هناك ثلاثة اختيارات اقتصادية جرت في تواريخ الرأسماليات الحكومية الشرقية نبعت من ميزانِ قوىً اجتماعيةٍ ومن بُنى اقتصادية سابقة، ومن وجهاتِ نظرٍ سياسية مؤثرة في التطور، وهي قد انبثقتْ من هذه الأوضاع الرئيسية:
1 – ضعف الإقطاع وقوة البورجوازية.
2 – قوة الإقطاع وضعف البورجوازية.
3 – ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية.
تتعلق التجاربُ من الصنف الأول المذكور أعلاه بمسار الشرق، حيث ان التدخلات الغربية في تاريخهِ الانتقالي بين الإقطاع والرأسمالية تحثهُ على التغييرِ والقفزةِ من واقعهِ المتخلفِ السابق نحو التحديث، وكلُ قيادةِ دولةٍ تكونُ لها خططها الاقتصادية، المنبثقة عن تجربتها وظروفها.
ينبثقُ الخيارُ الأولُ وهو ضعفُ الإقطاع وقوة البورجوازية من وجودِ ظروفٍ استثنائيةٍ قد لا تتكرر في بلدان أخرى، ففي العادة التاريخية للشرق وهو يخرجُ من دياجير الظلمات الزراعية إلى النور الصناعي، أن يكونَ العكس هو الصحيح، أن يكون الإقطاع المسيطر خلال القرون السابقة هو السائد والقوي، وأما البورجوازية فهي ضعيفة تقتصر على المتاجر والصرافين، ولا يدعمها قطاعٌ صناعي مهم، ولكن في التجربة اليابانية ظهرتْ ظروفٌ مختلفة، بيناها في الحديث عن التجربة الرأسمالية الخاصة اليابانية، جعلتْ من قوة الحكم السياسي طليعة لوعي هذه البورجوازية وتنفيذاً لوجودها المضمر وإتاحة لنموها بكل السبل من خلال تخطيط بعيد المدى يستوعب قوانين التجربة الرأسمالية الغربية الخاصة، رغم أن هذه القيادة تتمثل في حكم الامبراطور وجماعته، غير أنها تبنت خيار الغرب في البناء الاقتصادي بشكلٍ متكامل.
وتم تكرار تجربة اليابان في جنوب شرق آسيا عبر ما عُرف بتجارب النمور الآسيوية حيث يتاح نمو كبير للرأسماليات الخاصة، وتـُحجم الرأسمالية الحكومية، وهي تكرارٌ للتجربة اليابانية واستفادة من توظيفاتها وتقنياتها، وهذه الاستفادة من الجانبين البنيوي والتقني تعكس عمليات تسارع الرأسماليات الخاصة باعتبارها خطا تطوريا محوريا ومتصاعدا في تكوينات الرأسماليات الشرقية.
أما الخيار الثاني وهو (قوة الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو خيارُ الكثير من دول آسيا وافريقيا، خاصة الدول العربية والإسلامية، فهي بسببِ تخلفها الاقتصادي، وسطوات ماكينات الدول القديمة المتنفذة، وضعف قواها السياسية الطليعية الحكومية المتبصرة لآفاق المستقبل وتبعية القوى الاقتصادية الخاصة لها، فإنها تراوحُ في مسارها بين الإقطاع والحداثة الرأسمالية، بين الاحجام عن مشروعات الصناعات الكبرى وبين البقاء في مشروعات التجارة والعقارات والتمويل.
ويتمظهر ذلك بقوة في تقزم القطاعات الصناعية وعدم قوننة تطورها بشكل صحيح، وضعف نمو التصنيع في الأرياف، وإبعاد قوى بشرية واسعة عن الصناعة، كالنساء والقوى الهامشية والموظفين الحكوميين، وعدم إيجاد ثورة ثقافية مواكبة للتصنيع، ومحدودية الحريات.
وهذا يقود لهدر الثروات بشكل مستمر وبأشكال متعددة، فمرة نجد التسربات المالية الكبيرة المستمرة من القطاعات العامة إلى القطاعات الخاصة في العتمة السياسية، أو في تهريب الأموال، أو في تكاليف التسلح ونفقات الحروب، أو في البذخ وغير ذلك.
أما الخيار الثالث وهو الخيار المترتب على(ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو يعتمد على لحظات ثورية فريدة من تاريخ أمم عريقة كالأمة الروسية والأمة الصينية، تقومُ فيها قوى الفئات البورجوازية الصغيرة المتحالفة مع العمال بقيادة معركة التصنيع والتحديث.
ونظراً لهذه القوى الشعبية المتجذرة والمتضررة من الأبنية الاقتصادية القديمة فإنها توسع مدى التغيير وتضرب بشدة العلاقات ما قبل الرأسمالية، وتضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة كذلك بهذا المستوى أو ذاك بين هذه الدول، مما يؤدي إلى جعل الدول هي المالكة الرأسمالية الكبرى، وهو أمرٌ يعيد تشكيل الرأسمالية الخاصة على مستوى زمني معين، وبأشكال من التعثر والتطور حسب تجربة كل بلد واختيارات قواه السياسية الحاكمة.
لكن ظروف ضعف الإقطاع وضعف البورجوزاية والمتجهة لتضخيم القطاعات العامة، لا تنفي التكون الرأسمالي. وتضخمُ القطاعات العامة يعودُ للتصدي لقوى الغزو الخارجي ومن أجل نهضة الأمم الشرقية خاصة في البدايات المُبشرة، لكن في نهاية مطاف بناء البنية التحتية يتوقفُ ويتراجع النمو الإيجابي لتصاعد عوامل الفساد الداخلية، وكون مشروع الرأسمالية الحكومية ليس له مالك معين فيضيعُ بين المالكين المتعددين من موظفين كبار وأحزاب وقوى اجتماعية مثل الأوقاف، وليس له علاقة مباشرة مع المنتجين ومع الجمهور المالك الوطني المُفترض، وبالتالي يصبحُ كماءِ السبيل، يتناقصُ ولا يزيد، يتآكل ولا ينمو. يتعطلُ نموه التقني، وتتراجعُ تطوراتهُ التكنولوجية الحفرية الداخلية، خاصة مع تفكك العلاقات بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، بين العمال والإدارات، بين المؤسسات الاقتصادية والأسواق، وبهذا فإننا نجدُ القطاعاتِ الحكومية الرأسمالية بعد زمنٍ أنها هي الخاسرة، تدفعُ أكثر مما تقبض، تتسلفُ وتزدادُ ديونـُها، رغم وفرة المواد الخام والمُصنعة المُباعة.
وهذا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي النهائيين يتمظهرُ في تدني الأرباح وتراجع الخدمات، وتصاعد القطاعات الخاصة التي تقومُ على انقاض القطاعات العامة أو على تقزمها، فوزارات الصحة التي أكلتْ الكثيرَ من المالِ العام والأجسادِ وتردتْ خدماتها، تظهرُ إلى جانبها المستشفياتُ والشركاتُ الخاصة الأكثر نجاحاً والأكفأ علاجاً، لكن على ظهور الجمهور الذي يدفعُ باستمرار وبصورةٍ متصاعدةٍ أثمان الفئات البورجوازية كافة التي يتتابعُ ظهورُها في تاريخ الرأسماليتين العامة والخاصة، من جيوبه، مرة كمواطنٍ تابع لحكومات، ومرة كمواطن يشتري خدمات.
وفي الحالتين ينشأ رأسماليون يشكلون طبقة ويجمعون تراكمَ الأرباح مرة باعتبارها رواتب مجزية ورشا وإكراميات وسرقات، ومرة على اعتبار أنها أرباح خالصة.
أو أن تحدث عمليات الخصخصة حيث تـُباع القطاعات العامة، الخاسرة ليتحملها الجمهور، أو الرابحة ويشتريها الرابحون، وفي كلِ الأحوال يدفعُ الجمهورُ ثمنَ غفلته.
صحيفة اخبار الخليج
24 مايو 2009