في التفاتة جميلة تداعى عدد من خريجي وخريجات جامعات القاهرة البحرينيين إلى تنظيم حفل جمع أولئك الذين درسوا هناك في الفترة بين 1970 – 1980 وأنا بالمناسبة واحد من هؤلاء. الأخت الفنانة لبنى الأمين التي كانت ضمن فريق التنظيم طلبت مني أن ألقي كلمة في الحفل، ورغم أن مكوثي في القاهرة لم يبلغ العامين، وحال إبعادي منها بسبب نشاطي الطلابي يومها دون إكمال دراستي في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إلا أني اشعر بانتماء عميق لتلك المرحلة بكل ما فيها من تفاصيل إنسانية حميمة، ومن نشاط طلابي ووطني أعتز به كثيراً كما يعتز به كل المخلصين من أبناء وبنات تلك المرحلة. في مطالع السبعينات، وبسبب انخراطي في أنشطة مطلبية لطلبة الثانويات، وجدت نفسي، وخمسة من رفاقي في مدرسة الحورة الثانوية للبنين، مفصولين من المدرسة، فكان أن انتظمت في العمل في أسبوعية «صدى الأسبوع»، التي كنت قد التحقت بها قبل ذلك بنظام الدوام الجزئي، فيما أكملت دراستي الثانوية عن طريق الانتساب. حملت رسالة إلى أحمد خليفة السويدي وكان يومها وزيراً لخارجية دولة الإمارات، قدمني فيها له على أني أحد الصحافيين الشباب الواعدين، وطلب مساعدته على تأمين منحة دراسية لي لدراسة الإعلام في القاهرة. طرت إلى أبوظبي ومعي الرسالة، ولكن الأستاذ السويدي كان وقتها مسافراً، فرتب لي مدير مكتبه موعداً مع المرحوم سيف غباش وزير الدولة للشؤون الخارجية، الذي رحب بي، وأوعز بتحويل أوراقي للجهات المختصة لعمل اللازم. لم أحظ بمقعد في كلية الإعلام، فكان أن التحقت بكلية الحقوق في جامعة القاهرة، وللحكاية تتمة تطول ليس هنا مقامها. حفل البحرينيين من خريجي وخريجات القاهرة أعادنا إلى مطلع شبابنا المبكر، إلى تلك السنوات الرائعة المفعمة بالحب والنشاط والحيوية والآمال الكبرى التي كانت بحجم الدنيا. وحين نحنّ إلى القاهرة، لا نَحنّ فقط إلى فيلا رقم 24 بشارع الدكتور السبكي بمنطقة الدقي حيث مقر الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، التي كانت قبل ذلك مقراً لرابطة طلبة البحرين والتي تعاقب عليها ممثلو تيارات سياسية مختلفة، ولا نحنّ فقط إلى نيل القاهرة ومقاهيها وحدائقها وكليات جامعاتها ودور السينما والمسرح فيها. وإنما نحنّ أيضاً، وربما أساساً، إلى ذلك الزمن الجميل الذي عشناه، زمن الانفتاح والتسامح والأفق الوطني الواسع. ولعل حلم الكثيرين والكثيرات منا في وطنٍ أجمل إنما تشكل هناك، وان كان من جذوةٍ بقيت في النفوس فهي عائدة إلى تلك النار العظيمة التي أضاءت دروبنا قبل ثلاثين عاماً أو أكثر. وللقاهرة هذه المدينة العظيمة، الساحرة بنيلها وليلها وعوالمها الثرية وناسها الطيبين، كل المحبة والتقدير على ما علمتنا اياه، سواء في مدرجات جامعاتها، أو في كتب وروايات كتابها ومبدعيها، أو في موسيقى وسينما ومسرح فنانيها العظام، وعلى ما وهبتنا من بهجة تشربت بها نفوسنا.
صحيفة الايام
28 مايو 2009
سنوات القاهرة وما فعلته الحياة بنا
الخليج وأوروبا.. والوحدة النقدية
كان انجاز العملة الاوروبية الموحدة “اليورو” من أكثر انجازات الاتحاد الاوروبي مدعاة للإعجاب الممزوج بالانبهار من قبل شعوب ودول العالم قاطبة ومن قبل شعوب ودول العالم العربي بوجه خاص، وكان السؤال الدافع لهذا الاعجاب الانبهاري: كيف لدول هذه القارة المتعددة القوميات والثقافات والاعراق التي دخلت في حروب وصراعات تاريخية دامية فيما بينها كان آخرها حربين عالميتين مدمرتين: الأولى (1914- 1918) والثانية (1939- 1945).. كيف امكنها ان تتخلى وتتنازل عن عملاتها الخاصة التي تعد رمزاً من رموز سياداتها الحميمية من اجل عملة موحدة؟ وما ينطبق على الاعجاب الانبهاري من تحقق الوحدة النقدية الاوروبية سبقه قبل ذلك اعجاب انبهاري من حرية التنقل للأفراد فيما بين الدول الاوروبية الاعضاء من دون عوائق اقامة أو “فيزا” مسبقة، لا بل ان فيزا واحدة للسائح الاجنبي تكفي بموجب اتفاقية “شنجن” لان يزور معظم دول الاتحاد الموقعة الاتفاقية.
وحينما نقول ان الانبهار والاعجاب يزدادان لدينا نحن العرب فلأننا من اكثر شعوب دول العالم التي ظل يراودها حلم الوحدة فيما بين بلدانها، وظللنا نعتبر انفسنا الاكثر جدارة بتحقيق هذه الوحدة والاكثر امتلاكاً لمقومات ومبررات انجازها. لكن ها نحن وبعد مضي نحو ستة عقود على تحقيق استقلالات أقطارنا العربية تباعاً وقيام الدولة القطْرية لم نستطع ليس فقط تحقيق أي مشروع من هذه المشاريع الوحدوية، سواء على الصعيد الشامل ام على الصعيد الثنائي، ام على الصعيد الاقليمي الجغرافي، لا بل حتى الدولة القطْرية العربية الواحدة تتعرض اليوم لمخاطر التجزئة والتقسيم في عدد من الدول العربية لعل ابرزها السودان، والعراق، والصومال، واليمن، ولبنان، والجزائر، ناهيك عن الحالة التفتيتية والانشقاقية التي تمر بها الوحدة الوطنية الداخلية حاليا في معظم الدول العربية.
واذا كانت المصيبة التي أودت ببعض المشاريع الوحدوية، كالوحدة المصرية السورية، هي اصرار القائمين عليها على أن تكون فورية اندماجية دونما تدرج ودونما مشاركة شعبية في صنع قرارها، او اختيار على الأقل اشكال اخرى من التدرج، كالبدء بأشكال من الوحدة اقل من الاندماج الكامل كالكونفيدرالية او الفيدرالية، فإن البلدان التي نجحت في تحقيق الوحدة الاندماجية الكاملة غداة استقلالها ليست خالية داخليا من النزعات القبلية بين مكوناتها ومشيخاتها. أما دول المجموعة الاقليمية العربية التي صمدت في المحافظة على نوع من الاتحاد الكونفيدرالي (مجلس التعاون) فيما بينها كالدول العربية الخليجية فيكاد لم يتبق من حصيلة مسيرة هذا الاتحاد بعد مرور 28 عاماً على انشائه سوى الاسم واجترار الاجتماعات والمؤتمرات السنوية واستمرار تضخم أجهزة مجالسه ومؤسساته البيروقراطية، وتعدد مؤتمراتها طوال العام من دون طائل اللهم بياناتها الانشائية الرتيبة المتكررة.
والحال ان تلك المجالس والمؤسسات تشكل عبئا مرهقا على ميزانية الاتحاد وميزانيات اعضائه معاً، وبخاصة اذا ما أضفنا إلى ذلك المرتبات والامتيازات المرتفعة من دون مبرر، لموظفي ومديري وامناء تلك المؤسسات والمجالس والمنظمات المتخصصة التي تتبع مجلس التعاون ذاته.
لعل واحداً من أهم اسباب قيام مجلس التعاون على أسس غير وطيدة كونه قد تشكل في المقام الأول انطلاقا من هواجس ومخاوف امنية آنية ابان بدايات الحرب بين العراق وايران التي كانت شعاراتها حينذاك عن تصدير الثورة تقلق جميع دول المجلس وقتها في حين كان مجلس التعاون من المفترض ان يتأسس تاريخيا غداة فشل اقامة الاتحاد التساعي بعيد اعلان بريطانيا عزمها على الانسحاب من شرق السويس (الخليج العربي) عام 1968م في اعقاب انسحابها من جنوب اليمن عام 1967م.
وكم هو مؤلم حقاً ان تعلن احدى الدول الاعضاء في الذكرى الـ28 لتأسيس مجلس التعاون انسحابها من اتفاقية الوحدة النقدية وهي “الانجاز” الذي لطالما حبست شعوب الخليج أنفاسها سنوات طويلة لتراه وقد رأى النور، فيما بات الآن هذا “الانجاز” مجهول المصير.
ولئن كان العرب قد انتابهم الشعور بالخجل والعار وهم يتابعون احتجاجات شعوب العالم الصاخبة المنددة بحرب الابادة التي كانت تشنها اسرائيل طوال 23 يوماً على أهالي غزة المدنيين بأشد الاسلحة تطوراً في الفتك، ومنددين ايضاً بالصمت العربي، فكم هو مدعاة للخجل من قبل شعوب دول مجلس التعاون بوجه عام، ولحكوماتها بوجه خاص، ان يناشد مدير عام منظمة التجارة العالمية باسكال لامي دول مجلس التعاون في ذكرى تأسيسه الاخيرة بألا يجعلوا من قضية مقر البنك عقبة في اكمال وانجاز الوحدة النقدية، وان يعتمدوا البراجماتية وان يتكتلوا كجسم واحد في المحافل الدولية، وبضمنها منظمة التجارة التي يرأسها، بحيث يظهرون كفريق واحد يمكن هذه المنظمة من مساعدة مجلس التعاون.
لكن ما لم يفهمه للأسف مدير منظمة التجارة العالمية ان هذه الخلافات لن تغادرنا ولن نتخلص منها بسهولة وذلك ببساطة لأن اتحادنا (مجلس التعاون) لم يتأسس على ذات المعايير والشروط القانونية والديمقراطية وبضمنها المشاركة الشعبية التي اوصلت الاتحاد الاوروبي الى انجاز العملة النقدية الاوروبية الموحدة، الذي مازال وسيظل يبهرنا ويثير عجبنا.
صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2009
ما وراء سيرة صدام حسين (3 – 5)
لعبت ثورة تموز عام 1958 دوراً كبيراً في دفع شخصية صدام حسين لاحتراف العنف كطريق سياسي رئيسي. كما تعبر هذه الثورة الانقلابية العسكرية عن تحول الجيش المؤسسة العسكرية إلى أداة السيطرة الأولى على الحياة الاجتماعية فدخلتْ فيه الصراعاتُ الطبقية ومزقته.
لم تكن ثمة قوة تغيير وطنية أخرى، ولم تتحول أي قوة سياسية إلى تشكيل جبهة وطنية لإحداث تغييرات إصلاحية حتى داخل النظام الملكي، فالأحزاب العراقية في حالة عراك دائم، خاصة بين الحزبين البعثي والشيوعي، فالأول رغم صغره يتنطع للقيادة عبر أسلوب العنف الذي صار هو سمة الحياة السياسية، والثاني يتمدد عبر النمو السياسي الجماهيري، من دون أن يحول هذا النمو الواسع إلى خطة تغيير للحياة السياسية وإلى تغيير في النظام عبر فرض إصلاح زراعي وغير ذلك من إجرءات أساسية ديمقراطية لقطع طريق العنف الدامي الذي يعدهُ البعث للعراق. فكان هو نفسه أي الحزب الشيوعي معبأ بمثل هذه الهواجس الصدامية العنفية من دون أن يمتلك المبادرة والجرأة لانتزاع السلطة، فغدا ذيلياً للقوى المتحكمة وهذا طريق رفضه البعث رغم جسمه السياسي الصغير.
إن قطع الضباط الكبار في الجيش العراقي تنامي العملية السلمية واستيلاءهم على السلطة قد فتحَ البابَ واسعاً لتدفق الصراعات العنيفة، فهؤلاء الضباط لم يكونوا على دراية عميقة بالبناء الاقتصادي، ولم تكن لهم مؤسسات سياسية مهمة وذات تفتح وعقلانية، واستلموا السلطة وحصروها في ذواتهم الفردية الرهيبة، رغم أن منظمة الضباط الأحرار جذبت تيارات سياسية عديدة كان فيها بعثيون وقوميون وهم الذين غدوا قوة الحركة المنظمة، وبهذا الاستيلاء تمت الإطاحة بالنظام الملكي ذي المراكز المتعددة، وذي الديمقراطية المحدودة ولكن المفيدة، التي أُجهضتْ عبر صعود قوة شمولية عسكرية تركزت في مجموعة قليلة من الضباط فتحت البلاد على مصاريعها للصراعات الدموية.
وبدت هشاشة تنظيم الضباط الأحرار العراقيين من خلال الشخصيات الكبيرة التي أمسكت مقاليد السلطة، التي لم تكن لها دراية بالقيادة السياسية لجهاز الحكم، وليس لديها خطط للتغيير، ولم تحافظ حتى على كيان تنظيم الضباط الأحرار، وغدا الرجلان البارزان فيها عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، يتصارعان ويدبران المؤامرات أحدهما للآخر، وساند الشيوعيون عبدالكريم فيما ساند البعثيون والقوميون عبدالسلام، وهكذا تمزقت القوى الوطنية ذات العقول الضحلة الهشة، وطمح كلٌ منها لافتراس الآخر.
أدت هذه الموجة إلى بروز أحمد حسن البكر كأكبر ضابط بعثي في الجيش، ولم يكن بنفس الطرق الدموية المغامرة مثل صدام، لكنه صار المظلة التي ينمو تحتها بعض السياسيين خاصة من ذوي الأجرام والشهية الدموية كناظم كزار، هذا الرجل الذي مهد الطريق لصدام وعلمه الطرق الكبيرة في سلخ المعارضة الشيوعية خاصة، ووسع صدام السلخَ على الجميع بمن فيهم البعثيين. فبدأ الظهورُ الكبيرُ لـ (مسلخة) العراق وليس لجمهورية العراق المزعومة.
عبر أحمد حسن البكر انفتحت الطريقُ نحو السلطة لصدام، ولكن هذا الطريق كان مفروشاً بعمليات الاغتيال الواسعة لإزالة العقبتين الكبريين اللتين تتحكمان في السلطة عبدالكريم وعبدالسلام.
فصدام حسين المهمّش قفزَ إلى مقدمة المسرح عبر عملية اغتيال عبدالكريم قاسم، وكان مساعداً في تنفيذ العملية لكنه أفسدها باقتحامهِ موكب عبدالكريم رئيس الوزراء وقائد الجيش قبل رفاقه وإطلاقه الرصاص قبل خروج زملائه في هذا العمل الذي لم يمت فيه عبدالكريم. كان هذا تعبيراً عن رغبة متأصلة وإجرامية في تصعيد الذات، وتصعيداً لمضمون الحزب الغائر، باعتبارهِ حزبَ التصفيات والمغامرات الكبرى. وكان هذا عملاً محفوفاً بالمخاطر ولو نجحَ لفجر حرباً أهلية كارثية، ولكن قيادة البعث وصدام لم يكونا يهتمان بمثل هذه النتائج. صحيح إن هذا كان رداً على قمع الدكتاتور قاسم الدموي للمتمردين على سلطته لكن هذا العمل كان يعني ولادة الفاشية بشكل رسمي.
وبهذا وضعَ صدام قدمَهُ على العتبة الأولى لمنهجهِ السياسي، باعتمادِ القتل طريقاً، فتداخل طموحُ الحزب المغامر وطموحُ الزعيم القاتل. وكان فرارهُ من العراق ومرورهُ بسوريا والتقاؤه بميشيل عفلق، وكان هذا اللقاء تعبيراً عن فلسفة الجريمة كما جرت في رواية(الأخوة كرامازوف)، حيث يقومُ الأخُ المثقف بتصعيدِ الأخ المجرم، وفي حين يتوارى المثقف وراءَ جملٍ فكريةٍ منمقة، يقوم الأخُ الوضيع بتنفيذ الأعمال الدموية. وسرعان ما أعطى عفلق بركاته لهذا الهارب المجهول، ورفعهُ مقاماً علياً. وبفضلِ هذه البركة فـُتحت له طرق اللجوء لمصر والحصول على شهادة لإثبات قدرته على أنه مثقف كذلك، من دون أن يتحول فعلاً إلى مثقف.
بابتعاده عن العراق تمكن البكر من تجنب أعمال صدام الطائشة، وراح يستفيد من مركزه في منظمة الضباط الأحرار في نسج التحالفات للتخلص من قاسم، ولم يكن متسرعاً في ذلك، بل ترك الضابطين الكبيرين قاسم وعبدالسلام يستنزفان نفسيهما في صراع طاحن، فسحق عبدالسلام قاسماً، وتولى السلطة، وما لبث أن مات في حادث طائرة وقال العراقيون بالعامية؛ (طار لحمْ ونزل فحمْ)، وكان البديلُ أخاه عبدالرحمن العسكري العاطل عن الفعل والتأثير، الشبح الذي تولى السلطة قامعاً للبعثيين والشيوعيين مرة ومطلقهما مرة أخرى. وقد نجا واستفاد عبدالرحمن هذا وصار مستثمراً لم يُضرب بفأس وختم حياته بارتياح في المنفى.
لا ننسى بطبيعة الحال هنا المجرزة التي قام بها البكر وبترتيب ناظم كزار للشيوعيين في سنة 1963، حيث تم الذبح في الشوارع وفي دواخل البيوت للرجال والنساء والصغار بإطلاق النار مباشرة بدون أي كلام، ومرة أخرى يتم تشجيع مثل هذه الأعمال في المنطقة ويتم تغذية الوحش السياسي الصاعد في بلاد ما بين النهرين.
وبهذا فإن البكر وفّر غطاءً لقدوم صدام من مصر، واستعادة موقعه في الحزب، وهو يتركه فترة ثم يستدعيه، وفجأة يحوله إلى ساعده الأيمن. كان هذا شكلاً آخر لطريقة عفلق في تصعيد العوام للمناصب الخطرة، وهم خاصة العسكريين الذين التهموا السياسيين المدنيين بعد ذلك. لم يكن البكر يحبه بل وجده شخصية مدنية يمكن أن تصد التهام العسكريين له.
وأسرع صدام في وضع ناظم كزار عبقري الذبح تحت إمرته، وبهذا تجمع رجلان في منتهى الخطورة تحت سقف مكتب واحد هو قيادة منظمة التجسس والاستخبارات المُسماة (حنين)، ورغم أصداء الاسم الرومانسية وعلاقته بتغرب صدام وحنينه للوطن والدماء، إلا أن المنظمة كانت شيئاً آخر، كانت أخطبوطاً راح يتغلغل في كل خلايا الحياة السياسية، بما فيها حزب البعث نفسه، متتبعاً الهمسات والعلاقات، ثم منشئاً مراكز في كل المدن، مجنداً العملاء في الطوائف المختلفة.
ثم استغل حزبُ البعث هزيمة يونيو سنة 1967 وصوّر نفسَهُ المنقذ القادم للعرب من الهزائم، والمنشيء لحكم يهزم إسرائيل ويزيح الصهيونية من المنطقة، وهي الحجة التي كررها كثيراً في المغامرات التالية كافة.
صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2009
«التقــدمي» يتقـــدم
بنجاح كبير أنجز المنبر التقدمي مؤتمره العام الخامس، بعد عمل تحضيري جيد، نوقشت خلاله مسودات الوثائق المرفوعة للمؤتمر الذي ناقش واقر تقرير اللجنة المركزية ومكتبها السياسي عن عملهما خلال الفترة المنقضية منذ المؤتمر السابق، كما أقر وثيقتين مهمتين: الوثيقة السياسية التي جاءت تحت عنوان:”من أجل تجديد الإصلاح والتغلب على معوقات البناء الديمقراطي”، فيما جاءت الوثيقة الثانية تحت عنوان”رؤية المنبر التقدمي للإصلاح الاقتصادي في ظروف الأزمة المالية”.
وفي نهاية أعمال المؤتمر جرى انتخاب اللجنة المركزية الجديدة المكونة من خمسة وعشرين عضواً، بينهم نسبة كبيرة ممن يدخلونها لأول مرة، حيث انتخبت سبعة منهم للمكتب السياسي ليشكلوا نحو ثلثي عدد أعضائه المكونين من أحد عشر عضواً، مما يعني إضفاء حيوية إضافية على أداء “التقدمي” بفضل الدماء الجديدة التي ضخت في شرايينه، تأكيداً على جمعه بين روح الاستمرارية في نهجه السياسي، وبين التجديد في طاقاته وأنشطته ومبادراته.
وخلقـت أجواء المؤتمر وسلاسة سير أعماله والسرعة في تشكيل هيئاته القيادية الجديدة جواً من التفاؤل والحماس الذي يسود في صفوف “التقدميين”، الذين يدركون المهام الكبيرة المنتظرة منهم في المرحلة المقبلة، ويثقون في قدراتهم على النهوض بهذه المهام، من خلال المزيد من رص صفوف المنبر الداخلية، وتطوير أدائه السياسي، وعمله الجماهيري، وإبراز موقفه السياسي والفكري المستقل، الذي هو ضرورة من ضرورات استنهاض التيار الديمقراطي في البحرين، المطالب بأن يشكل مركز استقطاب سياسي واجتماعي قوي في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذي أكدت عليه وثائق المؤتمر الخامس و مداولاته، ومجمل توجهات وأفكار ومبادرات “التقدمي”، خاصة في الفترة الأخيرة، بعد أن نجح بإخلاص وحرص كوادره وأعضائه في تخطي المصاعب الداخلية التي أربكت عمله في سنوات سابقة.
في الظرف الراهن، وفي المستقبل أيضاً، فان أنظار قطاعات واسعة في المجتمع تتوجه نحو تنظيمات التيار الديمقراطي متطلعة لدورها في مواجهة ما آلت إليه الأمور في البلاد من اصطفافات طائفية بغيضة، ومن تعثرات في انجاز مهام الإصلاح، ومن هجوم على أفكار التقدم والتنوير وتراث التسامح في البلاد، والمنبر التقدمي تنظيم رئيسي في التيار الديمقراطي، فهو يمثل التيار الأعرق فيه، بتاريخه وتضحيات مناضليه وخبراته الكفاحية.
وهو مطالب بأن يكون مستعداً لمثل هذا الدور عبر التجديد المتواصل لآليات عمله وتقوية بنيته التنظيمية والنهوض بمستوى الوعي السياسي والفكري لأعضائه، وعبر المزيد من المبادرات السياسية المتصلة بالتصدي لمهام الإصلاح الملحة، خاصة صون الحريات العامة، والدفاع عن الحقوق المعيشية للشعب، والاستمرار في تقوية المجتمع المدني الحديث وتفعيل دوره ليكون فاعلاً رئيسياً في مجمل النشاط الاجتماعي – السياسي في البلاد.
ومجمل تلك القضايا هي مهام صعبة ومعقدة، وتحتاج للمزيد من المثابرة والهمة والحماس والاستعداد للتضحية، خاصة في الظروف المعقدة التي ننشط فيها، ولكن كل ذلك يتعين ألا يثني أعضاء “التقدمي” والمناضلين الوطنيين في هذا البلد عن مواصلة العمل بجد وعزيمة في سبيل بلوغ الأهداف التي وضعوها نُصب أعينهم.
والمنبر التقدمي الذي خطى ويخطو خطوات إلى الأمام قمينٌ بأن يواصل تقدمه في هذا الاتجاه، ولديه الكثير من القدرات والطاقات الكفيلة بتمكينه من ذلك.
الإلحاد بين الماركسية والداروينية
يعد كل من الالماني كارل ماركس والانجليزي تشارلز داروين من جيل واحد تقريبا، فالاول ولد في عام 1818 وتوفي في عام 1883 فيما ولد الثاني في عام 1809 وتوفي عام 1882، وكل منهما أسس نظرية ارتبطت باسمه أحدثت عاصفة عالمية من الجدل المحتدم بين مؤيد ومعارض مازالت زوابعها تتجدد بين الفينة والاخرى حتى يومنا هذا على الرغم من مرور زهاء أكثر من قرن ونصف القرن على كلتا النظريتين اللتين ظهرتا أيضا في وقت متقارب. ماركس ارتبط اسمه بالنظرية التي اقترنت باسمه ألا هي النظرية الاشتراكية أو النظرية “الشيوعية” التي ظلت على امتداد عقود طويلة لا يقترن اسمها في بلدان عديدة، وعلى الاخص البلدان العربية والاسلامية، الا بالالحاد فقط، وذلك لانها تقوم على الماديتين الديالكتيكية والتاريخية في تفسير الكون وفي تفسير التاريخ وتطور المجتمعات. أما داروين فقد ارتبط اسمه بالنظرية التي اقترنت باسمه ألا هي النظرية الداروينية وذلك على اثر صدور مؤلفه الشهير “أصل الانواع”، الذي أحدث حينها ضجة عالمية من الجدل وعلى الاخص في اوروبا بين مؤيد ومعارض وتمر هذه الايام ذكرى مرور 150 عاما على ظهور هذه النظرية أو صدور كتابه المشار اليه.
مفاد أو زبدة نظرية ماركس باختصار شديد تقوم على التفسير المادي للتاريخ والمجتمع والطبيعة معا، وان العلاقات الاقتصادية، وتحديدا علاقات الانتاج، تحتل المرتبة الاولى في علاقات المجتمع، ومن ثم فإن الاقتصاد السياسي، أو علم تطور علاقات الانتاج هو من ركائز النظرية الماركسية الاساسية، وتعد الماركسية نظاما منسجما من المفاهيم العلمية المتعلقة بالقوانين العامة التي تتحكم بتطور الطبيعة وبالمجتمع وبانتصار الاشتراكية والوصول الى المرحلة الشيوعية المرحلة الاكثر تطورا من الاشتراكية. وبهذا يمكن القول ان ماركس يعتبر الصراع الطبقي هو المحرك الرئيسي للتاريخ، وان تاريخ المجتمعات حتى يومنا ليس سوى تاريخ للصراع بين الطبقات، وهو صراع يحتدم في المجتمعات الرأسمالية الى درجة الثورة العمالية التي تقضي على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج لتؤسس نظاما جديدا يقوم على الملكية العامة هو النظام الاشتراكي.
أما مفاد أو زبدة نظرية العالم البيولوجي داروين المعروفة بالداروينية أو نظرية التطور فتقوم على ان الانواع الحالية من الحيوانات والبشر لم تظهر أول مرة بأشكالها المعاصرة وانما مرت بتطورات متدرجة عبر ملايين السنين.
لم يستند داروين في نظريته الى مجرد أبحاث علمية نظرية أو معملية، بل لعبت رحلته المشهورة على السفينة “بيجل” التي استمرت خمس سنوات دورا في الانتهاء الى تلك النتائج، حيث لاحظ الروابط الجيولوجية بين الحيوانات الحالية والحيوانات المنقرضة في أمريكا اللاتينية. وفي كتابه “أصل الانواع” الذي صدر عام 1859 وزلزل العالم حينذاك، وعلى الاخص لدى الاوساط العلمية والفلسفية والدينية، يبين ان ثمة علاقة نسب بين الفصائل الحيوانية وان بعضها ينحدر من بعض تحت تأثير عوامل البيئة المحيطة، وان الاصطفاء او الانتخاب الطبيعي هو الذي يفضي الى بقاء الاصلح منها والاقدر تكيفا مع البيئة.
ومع ان بعض العلماء مثل ارنست هيكل قد بنى على نظريته ان الانسان “أصله قرد”، إلا ان داروين لم يتلفظ بهذه العبارة قط. وبالرغم من ان الماركسيين أيضا خلصوا من نظريته التي استفادوا منها كثيرا بتوظيفها لاثبات صحة الفلسفة المادية بأنه كان ملحدا فإنه رفض اتهامه بذلك: “لم أصل أبدا الى الإلحاد بالمعنى الصحيح لهذا اللفظ، أي انكار وجود الله، لكني أعتقد على وجه العموم وكلما امتد بي العمر ان الوصف الادق لحالتي العقلية هو اللاأدرية”.
والطريف في الأمر ان كلا التيارين الرأسمالي والماركسي استفاد من نظريته لكن على طرفي نقيض، فلئن كان التيار الثاني قد وظف خلاصات نظريته لاثبات صحة المادية الديالكتيكية التي تفضي الى الإلحاد، وانتقد التيار الماركسي طريقة تفكيره البرجوازية، فإن فريقا من علماء ومفكري التيار الاول (الرأسمالي) لم يتوانوا عن توظيف خلاصاته في الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح في الحياة الطبيعية بتعميمها على الحياة الاجتماعية لتبرير وترويج نظرياتهم العنصرية المتعالية للحط من الطبقات الدنيا والاعراق غير البيضاء، وعلى الاخص السوداء، باعتبارهم أقل ذكاء وأقل قدرة على التكيف مع الحياة الاجتماعية التي لا تناسب إلا الاصلح والاكثر ذكاء وتفوقا من البشر.
وفي الذكرى الـ 150 على صدور مؤلفه “أصل الانواع” يتفجر من جديد الجدل حول هذا الكتاب حتى ان أكثر من 600 عالم بارز في البيولوجيا والكيمياء والفيزياء والرياضيات في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الاوروبية وروسيا وجهوا نداء بالتخلي عن تدريس نظريته في المدارس والجامعات، ناهيك عن معارضة رجال الدين، فيما يطالب فريق آخر بتدريس النظرية والمعارف الدينية على حد سواء. وفي روسيا، وعلى الرغم من مرور ثلاثة أرباع القرن على نفي الدين الذي اتبعه الحكم الشيوعي السوفييتي السابق، ثمة اهتمامات متزايدة بالمعارف الدينية وبرزت مؤخرا مطالبات بتدريسها، ولو من باب الاحاطة بها، في المدارس والجامعات من دون ان يعني ذلك الإخلال بالأسس العلمانية للدولة.
صحيفة اخبار الخليج
26 مايو 2009
ما وراء سيرة صدام حسين (2 – 5)
التكونُ الشبابي لصدام حسين لم يتشكلْ فيه انتقالٌ للحداثة والثقافة، فلم يعطهِ التعلمُ في تكريت مستوى فوق مستوى العامل العادي، فوجدَ نفسَهُ يرحل لبغداد ويتكسبُ عيشه ببيع بعض السلع في الليل.
لم يقدرْ بهذا أن يكون ذا وظيفةٍ مهمة، لكن طموحاتِهِ لا تقفُ عند حد، لقد سَدتْ عملية انطفاءِ المهاراتِ الفكرية لديه سُبل ترقيهِ السلمي، ولم يحاول خلال هذه السنين تعويض ذلك بالتثقيف الذاتي المتواصل العميق، وكانت الشعاراتُ السياسية وخاصة البعثية تحلقُ حول محيطه الأسري والرفاقي بقوة شديدة، من قبل خاله نموذجه العائلي الحميم، لكن خاله اصبح نائياً عنه الآن، وتنظيم البعث محدود، وكان عددُ الأعضاء لا يتجاوز ثلاثمائة شخص، والشيوعيون كانوا ذوي جماهيرية واسعة.
فزاوج بين الرياضة الجسدية واستثمار عضلاته وقواه البدنية، وبين التغلغل في الجماعة السياسية البعثية.
اختيار البعث كان ذا دلالة اجتماعية، فرغم أن العديدَ من البعثيين من المثقفين وبعضهم من المثقفين الكبار، فإن البعثَ ليس تنظيماً جماهيرياً ناضلَ بصورةٍ دائبةٍ بين الجماهير العاملة والفئات المتوسطة واكتنز بالمعرفة من خلالها ومن خلال الجدل مع الواقع، كان حزباً نخبوياً صغيراً، وكذلك اعتمد على مبدأ التسلق السياسي.
إن التسلقَ السياسي يتشكلُ من الأعلى، من قراراتِ القادةِ للالتحاقِ بمؤسساتِ الحكم البارزة، وبالتالي احداث قفزة في وضع الحزب عبر رفده بالأعضاء والأنصار الذين يستفيدون من تسلقه في أجهزة الحكم وعطاياها الوفيرة، لكن النظامَ الملكي الاستبدادي الضيق الأفق تحت إدارة نوري السعيد الضحلة، لم يكن يسمح حتى بمثل هذا التسلق الواسع، فحدثَ التسلقُ في مؤسسةٍ خطيرة هي الجيش، وكان هذا اختزالاً لتاريخ الشرق كله .
إن الأسرَ الريفية المحدودة الثقافة والمهارات التقنية توجه ابناءها للجيش حيث الوظيفة السهلة ذات اليسر المادي، فيقوم البدو أو الفلاحون بنقل مهاراتهم وقوتهم البدنية إلى الحياة العسكرية، ويكسبون معيشة جيدة، مثلما أن التيارات السياسية السائدة بينهم في تلك المرحلة تتغلغل هي الأخرى في الجسم العسكري.
وهذا ما تكون لدى خيرالله طلفاح الذي كان مؤسساً للجانبين: دخول أهله الريفيين الجيش، وإيمانه بالبعث، وهذا ما لاحظهُ صدام وهو يرى ابن خاله يصبحُ عسكرياً وهو الأصغر منه، فيلاحظ كيف أن خاله اهتم بولده ونسيه، وكذلك تقدم للكلية العسكرية ورفضتهُ لضعفِ مستواه الدراسي، فبدأ يركز في ذاتهِ وحديديتِها وصرامتها، وأن يدخلَ الجيشَ من النافذة، بدلاً من الأبواب الشرعية، فقدْ فقدَ قدرتـَهُ على تنميةِ ذاتهِ بشكلٍ ثقافي منظم وعلى تنميةِ ذاتهِ بشكلٍ عسكري منظم كذلك.
وهذا الإصرارُ على العسكرية الذي تولـّدَ من اهتمامهِ بمهاراتهِ البدنية، يعبرُ عن الإرث الاجتماعي العنفي الراسخ لدى هذه القبائل التي تحملتْ الاضطهادات الطويلة واعتبرت القوة هي وسيلتها للحكم والتغيير والشمم العالية. لم تتجذر في إنتاج تحديثي، وعاشت على سير القادة والفاتحين الأبطال قواد الأمة والمذاهب.
وهو ميراثٌ عنفي تجذر في صدام وجعلتهُ الشعارات البعثية يحلقُ في سماءِ الأبطال التاريخيين، لكن الأبواب عبر الجيش سُدت في وجهه، فما كان منه سوى اللجوء للعصابة، لاستخدام العنف في السياسة.
كانت مهاراتهُ البدنية وجرأتهُ ومحدودية ثقافته تؤهلهُ لهذا الطريق، وراحتْ الجماعة البعثية توجههُ نحوه وتخصصهُ فيه، فمن يستطيع القيام باغتيال فلان؟ من يستطيع تكسير رأس الملا الشاتم للبعث؟ من يستطيع الاعتداء على فلان؟ كانت الإجابة دائماً لدى صدام: (أنا استطيع ذلك).
كان تقزمهُ الشخصي بين كتل المثقفين والسياسيين البعثيين أنفسهم، يجعله صموتاً، ومشتعلاً داخلَ نفسه من هذه الهامشية الاجتماعية التي يعيشُها، فيضطرمُ ناراً في داخلهِ، ويريدُ أن يقفز، أن يرتقي إلى الذروة، لكنه لا يملكُ مثل هذه المعارف الغزيرة، ولا مثل هذه الطلاقة البيانية التي يشتهرُ بها مثقفو العراق.
كان طرح مثل تلك المهمات القذرة في وسط حزبي مدني، يعبرُ كذلك عن الطريق المغامر الذي بدأ ينحرفُ فيه البعث، إن حجمَهُ الصغير وطموحاته اللامحدودة التي دخلَ فيها التوحشُ العنفي العراقي، لا يعطيه صعودَ مثل هذه القفزات الكبرى، بل انه لا يكتفي بتوحيد العراق المفتت داخلياً بل توحيد الأمة!
ومن جانبٍ آخر فإن مثل هذه القفزات السريعة في تكوين صغير نخبوي ذي علاقات محدودة بالناس، ويطمح لتلك المهات السياسية الكبرى، لا تؤدي سوى إلى اختزالِ كل شيء، اختزال وحرق المراحل، واختزال وحرق البشر، وفوضوية المهام السياسية وعفويتها وتخريب التطور الاجتماعي عامة.
هنا لا تـُقام أوزانٌ للأخلاقِ والفضائل وتغدو الميكافيلية فاقعة، وسوف تتصاعدُ مهماتُ العنف، بدلاً من التثقيف والدرس والتخطيط لتغيير المجتمع، لا وقت هنا لدرس الأديان، والاتكاء على جوانب منها، وليست هنا علمانية ولا غيرها من الأبنية السياسية الحديثة سوى أساليب الهتلرية، حيث تـُهاجم مقرات الأحزاب الأخرى، وتتفجر الشجاراتُ مع الشيوعيين في السجون وتسيل الدماء بغزارة، وهي مقدماتٌ لما سيأتي لاحقاً من تكتيكات استخدمها هتلر وموسوليني بوفرة.
إن العدمية الدينية هنا لا تعني كذلك إلحاداً بل هي هجرٌ للتاريخين الثقافي الإسلامي والإنساني، واعتماد مصلحة الحزب الذي هو فوق الجميع وفوق الأديان والطبقات. وسيتحول ذلك إلى: أنا صدام فوق الجميع أنا العراق فوق الجميع!
كان طريق العنف فيما قبل ثورة تموز سنة 1958 ساذجاً تافهاً، مثل ضرب رجل دين أو تكسير عظام لشيوعي، وقد بدأ صدام هنا تكوين فريق القوة لديه حيث الحصى والزجاجات والسكاكين هي عدة الشغل، وعملية تجميع مثل هؤلاء الأعضاء الحزبيين لتنفيذ جرائم جعلته يتقاربُ أكثر مع المهمشين والبلطجية والقابلين لمثل هذه العمليات القذرة، التي غدتْ منذ الآن، فيما قبل تموز 58، الفرع الخفي من حزب البعث، أي طابقه التحتي السري لتنفيذ ما تعجزُ عنهُ سياسة الحزبِ الفوقية المدنية، التي تترافقُ مع مصطلحاتِ الحضارة والمدنية الضبابية الملامح والمؤدلجة لتصعيد الدكتاتورية، ولكن الطابقَ السفلي هنا محدودٌ، يقتصرُ على شلةِ صدام، وكذلك بعض الخلايا في الجيش التي تحركتْ بسرعةٍ أكبر حيث يوجدُ نموذجٌ آخرٌ مشابهٌ لصدام وقريبه الأسري وهو أحمد حسن البكر.
صحيفة اخبار الخليج
26 مايو 2009
عمودي وأفقي
يمر عالم نبات في غابة، فيرى ورقة صفراء، فيقف عندها ليقول أي شيء عن الصبغة الخضراء التي جفت، وأشياء عن تأثير الضوء في هذه الصبغة، وهكذا. ويمر الأديب بالغابة نفسها، والورقة الصفراء نفسها، ويتأثر بما يرى، فماذا سيقول؟ قائل هذا الكلام أو مؤدي هذا الكلام، هو العلامة العراقي الكبير الراحل علي جواد الطاهر في مطلع كتابه عن النقد الأدبي. إنه كتاب وضع لتلاميذ المدارس العليا وطلبة الجامعة، ولكن هؤلاء لم يكونوا يرمونه حال الوصول إلى البيت، كما يرمون سواه من الأعباء المدرسية، على نحو ما يذهب إلى ذلك أستاذنا د. محمد حسين الأعرجي. إنه كتاب كسر فيه صاحبه رتابة الأدب وتجهمه اللذين يبدوان للطلبة على شكل محفوظات ثقيلة، فإذا به على يد علي جواد الطاهر يبدو سلساً، محبباً، لطيفاً وجذاباً.. كان الطلبة الجدد يختارون الانتساب إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب ليكون الطاهر أستاذهم، كانت أمنية الكثيرين أن يتتلمذوا على يديه، ويسمعوا محاضراته، ويتبادلوا معه الآراء عن قرب على نحو ما يفعل طلبة الجامعة مع أساتذتهم المحبوبين. «ولو كانت الجامعة جامعة لا تلتزم بالأوراق التي تسميها شهادات الأساتذة، لكان سعدي يوسف أولى بهذا الكرسي مني لنسمع رأيه ونناقشه»، قائل هذا الكلام الذي يفيض بالتواضع هو علي جواد الطاهر نفسه، أستاذ النقد والبلاغة الذي ربى أجيالاً من الأساتذة الكبار، وقال هذا الكلام أمام طلابه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة بغداد، وهو يعرض لهم حركة الشعر الحر في العالم، ثم يعرج على هذه الحركة في العالم العربي وفي العراق بصورة خاصة. وهذا القول من أكاديمي صارم مخضرم عرف بالدقة التي كانت تتعب طلبة الدراسات العليا حيث كان يشرف على أطروحاتهم العلمية، يدل على سعة أفقه، وإدراكه أن فضاء الثقافة والإبداع أوسع وأرحب.. لقد درس في «السوربون» وتخرج فيه يوم كان السوربون «سوربوناً» ودرس على يد الشهير ريجيس بلاشير، لكن ذلك لم يمنعه من أن يرى في أستاذ من أساتذة المرحلة الثانوية الذين درسوه بمدينته، مدينة الحلة، مثلاً من الأمثلة في حياته: «درّسنا التاريخ القديم، وكأنه عاش مع السومريين». مرة سجل الشاعر يوسف الصائغ رسالته للماجستير بعنوان «الشعر الحر في العراق منذ نشأته عام 1958» تحت إشراف علي جواد الطاهر، فكان أن قسم الصائغ خطة أطروحته إلى أربعة فصول هي: «السياب، نازك الملائكة، البياتي، بلند الحيدري» وعرضها على أستاذه فاستحسن الخطة، وبعد أن أنجز الطالب أطروحته عرضها على الأستاذ الذي قرأها أول مرة أو مرتين باستحسان، لكنه بعد القراءة الثالثة استدعى الصائغ وفاجأه بالقول: – كتبت راسلتك يا يوسف أفقياً، وينبغي أن تعيد كتابتها عمودياً، كأن تكون: «اللغة، الصورة، الفكر، وما أشبه». كان على الصائغ بعد ذلك، الذي ظن أنه أنجز الأطروحة، أن ينفق سنة أخرى كاملة في إعادة كتابتها، لكن تلك لم تكن سنة ضائعة، إنها سنة للمعرفة بتوجيه الأستاذ العارف.
صحيفة الايام
26 مايو 2009
موت النمر التاميلي.. ولكن؟
لم تنته حركة سياسية معارضة ومسلحة بتلك القصة المريرة والتراجيدية، ليس لقادتها وحسب وإنما لشعب واثنية كاملة هربت من مناطقها طلبا للامان بعد أن تحولت إلى دروع بشرية وفق الوكالات الرسمية، ولكن تلك الدروع البشرية كانت لوقت طويلة ولواقعها الجغرافي أسيرة للمنظمة التي انبثقت في السبعينات، وفي خضم حركات التحرر الوطني المسلحة، وفي ظل توازن قوى دولي، وان كان يومها طرفا النزاع المدعومين من الهند والحكومة السيرلانكية كانتا داخلتين في حلقة دول معادية للامبريالية، ولكن مأزق الهند وسيرلانكا في تلك الفترة كان يدفع بالضرورة لتخفيف حدة الصراع الدموي، مراعية الحكومة المركزية السيرلانكية وجهة نظر جارتها بالتخفيف من عدم استخدام العنف المطلق والأسلحة الثقيلة، أو باكتساح الجيش السيرلانكي مناطق التاميل، وكانت الحكومتان الهندية والسيرلانكية تراهنان على إمكانية حل مسألة مطالب التاميل بالطريقة السلمية، وبتغيير وجهة نظرهم من مطالب دولة انفصالية إلى مطالب من الممكن تلبيتها من الحكومة المركزية بإعطاء الاثنية التاميلية المزيد من الاستقلالية الذاتية في إدارة المناطق التي يتمركزون فيها وهي في شمال شرق البلاد. كان على المنظمات المتعددة من القومية التاميلية أن تنتهي في نهاية المطاف بتأسيس جبهة موحدة من عدة قوى وحملت اسم «جبهة نمور تحرير التاميل ( إيلام ) «ولكنها سرعان ما دخلت في صدامات وتصفيات دموية انتهت بانتصار وبقاء نمور التاميل التي تملكتها نزعات التطرف والإيمان بالعنف والكفاح المسلح كطريق وحيد للتحرير من هيمنة الحكومة المركزية السنهيلية التي احتكرت كل المناصب وهمشت الاثنيات الأخرى في المجتمع. مهما اتفقنا أو لم نتفق مع أطروحة الطرفين في الاتهامات المتبادلة، فان العنف المسلح لم يكن علاجا ناجعا للاثنيتين وتسببت في تدمير وتطور سيرلانكا وتنميتها فقد تطور عمل نمور التاميل واخترق المؤسسات العسكرية والأمنية، فقامت بتفجيرات وعمليات انتحارية كانت من أوائل من اخترعها، وكانت المرأة الانتحارية التاميلية هي النموذج العالمي الفريد الذي قدم لنا نوعا من العنف النسوي الجديد ألا وهو «المرأة الانتحارية بالحزام الناسف». هذه الاختراقات والأعمال في مواقع متنوعة في البلاد منح الحركة مكانة خاصة في حقبة كان للكفاح المسلح قيمة متميزة. انتهت تلك الإضاءة الثورية مع تبدل وتغير في الوضع العالمي ووضع التاميل على لائحة جديدة اسمها المنظمات الإرهابية، و بخلق تعريفات وتصنيفات جديدة لمفهوم الإرهاب والعنف، انتهت بمحاصرة التاميل دوليا وفقدان الكثير من الدعم السياسي والعسكري. كان على الحكومة السيرلانكية المركزية أن تقرر في العقد الأخير إنهاء شبح النمر التاميلي القابع في غابات شمال شرق الجزيرة الذي كثيرا ما أربك مشاريع تنموية وسياحية هناك، ولابد من إنهاء ذلك الصراع العنيف الذي دام أكثر من 26 سنة، دفع الأبرياء والعزل من الطرفين ثمنا باهظا. وباتت المناطق الصدامية متخلفة قياسا بمناطق أكثر هدوءا واستقرارا كما هي المناطق الوسطى والجزء الجنوبي والغربي من الجزيرة. الأعداد البشرية التي نزحت من بيوتها وفقدت حياتها، ليست إلا أرقاما وعناوين للوحشية الإنسانية ولضراوة الحروب التي تنتج ضحايا من المواطنين الأبرياء، بشر يقدمون لنا صورة لحضارتنا العارية. ما فعلته الحكومة المركزية من قصف عشوائي للخروج بانتصار عاجل، وما فعلته نمور التاميل من أعمال تطرف قادتها إلى تلك النهاية الكارثية المخزية، دفع في النهاية شعب بأكمله ثمنه، وكان عليه أن يرقص كتعبير عن «رح مؤلم» ما فعلته الحكومة المركزية أنها منعت الإعلام الدولي الدخول لمنطقة المعارك للتصوير وللوقوف كطرف محايد، إن ذلك الطمس للحقائق لن يمنع مستقبلا المنظمات الدولية من تقديم عسكريين كمجرمي حرب، مارسوا اعتداءات بشعة. ستروى حكايات وصور عن هذه الأزمنة، التاميلية، فمن تم قتلهم ليسوا هم مقاتلو التاميل ونمورها وإنما اثنية تاميلية ضمرت النزعة القومية الاستعلائية العسكرية كراهيتها نحوها، ورغبت الانتقام والتصفية والانتصار العاجل. من مات في هذه المعركة هم منظمة نمور التاميل، ولكن من بقوا هم شعب تاميلي له ارثه التاريخي العريق الممتد لشبه القارة الهندية، ويتوزع على مناطق عدة في العالم. فإذا ما كانت القومية التاميلية أربعة ملايين إنسان في سيرلانكا، فإنهم في الهند وحدها يقدرون 60 مليون، وفي سنغافورة مائة ألف وفي ماليزيا مليونان ومائة ألف وكندا مائتا ألف، هذا إلى جانب أعداد قليلة في الشتات التاميلي الذي لن يتوقف عن الرقص والغناء لتاريخ من المعاناة وهم يحملون على سفن الإمبراطورية البريطانية للعمل في مستعمراتها المتناثرة، كعمالة رخيصة وبعقود أشبه بالعبودية الجديدة، من اجل مزارع التبغ والشاي والقهوة التي كانت يومها المنافس الكبير للولايات الأمريكية وغيرها من الإمبراطوريات الامبريالية في العقدين السابع والثامن عشر. لقد قتلت القوة والدموية النمر التاميلي، ولكن الشعب التاميلي سيواصل مطالبه بطرق أخرى وباستمرار دون توقف.
صحيفة الايام
26 مايو 2009
مصالح الوزراء والنواب
من المؤكد ان الحكومة قصدت الربط بين رواتب الوزراء من ناحية ومكافآت وتقاعد أعضاء الشورى والنواب من ناحية ثانية، فمشروع قانون رواتب رئيس الوزراء والوزراء كان يفترض ان يقدم للمجلس الوطني بغرفتيه في نهاية 2002 أو بداية عام 2003 طبقاً للدستور، وليس بعد سبع سنوات من موعده….
ومكافآت رئيسا وأعضاء الشورى والنواب ليست قليلة، ولم يطالب أي واحد من الأعضاء الثمانيين بزيادتها، بل ان تحديدها بمرسوم مجلسي الشورى والنواب، وصدور هذا المرسوم قبل انعقاد مجلس 2002 وقبل الانتخابات النيابية كان مقصوداً واعتبر يومها وسيلة إغراء للمشاركة في الانتخابات وضد الدعوة لمقاطعتها، وهي الوسيلة التي نجحت بالفعل في استقطاب العناصر الكفؤه وغير الكفؤه للعمل السياسي، للمشاركة في الانتخابات والحصول على المكافأة المغرية والامتيازات الأخرى عند الفوز…
وتقاعد النواب والشوريين سبق ان أثير في مجلس 2002 وبالأحرى في النصف الثاني من عمر ذلك المجلس، واختلف أعضاء المجلسين حوله، فقد تحمس له الذين لا يودون ترشيح أنفسهم لمجلس 2006 أو أنهم خائفون من عدم الفوز، ولم يتحمس له الآخرون- وهم الأغلبية – و لأكثر من سبب، من هذه الأسباب ان المطالبة بمعاش تقاعدي بعد أربع سنوات من العمل التطوعي للخدمة العامة، وليس تأدية وظيفة معينة ، هذه المطالبة غير منطقية وغير عادلة خاصة والحديث يدور حول تقاضي معاشاً تقاعدياً بنسبة 80 في المائة من المكافأة (2006 دينار) للعضو وأكثر من ذلك بكثير لرئيسي المجلسين ونوابهما، وذلك في مقابل حصول الموظف العادي على هذه النسبة من المعاش التقاعدي بعد عمل متواصل يصل إلى 40 عاماً…
هذا في الوقت الذي احتفظ فيه جميع أعضاء الشورى بوظائفهم وأعمالهم طوال مدة تعيينهم في المجلس، وبعضهم أصحاب ورؤساء ومدراء شركات، والبعض الأخر تم تعيينهم في المجلس بعد ان أحيلوا على التقاعد في الوزارات أو الهيئات التي كانوا يعملون بها وأصبحوا يحصلون على معاشات تقاعدية، وكذلك الحال مع أعضاء مجلس النواب الذين يعملون في الأعمال الحرة أو القطاع الخاص، أو الذين ينتقلون إلى الأعمال الحرة بعد خروجهم من مجلس النواب أو عودتهم إلى وظائفهم الحكومية أو في الشركات، أو أنهم حصلوا على تقاعد مبكر منها…
وفي كل هذه الأحوال، فان الحكومة لم تكن تحت أي ضغط، وإنها لم تكن في حاجة إلى تقديم إغراءات جديدة لرؤساء وأعضاء المجلسين تتمثل في زيادة المكافآت أو إنشاء صندوق التقاعد ومنحهم معاشاً تقاعدياً يصل إلى 4000 دينار، لكنها أقدمت على هذه الخطوة، وفي هذا الوقت بالذات بعد ان وجدت نفسها مضطرة لتقديم مشروع قانون برواتب رئيس الوزراء والوزراء يمنحهم مرتبات تزيد عن ضعف ما هو معروف وما سبق ان تقدمت به الحكومة للمجلس في وقت سابق ومن ثم عادت وسحبته…
فهي – إي الحكومة- تريد إذن ان ترفع راتب رئيس الوزراء إلى (10300 دينار) في الشهر، و (247200) خلال دورة الميزانية كل عامين، وترفع راتب الوزير إلى (8200 دينار) شهرياً و (196800 دينار) كل عامين، وتريد من مجلس النواب – حسب الدستور الموافقة على هذه الزيادات الكبيرة، وهي موافقة لن تكون سهلة وسلسة ما لم يغلف طلبها في ورقة من السوليفان المرصع بالإغراءات التي يسيل لها لعاب النواب، أما أعضاء الشورى فهم معينون ولا يملكون إلا الموافقة….
وجاءت هذه الإغراءات دسمة ويسيل لها لعاب النواب حقاً، فقد حرصت الحكومة على أن يترافق مشروع قانون رواتب الوزراء مع مشروع قانون آخر بتعديل بعض مواد مرسوم مجلس الشورى والنواب يقضي بزيادة مكافأة النائب وعضو الشورى إلى 2500 دينار وتضيف له علاوة هاتف بمبلغ 300 دينار ليصبح إجمالي المكافأة الشهرية (4050 دينار ) و (972000 دينار) خلال دورة الميزانية العامة كل عامين، وكذلك زيادة مكافأة نائب الرئيس في المجلسين إلى ( 5050 دينار) و (121200 دينار) في عامي الميزانية العامة، أما الرئيس في أي من المجلسين فقد رفعت الزيادة مكافأته إلى راتب الوزير (8200 دينار) أي حوالي ضعف ما كانت عليه في السابق، (196800 دينار) خلال دورة الميزانية.
فما جرى إذا بين مجلس الوزراء من جهة ومجلسي الشورى والنواب من جهة ثانية هو تبادل مصالح، وتقاسم شطيرة من كعكة المال العام المهدورة أصلا….
فما مدى شرعية ولزومية وواقعية هذه الزيادات المتبادلة، وهل جاءت في وقت ووضع اقتصاديين مناسبين، هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه غداً….
مصالح الوزراء والنواب (2-2)
في مقال أمس… عرفنا السبب الذي من اجله تبرعت الحكومة بزيادات مغرية لرئيسي وأعضاء مجلسي الشورى والنواب، وأضافت عليها نظام وصندوق تقاعد..لكن معرفة السبب هذه لم تبطل العجب المترتب على الزيادات المقدمة للوزراء والنواب والرؤساء جميعاً، وذلك لان هذا العجب مرتبط بإيرادات ومصروفات الدولة، وبسلامة توظيف هذه الإيرادات، وقبل وبعد ذلك بالمحافظة على المال العام من الاستغلال والتبديد…
فمن الناحية المالية، وبعملية حسابية بسيطة نجد أن الرواتب الجديدة لرئيس الوزراء والوزراء خلال عامي الميزانية تكلف (4576800 دينار) والمسئولين والمستشارين الذين برتبة وزير يكلفون (3537600 دينار) والنواب وأعضاء الشورى (7192800 دينار) ورئيسي المجلسين (393600 دينار) ونوابهما الأربعة (484800) ليصبح مجموع رواتب ومكافآت وعلاوة هؤلاء المعلنة: (16185600 دينار) خلال عامي دورة الميزانية العامة للدولة، فإذا أضفنا لها علاوات تحسين الوضع بالنسبة للوزراء الجدد فعلينا أن ندرك كم يتكبد المال العام من انفاق على الرؤساء ونوابهم وأعضاء المجالس الثلاثة، والذين هم برتبة وزير ويضاهون في عددهم عدد الوزراء، مما يجعل حكومة البحرين المكونة من (44) وزيراً هي الأكبر على مستوى العالم.
ومن الناحية الاقتصادية فان تقرير هذه الرواتب والمكافآت والزيادات والعلاوات يأتي في وقت تنهار فيه أسعار النفط إلى حوالي 40 دولاراً وبالتالي تنهار الإيرادات النفطية بذات النسبة، والتي تشكل بدورها (80) في المئة من الإيرادات العامة، لتسجل الميزانية العامة اكبر عجز في تاريخها ويرتفع الدين العام إلى مستوى قياسي، ولتساهم هذه الزيادات بدورها في القفز بالمصروفات المتكررة إلى ما يفوق مجموع الإيرادات النفطية، أي أن إعلان الحكومة عن الرواتب والمكافآت الجديدة يأتي متناقضاً مع التطورات المالية والاقتصادية، والتي تتطلب تقليص المصروفات، وإعادة النظر في أولويات الانفاق، والدفع باتجاه تنويع وزيادة مصادر الدخل.
ومن ناحية المسئولية الوطنية والتي يفترض ان يتحلى بها أعضاء المجالس الثلاثة ومعهم الذين بربتة وزير، فان هذه المسئولية توجب على الجميع العمل من اجل خدمة الوطن والتضحية في سبيل رفعته وتقدمه وازدهاره، ومسئولية الخدمة الوطنية عادة تغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويحرص الذي يتولى المسئولية في أي مؤسسة عامة على ان يعطي أكثر مما يأخذ، وان يربط بين الإنتاجية والعائد من ناحية وطبيعة وحجم العمل الذي يؤديه، وتنبثق نظرته هذه من كونه عضواً في مؤسسة دستورية مهمتها ان تحاسب الآخرين على كيفية استخدام المال العام، والحد من الإسراف في صرفه والتلاعب فيه وتبديده….
فإذا كانت هذه مسئولية المجالس الثلاثة، وكانت هذه هي المهمة الموكلة إليهم، والتي ائتمنهم الشعب عليها، فكيف بهم يبددون المال العام على أنفسهم، ويوظفونه من اجل مصالحهم المتبادلة، ويضربون عرض الحائط كافة الظروف المالية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد وتنعكس بالسلب على عموم المواطنين…
كيف يسمح هؤلاء وهم قدوة الشعب في التصدي لتحمل المسئولية الوطنية بان يمنحون أنفسهم هذه الملايين من الدنانير، وهم يعرفون أنهم لا يقدمون عملاً يوازي ما يأخذون، وأن هناك الآلاف من المواطنين المنتجين في القطاعين العام والخاص الذين يطالبون بزيادات متواضعة على مداخليهم، وبتحسين وضعهم المعيشي، وبالحصول على السكن اللائق وعلى علاوة غلاء مشرفة، ولا يحصلون على أي شيء مما يطلبون، ألا يعد هذا التبديد للمال العام، وهذه الزيادات التي تفوق الضعف، مقابل الفتات الذي يحصل عليه المواطنون البسطاء ألا يعد ذلك تمييزاً مخالفاً للدستور، ولحقوق الإنسان..
البعض من أعضاء المجالس الثلاثة ومعهم طبقة المستشارين الذين يتلقون مكافآت مجزية مقابل انجاز مبهم، هؤلاء يقولون ان ما نحصل عليه من رواتب ومكافآت ليست بدعة، وان أغلبية الدول تدفع مثلها وأكثر، بل أن رواتب مدراء البنوك تفوق رواتب الوزراء والنواب، وهو قول صحيح، لكن الصحيح أيضا ان الوزير والنائب يتولى مسئولية وطنية عامة، والذي يقبل ان يتولى هذه المسئولية لا يقارن نفسه بالشخص الذي يتولى مسئولية مدير بنك مثلاً، فعندما ينتقل مدير البنك إلى وزير مالية فان راتبه ينخفض بنسبة 50 في المئة على الأقل…
أما أعضاء مجلسي الشورى والنواب فأحيلهم إلى الصين التي بها مجلس للنواب يصل عدد أعضائه إلى نصف مليون نائب، لا يجتمعون تحت قبة واحدة، وإنما يجتمعون كمجموعات مناطقية…المهم ان جميع هؤلاء منتخبون، ويتحملون المسئولية الوطنية بدون إي مقابل وأية مكافأة، فالنائب في الصين يخدم وطنه في البرلمان ويخدم نفسه في وظيفته الخاصة التي يحقق منها دخلاً، وبالطبع فالكفاءات الوطنية هي التي تخدم الوطن وتضحي من اجله في المجالس الوطنية وليس مجالس المكافآت…
البلاد 26 مايو 2009
المرأة تتقدم.. المجتمع يتعافى
في مايو/ أيار 2008 تابعت الانتخابات البرلمانية الكويتية ميدانيا مركزا على المراكز الانتخابية المخصصة للنساء والمقار الانتخابية للمرشحات. أما هذه المرة فقد تابعتها من القاهرة حيث كنت أشارك في ندوة علمية بشأن الأزمة العالمية وبلدان حركة عدم الانحياز. وهناك استعدت مقالا كنت قد كتبته بعد عشرة أيام على انتخابات ,2008 تعالوا نستعيد فقرة منه:
‘في عدد من المراكز الانتخابية النسائية شاهدت الناخبات وفرق العمل النسائية وحتى من عرّفن أنفسهن بالمفاتيح الانتخابية للمرشحات والمرشحين يتقدن حماسا لدرجة الجرأة الملحوظة في تجاوز شروط الدعاية الانتخابية في يوم الانتخابات. لكنه، ولمرتين متتاليتين في البحرين والكويت، عملت وصوتت المرأة بنشاط ضد نفسها لشديد الأسف. ومع ذلك، ورغم عدم فوزهما أبلت المرشحتان أسيل العوضي ورولا دشتي بلاء حسنا. أسيل العوضي ‘التحالف الديمقراطي’ جاءت مباشرة بعد آخر الفائزين في الدائرة الثالثة، كما حصدت رولا دشتي عددا ليس قليلا من الأصوات. ويشير ذلك إلى ارتفاع حظوظ المرأة بالفوز في الانتخابات القادمة..’. وشاءت الأقدار أن يدعى إلى انتخابات نيابية جديدة بعد تمام حول واحد فقط حيث تم حل مجلس الأمة السابق. وها هي أسيل العوضي ورولا دشتي ومعهما معصومة المبارك وسلوى الجاسر تدخلان مجلس الأمة في تحد لكل ظروف التخلف التي فرضتها قوى الإسلام السياسي.
قديما قيل إذا أردت أن تعرف درجة رقي مجتمع ما فانظر إلى وضع المرأة في هذا المجتمع. وفي تطور العملية الانتخابية في الكويت نقف بالفعل أمام هذه الحقيقة. هذا البلد الشقيق هو أول من شق طريق التطور الديمقراطي في منطقة الخليج. ولولا القوانين التي منعت المرأة من التصويت والترشيح لانتخابات مجلس الأزمة التي استمرت حتى منتصف العقد الأول من الألفية الحالية فربما كانت قد احتلت عددا من مقاعد البرلمان أيام ازدهار الحركة الديمقراطية والعمالية في الكويت. ما حدث بعد ذلك من صعود لقوى الإسلام السياسي لم يكن سوى تشويه لمسار الديمقراطية في الكويت بسبب تعاظم سلطان المال السياسي وتركيز ذوي النفوذ على دعم هذه القوى من أجل كبح التطور الديمقراطي. فالمرأة لا تستطيع أن تصل إلى مجلس الأمة إلا بدعم تيارات سياسية قوية أو بدعم من الحكومة. وعندما كانت قوى الإسلام السياسي في أوج انتشارها وقوتها كانت حظوظ المرأة للفوز معدومة إلى درجة الصفر في جولتين انتخابيتين بعد السماح للمرأة بأن تكون ناخبة ومنتخبة. ولكثرة الخضات التي أصابت المجلس وأدت إلى حله مرارا وكادت أن تودي بالنمط الحالي للحياة البرلمانية نفسها، تمكن الشعب الكويتي من اختبار الجدوى السياسية لهذه القوى. ومنذ انتخابات 2008 عاقب الناخب الكويتي ممثلي قوى الإسلام السياسي بقوة. فمن بين 14 مرشحا لم يفز سوى 3 فقط، مقارنة بستة مقاعد في انتخابات العام .2006 لقد كشف أداء هذه القوى البرلماني طبيعتها المتطرفة بشكل مزدوج. فهي مغالية في معارضتها للحكومة عندما تتطلب مصالحها ذلك، ومغالية في الدفاع عن الحكومة عندما تتداخل مصالحهما عبر الصفقات أو عبر تمثلها المباشر في السلطة التنفيذية. لكن ناخب ,2008 معاقبا الفئة الأولى، رفع عدد ممثلي السلفيين إلى أربعة. أما في الانتخابات الأخيرة فقد عاقب ممثلي كل هذه القوى مجتمعة بقوة مضاعفة. وحتى ما يقال عن زيادة في عدد مقاعد النواب الشيعة فدلالته على العكس تماما. لم تتحقق الزيادة بسبب ارتفاع التأييد لممثلي الإسلام السياسي في الطائفة، بل على العكس تماما، بسبب انتصار امرأتين من هذه الطائفة على أسس غير طائفية.
وهكذا فقد شكل تراجع نفوذ قوى الإسلام السياسي وتقدم القوى الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة المقدمة الموضوعية الضرورية لفوز المرأة في هذه الانتخابات، لتصدق مقولة أن حال المرأة من حال المجتمع. ورغم هذا الفوز الكبير فإن الحال لم يتغير بشكل جذري بعد. في العام الماضي فقط كانت معصومة المبارك قد أجبرت على الاستقالة من منصبها كوزيرة للصحة بسبب ضغوط قوى الإسلام السياسي على إثر حريق شب في إحدى المستشفيات. ذلك يعني أن هذه القوى تهدف إلى استبعاد المرأة ليس من حلبة صناعة القرار السياسي، بل وتنفيذه أيضا. وإذا كانت المبارك امرأة محجبة، فإن هؤلاء النواب أعلنوها صراحة بأنهم سينبرون للمرأة غير المحجبة في البرلمان الحالي. إذن، فبغض النظر عما إذا كانت المرأة محجبة أو غير محجبة، وعما إذا كانت المسؤولية تشريعية أم تنفيذية فستبقى المرأة مرفوضة من قبلهم على الإطلاق. وعليه فإنه حتى لو جاء فوز المرأة في الكويت بدون فرز ‘كوتا’ خاصة لها، كانت قد طالبت بها قبيل الانتخابات د. سعاد الطراروة، المستشارة القانونية في الديوان الأميري، إلا أن شقيقتها البحرينية ستظل بحاجة إلى هذه ‘الكوتا’ نظرا للتمكين الذي حصلت عليه قوى الإسلام السياسي عبر العقود السابقة، حيث لا تزال هذه القوى قوية مالا ونفوذا بما لا يقاس.
ذلك فقط لاختصار درب الآلام على المرأة والمجتمع كله. أما تاريخ المسار العام للتطور العالمي فرغم تعرجاته يشير إلى أن هذه القوى تتجه ضد التاريخ تماما. فإذا كانت السيدة سيريمانو باندرانايكا أول امرأة في العالم وصلت إلى رئاسة حكومة بلادها سريلانكا العام ,1960 فإن في العالم اليوم 8 دول تقف فيها المرأة على سدة الحكم، هي ألمانيا، لتوانيا، فنلندا، ايرلندا، سانومي، نيوزلندا، الفلبين وبنغلادش.
ولمن لا يحب رؤية المرأة تحت قبة البرلمان نقول بأن البرلمان سيكون ليس أكثر جمالا فحسب، بل وأكثر إنسانية أيضا. هل سمعتم أديب الجمالية الرمزية الفرنسي م. بارّيس (1862 – 1923) حين قال قبل أكثر من قرن إن «النساء يكسرن حدية عصبيتنا، وخُيلاء نزعتنا الفردية. إنهن يعدننا إلى حضن الجنس البشري». أما الناقد الأدبي والفيلسوف الروسي الفنلندي المولد ف. بيلينسكي (1811 – 1848) فقال عنها باعتزاز «إن نداء المرأة الطبيعي هو أن تثير في الرجل طاقة الروح وغبار المساعي الخيرة، تعزز فيه الإحساس بالواجب والسعي إلى كل ما هو رفيع وعظيم – هذه هي رسالتها، وهي عظيمة ومقدسة».
فهل ستظهر الانتخابات المقبلة في البحرين ارتفاعا في مستوى وعي ورقي المجتمع البحريني أم أننا بحاجة إلى مزيد من درب الآلام؟
صحيفة الوقت
25 مايو 2009