتعود الدول العظمى لتقييد حرية القطاع الخاص بتأميم بعض الشركات .
الموظف أول المستهدفين
” الوطن” : كيف تقيّمون معالجة المؤسسات لتبعات الأزمة؟
زينل : طريقة تعامل المؤسسات مع الأزمة مهمة جداً كي لا تؤثر على أداء المؤسسة، ولا أعرف لماذا يصبح البند الوحيد لترشيد الإنفاق هو الرواتب والموظفون، رغم وجود أمور أخرى يمكن ترشيدها بشكل كبير، ولماذا صغار الموظفين هم الضحايا ولا ‘ترشيق’ ولا ترشيد في أجور التنفيذيين. وينبغي أن يكون الترشيد في جميع النفقات، وآخرها بند الأجور والرواتب بعد النظر في رواتب التنفيذيين راسمي السياسات، المسؤولين عن الأزمات، ولا نلقي باللوم على المسؤولين، فالأزمة فوق قدرات الجميع، رغم أن جزءاً منها يتحمله القائمون على البنوك، فالأزمة أضرت بمنتج واحد من منتجات البنوك، ما يعني أنها كانت تفتقر للموازنة،وأن هذه المخاطر قديمة وكان يجب الانتباه لها، ووضع ضوابط للتعامل معها، ثم لماذا لا تأخذ من الاحتياطي لتوفر رواتب الموظفين بدلاً من فصلهم .
” الوطن “: ما انعكاسات الأزمة على العاملين في القطاع؟
زينل : تسببت الأزمة في تسريح 47 شخصاً في بعض البنوك، حيث سرح بنك ادكس 19 موظفاً، فيما استغنى انفرست كورب عن 28 موظفاً منهم 13 بحرينياً .
” الوطن “: ماذا عن آخر مفاوضات النقابة بخصوص التسريح؟
زينل : نتفاوض مع بنك استثماري تقليدي يتخذ من البحرين مقراً ويريد الاستغناء عن قرابة 100 موظف في وحداته الخارجية، وهو ما أوجد قلقاً لديهم، بسبب مخاطبة المسؤولين إياهم بشكل غير رسمي .
” الوطن “: هل تتوقعون استمرار الفصل؟
زينل : لم ينته مسلسل الفصل بعد، فهناك أعداد كبيرة على قائمة الانتظار، وبعض البنوك تسعى لإقالة موظفيها، إلا أنها تنتظر الوقت المناسب، لذلك نحن على صلة مع موظفي البنوك، حيث شكلنا لجاناً نقابية مصغرة في معظم البنوك تتكون من خمسة أفراد كحد أقصى، لتكون حلقة الوصل بين إدارة النقابة والبنك .
” الوطن “: ما النسبة المتوقعة للفصل في هذه الفترة؟
زينل : يصعب تحديد نسبة للفصل بسبب اختلاف أوضاع البنوك المالية، وسيستمر هذا المسلسل حتى لو حققت المؤسسات أرباحاً في الفترة المقبلة، وستظهر هذه العمليات بوضوح متى أظهر أي بنك تعثره .
” الوطن “: أي البنوك من المتوقع أن تظهر فيها نسبة الفصل أكبر؟
زينل : لعل أقل البنوك حظاً من الفصل البنوك التجارية التي تتعامل مع الأفراد في حين أن النسبة الأكبر ستكون في البنوك الاستثمارية. وخصوصاً التقليدية، وأكثر الموظفين المرشحين للفصل العاملين في الوحدات الخارجية التي تتعامل مع الأسواق العالمية. ما يجعل إلغاء الوحدة أو تقليص عدد العاملين فيها أمر وارد .
” الوطن “: هل يفقد القطاع المصرفي بريقه بسبب الأزمة؟
زينل : لم يعد القطاع المصرفي بنفس القوة التي كان عليها منذ عقد، حيث قلت امتيازاته ليصبح قطاع البرمجيات والعقارات الأكثر بريقاً. وأصبحت البنوك في المرتبة الثالثة من حيث مستوى الأجور .
ا
لبنــوك وطــرق للتخلص من موظفيها
” الوطن “: هل هناك طرق أخرى غير الفصل المباشر لتقليص العمالة؟
زينل : نعم، هناك طرق أخرى للاستغناء عن العمالة فبعض البنوك تسرح موظفيها بطريقة غير مرئية ودون وجود مخالفات قانونية، وتتحايل لتخرج العامل بأقل المكاسب. ومن صور التسريح أنه عند استقالة موظف من المؤسسة التي يعمل بها لا يتم توظيف بديل .
ورصدت النقابة منذ فترة وجيزة نوعاً آخر من الفصل. حيث قامت مؤسسة مالية إسلامية بتخيير موظفيها بين خفض الراتب بنسبة وصلت إلى 40٪ أو التسريح. وتم التوافق بين المؤسسة والموظفين على تقليص الراتب .
وهناك شكل آخر للفصل هو التقاعد المبكر، وهو الأكثر استخداماً حيث تقدم حزمة من المنافع والمزايا بحيث لا تتعارض مع القانون لإغراء الموظف بالتقاعد .
” الوطن “: ما وجه اعتراضكم على التراضي بين الجهتين؟
زينل : نعترض على تقليص الراتب الذي يتم على مضض من الموظف، لأن أي توافق على أمر كهذا، يجب أن يتمتع فيه الطرفان بنفس القوة التفاوضية، وأن تكون المفاوضات جماعية بين أطراف الإنتاج، بوجود النقابة التي تقوم بحفظ حق العامل، كما هو معمول به في الدول الأوربية. ويجب أن تكون هذه التسوية بتراض قانوني عبر توثيق هذه الاتفاقيات، وليس من موقع القوة، وإرهاب الموظف الذي لا يستطيع أن يذهب لوزارة العمل خوفاً من عواقب الأمر. وتخشى النقابة أن ينتشر هذا الأمر ليصبح عرفاً لدى المؤسسات المالية .
ثم لماذا يكون الخيار الأول والوحيد هو تقليل رواتب الموظفين، دون النظر في المصاريف الأخرى التي يمكن أن تقلص، لذلك ينبغي أن يوجد في مثل هذه المفاوضات محللون محايدون، ينظرون في القوائم المالية للمؤسسة، ويبحثون عن الخيارات التي سيكون آخرها المساس بحقوق الموظف .
” الوطن “: هل تعتبرون عدم تعيين بديل للموظف نوعاً من التسريح؟
زينل : ما يقال عن تقليص حجم الوظائف أمر غير صحيح، فانخفاض عدد الموظفين في إدارة ما، يرفع عددهم في أخرى، كأن يتقلص في الخزينة ويرتفع في التحصيل نتيجة التعثر في السداد .
ثم الموظف غير مسؤول عن برامج وخطط واستراتيجيات البنك التي أخطأت في تقديرات حجم الأزمة المالية، ولماذا يتحمل تبعة قرار هو غير مسؤول عنه، فمجلس الإدارة قرر توسيع قاعدة الموظفين، والموظف لم يقصر في عمله، فلماذا يكون أول الضحايا .
البحريني لقمة سائغة
” الوطن “: هل يصبح البحريني لقمة سهلة للفصل؟
زينل : في الحقيقة إن الواقع يجعل الاستغناء عن البحريني أمراً سهلاً مقارنة بالأجنبي، رغم أن الترتيب في الاستغناء ينبغي أن يبدأ بالأجنبي فالعربي ثم البحريني. وتحتفظ المؤسسات بالأجنبي مع أن راتبه أضعاف راتب المواطن بل قد يصل مجموع رواتب موظفين بحرينيين لراتب مسؤول أجنبي واحد .
وترجع صعوبة فصل الأجنبي (غير العربي) والأوروبي خصوصاً إلى وضعه القانوني، حيث يبرم اتفاقات في بلده تضمن له حقه حال الاستغناء عنه. إضافة إلى الدعم الذي تقدمه سفارته، كالاستشارات القانونية. أما العامل الآسيوي فيسهل الاستغناء عنه، إذ يتنازل عن حقوقه عند إغرائه ببعض الأمور. في حين أن البحريني لن تكون له قوة الموظف الأجنبي، ولن يجد من يفاوض عنه، ويدافع عن حقوقه بنفس القوة التي تدافع بها حكومة الأجنبي عنه، لذلك أدعو الجهات المسؤولة إلى تفعيل تحفظهم بعدم المساس بالأمن الوظيفي للبحريني، والمؤسسات إلى تفعيل سياسة تدوير الموظف بدلاً من الاستغناء .
ولما للفصل من انعكاسات خطيرة على المجتمع تنعكس من مجرد بعد وظفي إلى اجتماعي، وتسعى وزارة العمل للحفاظ على بقاء الموظف البحريني في عمله .
” الوطن “: هل هناك أثر لعمليات الاندماجات على الموظفين؟
زينل : يؤثر الاندماج والاستحواذ على وضع الموظفين في بعض الأحيان، حيث يحرمون من بعض المزايا التي تتفاوت من مؤسسة لأخرى، مثل الإجازات التي تختلف بين المؤسسات. رغم أن القانون نص على أنها 21 يوماً إلا أنها تصل في بعض الأحيان إلى 30 يوماً. وغيرها من الامتيازات المادية والمعنوية، ورغم أن القانون لا يسمح بحرمان الموظف من امتيازاته على اعتبار أنها حقوق مكتسبة، لذا ينبغي أن يحفظ حق الموظف في الامتياز عند الدمج. إلا أن الموظف يضطر للتنازل عن امتيازاته مقابل استمراره في عمله .
البونس حق مكتسب
” الوطن “: هل يحق للمؤسسة حرمان الموظف من البونس بسبب الخسائر؟
زينل : منح الموظف ‘ البونس’ هو عرف معمول به، ومتى تقاضى الموظف هذا الحق 3 مرات يصبح حقاً مكتسباً له المطالبة به قانوناً، متى أثبت رسمياً حصوله عليه، إلا في حال خسارة المؤسسة .
ويعد البونس مكافأة مربوطة بأداء العامل، وكلما زاد العمل ارتفع مقدار المكافأة. ولا ننسى أن لهذه المكافآت أثر نفسي على أداء الموظف، حيث يبذل قصارى جهده لخدمة المؤسسة، ما ينعكس إيجاباً على أرباح البنك .
10٪ تراجع العاملين والإقراض
” الوطن “: هل سينخفض مستوى التوظيف في قطاع البنوك؟
زينل : بطبيعة الحال فإن التوظيف في قطاع البنوك سيتراجع في أحسن تقدير 10٪ لأسباب منها: انكماش النشاطات الاقتصادية بسبب الأزمة. ومحاولات تقليص العاملين في القطاع. وستقود عملية الاندماج واستخدام التكنولوجيا إلى تقليل عدد العاملين ما سيخفض متوسط الأجور، وعموماً إذا نظرنا لحركة التوظيف هذا العام نجدها قليلة، مقارنة بخمس سنوات مضت، حيث كان معدل التوظيف 1000 فرد سنوياً .
” الوطن “: هل تلغي الأزمة تدريب الكوادر البشرية؟
زينل : يلزم قانون العمل المؤسسات بتدريب موظفيها، وتطوير قدراتهم المهنية، لذلك لا تستطيع أي جهة إلغاء التدريب. ولكن تقليص حجمه فقط .
” الوطن “: كيف أثرت الأزمة على الإقراض؟
زينل : لا شك أن وجود أزمة مالية سيتسبب في تعثر سداد القروض وإيجاد أزمة أخرى في عملية الإقراض. ومتى بنيت عملية الإقراض على أسس غير صحيحة، فإنها ستتعثر-كما كان يحدث في السابق- من رفع مدة الإقراض، واحتساب العلاوات في الراتب الأساسي، حتى أصبح عرفاً معمولاً به في بعض المؤسسات .
كما أدت الأزمة إلى صعوبة الإجراءات في القروض الشخصية والتجارية. كما إن رغبة الاقتراض لدى المستهلك تراجعت، لما يشكله من ثقل على ميزانية المستهلك، وأصبح لجوؤه للقروض الشخصية لحاجياته الملحة كما عزف صغار المستثمرين عن القروض الاستثمارية، نتيجة لتراجع أسعار العقارات. وأتوقع أن تتراجع عملية الإقراض 10٪، كما إنه كلما زادت نسبة التسريح زاد التعثر في سداد القروض
الوطن 18 مايو2009
“الهولة” بين الإنجازات وعذابات التجنيس
لعل فئة الهولة العربية الخليجية من أكثر الفئات التي عانت بين جذورها وموطنها الأول في فارس وبين انتقالها للمنطقة العربية، على مدى قرون سابقة، فتم التشكك والعزل والقمع لها في موطنها الأول وتم ازدراءها وجعلها في مكانة أدنى وحرمانها من التجنيس سنوات طويلة، في موطنها الجديد.
نتذكر في سنوات سابقة كيف كان هؤلاء الفقراء يُعاملون بقسوةٍ في الأزقة الشعبية، خاصة أصحاب المهن الدنيا، ويُنظر لهم باحتقار، فتــُطلق عليهم ألفاظ تحقيرية مشينة، كأنهم جنس أدنى، ودائماً تتشكلُ الهوة التي يقع فيها هؤلاء مهما حاولوا أن ينتموا إلى المجتمع، فهم دائماً مشكوك فيهم، وأقل إنسانية من غيرهم، سواء واصلوا تقاليدهم الخاصة وألبستهم غير المختلفة مع أهل المنطقة الصحراوية، أو سايروا المجتمع الذي يعيشون فيه تمام المسايرة.
وتغدو ازدواجيتهم بين جذورهم الفارسية التي استفادوا منها معرفة بعض اللهجات الفارسية أو حتى اللغة الفارسية نفسها، وقاموا يتحدثون بها في بيوتهم، وبين حضورهم العربي واتقانهم اللغة العربية، موضع ازدراء كذلك، كأن عليهم أن ينسلخوا تماماً من جذورهم، ويعلنوا مقاطعة أمكنة أجدادهم وتقاليدهم وذكرياتهم.
ويؤدي هذا من ضمن ما يؤديه إلى عدم الاستفادة من هذا التنوع لفئة اغتنت تجربتها بين قوميتين ولغتين عريقتين. ويعبر ذلك أيضاً عن هذه العامية التعصبية المحدودة الوعي والتأثير في المستقبل، ولكنها توسع الفشل واليأس والتخلف في الحاضر.
ورغم كل هذه الصعوبات فإن هذه الفئة لم تسقط في عالم الفشل والتطرف، والتدني الاجتماعي، بل واصلت الصعود في عالم التمايز المذهبي وعالم العداء القومي، وفي عالم الحياة الحقيقية العملية الصعبة، فكثر البارزون والمتفوقون منها في جوانب كثيرة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بنسبة تفوق نسب الفئات السكانية الأخرى تبعاً لأعدادها.
وهذا التفوق غريب لأنه يُفترض بعد كل هذه الصعوبات الجغرافية والأمراض الاجتماعية أن تنهار ويعمها اليأس وتنتشر بينها حالاتُ السقوط والفشل. وهو أمرٌ لم يُدرسْ في الابحاث الاجتماعية، ولكنني أراه مشابهاً لحال العرب من الأصل الفارسي في صدر الدولة العباسية، حيث نبغ هؤلاء في شتى ميادين المعرفة، وأثروا الثقافة العربية أكثر من العرب.
فهم لا يعطون المال بوفرة منذ صغرهم ولا يُدللون بل ينغمرون ويشقون طرقهم في الحياة بعملهم، فتكثر المواهب وتتوجه لما هو أكبر.
وهو جانبٌ يعود كذلك للأصول الاجتماعية لهؤلاء الذين شقوا صفوفهم وسط الفئات الوسطى الصغيرة، كالخياطين والتجار الصغار والطواشين والموظفين، وإن كان من بينهم جماعة فقيرة ظلتْ تعمل بأيديها من دون تطور، في حين شقت الفئة المتوسطة دروبها نحو الارتقاء فأصبحت مع الطفرة النفطية في مواقع متقدمة من الاقتصاد وإدارة الأعمال.
ورغم الخدمات التي قامتْ بها هذه الفئة وتوجهها للأعمال البناءة وخدمة البلد على مدى هذه العقود، ومن خلال الأفكار الإصلاحية غالباً، فإن بعضَ أفرادِها لم يحصلْ على الجنسية البحرينية إلا بعد طلوع الروح، وبعد عذابات سنين طويلة، احتاج فيها إلى هذه الوثيقة لأعمال ضرورية، لكن عدم وجودها أعاقه عن تلك الأعمال، ولعله تسبب في ضيق العيش وعدم الرقي الاجتماعي.
لا شك أن ثمة أناساً من هذه الفئة مازالوا يعانون غياب وثيقة الجنسية هذه، رغم أنهم تجذروا في هذا المجتمع، وربما كانت حالات فردية أو جماعية، ولكن وجودها النادر منها يعتبر غريباً مذهلاً وغبناً فادحاً، خاصة في هذا الوقت الذي أُعطيت فيه الجنسية لفئات واسعة غير متجذرة في هذا المجتمع ولا تعرف تقاليده، وربما أدى هذا إلى خلل بينها وبين بقية المواطنين، لأن المواطنة تاريخٌ وتجربة طويلة وانتماء عميق.
وإذا خرجنا من هذا النطاق الوطني، إلى الخلل التاريخي الذي تسببت فيه علاقات التوتر بين الجانبين العربي والإيراني والذي انعكس على ملايين من البشر بين ضفتي الخليج فهو أيضاً يبعث على الانزعاج وخيبة الأمل، فمنطقة فارس فيها قوى سكانية كبيرة، تقدرها المصادر الإيرانية الرسمية بأربعمائة ألف إنسان يسكنون فيها، ويقدرها آخرون بشكل أكبر بكثير، ومع ذلك فالعلاقات منقطعة، وهناك شبه عتمة كبيرة على هذه المنطقة، رغم الروابط الأهلية والثقافية التي تشكلت عبر العصور.
وفي الوقت الذي تـُقام فيه العلاقات مع دولٍ بعيدةٍ فإن جمهوراً من المواطنين في دول الخليج العربية يفتقد العلاقة مع جذوره، وأهله، فلا يجرى تبادل ثقافي أو تقام جمعيات أو علاقات.
لا شك أن العلاقات السياسية المتوترة لعبت دوراً في تعطيل الجسور الإنسانية بين المنطقتين، وحدث خوفٌ من تبادل المعرفة والصلات، والذاهب إلى هناك كأنه ذاهب لمحيط من العتمة والظلام، والقادم إلى هنا محفوف بالأسئلة والكشافات.
حتى الجوانب الثقافية كترجمة الأدب والسياحة توارت في الظل، وغدت محجورة أو مشكوكاً في أمرها.
ولكن الأكثر من كل ذلك هو هذا التحسس لفئة من المواطنين وكان هذا التحسس مرضياً بشكل كبير في الماضي ولاتزال آثاره تسحب ذيولها على الوقت الراهن.
صحيفة اخبار الخليج
18 مايو 2009
مؤتمر «التقدمي» ومضادات الأزمات
مئتان بالضبط من بين أكثر من خمسمئة من أعضاء المنبر الديمقراطي التقدمي اجتمعوا يوم الجمعة 15 مايو/ أيار في مؤتمرهم العام الخامس في القاعة الرئيسة لجمعية المهندسين البحرينية. من بين مؤتمرات التقدمي كان الخامس أفضلها من حيث التحضير والتنظيم والتركيز في المناقشات وحسن استغلال الوقت، وحتى في خدمة الضيوف والأعضاء. أما من حيث تناوله لمختلف قضايا الشعب والحزب فقد اعتاد المنبر حتى في أكثر ظروفه حرجا أن يخرج في كل مرة بوثائق مهمة تضيء الطريق أمام المنبريين وأصدقائهم وغيرهم ممن أراد الاستفادة منها، وتسقط حججا من أيدي حملة الحلول الالتفافية.
هذه المرة توافر شرطان مهمان أعطيا لنتائج المؤتمر أهمية بالغة. من الداخل جسد المؤتمر بحق وحدة الفكر والصف والهدف بين جميع أعضاء المؤتمر، حتى وإن اختلفت اجتهاداتهم وحمى وطيس الجدل بينهم بشأن هذه أو تلك من القضايا. وهذا ما جعله يركز بطاقة أكبر على ما حوله من قضايا المجتمع. أما من حوله فقد تميز الوضع بظروف الأزمة بوجهيها السياسي والاقتصادي. وحيالهما ناقش المؤتمر قبل وأثناء انعقاده وأقر وثيقتين مهمتين الأولى سياسية والأخرى اقتصادية تطرحان ما يمكن وصفه بحق بمضادات الأزمات.
بتجربته الذاتية شكل المنبر التقدمي مختبرا صغيرا لفعل سحر الحوار وما أنتجه من إعادة اللحمة والتآلف الرفاقي بين أعضائه بعد أن كادت تعصف بهم خلافاتهم الداخلية يوما. وكالطبيب الذي جرب الدواء على نفسه أبلى الأمين العام للمنبر الدكتور حسن مدن ومسؤوله الإعلامي المناضل فاضل الحليبي وغيرهما من قادة وكوادر المنبر طيلة الأشهر الأخيرة قبل المؤتمر الخامس بلاء حسنا في نشر مضاد الأزمة السياسية في المجتمع. وكان التقدمي قد أطلق مضاد الأزمة السياسية يوم أعلن مبادرته للحوار الوطني التي حظيت بتبني أو تأييد معظم القوى السياسية، وبدعم أو تفهم بعضها. وأصبح ملخص الوضع حولها اليوم هو أن كثيرا من مظاهر الحوار الوطني الشامل صارت طافية على السطح، إلا أن الحوار ذاته غير موجود. والسبب هو محاولة حصره بين أروقة المجلسين من جهة، ومن الأخرى غياب طرفيه المباشرين.
لقد بدأت وثيقة المؤتمر السياسية تأخذ مكانها البارز في الصحافة المحلية وفي تناول الكتاب لها بالتحليل. لكننا سنسلط الضوء هنا على الوثيقة الاقتصادية التي توازي أختها أهمية. فبهذه الوثيقة أطلق المنبر التقدمي دعوته لبرنامج مضاد لأزمة الاقتصاد الوطني كانعكاس للأزمة المالية الاقتصادية العالمية على أرضية تفاقم اختلال توازن البنى الاقتصادية الداخلية.
من أهم المشاكل التي يواجهها الباحثون عن حلول ناجعة هو، كما تشير الوثيقة، أنه «لا أحد يعرف بالضبط حجم الأزمة الحقيقي لدينا لأن الوصول إلى المعلومة الصحيحة عن واقع الحال متعذر، بما في ذلك لمن يريد دراسة العمليات الاقتصادية الجارية بشكل احترافي»، حيث إن المعلومة تُقدَم من قبل المسؤولين «مشفرة بلغة الدبلوماسية والتفاؤلية المفرطة وسط دخان بخور يطلق لطرد الشياطين وجذب المستثمرين، لكنه يعمي عن رؤية الواقع». وعليه ركزت نقاشات ودعوات المنبر على ضرورة إتاحة الوصول إلى المعلومة الاقتصادية كحق من حقوق الإنسان والمجتمع. فلا نشاط علمي حقيقي مع غياب المعلومات الحقيقية. ذلك خصوصا لأن النظام السابق للروابط الاقتصادية في المجتمع لم يعد يعمل كما كان قبل الأزمة، وأن آليات غريبة ومستجدة تشق طريقها وتحتاج إلى دراسة معمقة. مثل هذا الوضع يضطر المسؤولين ورجال الأعمال، وإن خلصت نواياهم، إلى اتخاذ قرارات ‘عمياء’ تعتمد على الحدس والخبرة الذاتية فتنعكس سلبا على العاملين والمؤسسات والاقتصاد الوطني.
وتؤكد الوثيقة على أن الجذر الاجتماعي الاقتصادي لظاهرة فقاعة المال متزامن تاريخيا في الاقتصاد الأميركي والغربي وفي اقتصادنا الوطني. ففي تزامن مع الريغانية والتاتشرية التي أطلقت العنان لسلطان أسواق المال وابتكارات المشتقات وجعلت من الخصخصة وسيلة فعالة لإعادة اقتسام المال العام لصالح القوى المتنفذة، جرى في البحرين التراجع عن نهج الستينات – السبعينات الذي شهد قيام عدد من الصناعات المتوسطة والخفيفة وجرى مقابله تعظيم دور قطاعات المال والعقار والخدمات المختلفة على حساب الإنتاج. كما أمعن في عمليات الخصخصة انحيازا لمصالح قوى اجتماعية على حساب المجتمع. من هناك انطلقت التنمية المشوهة التي تشكل اليوم الحاضنة الرئيسة لاستقبال الأزمة العالمية وإعادة إنتاجها بخصائص محلية مضاعفة، وعلى عدة جبهات دفعة واحدة : «انخفاض أسعار النفط، انخفاض أسعار الألمنيوم، تآكل سعر الدينار المرتبط بالدولار، ضيق سوق العمل، تفاقم أزمة الديون، تقلص حجم الاحتياطي العام، تآكل قيمة الاستثمارات والودائع الخارجية، تضرر استثمارات أموال التقاعد والتأمينات الاجتماعية، انسحاب مصادر التمويل الخارجية من السوق المحلية، تراجع قيم العقارات والممتلكات غير المنقولة، تأثر الصناعات المحلية، تراجع النشاط التجاري.. وغيرها». وقد انعكس ذلك على تراجع معدلات النمو، وتباطؤ إنجاز المشروعات، خصوصا الخدمية، والتوقف عن بعضها، وفي انتقال موجة تسريح الأجانب من العمل إلى تسريح أعداد متزايدة من المواطنين وتجميد الأجور وتوقف كثير من الامتيازات السابقة وكثرة حالات التأخر عن دفع الرواتب والأجور في مواعيدها المعتادة وفي تفاقم قضايا الديون، وخصوصا القروض الشخصية والتي تحذر الوثيقة من تحولها إلى مشكلة اقتصادية واجتماعية خطيرة عندما قد تسود حالة عجز عن السداد.
وفي وسط الحالة الشديدة الوطأة ترى الوثيقة الاقتصادية للتقدمي فرصة تاريخية تدعو المسؤولين إلى التقاطها. فخيار التعامل مع الأزمة لا يجب أن يكون عن طريق المسكنات التي قد تؤجل آثارها إلى حين، بل بالمضادات التي تتيح التغلب عليها بتجاوزها. وهنا تدعو الوثيقة إلى ضرورة توجه رؤية التنمية 2030 إلى التركيز جديا على إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس التوازن والتكامل العضوي فيما بين القطاعات مع تغليب الإنتاجية منها. كما تدعو إلى التخلي عن أوجه الإنفاق المفرط على التسلح والنواحي الأمنية.
ومن بين سبل المعالجة بمضادات الأزمة دعى المنبر التقدمي إلى الاعتراف بجرأة وصراحة بأن القسم الأعظم من الديون، وبالتالي الفوائد عليها، مقارنة بقيمة الأصول التي تقابلها اليوم يشكل في الحقيقة جزءا مهما من فقاعة المال التي ولدها وحفزها النظام المصرفي ذاته دون أن تقابلها ثروة مادية حقيقية في الاقتصاد الفعلي. واعتبر أن النظام المصرفي والدولة الراعية له هما المتسببان الأساسيان في المشكلة، وهما أول من يجب أن يتحمل تبعاتها قبل المقترضين، وخصوصا صغارهم.
أما بالنسبة للنظام المالي والمصرفي والنقدي فقد دعا إلى إصلاح جذري حقيقي «يؤدي إلى إزاحة ‘الزبد’ من فوق المال والاقتصاد الوطني وإعادتهما إلى حجمهما الحقيقيين، والتعامل». ودعا إلى الاقتداء بالاتجاه العالمي بعد اندلاع الأزمة بتشديد الرقابة على المصارف وفرض مزيد من الضرائب على دخولها. كما دعت الوثيقة إلى ضرورة التفكير في التخلي عن نظام الضرائب الموحدة غير المباشرة والتوجه نحو نظام ضريبي قائم على مبدأ العدالة الاجتماعية «ويتجه إلى امتصاص من الدخول الفائضة لدى الأقلية لصالح غالبية المجتمع». ومن بين الإجراءات المضادة للأزمة دعا التقدمي إلى تسريع عملية الوحدة النقدية الخليجية متزامنة مع تحرير ارتباطها بالدولار الأميركي.
صحيفة الوقت
18 مايو 2009
أي إصلاح هذا إذن؟
كلنا يتذكر كيف تصدرت فجأة قضية ما تُسمى بالجنات الضريبية (Tax heavens) المداولات الدولية المتعلقة بالتصدي للأزمة المالية العالمية، حيث نجح القضاء الأمريكي في إجبار بنك ‘يو بي اس’ السويسري على تجاوز نظام السرية المصرفية ‘المحصن’ في سويسرا من خلال اتفاق يقدم البنك بموجبه معلومات عن 250 إلى 300 عميل أمريكي لديه في سابقة لم تحدث من قبل، وكيف تلى ذلك الاتفاق رفع دعوى من جانب وزارة العدل الأمريكية تطالب البنك السويسري نفسه بتسليمها معلومات عن 52 ألف حساب سري قيمتها 15 بليون دولار قالت مصلحة الضرائب الأمريكية إنها تعود إلى أمريكيين. وعلى إثرها طالب الاتحاد الأوروبي سويسرا بمعاملة الطلبات الأوروبية برفع السرية المصرفية بالطريقة ذاتها لطلبات واشنطن، وفي حال لم تمتثل سويسرا لذلك فإن الاتحاد الأوروبي هدد بوضعها على لائحة سوداء تقدم إلى قمة العشرين الثانية التي عقدت في لندن أوائل شهر أبريل الماضي تتضمن بلدان الملاذات الضريبية ومناطقها، فكان أن أغضب ذلك عديد الدول مثل لوكسمبورج والصين (التي تدافع في هذه الحالة عن مكاو وهونج كونج) وكذلك سويسرا وغيرها من المراكز المالية العالمية التي توفر ملاذات لودائع أثرياء العالم، كبارهم وصغارهم بتسهيلات ضريبية مغرية. ونجح المعترضون فعلاً في إثناء قادة قمة العشرين الثانية عن ذكر أسماء الدول التي توفر ملاذات آمنة لرؤوس الأموال المتهربة ضريبياً أو المشكوك في أمرها، حيث تمت الإشارة في البيان الختامي للقمة إلى هذه القائمة السوداء ولكن من دون ذكر أسماء الدول. وإذا كانت سويسرا ولوكسمبورج وليختنشتاين والصين، وغيرها من المراكز المالية العالمية التي توفر ملاذات آمنة للأموال المتهربة من الضرائب في بلدانها أو المبيضة من أنشطة غير قانونية، قد اعترضت على المساعي الدولية الرامية لوضع حد لهذه الظاهرة التي ساهمت بقسطها في فوضى اقتصاد السوق التي تكللت بالآزمة المالية والاقتصادية العالمية التي لازالت تحكم خناقها على الاقتصاد العالمي، فإن فرنسـا التي أقامت الدنيا ولم تقعدها خـلال قمة العشرين الثانية في لنـدن في موضـوع ‘الجنات الضريبية’، حيث تمسك رئيسها نيكولا سركوزي بموقفه المتشدد فيما يتعلق بمطالبة بلدان هذه ‘الجنات’ بوضع حد لنظام السرية المصرفية الذي يستفيد منه المتهربون من الضرائب في أوطانهم وغاسلو الأموال ونحوهم، فيما وقفت الصين موقفاً لا يقل شدة عن موقف رئيس فرنسا دفاعاً عن هونج كونج ومكاو، قبل أن يفض اشتباكهما الرئيس الأمريكي باراك أوباما باقتراح حل الوسط المشار إليه عاليه – نقول إن فرنسا هذه لم تتوان عن توفير الغطاء ‘والستر’ لمليارات اليوروات التي حذر صندوق النقد الدولي من وجودها في مصارف أوروبية في شكل منتجات سامة (Poisoned Products)، حيث رفضت هذه التحذيرات واعتبرتها مبالغاً فيها. وإذا علمنا أن تحذيرات صندوق النقد بهذا الشأن تتعلق بتقديرات لسندات مشكوك في إمكانية تحصيلها حتى نهاية عام 2010 تبلغ نحو أربعة تريليونات يورو يتوقع الصندوق اضطرار المؤسسات المالية الأوروبية لخصمها من قوائم رأسمالها، وليس مجرد بضعة ملايين أو حتى مليارات. فعن أي إصلاح اقتصادي تتحدث عنه دول مجموعة العشرين وتحديداً الدول الغربية المسؤولة مسؤولية مباشرة عن اندلاع الأزمة المالية العالمية وامتداد حريقها إلى الاقتصاد الحقيقي في العالم أجمع؟ قلنا ذلك من قبل ونعيد تأكيده الآن، إن كل أحاديثهم عن إعادة الاعتبار للدولة وأجهزتها الإدارية الاقتصادية، وتفعيل وتطوير أنظمتها الرقابية والضبطية، بما في ذلك الأحاديث عن تزايد احتمالات العودة لتطبيقات الكينزية، قلنا إنها مجرد قنابل دخانية سرعان ما ستذروها الرياح و’تعود حليمة إلى عادتها القديمة’! عبارات الإصلاح الاقتصادي والكلام عن انتهاء الزمن الذي تقوم فيه السوق بدور الحاكم الفعلي للمجتمعات الرأسمالية، هي عبارات وأحاديث غير جدية، تُطلق في لحظات حماس وكرد فعل طبيعي على ما ‘هببته’ السوق من كوارث اقتصادية واجتماعية باقتصاديات القلاع الرأسمالية العتيدة: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. ولكن بما أن الإصلاح مرتبط بالضوابط التي هي بمثابة معوقات في أعراف وممارسات أصحاب الرساميل، فإن تطبيقات الإصلاح على الأرض ليست عملية سهلة بالمطلق إذا لم تقترن بميزان قوى اجتماعية يسمح بإحداث التغيير.
صحيفة الوطن
17 مايو 2009
الأزمة المالية وديون البلدان الفقيرة
على الرغم من الأزمة المالية الرأسمالية العالمية الراهنة المحتدمة التي تأخذ بخناق شعوب معظم دول العالم الغنية منها والفقيرة على السواء، ولاسيما الأخيرة التي تلقي الأزمة بظلالها الثقيلة على اقتصاداتها الهشة وتتحمل العبء الأساسي في دفع فواتير أزمة خارجية لم تتسبب فيها بل تسببت فيها الدول الغنية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وعلى وجه التحديد الطبقات السياسية والاجتماعية الحاكمة في تلك الدول، فإن الدراسات والبحوث التي تتناول المضاعفات الكارثية المحتملة في حال إذا ما فرض على الدول النامية الفقيرة المدينة ان تستمر في سداد ديونها الربوية الظالمة للدول الغنية الدائنة في ظل الأزمة المالية العالمية الراهنة التي تعصف باقتصاداتها، مازالت دراسات إما معدومة وإما محدودة في أحسن الفروض.
لقد كانت قضية ديون الدول النامية الفقيرة المتراكمة من أعقد القضايا التي ظلت تواجه اقتصادات هذه البلدان منذ نحو ثلاثة عقود خلت، أي منذ بدايات بناء دولها الحديثة المستقلة سواء في إفريقيا أم في آسيا أم أمريكا اللاتينية.
وبالرغم مما بشرت به الدول الرأسمالية الكبرى دول وشعوب البلدان بفتح عصر جديد من الرخاء من خلال ما تقدمه لها من دعم عبر استثمارات شركاتها الكبرى ومنحها القروض الدولية التي تمكنها من بناء بنياتها التحتية ومؤسساتها الخدمية بعد عقود أو قرون من النهب المنهجي الوحشي الذي تعرضت له ثرواتها على أيدي المستعمرين من تلك الدول الغنية ذاتها، فإن الفقر لم يظل ملازما حال شعوب هذه البلدان بل تضاعف عدة مرات ومرات وازداد عدد الفقراء فيها بمعدلات مخيفة تفوق معدلات النمو السكاني في العالم على امتداد أكثر من نصف قرن.
فماذا جنت البلدان النامية الفقيرة إذاً من استثمارات الصناعات والبنوك الأمريكية وغيرها من شركات الدول الغربية الأخرى؟ إذا ما نحينا جانبا العبارات الفضفاضة التي تروجها الطبقات الحاكمة ومنظروها والمتنفذون المستفيدون من تلك الاستثمارات مثل التنمية المستدامة” وتحقيق “التنمية الشاملة” وغيرهما من شاكلة هذه العبارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع بطون شعوب تلك البلدان النامية الفقيرة، فإن حصاد هذه الشعوب من تلك الاستثمارات وحتى الديون التي تلقتها حكوماتها يكاد يكون كارثيا على مختلف الأصعدة والمجالات.
والواضح كما حلل بموضوعية الباحث والأستاذ الجامعي الأمريكي النزيه الدكتور مايكل بيرانتي فإن المساعدات التي تمنحها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لحكومات العالم الثالث لا تمنحها لسواد عيونها أو لوجه الله بل هي معونات مقيدة بسلسلة من الشروط الظالمة المجحفة، منها أن تصرف هذه الحكومات معظمها على المنتجات الأمريكية، وان تعطي تفضيلات استثمارية للشركات الأمريكية، وان تعطي الأولوية لاستهلاك السلع المستوردة على حساب السلع المنتجة محليا، وهكذا فبدلا من أن تنتشل هذه المعونات الأجنبية الأنانية المسيسة شعوب دول العالم الثالث من مستنقع الفقر التاريخي الذي ما فتئت تغوص فيه وتتخبط منذ قرون في محاولة الخروج منه فإنها تعمق الفقر وتستديم الفاقة المستدامة تحت الشعار البراق “التنمية المستدامة”. ذلك بأن جل تلك الديون والمساعدات والاستثمارات لم تصمم أساسا لمساعدة تلك الدول على مكافحة الفقر وإنما لتضخيم الـ “بيزنس” والاستثمارات ومراكمة الأرباح الخيالية للشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية على حساب شعوب البلدان الفقيرة.
وعادة ما تكون قروض ومساعدات البنك وصندوق النقد الدوليين غير قادرة الدول النامية على سدادها بسبب فوائدها المركبة المضاعفة وانخفاض عوائد صادراتها مما يضطرها إلى الاستدانة مجددا من الصندوق ذاته فتقع تلك الدول تحت طائلة شروط هذا الأخير الابتزازية ومنها فرض تعديلات هيكلية على الدول المدينة ومن ضمنها إجبارها على خفض الضرائب على استثمارات الشركات العابرة للقوميات، وتخفيض الأجور، وحظر أي وسيلة لحماية بضائعها الوطنية. ولا تخلو اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية التي تعقدها الولايات المتحدة مع دول نامية وبضمنها عربية وخليجية على أسس غير متكافئة من تلك الشروط المجحفة التي تعكس حكم إرادة القوي على الضعيف، ومن تلك القيود إجبار هذه الدول على التوسع بلا حدود في مشاريع الخصخصة وبيع كل أو معظم القطاعات المملوكة للدولة وبضمنها الناجحة وذلك تحت ذرائع شتى واهية كالمناجم والسكك الحديدية ومؤسسات المياه والكهرباء والبريد وغيرها من المشاريع ذات الطبيعة الخدمية العامة مما يعرض سواد الطبقات الفقيرة والوسطى المستفيدة منها للأضرار الفادحة، ناهيك عن طرد العاملين في تلك المؤسسات. أكثر من ذلك فإن هذه البلدان كثيرا ما تجبر على فتح غاباتها لاجتثاث أشجارها واصطياد حيواناتها وطيورها النادرة بلا رحمة، وكذلك دفن شواطئها للمشاريع الاستثمارية والسياحية الأنانية الضيقة على حساب المنفعة العامة، كما تضطر هذه الدول إلى خفض مخصصاتها في القطاعات الخدمية الحيوية المهمة كالصحة والتعليم والنقل وغيرها.
والحال أن شعوب البلدان الفقيرة إنما هي واقعة عمليا في فخ الديون بين مطرقة الدول الغنية الدائنة وسندان المتنفذين الفاسدين في حكومات الدول النامية الذين يختلسون معظم تلك القروض والمعونات ويحملون شعوبهم البائسة عبء ذلك الخراب الاقتصادي المضاعف الناجم عن الأرباح الربوية الخيالية لديون الدول الغنية، دع عنك اختلاس رموز الطبقات الحاكمة لها وتحويلها إلى جيوبهم في ظل غياب الشفافية الرقابية الديمقراطية، ولا أحد يعلم مدى اتساع حجم هذه الكارثة ومستقبلها المنظور مع الانفجار المخيف للأزمة المالية العالمية الراهنة.
صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2009
استكمالُ نظريةِ ماركس عن رأسِ المال (3)
إذًا كان ظهورُ نمطٍ آخر من الرأسمالية قد جاءَ في الشرق كحمايةٍ قومية وتحررية ضد اكتساح الرأسمالية الغربية للعالم.
وفي حين كان أصلُ الرأسمالية الغربية حركاتٍ اجتماعية خاصة تحررية، فإنها قد وصلتْ إلى السلطة وصارتْ متحكمة في الحكومات، فاستخدمتْ أدوات القوة الرسمية لفرضِ نفوذِها الاقتصادي على الأمم المتقطعة الأوصال والمتخلفة والضعيفة.
وبهذا فإن الرأسماليات التي ظهرتْ في الشرق في مجتمعات إقطاعية متخلفة وجدتْ نفسَها تلتحمُ بأجهزة الحكم منذ البداية. وفي حين وجدَ النموذجُ الخاصُ الغربي الرأسمالي مساحة كبيرة من الزمن لنموه تصل إلى أكثر من خمسة قرون، فإن النموذج الرأسمالي الشرقي اختنق في وقت محدود بين مائة أو خمسين سنة، وتحت ضغط مقاومة للسيطرة الخارجية جعلتهُ يحمي أسواقـَهُ الداخلية بأجهزةِ الدول.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الرأسماليات الغربية لم يعد ركود الإنتاج فيها وأزماته إلا فترات مرحلية، يعودُ فيها الإنتاجُ أقوى من السابق، بفضلِ توسع الأسواق وتطور القوى المنتجة، التي التحمت فيها التطبيقات العلمية وثورتها بأدوات الإنتاج.
وبين إعادة إنتاج الداخل وتنمية الأسواق والقوى العاملة والقوى المنتجة عموماً كانت تحدث توسعاتُ هذه الرأسمالية وتطوراتـُها المتسارعة المتزايدة في التقنيات، في حين وجدتْ الرأسمالية الشرقية الحكومية (ذات النمط المُسمى اشتراكي) نفسها في انقطاع عن السوق العالمية وعن تطور القوى المنتجة الكونية.
وتتراوح عمليات التطور في الرأسماليات الشرقية، ففي بعض التجارب الخاصة كاليابان التي حذت حذو الغرب بشروط البناء الاقتصادي نفسه حدثت تطورات هائلة، في حين ان التجارب الحكومية الرأسمالية العامة المتفوقة كروسيا والصين، واجهت إشكاليات هذا النظام، من دون أن تستطيع الخروج كلياً من إشكالياته، وضاعت دولٌ أخرى في عمليات تجريبية مشوهة غالباً من دون تجذر كمصر وأغلب دول الشرق عامة.
إن العديدَ من القوانين المكتشفة عن السلعة وقوة العمل والتراكم البدائي وغيرها، التي نتجتْ داخل الرأسمالية الخاصة حيث يلعبُ السوقُ الدورَ المركزي، لن تكون مستوعبة في أغلب تجارب الشرق الحكومية الرأسمالية، حيث لا يلعب السوق الدور المركزي دور ضبط فروع الإنتاج، بل ستكونُ لها تطبيقاتٌ مختلفة ومستويات متباينة في الرأسماليات الحكومية التي غدا فيها جهازُ الدولة هو المخطط وصانعُ الحواجز الاقتصادية والحريات الاقتصادية كيفما تريدُ إدارتـُهُ السياسية، وبهيمنة الأجهزة البيروقراطية في تشكيل المصانع وتحديد قوى العمل وتوزيعها، وفي إيجاد عمليات التراكم والتجديد الإنتاجي، وتحديد القطاعات الاقتصادية وأولوياتها، حسب وجهة نظر كل دولة، وحسب كل مرحلة من تطور قوى الإنتاج، وكذلك تحديد قوى العمل الفكري الذي يعودُ كذلك لسيطرةِ الدول عبر المدارس والمعاهد، ومدى رفده للعمليات الإنتاجية أو إنقطاعهِ عنها.
وهذا لا ينفصلُ كذلك عن تاريخيةِ المجتمع وطبيعةِ تطوره، ومدى حجم ونوع العلاقات ما قبل الرأسمالية كالعبودية والإقطاع، ومدى عرقلتها أو عدم عرقلتها التطورات الرأسمالية. وكذلك مدى علاقات التبادل بين هذه الدول والعالم الخارجي، ودور هذا التبادل في تطوير أو عدم تطوير الإنتاج.
ولهذا لابد أن تـُدرس كل دولة أو كل مجموعة دول في الشرق حسب تجربتها، مقارنة بنموذج التشكيلة الرأسمالية الغربية الحديثة.
إن التشكيلة الرأسمالية الاقتصادية – الاجتماعية الغربية تعبيرٌ يُقصدُ منه تعميم الصفات التي جرتْ في كل دولة غربية لنمو الرأسمالية، فرغم تأخر دول وتقدم أخرى، ورغم تبدل الأنظمة السياسية من نظام جمهوري إلى نظام ملكي إلى سيطرة اليسار في بعض المواقع التاريخية، أو عمليات تبادل الحكم بين الليبراليين – الاشتراكيين الديمقراطيين وبين المحافظين، فإن قوانين التشكيلة العامة تبقى هي نفسها كما حددها ماركس في كتابه رأس المال.
ولكن دول الشرق أُقحمتْ في هذه التشكيلة من دون إرادة منها، فقد كانت منساقة في تواريخها الاجتماعية الخاصة، في تشكيلة تتراوح بين العبودية والإقطاع، في مستويات شديدة التباين، كوجود حتى علاقات مشاعية فيها، أو وجود تجارب إقطاعية ازدهرتْ بعلاقاتٍ بضاعيةٍ كبيرة كالدول العربية الإسلامية والصين، ولكن جميعَ هذه الدول وبغض النظر عن تلك المستويات والتقاليد المختلفة وجدتْ نفسها تـُزجُ في عالمٍ تسيطرُ عليه تلك التشكيلة الرأسمالية الغربية، وهي التي تجعلها كذلك ألا تصيرَ مثلها، وتمنعَ تطابقـَها معها، بل أن تبقى في تكويناتها العامة ما قبل الرأسمالية الحديثة كي تمدَها بالمواد الخام وتفتح أسواقها لها، أو حتى تعطيها رساميل نقدية.
ورغم أن هذه الصيغة استمرت لدى العديد من الدول ارتضتْ لنفسِها دور البقرة الحلوب، مادة خاماً وسوقاً ورساميلَ نقدية موجهة للسيد الغرب، فإن دولاً أخرى ثارت أو تمردت بشكل مغامر أو عقلاني مخطط، حسب قدرتها على قراءة التشكيلة الرأسمالية الحديثة بقوانينها المكتشفة، ومدى استقلال أجهزتها السياسية عن الاقتصاد ما قبل الرأسمالي الخاص، وبهذا فإن أنماطاً عدة من الرأسماليات تكونتْ في تجارب الشرق، بعضها المطابق وبعضها المفارق، وبعضها التجريبي الضائع وبعضها المترنح للوراء بسبب الأبنية الاقتصادية – الاجتماعية الشديدة التخلف وأجهزة حكوماته وجنونها السياسي.
وبهذا فإن التشكيلة الرأسمالية الحديثة الغربية وهي تسيطر على العالم الآخر كانت تنقلهُ إلى مستواها بسبب الصراع الذي أثارته، وتظهر منافساتـُها ومصارعاتـُها الرأسماليات الشرقية الخاصة والحكومية، في تكوين بشري رأسمالي تختلط فيه الرأسمالية الخاصة والعامة ويغدو أرفع من الرأسمالية التي وقف عندها كارل ماركس واعتقد أنها الطبعة الوحيدة، فقد ظهرتْ طبعة أخرى ورغم أنها سيئة وأقل جودة من النسخة الأولى، لكنها في مجرى الصراع الاقتصادي تـُحسنُ من النسخةِ المشوهةِ، وتستفيدُ من بعضِ جوانبـِها لتحسن عملية النسخ.
إن الطبعة الوحيدة تـُعّممُ، تغدو عولمية، بمستوياتِها المختلفة المتضادة المتداخلة.
وتحسنُ النسخ الشرقي للرأسمالية الحديثة يؤججُ الصراعَ كذلك، لأن النسخَ تـُفعل أسواقها وتحولُ المزيدَ من المهمشين والمهمشات إلى عمال، وتخفف من تسلط الدول أو تتحكم فيها كلياً، وتقلل من الاعتماد على العمل البسيط اليدوي وتوسع الاعتماد على العمل التقني وتنتقل تدريجياً للثورة الملعوماتية التقنية الرقمية.
وبهذا يغدو الشرق غرباً، ويغدو العالمُ واحداً، وتصل البشرية إلى اختناق اسواقها بالبضائع، فتبحثُ عن صيغ عيش أخرى.
صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2009
الغيتو البحريني.. واحد مقابل واحد
تعالت في الفترة الأخيرة في بلدنا صيحة جديدة «تحمل في جوانبها بعض من القلق والحقيقة»، ولكنها من الجانب الآخر تحمل الكثير من المبالغة والحيرة والتبسيط لمجتمع لا يمكن إيقاف نموه وتطوره بإرادتنا حاليا، مثلما لم نكن قادرين على إيقاف الجنين الذي نما في الأحشاء بالصيغة التي نما عليها ليولد كائنا خرافيا ومخيفا على ثقافة المجتمع وهويته التي أصيبت بنوع من أنفلونزا الهلع والريبة، هذا الموضوع المقلق هو وضع الغرباء والعمال الأجانب العزاب وبضرورة وضعهم بعيدا عن المناطق السكنية التي يقطنها المواطنون. إن ذلك أمر مهم للغاية وصعب في الوقت ذاته، وقد لا يخلو أيضا من تداعيات مستقبلية لتلك الغيتوات الإنسانية التي سيتم تصنيفها وتوزيعها حسب المناطق الممكنة سكانيا، خاصة وان البحرين تعاني من مشكلة تضخم وزيادة السكان، والتي أدت إلى بروز المشكلة الإسكانية، في بلد رقعته الجغرافية صغيرة قياسا بجيرانه من بلدان مجلس التعاون. فكيف نشأت تلك الظاهرة السكانية وتداخلت العمالة الأجنبية بالسكان المحليين؟ سؤال يقودنا إلى اكتشاف الحقيقة الكابوسية التي ترعرعت بكل هدوء وعلى غفلة منا جميعا، ونبهتنا إلى واقع حقيقي منتفخ كالورم السرطاني حسبما يرى البعض جانبه السلبي فقط، مثلهم مثل أولئك الذين لا يوافقون مسألة الكفالة المباشرة للعامل الأجنبي لأنها تضر بمصالحهم متناسين مصالح الوطن والتنظيم الاجتماعي للسكان والعلاقات الإنسانية وحقوق العمالة الوافدة. بعد استقلال البحرين بسنوات قليلة وهي سنوات الطفرة النفطية 73-76 شهدت فيها البلاد عملية تنمية واسعة وحراكا تنمويا كبيرا ساهمت في تدفق العمالة الأجنبية، التي حطمت الكثير من البنى وأربكت الحياة المجتمعية أيضا، وبدلا من احتواء وتنظيم هذه العمالة الضخمة في حينه، وجدناها في السوق سائبة متجولة تطرق هذا المكان أو ذاك لعلها تجد عملا يغطي معيشتها ويغطي الثمن المدفوع صمتا للكفيل الحقيقي. وازداد طرق تلك العمالة السائبة وغيرها للبحث عن أماكن سكن رخيصة تتجمع فيه أكثر من حجمها الطبيعي لتحمل عبء الإيجار، إذ لا يمكن لعمالة متدنية الأجر قادرة على تغطية كل تكاليف الحياة. فإذا بالمواطنين مع مرور الوقت يجدون أنفسهم محاصرين بتوزيع إنساني يحمل في جوانبه آلاما ومعاناة إنسانية تدفع في بعض الوقت للانتحار والمشاكل والعنف فيما بينها وبين السكان، بل وتدفع للاعتداءات والانتهاكات الجنسية والأخلاقية، تنتهي في بعض الأحيان إلى ارتكاب جرائم كبرى وفاضحة، يفزع منها المجتمع، فيصرخ راكضا ومناديا «احمونا من الأجانب» وكأنما العمالة الأجنبية وباء غير محسوس تم اكتشافه فجأة! هذه العمالة وجدناها تتزايد منذ سنوات الطفرة، حتى بلغ تعداد الأجانب مساويا للسكان، مما يعني اننا «واحد مقابل واحد» وأمام قوة شرائية وإنتاجية تحرك السوق والتنمية المستدامة، ونتيجة لهذه الحالة تنوعت الغيتوات في المجتمع البحريني إلى حد صرنا نراها مختلطة ومفتوحة وتتحرك بحرية تامة أكثر من كونها غيتو للعمالة الأجنبية المعزولة كما هو مطلوب صنعه مستقبلا، وبمعنى آخر تم توزع العمالة الأجنبية بين السكان حسب مواقعهم ومراتبهم الوظيفية، غير أنه صار بإمكانهم القيام والعيش في الأمكنة حسب رغباتهم وقناعاتهم وقدراتهم الاقتصادية. فيما تنعمت العمالة الأجنبية الأوروبية وغيرها بمجمعات سكنية رغيدة تتناسب مع نمط حياتها، فلم تشعر بأي أذى أو مشاكل، إذ وفرت لها تلك العزلة المعيشية مناخا من الأمن حتى يومنا هذا، غير ان أحداثا سياسية مثيرة للشغب خلقت لدى تلك التجمعات المهنية نوعا من عدم الاطمئنان، شاركتها العمالة الأجنبية الرخيصة، وهي الغالبية العظمى من تلك العمالة «القلق الدائم»، بل وتعرضت للعنف والاعتداء. ومع ذلك تلك الحوادث الجانبية والعرضية لم تكن حلا لمسألة التداخل والاختلاط السكاني، والذي زحف للقرى البحرينية وكل الأطراف، بل ووجدنا أن أحياء شعبية قديمة تميزت بخواصها تكاد تفقد ملامحها نتيجة ذلك الاختلاط. ونحن بحاجة لمشروع اجتماعي وإسكاني جاد لإعادة توزيع البحرين على أساس فلسفة المتزوجين والعزاب، ولكننا من الضروري أن نتأنى كثيرا كمجلس نواب ومجتمع مدني بمناقشة كل تفاصيل هذا النظام الجديد والقيم الجديدة التي ستخلق بشكل مقصود بناء مجتمع الغيتوات، وان كان في الواقع تم خلقه تلقائيا بفعل التطور والمتغير الاجتماعي خلال العقود الأخيرة، وهي كما قلنا غيتوات منقسمة إلى نوعين أساسيين، مطحونين في أجورهم ومتنعمين في كل امتيازات المهنة. وإذا ما كانت المهمة شاقة على العمالة غير المتزوجة، فان مستوى الوظيفة قد يساعد على التقليل من تلك المشكلة، كما ان تصنيف الأحياء والأحزمة السكانية قد يساهم أيضا على قبول بعض المهن وغيرها، بل وتصبح عملية الاشتراط الشديد على السكان وعلى الكفيل المعني باستقدام عمال من الرواتب الدنيا، أو بتقديم سكن لهم وهذا مكلف، كما انه لن يكون قادرا على بناء مجمعات خاصة، ومن هنا تصبح وظيفة الدولة بناء تلك المجمعات التي ستكون سببا في تنمية الوعي العمالي بين ثقافات ولغات مختلفة تدفعها سوء المعيشة للانفجار والمواجهة بالإضافة إلى تلك المجمعات التي شيدت لمؤسسة واحدة أو أكثر في رقعة محصورة. إن الوحدة السكنية تخلق وحدة المصالح والوعي المهني، وتنمي قيم التضامن والذي سينبت مناخا للانفجار القادم، والذي بدوره – حتى وان كان الأمن الاجتماعي أو غيره مطمئنا للسيطرة عليه – فان الانعكاسات الأخرى لن تكون بعيدة عنا بما فيها ضغط المنظمات الدولية والإعلام العالمي في إبراز حقيقة واضحة لعمالة من حقها الدفاع عن نفسها طالما تعيش نمطا من العبودية! وموضوعنا بحاجة لمناقشة أوسع ولمقالات عدة نتيجة تعقده بعض الشيء ولكنه ليس مستحيلا إذا ما توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية معا شريطة حماية العمالة الأجنبية إنسانيا، ومنحها حقوقها رغم ذلك التصنيف اللاانساني للعمالة الأجنبية حينما يتم التفكير فيها على أساس فلسفة «الغيتو» والمعسكرات العمالية المعزولة المسورة !
صحيفة الايام
حول أزمة الليبرالية والليبراليين العرب! (1-2)
في سياق محاضرته القيمة التي ألقاها أواخر شهر ابريل الماضي بجمعية المنتدى البحرينية حول «أزمة الليبرالية في المجتمعات العربية» استعرض الباحث المصري د. عصام عبدالله العديد من الاستنتاجات والرؤى التي تجدر مناقشتها والتأكيد على الكثير من وجوهها، فمن بين ما ذكره حول تلك المسألة التي كثر السكوت حولها عقودا طويلة من دون أن تمس بمعالجات ناقدة وجريئة ما قاله أنه «لم تتم الاستفادة حتى الآن من الآفاق والفرص التي أتاحتها التحولات التاريخية الأخيرة، فإذا كانت العولمة قد عممت الظاهرة الدينية وضخمت منها، فإنها أيضا وفرت ظواهر جديدة مثل هيمنة أنماط الحياة الغربية، وشيوع ثقافة الاستهلاك والمحاكاة، وازدياد حدة الفقر والفساد والتهميش الاجتماعي بصورة غير مسبوقة، وتحمل مثل هذه الظواهر فرصاً لتطور حركات وأحزاب سياسية ليبرالية، لها مساحة من التأييد الشعبي، استناداً إلى الدفاع الليبرالي عن الحريات الشخصية والمدنية في مقابل منطق المنع والانغلاق الديني، والتأكيد على العدالة الاجتماعية وحماية المهمشين، وفي مقابل ما اسماه بتخلي النخب الحاكمة عن الفقراء والمهمشين، ومحاباة الطبقة الجديدة من الأثرياء ورجال الأعمال والمناطق المحظوظة من البلاد». وكان الباحث قبل ذلك قد عمد إلى تشريح واقع الحراك السياسي والاجتماعي في بيئتنا العربية بكثير من الجرأة والنقد المباشر الذي بناه أساسا على قاعدة تفكيك الكثير من المفاهيم الدارجة والتي يصر على أن يوصمها بالتخلف وغياب الرؤية مما يجعل منها غابة من المتداخلات العصية على الفهم، وسط حالات من هيمنة النخب الحاكمة والمثقفة على المشهد العام في مقابل حالات الانغلاق الفكري الذي تمارسه على الضفة الأخرى التيارات الدينية، والتي أفرزت كما ذهب الباحث نفسه إلى ذلك حالات من التباعد بين الفريقين، حيث لا تخلو أبدا من إسقاطات تاريخية وخلط غير مبرر للمفاهيم المتداولة بين الليبرالية وحركات التنوير والحركات الدينية في شكلها الأعم وما عكسته على مستوى الوعي والإدراك الجمعي لمجتمعاتنا العربية. وعلى الرغم من أن الباحث قد ابتدأ محاضرته بمقدمة حول ما تعيشه الليبرالية كحركة وفكر في الوقت الراهن حيث أكد على أن «الليبرالية اليوم تمر بأزمة، و الأزمة بالمفهوم العلمي، كما تعلمون هي الحالة التي تسبق الانهيار أو العافية، إلا أن أزمة الليبرالية يمكن أن تؤدي إلي انهيار أسس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات ومنظومة الحريات العامة، في المجتمعات العربية التي تتشكل من أكبر فسيفساء ثقافية ودينية واثنية، أو أن تتعافي تماما وتصبح قاطرة الأمل وطوق النجاة لأسخن منطقة في العالم علي الإطلاق»، وهو هنا يحاول أولا أن يؤكد مسؤولية النخب والحكومات على حد سواء حيال إهمالهم لمسؤولية بناء دولة المؤسسات والمواطنة والحريات والحقوق عبر الاندفاع باتجاه الطرف المهيمن الذي هو في واقع الحال يمارس الانغلاق بهيمنة غير مسبوقة، من دون أدنى اكتراث لما آل إليه واقع مجتمعاتنا العربية من عزلة وانكفاء حضاريين، لا نحتاج لكثير من الشواهد للتدليل عليه، وكذلك محاولته الربط بين كل ذلك وما يعتمل في مجتمعنا العربي تحديدا من تناقضات صارخة ليس أقلها اتجاه الأفراد والجماعات المختلفة دون استثناء نحو العولمة طائعين أو مكرهين، حيث مفاهيم المواطنة الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات والعدالة الاجتماعية في مقابل تشبث تلك المجتمعات والأفراد بمفاهيم أسماها الباحث بما قبل الوطنية ومنها الأصول والهوية التي تصل إلى حد التطرف والغلو وتنامي الأصوليات الدينية والمذهبية والطائفية في حالات كثيرة، ولتستثمر لأجلها وبشكل فج نزعات مثل القبلية والعشائرية والمذهبية، لا فرق في ذلك بين نخبنا الحاكمة وبعض النخب الثقافية، مما يعكس حجم المخاطر المتوقعة ليس على بنى المجتمع وتكويناته وإنما أيضا على مسائل مثل تغيير الحدود الجغرافية للدول والجماعات وحتى تغيير البشر أنفسهم عبر ما أسماه عوامل الانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، وما يستجلب معه من تبعات وعواقب لا يمكن التنبؤ بها.
صحيفة الايام
17 مايو 2009