المنشور

تعـــدد الخطــــاب الدبلـــوماسي


تضع رسالة الرئيس الأمريكي الجديد باراك اوباما الجمهورية الإسلامية الإيرانية والرئيس احمدي نجاد أمام خيار تاريخي جديد «وفرصة تاريخية جديدة» لم تكن الجمهورية الإسلامية قد حظيت بها حتى وان مر على حكم تلك الجمهورية رؤساء مختلفون «تحلوا بدرجة معينة من المرونة», ولكن الظروف التاريخية أحيانا لا تتيح مكوناتها السياسية وعناصرها في مد جسور حقيقية وتمتين علاقاتها أو إعادة تمتين تلك العلاقات مع بلد كان ذات يوم حليفا استراتيجيا مهماً في الشرق الأوسط, وإذا به يصبح بلدا معاديا أو في الخط الأول من جبهة العداء والخصومة استمرت أكثر من ثلاثة عقود. 

 تلك المناخات المتقلبة داخل البلدين لم تتح بشكل واضح لترطيب العلاقات فكلما جاء رئيس منتخب هنا لديه درجة من المرونة اعتلى هناك رئيس متشدد وعدواني ومتصلف يرى في بلدان الشرق الأوسط وغيرها مجرد ملحقيات لا تتعدى ذهنية عبيد القرن الثامن عشر. ولم تهتز تلك العلاقات الدولية اهتزازا حقيقيا وتدخل غمرة من التوتر العالمي إلا مع اختراق البيت الأمريكي في الحادي عشر من سبتمبر, بحيث بات الإرهاب العالمي جبهة جديدة ينبغي مكافحتها عالميا, فتم تضخيم كابوس تلك الواجهة بأكثر مما ينبغي لأهداف تكشفت عنها لاحقا باعترافات الرئيس ذاته عن بحثه لأسباب غير معلنة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة, وكان المحافظون الجدد يدفعون من خلف الكواليس بالرئيس إلى هاوية تناسبه ولكنه لم يكن قادرا على لجم سرعتها ولا ردود فعلها ونتائجها, فتكشفت عن الإخفاقات والعطب المستمر في تلك الخطط العسكرية والسياسية التي تم برمجتها لمناطق عدة, فكان هدف التوسع في بناء القواعد العسكرية هي الهدف الخفي لإعادة أحكام الطوق من جديد على الدب الروسي وثروته وإدخاله القفص الحديدي, بحيث تصبح أوروبا واتحادها خاليا من ذلك البعبع النووي. 

 وفي الوقت الذي عقدت فيه اتفاقيات تخفيض الأسلحة النووية كانت الولايات المتحدة تبني ترسانتها المتطورة في الفضاء وتدشن قواعد هامة في أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى حتى جمهورية التشيك وأوكرانيا. هذا الطوق العسكري الجديد لم يكتف الأمريكيون به في الجزء الاوروآسيوي وشرق أوروبا والبلقان «الجديد» وإنما امتدت بناء القواعد إلى منطقة كردستان العراق وبلدان المنطقة بكل حزامها المطوق إلى إيران.
 ولم تخف الولايات المتحدة في ردودها على مخاوف نصب تلك الصواريخ في جمهورية التشيك والموجهة إلى أراضي جمهورية روسيا, فكانت الإجابة المرعبة أيضا أنها «موجهة إلى إيران خشية من عمليات إرهابية», فهل بإمكان جمهورية إيران الإسلامية أن تطمئن إلى وضعها الداخلي وهناك صواريخ موجهة إلى عمق أراضيها؟ سؤال مشروع يقابله سؤال أكثر شرعية ، كيف تطمئن دول الجوار لأوضاع أفرزت توتراتها ونتائجها إلى أن تصبح دول مجلس التعاون نفسها حالة سياسية نابعة من صراع القوى الإقليمية والدولية في قلب منطقتها دون أن تكون طرفا يرغب في الهجوم أو فكرة الحرب أو التوسع العدواني؟. تلك الحالة السياسية لقوة إقليمية جديدة ترغب في بناء سياسة سلمية في المنطقة تجنبها حالة الحرب المدمرة والتي لن يكون فيها خاسرا إلا الشعوب والحكومات والتنمية.

ربما كان رد احمدي نجاد على رسالة اوباما بفتح علاقات جديدة بين البلدين «فهي من حيث مضمونها الدبلوماسي تفتقر للحكمة والخبرة السياسية» فكل ما يفهمه الرئيس الإيراني هو كيفية حماية العرين من هجمة شرسة يتوهمها أو يعيش في كابوسها الطويل, لهذا تستمر نزعته الأولى وهي «حالة الاستنفار الثوري للجمهورية في لحظة اندلاعها وهيجانها الطلابي وهجومها على السفارة الأمريكية», مما يجعل الخطاب الطلابي هو السائد في خطاب الدبلوماسية الإيرانية, في وقت تحتاج فيه للمرونة وإعادة قراءة اللحظة التاريخية والمتغيرات فيها.
فهناك بالإمكان ممارسة خطين متوازيين معا «يتداخلان ويتقاطعان تارة وينفصلان تارة أخرى», بحيث لا يسمح لذلك الخطين الاقتراب من الثوابت للسياسة المبدئية لكل بلد, وان كانت هذه الأشياء قابلة في عصر انهيار الأيديولوجيات المتشددة القبول بها والعودة إلى ممارسة البراغماتية أحيانا, لهذا نرى في عمق خطاب الرئيس الأمريكي ليونة في الدبلوماسية وتصلب في الموقف قبل أن يبدأ الحوار, إذ لا تحدث تنازلات ومناورات قبل أن يبدأ اللقاء كعلامة حسن النية ومن ثم الابتداء في فتح الملفات, فيما نرى الرئيس الإيراني قفز قفزات كبيرة نحو سياسات استراتيجية تمس الأمن القومي لنظام سياسي وليس رغبات أي رئيس قادرة على تغييرها بكل بساطة إلا إذا حدثت مجريات كبرى في التاريخ تفتت النزعة الرأسمالية وهيمنتها.

وإذا ما تمعنا جيدا في مضمون خطاب اوباما الدبلوماسي فان من الواجب أن تقابله ردود فعل إيرانية هادئة ودبلوماسية عودتنا عليها الخبرة الإيرانية السابقة. إن ما قاله الرئيس واضحا «إن الولايات المتحدة مستعدة لمد يد السلام إلى إيران إذا ما قامت الأخيرة بإرخاء قبضتها» تلك اللغة الشرطية والدلالية تعبير عميق عن خبرة دبلوماسية طويلة فيما يتوهم الجانب المتشدد انه قادر على إخضاع العالم إلى نزعته وسلوكه السياسي المتوتر.
 
 

اقرأ المزيد

عبد الرحمن النعيمي


في مثل هذا اليوم, الرابع من ابريل, منذ عامين دخل أبو أمل, عبدالرحمن النعيمي, في غفوته. حسبنا انه أراد أن يرتاح قليلاً من وعثاء السفر وأعباء الكفاح التي ما وهن لحظة عن حملها, ليعاود النهوض ثانيةً. لكن غفوة أبي أمل طالت حتى امتدت عامين, وهاهي تدخل عامها الثالث, ربما لأن ما تراكم على كاهله من تعب, استدعى هذه الغفوة الطويلة, أو ربما لأن القدر أراد أن يجعله قريباً منا وبعيداً في الآن ذاته, حاضراً وغائباً, شريكاً لنا في ما نفعل ومراقباً لخطانا السائرة على الدرب الذي سار عليه طويلاً, هو وأحمد الذوادي وآخرون من أولئك الرجال والنساء الذين قُدت إرادتهم وعزائمهم من فولاذ, فكانوا, في أقسى المصائر التي عبرها هذا الوطن, يُربون الأمل في النفوس, لكي تكون البحرين التي أحبوا ويحبون أجمل وأزهى, وليكون شعبها حراً سعيداً.

نفتقد عبدالرحمن النعيمي اليوم, حيث يغيب صهيل الخيول الجامحة نحو المجد, ويعلو فحيح أفاعي الفتن الطائفية والمذهبية, المتربصة شراً بهذا الوطن, التي تريد لنا العودة القهقرى, ومصادرة المنجز الوطني التوحيدي للشعب الذي صنعه قادة الشعب منذ هيئة الاتحاد الوطني, ومنذ إضرابات العمال في شركة «أكمي» مطالع الخمسينات يقودها حسن نظام وعلي مدان ورفاقهما. ومنذ الخلايا السرية الأولى في المنامة والمحرق والقرى, تطبع منشورات الحرية والخبز, وتوزعها في أرجاء الوطن المفعم بالتوق للمستقبل يوم كانت بواكير الفكر التقدمي تعبد طريق الحرية والأمل في البحرين, مروراً بانتفاضة مارس 1965, مروراً بالصعود التقدمي الديمقراطي بين السبعينات والثمانينات الذي كان أبو أمل أحد روافعه ومداميكه الكبرى الصلبة, في وجه آلة القمع الدموية التي جسدتها, في أبشع صورها, مرحلة قانون أمن الدولة البغيضة.

في منافيه الطويلة التي دامت عقوداً بين الإمارات وعدن ودمشق وسواها من مدن, كان النعيمي أقرب إلى الوطن ونبض الشارع فيه من المقيمين فيه, وكان أحد صناع ما يدور فيه وهو في البعد. وفي اللحظة التي عزم فيها هذا الوطن أن يتصالح مع نفسه, عاد إليه, حاملاً معه الأمل في أن تكون هذه لحظة قطع مع الماضي المثقل بالآلام والأحزان, صعوداً إلى الأمام.

من أجل ذلك عمل أبو أمل, ومن أجل ذلك عمل أحمد الذوادي وكل رفاقهما الذين عادوا من المنافي أو أولئك الذين تحرروا من عبء العمل السري, لينقلوا إلى العلنية القضايا التي أفنوا في سبيلها زهرات شبابهم, وكابدوا من أجلها أهوال السجون والمعتقلات والمنافي.

لن تكتب يوميات السنوات المفعمة بالأمل التي تلت التصويت على ميثاق العمل الوطني, دون الوقوف على الدور المحوري الذي كان لعبد الرحمن النعيمي ولأحمد الذوادي وللتيار الوطني الديمقراطي في التأسيس لاستحقاقات المرحلة الجديدة, وصوغ أشكال التعاطي مع مستجداتها. وليس أمراً غير ذي مغزى أن التيار الديمقراطي بالذات كان أول من شكل الجمعيات السياسية, لأنه يقف على الأرض الأصلب قياساً إلى الآخرين, ولأنه يرث تراثاً كفاحياً عريقاً لا يتوفر لسواه. تدخل غفوة أبي أمل عامها الثالث, لكنه بعطائه وإرادته ومنجزاته لشعبه ولوطنه ولتنظيمه يظل حاضراً معنا في كل الخطى, اليوم وغداً.

اقرأ المزيد

الحــــوار الوطني


لماذا كل هذه الاحتقانات؟ سؤال الإجابة عليه يجب ان تكون على قدر كبير من الشفافية.. سؤال يقتضي منا التفكير فيه بمسؤولية كبيرة نابعة من صوت العقل.. سؤال يدفعنا الى مراجعة نقدية شاملة للكثير من ممارساتنا سواء كانت تلك الممارسات السياسية المتطرفة او الممارسات التي يجب الالتفات إليها جديا وإعادة النظر فيها على صعيد متطلبات حياتية ومعيشية كثيرة. وإذا ما أردنا لهذه البلاد التقدم والازدهار لابد من هذه المراجعة واللجوء الى صوت العقل.

كل التجارب أثبتت ان الحوار الوطني والمصالحة الوطنية والعمل السياسي السلمي هو البوابة الحقيقية للتقدم وفي حالتنا نحن في البحرين وبقدر ما نريد للحريات ان يتسع مداها وان تتحسن الأحوال المعيشية ويكافح الفساد وتعالج المطالب والملفات وتزداد الثقة بين الدولة والمجتمع, نريد أيضا ان تحترم دولة المؤسسات والقانون وان تقف كل مظاهر الفوضى السياسية والانفلات الأمني والعنف. ولمعالجة الأوضاع والحد من العنف نقول لابد من وقف كل هذه الفوضى والانفلات والدخول في حوار وطني يجمع كافة أطراف المجتمع. رغم كل المخاوف والتعقيدات فإننا مطالبون بوضع حد للعنف الذي هو ليس سبيلاً او طريقًا لنيل الحقوق والدفاع عن المعتقدات والآراء والأفكار واللجوء إلى طاولة الحوار.

وفي إطار الحديث عن الحوار من المهم الاستجابة إلى مبادرة التقدمي العقلانية التي تؤكد على احترام سيادة القانون والشراكة المجتمعية وحماية حقوق المواطنة لاعتبارها ثوابت وطنية, وبصراحة وأمام كل ما يجري من احتقانات في البلاد نتساءل عن دور البرلمان الذي وبكل أسف لا يزال يدور في دوامة الطائفية والاصطفافات الطائفية, في حين موقفه من كل هذه الاحتقانات لا يتعدى الاستنكار بينما إلى الآن لا ندري لماذا لا يتبنى خطة وطنية إصلاحية اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية ولكن يبدو ان لعبة الاصطفافات الطائفية استهوت نوابنا وهو ما يحدث الآن على صعيد رفع الحصانة وقبلها استجواب الوزراء!!

بعض خطباء المساجد للأسف دخلوا لعبة التحريض الطائفي اذ تجدهم من على منابر الجمعة يخلطون الحابل بالنابل دون ان يتطرقوا إلى جوهر الأزمة او إلى ما يجري في البلاد وبالتالي رغم استنكارهم وإدانتهم للقتل وكافة أعمال الشغب فإن إدانتهم للطائفة الكريمة الأخرى كما لو إنها هي المسؤولة عن هذا الشغب يعد عملاً تحريضياً يفترض ان يحاسب عليه القانون والأمر لا يختلف أيضا بالنسبة للمدرسين اذ تجد وفي كلتا الطائفتين من انشغل ببث التفرقة الطائفية بين طلبة المدارس الحكومية سواء كان في المدن او القرى والأمر الأكثر خطورة ما حصل في إحدى هذه المدارس من عنف وشغب دون ما احترام للعلم.

 بالتأكيد لا احد يريد ان تمضي الفوضى والعنف, وبالتأكيد أيضا ان أهم الخطوات لوقف كل ذلك لضمان الأمن والاستقرار هو البدء في الحوار الوطني الذي لا بد منه لبدء مرحلة وطنية جديدة قوامها حماية مجتمعنا من أعمال العنف والتطرف وحماية الحريات وكافة الحقوق وتجاوز السلبيات الداخلية وتوطيد الوحدة الوطنية.
 

اقرأ المزيد

النعيمي في سباته


كان من المحرّمات، اسمه يدخل في الهواء ليخرج سريعاً متلفتاً حذر الصواعق. استهلك الذين قدحوا فيه، وأتعب الذين أرادوا الوصول إلى بعضه، فالكاريزما لا تلقّن ولا تشترى أو تعار، فكان النعيمي الذي آوت إليه قداحات أحلام الكثيرين من الذين خامرهم أمل عظيم بتغيير الواقع إلى ما بعد الوسوسة، فخنست أصوات الذين ظاهروا عليه، وبدا أكثر اتساعاً من قلوب تضيق بها جنباتها، فلا ترى حتى نفسها مما هي فيه من حمق.

كل الدروب قادت إليه عندما قاد الدروب باكراً عندما سطع الأفق ينادي بما لا يتحقق، فكان عليه أن يشد السرج ويعدل من منطقته، يطوي إزاراً عمانياً ربما، عدنياً أيضاً، ويذهب إلى البعيد، فليس للشاقين بطموحاتهم حدود يتصاغرون أمامها، وليس من قيد يشد وثاقهم عن جمع الصورة من أذيالها لتكون كل البلاد ساحة، والسماء شاهدة على انطراح كواهلهم متعبين ساعة، يخامرهم النصر ساعة يراوغهم الرصاص، يستبقيهم لما هو أكبر، فيصبّ سعيد سيف رصاصاً من نوع ثان ليتابع الترحال في وقت كانت القطوف في مسقط رأسه تتوزع على من أعلن التوبة، أو تاب من قبل أن يخطئ، فقليل من الخطايا تقود إلى جنان كالتي خبرتها أنت في حب حتى من ليسوا في صفوفك، ولم يختبروا سجود خطيئة تقديس طين الوطن.

ورطة الميراث تثقل على من يتنكرون لمواريثهم، فهذا النعيمي الذي استل من سلفه مكاسرة الاستعمار، لم يجد من السبل أكثر شوكاً من أن يسير إلى درب والده، ولا أقل وروداً، ولا أصعب فخاخاً، ولا أسخن أرضاً، فتقاذفته جدران المسافة في أرض قيل عنها التيه، وسُميت المنفى، وظنها البعض أنها كسفٌ من النار، ولكنه كان يعطي للأرض اسمها، ويردّ لبلاده سمعة لا تحصل عليها عبّر الكثير من المجوَّفين من قارعي الطبول الجوفاء، فصار عبدالرحمن النعيمي وطناً في غربته، وعاش أناس غربة في أوطانهم، يدلّ عليهم، فالأوطان تحمل كثيرا من الناس، كم قليلٌ منهم يصير أيقونة!

وعكة اعتيادية، ملأت جنبات غرفته الصغيرة في مجمع السلمانية بمن يخشى من تجمعهم أن يسدوا عليه منافذ الأكسجين الطازج، ولكنها كانت البروفة التمهيدية لنيسان 2007 إذ بدأت الأقاويل تثقل أطراف الياسمين الذي استجاب للربيع توّاً، آتية من بعيد، كما كان في البعد كل تلك السنين، فأخذت الأنباء المقلقة عن أبي أمل تتكاثر، حتى تبدّت حقائقها، إنه في مكان يصعب الرجوع منه، ويعزّ على من عرفه التصديق به.
ألهذا الحد يصعب على الوطنيّ أن يغادر هذه الأرض بسهولة؟ من يتشبّث بمن؟ تدافع مع الموت كما فعل سلفه الشيخ عبدالأمير الجمري شهوراً طوالاً، وتبقى الآمال شامخات في أن يجد السادر في هذا الدرب منعطفاً يعيده ليروي ما رأى، ويصوغ ما سيريه لأتباعه، فكلّ يحبّ وطنه، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ويبقى المحبوب واحداً لا تتزحزح عنه العيون، فلم كل هذا الشطط في التقرب إليه زلفى ما دام يقبلنا جميعاً، ويقبل نزقنا وطيشنا، ويرأف بنا.

ليس لنا أن نتفق معا بسهولة، ولكن الاختلاف معه ليست فيه خصومة فاجر، فأمامنا أفراد وجماعات، طرائق بعدد الخلائق، يقف أبو أمل ليعطي بعضاً من فيض التواضع وتقبل الآخر والإبقاء على حبال ممدودة مشدودة مع كل الاختلافات فليس للحقيقة بصمة واحد، وللمرايا شظاياها التي تمد الناظر إليها من كل مكان مشهداً لم يكن ليراه لو أنه توقف عن المشاغبة، ووضع أصابعه في أذنيه عن الآخرين.

في سباته العميق، يذهب أبو أمل، بعد أن أعطى في 2006 للناس ما تحرجت وسائل التوصيل عن نقله، وتحشرجت القنوات الإعلامية أن تقوله لهم، خطب فيهم خِطَبَ مودِّع، أوصاهم بأنفسهم خيرا، وبوطنهم خيراً، وبخصومهم خيراً، وابتسم. 



 
الوقت 4 ابريل 2009

اقرأ المزيد

الانقلاب النوعي‮ ‬المرتقب في‮ ‬ضوء التقارب الأمريكي‮ ‬الإيراني


من الكواليس وقنوات الاتصال السرية، المباشرة وغير المباشرة، انتقل الجانبان الأمريكي والإيراني بحواراتهما إلى العلن على نحو دراماتيكي لم يكن أحد ليتوقع حدوثه قبل بضعة أشهر عندما كانت معطيات وعوامل دخولهما في مواجهة عسكرية على خلفية البرنامج النووي الإيراني، ترجح حدوثها في أية لحظة من لحظات طيش الإدارة البوشية / التشينية السابقة (إدارة بوش – ديك تشيني).

قبل حوالي خمسة شهور فقط كان الملف النووي الإيراني يتصدر قائمة اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، ومن خلالها قائمة اهتمامات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وكان الحديث يدور حول موعد انطلاق الطائرات والصواريخ الأمريكية لتضرب المنشآت النووية الإيرانية، وحول حجم المشاركة الإسرائيلية وطبيعتها في الهجوم.

كل هذا اختفى الآن من ‘الميديا’، والأهم من ذلك وعلى نحو مفاجئ.. من على ألسنة الساسة الأمريكيين والساسة الأوروبيين ورئيس وكبار مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكي نكون دقيقين، تراجعت إلى الخلف أو عُلِّقت، مؤقتاً، لاختبار وسيلة (أو حيلة إن شئتم) جديدة لاستدراج إيران إلى ترتيبات أمنية وسياسية إقليمية أكثر تعقيداً، وربما توريطاً، لنظام قد لا تسمح له آلياته الداخلية المحدودة للمناورة خارج إطار نسقه الأيديولوجي الصارم.

فقد قفز إلى المقدمة خطاب أمريكي جديد ولغة تودد جديدة، بنبرة مختلفة، ليس تجاه إيران الشعب فقط وإنما إيران القيادة أيضاً هذه المرة.
فجأة تم تجاوز 30 عاماً من الصراعات والمواجهات الساخنة والباردة، حيث وضعت الإدارة الأمريكية الجديدة كل ذلك وراء ظهرها، عَكَسَهُ الرئيس أوباما في خطابه المتلفز يوم الجمعة 20 مارس الماضي الذي كرَّسه للعلاقات الأمريكية الإيرانية. فقد دعا أوباما، إيران إلى ‘إنهاء عقود من التوتر والعداء وبدء عهد جديد من الحوار النزيه والقائم على الاحترام المتبادل’، وأكد بأن إدارته ‘تتعهد باتباع دبلوماسية تعالج مجموعة من القضايا التي تواجهها وستسعى إلى إقامة علاقات بناءة بين الولايات المتحدة وإيران والمجتمع الدولي’.

وكان لافتاً في هذا الصدد حرص الرئيس أوباما على اختيار عيد النيروز في إيران (دخول الربيع في 21 مارس) لتوجيه كلمته للإيرانيين، قيادةً وشعباً، إذ وصف الاحتفالات بهذا العيد بـ ‘موسم بدايات جديدة’، في إشارة واضحة لسعيه فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين.
ليس هذا وحسب، بل إن ما ألمح إليه وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس والمتحدث باسم البيت الأبيض تعقيباً على مبادرة أوباما، من أن الإدارة الأمريكية أعدت مشاريع مبادرات أخرى لتشجيع الحوار مع إيران، قد تحوَّل فعلاً إلى خطوات متسارعة من بينها ما كُشف النقاب عنه في بيروت من عقد أكثر من اجتماع بين دبلوماسيين أمريكيين وإيرانيين في سفارتي البلدين في لبنان، وقيام مسئول إيراني لأول مرة بزيارة قيل إنها ‘استكشافية’ لمقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل، وإعلان إيران عن موافقتها المشاركة في الاجتماع الذي دعت واشنطن إلى عقده في لاهاي والذي سيكرس لمناقشة الملف الأفغاني.

هو إذاً ‘منعطف تاريخي’ كما وصفه فرانكو فراتيني وزير الخارجية الإيطالي، من دلالاته الأخرى بالغة المغزى والأهمية استخدام أوباما تعبير الجمهورية الإسلامية، بما ينطوي عليه ذلك من اعتراف أمريكي ضمني بالنظام الإيراني، والتخلي – وقد يكون مؤقتاً أو ظاهراً على الأقل – عن فكرة تغييره التي لازمت سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ جيمي كارتر.
كل هذا جيد بطبيعة الحال، ولكن الطريق لتحقيق ذلك لن يكون معبداً أمام خصمين عنيدين اشتُهرا بإتقان وإدمان سياسة حافة الهاوية في لعبة التفاوض على كافة القضايا مهما كان شأنها.

بالمقابل فإننا يجب أن لا نسقط من حساباتنا أن الطرفين هما أيضاً ‘استاذان’ في البراغماتية (الذرائعية) السياسية. ولعل هذه البراغماتية هي نفسها التي قادت الولايات المتحدة في ظل إدارتها الجديدة للانتقال في لحظة زمنية من النقيض إلى النقيض. وقد تشي هذه الجزئية تحديداً بأن الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر احتياجاً وإقبالاً على إحداث تلك النقلة في علاقة البلدين. وهي إيماءة صحيحة على أية حال، فإن الذي دفع الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة، في نسختها الجديدة، عوامل دفع اضطرارية قوية، ومصلحة في الوقت عينه، وهي كما نتصورها:
(1) الأزمة الاقتصادية العميقة التي وصلت تأثيراتها إلى طاقات وآليات حركة النظام السياسي الأمريكي على الصعيد الدولي، والتي لن تسمح للولايات المتحدة – لبعض الوقت – بمواصلة دورها القيادي، المبادر ‘والفاعل’ في كل قضايا الكون، كبيرها وصغيرها، بنفس الوتيرة ونفس الفاعلية والحيوية.

(2) الاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس باراك أوباما في شأن باكستان مبنية على توفير عناصر نجاح من بينها تعاون طهران مع واشنطن، بمعنى أن تنفيذها على الأرض وتأمين النجاح لها لن يكون ممكناً من دون ضمان التعاون الإيراني.
(3) تخشى الإدارة الأمريكية الجديدة من أن تفضي سياسة تقليص وسحب القوات الأمريكية من العراق، وفاءً بوعودها الانتخابية، إلى حدوث فراغ أمني سوف تسارع إيران لملئه، ما قد يُضيِّع كل التضحيات البشرية والمادية التي قدمتها واشنطن استثماراً في ‘صفقة المشروع العراقي’. وهي لذلك تريد تأمين الخاصرة العراقية قبل إتمام انسحاب القوات الأمريكية النظامية منه.

ومن نافلة القول أن ‘التعاون’ الذي تطلبه واشنطن من طهران، لن يكون بلا مقابل. وقد استعجلت طهران مسألة الحصول على هذا المقابل، بمطالبتها الفورية بتحويل الكلمات الأمريكية إلى أفعال. إلا أن الأمريكيين لن يعطوا طهران ما تتمناه، وهو رفع الحصار الاقتصادي وتسهيل وتمرير ملف برنامجها النووي المستعصي والذي نجحت واشنطن ببراعة في تدويله ومحاصرة إيران بالتزامات ومواقف دولية شبه إجماعية حول عدم إضفاء المشروعية على هذا البرنامج، وإنما على العكس .. إغراقه وإحاطته بأسيجة متمادية من الشك والريبة التي تُفَسَّرْ في غير صالح ادعاءات إيران بسلمية البرنامج.

الطرفان، بهذا المعنى، سوف يقطعان في طريقهما التفاوضي حقلاً مليئاً بالألغام ستشهد محطات عبوره لحظات يقتربان فيها من صواعق تفجيرها. والأكيد في ترتيبات هذه الصفقة المثيرة أن الطرف صاحب المبادرة فيها، وهو هنا الولايات المتحدة، يمتلك خياراً بديلاً إذا ما انتهت ‘الصفقة’ إلى فشل. فمن غير المستبعد، مثلاً، أن تضحي واشنطن، في الخيار البديل، بدرعها الصاروخية المنوي نشرها في تشيكيا وبولندا، لصالح طرف براغماتي آخر هو روسيا، من أجل استمالة الأخيرة في صف ائتلاف دولي يشدد العقوبات الدولية المفروضة على إيران ويضاعف من تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية.

أخيراً وليس آخراً، علينا أن لا ننس أن ذلكم التقارب الأمريكي الإيراني لا يحظى بترحاب وقبول إقليمي، لاسيما من جانب إسرائيل التي تستعجل لحظة إعلان فشل هذه ‘الصفقة السياسية الأمريكية الجديدة’، وستعمل بكل ما أوتيت من نفوذ على تقريب موعد إعلان ذلكم الفشل.
ومع ذلك فإن السياسة لها أدواتها ووسائلها وخبراتها في تذليل عقبات تحقيق غايات ممتهنيها من الساسة المهنيين المحترفين، البارعين في توظيفها. فالإشكالية عاليه لا تشكل عائقاً أمام تقدمها مثلما أن الطبيعة الثيوقراطية للنظام الإيراني لا تشكل هي الأخرى عائقاً جديداً أمام تقدم ‘مشروع الصفقة’ المرتقبة، وذلك في ضوء الخبرة والتجربة التاريخية للعلاقات الدولية الأمريكية.

اقرأ المزيد

صولجان البشير


منذ شهرٍ واحدٍ من اليوم، بالذات في 4 مارس/ آذار الماضي وفي سابقة تعتبر الأولى من نوعها (إصدار حكم اعتقال رئيس دولة مازال في السلطة) أصدرت ‘’المحكمة الجنائية الدولية’’ مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشير بسبب مجموعة من التهم موجهة ضده .. لعل أهمها؛ جرائم إبادة ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم ‘’دارفور’’ السوداني.
في البدء.. بعيداً عن كل لبسٍ أو انحيازٍ وانطلاقاً من لغة القانون الدولي المحض، لابد من الإشارة من أن هذه المحكمة تنطلق من الشرعية الدولية، تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة وتستند إلى توجيهاتها، بمعنى أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بقرارات المحكمة الاختصاصية هذه، حتى إن لم تكن دولة ما قد وقعت على ‘’اتفاقية روما’’ الخاصة بإنشاء المحكمة الدولية (1998). جاءت مذكرة الاعتقال بعد سلسلة طويلة من المداولات القانونية والتحقيقات الدولية، دامت عدة سنوات. تمخضت عنها العاقبة التي نحن بصددها الآن. ولتسهيل الأمر للقارئ الكريم يكون مفيداً أن نمر سريعاً على أهم المحطات، نوجزها ‘’كرونولوجياً’’ في الآتـي:
–  في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 شكل الأمين العام السابق للأمم المتحدة ‘’كوفي عنان’’ لجنة دولية
   للتحقيق في الأوضاع في إقليم دارفور
–  في مارس/ آذار 2005 صوت مجلس الأمن الدولي للقرار رقم 1593 في صالح إحالة ملف
   دارفور  إلى المحكمة الجنائية الدولية.
-  في أبريل/ نيسان 2005 سلم ‘’كوفي عنان’’ المحكمة الجنائية قائمة بأسماء 51 شخصاً يشتبه
   في ارتكابهم جرائم حرب في دارفور بينهم مسؤولين سودانيين.
–  في يونية 2005 أبلغ المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ‘’لويس مورينو أوكامبو’’ مجلس
   الأمن الدولي عن وجود قرائن واضحة عن الجرائم العديدة وخاصة القتل الجماعي والاغتصابات
   المنظمة، استناداً إلى التقارير الدولية المحايدة، التي أشارت إلى مقتل أكثر من ربع مليون إنسان،
    وتشريد 5,2 مليون آخرين منذ بدء الصراع في إقليم دارفور العام 2003  .
-  في فبراير 2007 أعلن أوكامبو اسم أول متهمَين سودانيَين، هما وزير الداخلية السابق احمد
   هارون وأحد قادة ‘’الجانجويد’’ الأساسيين المدعي علي كوشيب. وهذا الأخير أفادت عنه
   الحكومة السودانية في أكتوبر/  تشرين الأول 2008 على أنه رهن الاعتقال والتحقيق.
–  في 14 يوليو 2008 وجه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية؛ أوكامبو في مؤتمر صحافي
   بمقر  المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، ثلاث تهم جنائية للرئيس البشير، ارتُكِبت بحق قبائل
   الفور والمساليت والزعاوة تتعلق بتطهير عرقي واغتصاب وتعذيب، وأعلن أن عدد الضحايا
   الذين تم تشريدهم من ديارهم  يقدر بـ 5,2 مليون، وأشار إلى أن 35 ألف قتلوا بشكل مباشر،
   وأن ما بين: 80- 265 ألف ماتوا ببطء بعد أن شردهم النزاع، وأوضح أن قرار الإبادة من
   الرئيس البشير بدأ في العام 2003م، عندما أمر الجيش بعدم الإبقاء علي أي أسير أو جريح
    بنيّة الإبادة الجماعية. ووصف أوكامبو أن ما قام به البشير، عبارة عن جريمة إبادة جماعية
    متعمّدة، مطالباً بتوقيف البشير وحظر أرصدته وممتلكاته وتقديمه للعدالة.
–  في يناير 2009 اعتقال الترابي بعد يومين من مطالبته البشير بالرضوخ إلى أوامر المحكمة
   الجنائية الدولية.
-  في4 مارس/ آذار 2009 صدور مذكرة الاعتقال، التي على أثرها قام الرئيس السوداني بطرد
   دستة من منظمات العون والإغاثة الإنسانية للنازحين من الحرب في إقليم دارفور، وبررت
   السلطات السودانية قرارها بدعوى تعامل المنظمات تلك وإذعانها لمحكمة الجنايات الدولية.
-  في مارس/ آذار 2009 (مباشرة بعد مذكرة الاعتقال) إطلاق سراح زعيم حزب المؤتمر الشعبي
   (الإسلامي) حسن الترابي، غريم البشير الحالي وولي نعمته قبل الانقلاب، حيث أطلق نفس
    التصريح  السابق، الذي من وقته ساد صمت غريب في كل ما يتعلق بأخبار ومصير الترابي.
–   في 30 مارس/ آذار 2009 تشهد العاصمة القطرية؛ الدوحة مؤتمر القمة العربية الدورية
    الـ ,21   الذي يرحب بالبشير ويسانده متحدياً قرار محكمة الجنايات الدولية، الأمر الذي برزت
    فيه الحقيقة المُرّة وهي أن المؤتمر المذكور قد دخل التاريخ في سابقة خطيرة مسجلا تمرده
    على قرارات أعلى هيئة دولية، محاولا إعطاء البشير صكّ الغفران على جرائمه. ولعل هذا
    يجسّد بوضوح طبيعة المنظومة الأوتوقراطية العربية كحاضنة للاستبداد وطاردة للديمقراطية.

تعود جذور المشكل السوداني الحالي ومأساة الحروب الداخلية وخاصة في إقليم دارفور، الواقع غربي السودان منذ فبراير سنة ,2003 إلى خلافات متفاقمة حول خلفيات عرقية وقبلية وليست دينية كما في حال الجنوب حيث أن الغالبية العظمى من الدارفوريين يدينون بالإسلام والمذهب الواحد مثل جُلّ إخوتهم السودانيين. ولكن الأمر الجلي، الذي ساعد على استفحال تلك الخلافات الفتاكة هو عدم استتباب الوضع السياسي واستقراره نتيجة انقلابات العسكر، بٍحَثٍّ وتخطيطٍ من القوى السياسية غير الديمقراطية، التي كان آخرها الانقلاب المشؤوم في 30 يونيو ,1989 المخطط له من قٍبَل حركة الإنقاذ ‘’الإسلامية’’، حينما أوعزت للعسكري حينئذ؛ عمر البشير من الاستيلاء على السلطة وإنهاء الحكومة الديمقراطية المنتخبة من قِبَل الشعب السوداني برئاسة الميرغني.
تعتبر فترة حكم البشير الأطول في السودان، وهو ثالث عسكري يستولى على السلطة في السودان بانقلاب عسكري بعد الفريق إبراهيم عبود في 18 نوفمبر 1958 وجعفر نميري في 25 مايو/ أيار 1969 .. وما تلا ذلك من تملص حكم البشير من الاتفاقيات ومعاهدات السلام ومجمل الحل السلمي الداخلي الذي كان جاريا بعد اتفاق الميرغني – قرنق. وإشعاله حربٍا دينيةٍ وإثنية، تعدت حرب الجنوب (توقفت بعد سنوات بصفقة) لتشمل الشرق ودارفور، وما تبعها من مآسيٍ، تجسّدت في مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وتصريف الآلاف من السودانيين المخالفين للحكم العسكري ‘’الإسلامي’’ من أعمالهم، تشريدهم، اعتقالهم، تعذيبهم وقتل العديدين منهم. بالإضافة إلى سن قوانين قمعية بُغية القضاء على ما تبقى من قنوات المجتمع المدني، سهّلت وشرعت في حلّ النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية وتدمير كل مؤسسات المجتمع المدني. ونهب القطاع العام وأموال الدولة، وتحويلها لفئة قليلة من الطفيليين الجدد وأثرياء الجبهة الإسلامية، التي اتخذت لاحقا اسم المؤتمر الوطني ( انشق بعد ذلك إلى: وطني وشعبي) كما رفعت الدولة يدها عن التعليم والصحة وبقية الخدمات الحياتية ودمرت القطاعين الصناعي والزراعي. وحتى بعد استخراج البترول لم تذهب عائداته للتنمية الزراعية والصناعية والخدمات العامة. كما أرهقت الدولة كاهل المواطنين بالضرائب (الجبايات) حتى تزايدت حدة الفقر والاستقطاب الطبقي، وصلت فيها نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 95% من الشعب السوداني. ونشأت رأسمالية ‘’طفيلية’’ جديدة خدماتية ذي غطاء ‘’ديني’’، نهبت أصول القطاع العام وعائدات البترول وركزت السلطة والثروة في يدها، ونشرت الفساد بشكل لا مثيل له، حتى تم تصنيف السودان في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم!
 

اقرأ المزيد

هـل الكويـت بحـاجـة إلـى فـترة‮ ‬نقـاهـة‮” ‬سيـاسيـة”؟


تعيش دولة الكويت الشقيقة حالة من الارتباك السياسي اصطخب فيها الجدل بين مختلف المكونات الحزبية (غير المتوجة) بمختلف انتماءاتها وامتداداتها القبلية والعشائرية والطائفية، بشأن العلاقة بين هذه المكونات المتمكنة والمهيمنة على السلطة التشريعية وعلى قسماً مهماً من السلطة الرابعة  (الصحافة المكتوبة والمرئية – الفضائية)، وبين السلطة الحاكمة، وهي علاقة اتخذت في السنوات القليلة منحاً صدامياً بسبب طغيان فزعة منازعة السلطة بصورة فاقعة لدى بعض المكونات الحزبية (غير المتوجة رسمياً كما قلنا) التي تراءى لها، بعد الفسحة الفسيحة من حرية الحركة التي أتيحت لها، أنه قد آن الأوان لكي تحول نفوذها المتعاظم إلى حالة شيئية حان وقت استحقاقها! ومنذ عام 1999 تم حل البرلمان والدعوى لانتخابات مبكرة ثلاث مرات آخرها كانت في مارس العام الماضي فقط، حيث شهدت السنوات الثلاث الماضية تحديداً تصعيداً متراكماً للتأزيم المقصود من جانب بعض مراكز القوى السياسية الدينية والقبلية.ولهذا دار الكثير من اللغط والتكهنات والتوقعات والإشاعات كذلك، حول الخطوة ‘التالية’ التي ستخطوها الكويت والوجهة التي ستختار اتجاهها، وهي تجتاز هذا المأزق السياسي الذي يعيد إلى الأذهان الظروف التي أحاطت بحل مجلس الأمة عام 1976 وفي عام  1986 ،  وهما الحالتان الوحيدتان اللتان تم حل المجلس حلاً غير دستوري منذ بدء الحياة البرلمانية في الكويت عام   .1962  

وكانت هناك تكهنات كثيرة تصاعدت ووصلت إلى ذروتها حتى يوم الثلاثاء الموافق للسابع عشر من مارس الجاري، ومفادها أن الكويت تتجه لتعليق الحياة البرلمانية لمدة عامين وأن أمير الكويت سوف يحسم الجدل بشأن الأزمة السياسية المندلعة بهذا الاتجاه.

ولكن أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد خرج في اليوم التالي ليحسم هذا الجدل بخطاب متلفز أعلن فيه حل البرلمان حلاً دستورياً والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، حيث جاءت كلمته هذه المرة أطول من المعتاد في الحالات التي تم فيها الإعلان عن حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، وقد اختزلت عناصر الشد والجذب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية التي طغت على المشهد السياسي الكويتي على مدى عام تقريباً وأصبحت مادة إعلامية يومية يفطر عليها المواطن الكويتي. حيث قال بالحرف الواحد: ‘لاشك أن هناك بعض أوجه القصور في أداء أجهزة الحكومة بما يستوجب العمل الجاد للارتقاء بأداء الجهاز الحكومي والعمل على تسريع إنجاز المشاريع التنموية والاستجابة لتطلعات المواطنين وضمان مستقبل أجيالهم المقبلة’. ولكنه تساءل في الوقت نفسه قائلاً: ‘ولكن هل يمكن أن يتحقق الإنجاز المطلوب في ظل أجواء مشحونة بغيوم الشد والتوتر والتعسف والتشكيك والترهيب، وأن ممارسة النائب لحقوقه الدستورية في استخدام أدوات الـرقابة البرلمانية حـق لا جدال حوله بل هي ممارسة رقابية محمـودة ما دامت في إطارها الصحـيح بما في ذلك توجيه الاستجوابات …

ولكن كل حق مهما كان نوعه له شروط وضوابط لا يجوز إغفالها أو القفز عليها، ولعل أهمها أن يكون منضبطاً بإطاره القانوني السليم وملتزماً بروح المسؤولية ومحققاً لغاية وطنية بعيداً عن الكيدية والشخصانية وإلا صار الحق أشبه بالباطل’.

وأميل هاهنا إلى وضع خطين تحت مفردات ‘التعسف، والتشكيك، والترهيب، والكيدية والشخصانية’ الواردة في خطاب الأمير سالف الذكر، لما تنطوي عليه من توصيف، وتوصيف جزئي كي نكون دقيقين بقدر الإمكان، لحالة الشد والجذب بين الحكومة والبرلمان التي أشرنا إليها عاليه، والتي وصلت إلى ذروتها بتقديم النواب الإسلاميين ثلاثة طلبات استجواب لرئيس الحكومة خلال أسبوعين متهمين إياه بسوء الإدارة وانتهاك الدستور وغياب الحذر في سياساته الاقتصادية واختلاس الأموال العامة. وهكذاو بعد أن نجحت الكتل النيابية الكويتية، كل لأسبابها وأغراضها ومنطلقاتها الخاصة، في تحويل الاستجوابات إلى سيف مسلط على وزراء الحكومة كأداة ضغط وابتزاز سياسي ومصلحي، ها هو السيف يشهر هذه المرة في وجه رئيس الوزراء في إصرار واضح على التمادي في استسهال الاستخدام التعسفي لهذه الأداة الدستورية، بما مؤداه تحويل البرلمان إلى ‘كلية’ لوبي جماعية، ومكوناته الحزبية (غير المتوجة) إلى مراكز قوى مؤدلجة ذات أجندات سياسية فاقعة وإن كانت غير معلنة.

واللافت أن هذه التوليفة المعقدة لشبكة المصالح، الفئوية والحزبية (الأصولية الإسلامية أساساً) والقبلية والطائفية السياسية، التي تمثلها مراكز القوى تحت القبة وخارجها، أضحت جزءاً أصيلاً من النظام السياسي الكويتي لم تستطع ثلاث دورات انتخابية متتالية إحداث تغيير فيها. نعم لقد حدث نوع من الانتقال الجزئي (كي لا نقول نقلة)، ولكن الجوهري، في ميزان القوى لصالح القوى سالفة الذكر، في الوقت الذي كان يغلب على الحراك الحكومي المقابل، الارتخاء والتهاون والتسيب والتورط في خروقات الفساد، فكان أن أصبح في متناول يد قوى الإسلام السياسي الصاعدة و’المتنمرة’، أن تحيل موضوع الفساد إلى فوبيا تسبب في تراجع الحكومة عن عدد من المشاريع الاقتصادية الحيوية، وانتهاء الأخيرة إما إلى التأجيل المكلف مالياً أو الإلغاء، لاسيما المشاريع المتعلقة بالقطاع النفطي وتفريعاته.

فكيف يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي في دولة الكويت في ظل عدم تمتعها بحكومة ثابتة ومجلس نيابي يكمل مدته الدستورية البالغة أربع سنوات؟ بهذا المعنى، قد تكون الكويت بحاجة إلى ما يشبه فترة ‘النقاهة السياسية’، تتوافق نخبها بموجبها على إعطاء الديمقراطية الكويتية إجازة محددة المدة تقوم خلالها حكومة تصريف أعمال من الشخصيات الكويتية المشهود لها بالاستقامة، بإدارة شئون البلاد في هدوء، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، وبلا ضوضاء وتشويش، بما يوفر للجميع، لاسيما الشعب الكويتي، فرصة الانصراف التام نحو العمل والبناء والتعمير. وقد توفرمثل هذه المقاربة فرصة للديمقراطية الكويتية لإعادة الاعتبار لشخصيتها التي طالما تميزت بها في عالمنا العربي. 
 

الوطن 
28 مارس 2009

اقرأ المزيد

مسيرة كوبا الوطنية


تداخل النضال من أجل التحرر الوطني بالنموذج الاشتراكي في كوبا تداخلاً شديداً، فلم يكن التخلص من الدكتاتورية السياسية السابقة يهدف فقط لمجتمع ليبرالي متحرر من السيطرة الأجنبية ومن حكم العسكر والإقطاع. كانت تحمل نموذجاً مبهماً ومضموناً راح ينمو بشكل عسير ومتحول وعنيف.

فكوبا تقع على بعد خطوات من أكبر دولة مهيمنة في العالم، وراحت تتحداها وتشكلُ نموذجاً مغايراً صلباً وذا حماسة ثورية فائقة.
وعلى الرغم من التغييرات الاجتماعية الثورية التي قامت القيادة الكوبية بها والمؤامرات الأمريكية الخارجية المستعينة باللاجئين فإن الحكم لم يتزعزع.

ثم أضيف إلى هذه التدخلات العسكرية تبدل المنظومة (الاشتراكية) وسيرها نحو خطوات تحولية مغايرة، أطلقت التعددية الحزبية والصحافة الحرة وحكم البرلمانات وكوبا رفضت ذلك كله.

وكان غياب الاتحاد السوفيتي سنة 1990 يعني على المستوى الكوبي زوال مساعدة تبلغ عدة مليارات من الدولارات تـُعطى سنويا لجزيرة (المقاومة والحرية) كما يُطلق عليها.

ولكن غياب هذه المساعدات وتبدل التجارة الجيدة مع سوق الكوميكون (سوق الدول الاشتراكية) لم يقودا كذلك إلى زوال حكم الحزب الشيوعي الكوبي ولا إلى انفجار اجتماعي كاسح من الشعب، رغم أن أزمة البلد الاقتصادية بدءا من أوائل التسعينيات كانت قوية مشهودة في المرئيات الإعلامية العالمية بصور الهاربين في القوارب والغارقين في المحيط والواصلين بعسر إلى شواطئ الدولة “العدوة” من جزيرة الحرية.

تعود صلابة الحكم في كوبا إلى قيامه بإجراءات اجتماعية جذرية، فقد سلم الأراضي الزراعية للفلاحين، وسلم المصانع والمتاجر للعمال، وصار هؤلاء المنتجون مالكين حقيقيين لقوى الإنتاج الرئيسية، ومسئولين عن منجزاتهم، وأي عودة للمنفيين الكوبيين تعني استعادة هذه الأملاك، وبالتالي إحداث اضطراب مخيف. فجعل الحكم هذه الجماهير على مدى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مالكة ومسئولة ومعسكرة بميليشياتها وجيشها ضد أي تدخل أجنبي.

بل هي كانت تقدم خدماتها العسكرية عبر القارات وخاصة في أفريقيا وتسهم في دحر قوى معادية للثورات الوطنية فيها.
هذه الأحزمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مربوطة بأدلجة كفاحية مضحية زاهدة تجعل هذه الجماهير في حالة استنفار دائم.
هذا الصمود الأسطوري تشكل على مدى العقود بلافتة النظام الاشتراكي، وهي لافتة تشيرُ إلى سير المجتمع الحتمي نحو زوال الطبقات والملكية الخاصة وأجهزة الحكم القسرية وما إلى ذلك من مصطلحات الرؤية (الماركسية – اللينينية) التبشيرية بتحقيق الاشتراكية من دون أدوات الرأسمالية.

إن هذه الرؤية الملتحمة بين الحرية الوطنية والإجراءات الاجتماعية التأميمية والإصلاحية الزراعية، غدت هي فكر الدولة ووجودها، وحياة الناس، وأي استعادة للأرض مثلاً من قبل المالكين القدامى من بين أصحابها المالكين الجدد يعني الحرب الأهلية، وسواء جاء المالكون القدامى عبر التدخل الأجنبي أم عبر صناديق الاقتراع فإن الأمر واحد.

وتحولت هذه الرؤية والمصالح الشعبية إلى دولة لا تقبل برؤية أخرى وهي على خندق المجابهة المستمرة، فصارت الدولة هي دولة الرأسمالية الحكومية الوطنية، ولكن بعد لم يتحول موظفو الدولة إلى المالك الحقيقي، ويبعدوا الناس عن الفيء العام كما نقول بلغة الفقه الإسلامي.
وهذا الفيء صار تعليماً وعلاجاً مجانين في كل الظروف والمراحل، وهو أمر أدى إلى مزيد من التلاحم بين هذا الشعب الفقير الذي توزع عليه الخيرات العامة المحدودة بشكل متقارب، ولكن هذا لا يعني أن الوزارات لم تبدأ بالانفصال عن الجمهور، وأن الفساد لم يظهر.
ولكن تلك الرؤية المشار إليها سابقاً تصدعت في مركز إنتاجها في روسيا، وانعكس ذلك ليس بشكل فكري فقط بل بشكل مالي حاد أيضاً، وتلك العقود المحمية بمساعدة الرفيق الأكبر انتهت، والأزمة الاقتصادية وصلت إلى كوبا بعنف.

وفي العقود السابقة وضعتْ كوبا أسسَ قاعدتها الاقتصادية، وتخصصت في إنتاج سكرها ومعدن النيكل والتكنولوجيا الحيوية والصناعة الطبية الالكترونية. وهي كلها لا توفر تطوراً واستقراراً اقتصاديين، ولهذا تنامى العجز وزادت مشكلات الفقر.
فـُطرحت أسئلة كبيرة على التجربة ومدى صحتها، وكيفية تجاوز مشكلاتها، وهل يتم التوجه نحو التجربة الروسية وتحولها أم تستمر كوبا على النظام نفسه من دون تغيير أم يحدث الخيار الثالث وهو الخيار الذي اتبعته تجارب مثل فيتنام والصين؟ فكان الاتفاق على الخيار الثالث الذي يواصل تجربة مقاومة الجار الثقيل، وقد طرح سياسيو كوبا ومفكروها آراءً تؤدلج رأسمالية الدولة الوطنية هذه وتقول إن الماركسية المتبعة لديها ليست جامدة بل تتطور عبر أزمات الواقع وتبدلاته، من دون أن تلغي الأساس الاقتصادي الذي صار الهيكل العظمي للدولة، بل تحسنه لمزيد من الانجاز، كما أن الأساس الفكري للحكم وهو الاشتراكية سيظل متبعاً، وأن تفاوت الثروة المتصاعد لن يلغي هدف المجتمع لإزالة الطبقات، وبالتالي لن يسمح للقوى البرجوازية الصاعدة عبر هذه الإصلاحات بالوصول إلى السلطة. لكن كيف يتم زوال هذه القوى الجديدة المطلوبة اقتصاديا؟ وإلى أين ستوجه نموها؟ وهل سيبقى البلد بعد هذا بلد الحزب الواحد؟ وهل لن يحدث تداخل وتحالف بين القوى البيروقراطية المتحكمة في الأجهزة ومنافعها وبين هذه القوى المالية الجديدة؟
عموماً انطوت صفحة معينة من تاريخ كوبا وانفتحت صفحة جديدة ودخلت الرأسمالية الخاصة للاقتصاد المسمى اشتراكيا.

 
تجربة كوبا الوطنية (2)
 
ظهرت تغيرات كبيرة في الاقتصاد الكوبي بعد سنوات طويلة من تحكم الدولة في الهيكل الاقتصادي العام، فقد جرت إجراءات مالية واجتماعية كثيرة: «شملت هذه الإجراءات فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية وتوسيع الشركات ذات الملكية المشتركة بين الحكومة الكوبية والشركات والاستثمارات الأجنبية) وانتقال هذه من قطاع التصدير والاستيراد إلى قطاع التمويل الاستثماري والقطاعات المحلية في الاقتصاد الكوبي.
وقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى التعجيل في عملية الإصلاح الاقتصادي الذي شمل العناصر التالية: على مستوى التجارة الخارجية:
 

–    انفتاح متزايد على رأس المال الأجنبي وازدياد عدد الاستثمارات المشتركة بين الحكومة الكوبية والشركات الأجنبية وتنشيط الاستثمارات الأجنبية (السياحة الدولية، صناعة الأدوية، تطوير البيوتكنولوجيا، إنعاش إنتاج السكر). وقد لاقت هذه الإجراءات نجاحات كبيرة في معالجة الأزمة والتصدي لآثارها المدمرة على المستوى الداخلي، كما شكلت محاولة منتظمة ومثابرة في إنعاش الاقتصاد الكوبي وإدخاله إلى السوق العالمية.
– إزالة احتكار الدولة للتجارة الخارجية.
– السماح بتداول العملات الأجنبية وتحديداً الدولار الأمريكي وافتتاح المزيد من مكاتب صرف العملات الاجنبية تحدد سعر صرف هذه العملات على أساس العرض والطلب. وقد صُرّح للمشاريع الخاصة بالتداول بالدولار وتمويل ذاتها مقابل تحويل جزء من دخلها (بالدولار) الى خزانة الدولة. وتشكل الدولارات التي يرسلها المغتربون الكوبيون في الولايات المتحدة الى ذويهم في كوبا الجزء الأكبر من الدولارات التي غزت السوق الكوبية. إضافة الى ذلك، فقد سمحت الاتفاقيات التي عقدتها الحكومة الكوبية مع الشركات الاجنبية العاملة في كوبا، بأن تدفع جزءا من رواتب الموظفين الكوبيين العاملين في هذه الشركات بالدولار
– التعديلات في الهيكلية التنظيمية للدولة من اجل ضبط العلاقة في التعامل مع الشركات الثنائية والاستثمارات الأجنبية.
 - التعديلات القانونية التي صاحبت هذه التطورات الاقتصادية والتي كان من أهمها التعديل الدستوري في يوليو 1992 الذي أعاد تعريف «الملكية الاشتراكية«، والإقرار بظهور شكل جديد من الملكية، وتحديد الملكية وتغيرات أخرى داخل نظام التخطيط الاقتصادي«. (مسعد عربيد، مستقبل الاشتراكية في كوبا، الحوار المتمدن).

هذه عينة من التحولات الاقتصادية الصناعية والمالية خاصة التي جرت في كوبا، وهناك إجراءات في الزراعة التي تمثل جذور التجربة، فقد تم إلغاء سيطرة الدولة على الأرض، وهذا يعني ان ملكيات الفلاحين التي كانت شكلية أصبحت بيدهم فعليا وقانونيا كذلك، كما عملت الحكومة على تشجيع التعاونيات الزراعية وهي إجراءات تشير إلى خوف الدولة من تنامي الفئات البرجوازية في الريف، بعد جعل تطور الملكية الخاصة قانونيا وفي وسيلة إنتاج مهمة وكبرى في الجزيرة.

إن الدولة الاشتراكية المفترضة هنا تقوم بتغذية نمو الطبقات المختلفة، فهذا سوف يقوم بإنشاء ازدهار للفئات الوسطى، ويوسع أعمالها، وتستفيد الحكومة من ذلك عبر الضرائب المستحدثة، وتنامي خزانتها، وقد عمقت ذلك أيضاً عبر إعطاء استقلالية للمؤسسات الاقتصادية، التي غدت حرة، وتتعامل مع السوق بشكل مباشر، وتنمي ماليتها المستقلة، وهو أمرٌ سيؤدي إلى تطوير الإنتاج والتقنية. ولا تنعدم في مثل هذا الاقتصاد الخاص المتنامي حالات الفساد والتداخل بين الرأسمالين الحكومي والخاص، في ظل تنامي العمليات الاقتصادية المختلفة.

وبهذا يتشكلُ مساران اقتصاديان مختلفان، متضادان كذلك، ودرجة التضاد وعمقها تعتمد على إدارة الدولة، وهو شأن تقوم به وزارة التخطيط، وبهذا تكون تكونات الفئات الوسطى المالكة محسوبة، ومستثمرة من أجل تطوير القطاع العام. لكن هذا يعتمد على الرقابة الشعبية والحرة، وهو أمر لا يتشكل في مجتمع بلا صحافة حرة وبلا انتخابات وبرلمان حر، ومن هنا فإن العكس قد يكون هو الموجود والمستمر، أي أن يقوم القطاع العام بتسريب أمواله إلى القطاع الخاص، وحين يصل القطاع الخاص إلى قوة كبرى فإنه يعيد تشكيل التجربة لصالحه. “حقق الاقتصاد الكوبي في الفترة الواقعة بين عامي 1994 و1999 معدل نمو سنوي يساوي 5،4% . وفي عام 1995 كان النمو 2،6 %. وفي عام 2000 وصل النمو الاقتصادي إلى 6،5%. وفي عام 2001 وصل إلى 3%، ولم ينم الاقتصاد أكثر من ذلك حتى الآن”، المصدر السابق.

يشير هذا إلى نمو بطيء ومهم وإلى توقف عن التطور أخيرا، فسيطرة الدولة وحجم الاقتصاد ومواده لا تسمح بأكثر من ذلك، وظلت الخدمات الصحية أفضل خدمات صحية على مستوى العالم، وأكبر عدد من الأطباء قياساً للسكان. ولكن بدأت المجانية الكلية تختفي، وبدأت رسوم على بعض الخدمات. إن شعارات مختلفة تنمو في المجتمع الكوبي، فالشعارات الاشتراكية ومؤسساتها تخبو، والشعارات الرأسمالية تتصاعد، ولكن نموذج رأسمالية الدولة الوطنية انتصر ليس على مستوى كوبا فحسب بل على مستوى أمريكا اللاتينية التي بدأ بعض بلدانها بإصلاحات عميقة من دون أن تتحول الدولة إلى دكتاتور كما في كوبا، وهو ما يشير كذلك إلى أن القارة اللاتينية سوف تصبح سوقاً موحدة ذات خصائص متقاربة، مستقلة عن الهيمنة الأمريكية الشمالية، وسوف تتغلغل الحريات السياسية والفكرية في كوبا أيضاً، ويتشكل نظام جديد مرتكز كذلك على الماضي الثوري.

اقرأ المزيد

مواثيـــق الشــــرف..!


أي خطوة أو مبادرة أو تحرك لحلحلة الأوضاع المقلقة الراهنة والشروخ التي تتسع والتي لا تحتاج إلى اجتهادات أو إثباتات أو مكابرة بنكرانها أو التهوين منها, لا يجب أن تكون محل ابتهاج وحفاوة فحسب, بل لابد أن تحظى بكل أوجه الدعم والمساندة والالتفاف.

ولكن هل ينبغي علينا أن نستقبل بذات الحفاوة والترحيب خبر مسعى بعض النواب من الكتل المختلفة لتدشين «ميثاق شرف ضد الطائفية, وضد الاعتداء على بعضهم البعض في التصريحات الصحافية أو داخل مجلس النواب..»!! إن صح هذا الخبر الذي شككنا منذ الوهلة الأولى في صحته, فإننا نجد بأنه لا مناص من استقباله بقدر كبير من الاستغراب والحيرة, ليس فقط لأن الأجواء المقلقة في جزء كبير معتبر منها سببها أولئك النواب الذين لم يتحرروا في أدائهم البرلماني من القيد الطائفي, بل وعمقوا التعامل في كل شأن برلماني ووطني انطلاقاً من حسابات مذهبية وطائفية ومناطقية ضيقة, وجعلوها في مواقف باهرة الوضوح سوقاً سوداء للتداول والتنافس في سبيل جاه أو سلطة أو تسويات أو ترضيات أو مصالح ومكاسب شخصية, لا تمت بعلاقة الى منطق العمل النيابي ولا إلى المفهوم الوطني, ولا تعزز الإيمان بالحياة النيابية, وما من أحد ينكر بأنه ظهر في هذه الأجواء من بات يدعي من نوابنا احتكار التمثيل الوطني ونكرانه على الآخرين, ومن سعى منهم بأن يظهر نفسه منزها عن الممارسة الطائفية, وجدناه بأنه يستمد هذا المظهر من حسابات واعتبارات تمثيل طائفي, أو من كونه أحد قوى الطائفية أو كسوراً منها.. !! هل من المعقول الآن أن من فعل ذلك وكانت له إسهامات في المأزق الطائفي الراهن الذي يكاد أن يستحكم ويتحكم بالجميع, وخلق صراعات, وافتعل أزمات, ونمَّى كل مفردات الردح, وآثار جلبة صاخبة من التشنجات والتجاذبات والمواقف والتصريحات والممارسات التي لا تزال مماثلة على مستويات شتى, والتي ربما ظن نوابنا أنها تخلق انطباعاً عن عملهم البرلماني فيما هي في الحقيقة كانت عوضاً عن العمل ذاته, إلى درجة أن أصبحنا نخشى عندما نتوقف عند حصاد التجربة أن نجدها بلا محصول..!! 

 نقول هل من المعقول أن من فعل ذلك وجنح بالسياسة إلى الطائفية, وأفرز جزءاً كبيراً مما كان وقعه صادماً ومزعجاً وباهظاً في تكلفته على مجتمعنا من جميع الوجوه وبأي معيار, هو الذي يتبنى اليوم فكرة أو مشروع ميثاق شرف ضد الطائفية بذريعة حرصه على الوحدة الوطنية التي نعلم جيداً حجم التجاوزات التي ارتكبت باسمها, والممارسات التي رفعت شعارها وانحرفت نحو الديماغوجية, كما إنها العنوان أو الشعار الذي رفع وانتشر ولحن واستغل من أطراف شتى لأهداف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لا تخدم الوحدة الوطنية لا من قريب ولا من بعيد, وكل ذلك لا يزال بلا شك ماثلاً على بعض المستويات. 

 إننا نعلم أن هذه ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة التي نشهد فيها مبادرات مماثلة, هي في الغالب ذات طابع «مناسباتي» تنتهي بانتهاء المناسبة, لتبقى مجرد حبر على ورق, المهم فيها أن أحداً ممن وقعها وبصم عليها وأشاد بها لم يلتزم بها ولا بالمضامين التي تبنتها هذه المبادرات, ولعلكم تذكرون ميثاق شرف «صحافيون ضد الطائفية», وميثاق شرف المدونين ضد الطائفية, وميثاق شرف المواقع الإلكترونية ضد الكراهية والطائفية, والتي خلاصتها تعاهد الجميع على أن يكونوا ضد الطائفية, كل ما علينا أن ننظر ونتأمل إلى أي مدى التزم الكثير من الموقعين على تلك المواثيق بأن يكونوا حقاً ضد الطائفية, وأنهم فعلياً اعتبروا الطائفية فخاً يجب تجنبه.. لا فرصة يجب استغلالها واستثمارها, فهل ستكون مبادرة النواب بافتراض صحة هذا الذي نشر أفضل من غيرها. نرجو ذلك.. ونحلم بذلك..

 

اقرأ المزيد

لماذا تضيق الدولة ذرعاً؟


لسنا نفهم ما الذي يحمل الدولة على إلغاء ندوة سياسية أو مسيرة سلمية أو تجمع هنا أو هناك للمطالبة بقضية عادلة من القضايا.
الدولة في غنى عن ذلك، ليس فقط لأن منطق الأمور يقول أن من شروط الديمقراطية ضمان حق الأفراد والهيئات في التعبير عن آرائهم ومواقفهم تجاه القضايا المختلفة بالوسائل السلمية التي يحميها الدستور والتي يتعين على التشريعات كافة أن تكيف في اتجاه تعزيز مثل هذه الحماية؟ وإنما أيضاً لأن إقامة مثل هذه الأنشطة والفعاليات التي يجري فيها نقد الدولة وأدائها إنما يسهم في تعزيز الممارسة الديمقراطية وترسيخها. 
على أجهزة السلطة التنفيذية أن تعلم، وهذا ما يفترض أن التجربة قد أكدته مراراً، أنها في كل مرة تمنع نشاطاً أو ندوة أو مسيرة أو حتى تلوح بمثل هذا المنع فإنها تعطي هذا النشاط أبعاداً أكبر من تلك التي كانت لها في الأصل، وهكذا فالندوة التي يمكن أن تعقد وتمر دون أن يدري عنها الكثيرون تصبح حدثاً كبيراً له أصداء وتداعيات بسبب تدخلات السلطة التنفيذية التي ليس لها ما يبررها.
ما الذي يجعل الدولة تضيق ذرعاً بندوة يقال فيها الكلام الذي تتداوله يومياً الصحف والمنتديات والمجالس واللقاءات الخاصة، بحيث لم يعد هناك أمر يوصف بأنه جديد أو خطير في ظل الديناميكية السياسية الحالية التي يتميز بها المجتمع البحريني الذي يطرح كل القضايا بما فيها أكثرها سخونة للنقاش والتداول؟
 وهي ديناميكية يفترض أنها كفيلة بأن تفرض على أجهزة الدولة تغيير إيقاعها والتخلص من العادات الموروثة من المرحلة السابقة، مرحلة الريبة والخوف والشك في كل نشاط أهلي، وهي عقلية لن يؤدي استمرارها إلا إلى المزيد من الجمود والتلكؤ، وعلى الدولة أن تدرك إن من علائم حيوية العمل السياسي في البلاد أن تفتح له الأبواب والنوافذ طالما كان الأمر في إطار القانون وفي إطار الحقوق المرعية.
 لن تنقلب البلد عاليها سافلها بسبب ندوة أو مسيرة أو تجمع، بل على العكس فإن المجتمع سيزداد حصانة وتدريباً على الممارسة السياسية، وسيتكفل الزمن بعقلنة الأداء السياسي وترشيده بالصورة التي تضمن تعميق التحول نحو الديمقراطية بالأدوات الديمقراطية وليس بوسائل العنف والعسف والزجر التي تؤكد التجربة عقمها وعجزها عن إيقاف تعبيرات المجتمع في الإفصاح عن نفسها، سواء أعجبتنا هذه التعبيرات أم لم تعجبنا.
سنظل نطالب ببرامج واضحة لمعالجة الظواهر الاجتماعية والسياسية التي تدفع إلى الاستياء والتذمر في صفوف الناس، والبحث عن حلول لاحتواء مظاهرها الحادة، لأن رصيد الأمل في حال أحسن تآكل لدى الناس، ومحله صرنا نلمس شحنات من الخيبة والإحباط والتذمر التي يجب تفهم بواعثها والسعي المسؤول لمعالجة هذه البواعث.
من المهم أن تظهر الدولة الصبر الضروري في التعاطي مع بعض المظاهر الاحتجاجية، وأن لا تدفع الأمور في اتجاه الاستخدام المفرط للقوة، وأن تسود لغة القانون والمعالجة المتأنية للأمور بعيداً عن ردود الفعل والتشنج، في سبيل تهيئة السبل لبلوغ الحلو والتوافقات بعيداً عن منطق المجابهة والتصعيد من مختلف الأطراف.

اقرأ المزيد