المنشور

لزوم الفساد تعميمه


يجري حديث عن “عولمة ” الفساد، فمفاهيم من نوع اقتصاد السوق من دون ضوابط، وحرية التجارة حتى أقصى حدودها، وقيم الفرد المثابر الذي يجري وراء الثروة بأي وسيلة وسبيل، تنعش مثل هذه الظاهرة وتعممها.
 
وفي المؤتمرات العالمية التي تناقش هذه الظاهرة يجري التأكيد على “عالمية” هذه الظاهرة، حيث لم يعد من الممكن التستر عليها، بسبب سهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات في هذا العالم المفتوح.
 
وتنشط جمعيات الشفافية ومكافحة الفساد التي صارت تدعو إلى الاعتراف بالفساد كظاهرة وعدم التستر عليه أو نفي وجوده عبر الادعاءات والتمويهات، والإقرار بأن هذا الفساد معوق أساسي من معوقات التنمية والتحولات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والدعوة لإشاعة ثقافة وطنية تقوم على بث الوعي والجرأة والشجاعة في كشف حالات الفساد والمتورطين فيها.
 
على أن الفساد ليس مجرد خلل إداري يعالج بإجراءات إدارية، رغم أهمية كل تدابير الرقابة على أوجه الإنفاق العام، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تعود إلى ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة في البلد المعني.
 
هذا يتطلب أن تدار الدول من قبل سلطات مختلفة ومستقلة عبر تدريب النخب على الأداء النزيه والحرص على حرمة المال العام، ووضع الحدود الفاصلة بين المال العام، العائد لما كان يطلق عليه في العهود الإسلامية الأولى بيت مال المسلمين، وبين المال الخاص.
 
لزوم الفساد هو تعميمه ليصبح نهجاً متبعاً يغرق فيه الكل، فلا يعود بوسع أحد أن يحاسب أحداً، طالما كان الجميع متورطاً فيه، ومن هنا جاء تعبير الفساد الصغير الذي غالباً ما يجاور الفساد الكبير ويستظل بظله.
 
فالاستخدام السيئ للسلطة يشيع حالة عامة على أساسها ينخرط صغار الموظفين في تلقي الرشى، فتصبح الظاهرة عامة شاملة.
 
ثمة رقم جدير بعنايتنا هو أن “إسرائيل” تحتل المرتبة العشرين بين دول العالم التي تتمتع بالشفافية في مجال مكافحة الفساد، بشكل يعطيها سبع درجات من عشر، فيما غالبية الدول العربية لا تنال في أحسن الحالات أربع درجات من عشر ودون ذلك.
 
منذ أربعة عشر قرنا صاغ الخليفة الراشد ذلك السؤال العظيم: “من أين لك هذا؟”، والذي بات في ما بعد بمثابة قاعدة قانونية لحفظ المال العام وحمايته من النهب ومنع سوء استخدام السلطة.
 
من يجاسر اليوم بطرح هذا السؤال العظيم؟

اقرأ المزيد

الديمقراطيون الليبراليون المدنيون.. هل وصلتم إلى الناس؟


هذا هو السؤال المسكوت عنه والمضمر في قصبة هذه التيارات.. منهم من يهرب عنه ويتهرب منه ومنهم من يحاول الوصول الى الناس على عربة غيره أو جناح غيره, دون أن يتعلم أبجدية وحرفية الوصول الذاتي, معرضاً تياره وحزبه وجمعيته للمكر وتداعياته المؤلمة والجسيمة, ومنهم من يبرر ولا يعلل, ومنهم من يحمل سلم الوصول بالعرض فتضيق به المساحة والساحة فيتعثر ولا يتعطل لعدم حسم قراره وخياره. وسؤال الوصول الى الناس سؤال طرح نفسه منذ ثمانية أعوام خلت وانقضت, لكن تياراً أو جمعية من الديمقراطيين أو الليبراليين أو المدنيين لم تطرح برنامجاً دقيقاً وواضحاً للوصول الى القطاع العريض من الناس في القرية كما المدينة وفي الفريج كما في المحافظة, وظلت المسألة تراوح في مكانها والدليل أن هذه الجمعيات بدأت وتأسست بعدد معروف وانتهت الآن بعدد أقل, هذا, دون أن نحسب العدد المحدود الفاعل والناشط وهي مؤشرات سلبية تلح على الجماعات والجمعيات لضرورة طرح سؤال الوصول الى الناس. 

 الوصول إلى الناس ليس تنظيراً في ندوة أو محاضرة, ولكنه سباحة عملية وانغماس في واقع الناس وملامسة حاجياتهم وشواغلهم وهمومهم اليومية ومحاولة المساهمة في التخفيف عملياً.

إجابة السؤال عملياً ومن خلال برنامج عملي صعب ومحفوف بكل المعوقات, لكن لا مفر من قبول التحدي إن أردتم وصولاً حقيقياً فاعلاً إلى الناس, فلن تكون الناس معكم قبل أن تكونوا معها هناك, حيث تتواجد وحيث تعاني وحيث تحتاج الى مشاريع اجتماعية عملية «فصول تقوية + تطبيب + استشارات.. الخ». وأنتم تملكون الكوادر لو توافقتم وتوحدت جهودكم في برنامج واحد مشترك عنوانه الوصول الى الناس من خلال تلك المشاريع العملية.

ليس مطلوباً منكم هناك وبين الناس خطابات سياسية نظرية, المطلوب منكم العمل الاجتماعي في أنقى صوره ومعانيه العملية التي تخدم هذه الفئات بوصفها أوسع القواعد الشعبية التي تفتقدونها, والوصول إليها لا يكون عبر عربة الآخر بل من خلال عربتكم اذا ما وضعتموها على السكة العملية الخدماتية الاجتماعية الصحيحة.

وكما تحتاجون الناس فالناس تحتاجكم ولن تصلوها مهما بذلتم من تنازلات على مركب آخر غير مركبكم.. العملية ليست سهلة وليست نزهة أو بروباغندا إعلامية, ولكنها من اكبر التحديات الشاخصة وبدون الوصول الذاتي الى الناس لن تصلونهم, هذه حقيقة الحقائق التي لن ينفع الهروب والتهرب منها بالتبريرات أو بالتبعية.. وسؤال الوصول الذاتي الى الناس وبالجهود الذاتية لكم, فعّلوه الآن عبر برامجكم المجتمعية لا برامج الآخر وما عدا ذلك عبث يا جماعة الخير. وليس نظرياً عنها.. بفتح مراكز للتعليم للتطبيب لتقديم الاستشارات القانونية المجانية ولغيرها من مناشط وأعمال اجتماعية تدخل الى الناس في بيوتهم وفرجانهم وتقدم عملاً ملموساً لا خطابات مرسلة من الكلام دون الفعل.

كم من طبيب وكم من استشاري وكم من جراح في هذه الجمعيات مجتمعة وكم من محام واستشاري قانوني وكم من محامية في هذه التيارات وكم من متخصص في العلوم المختلفة ينضوون في عضوية هذه الجمعيات كلها.. هل وضعت وهل توافقت واتفقت هذه الجمعيات على القيام بمبادرات عملية مبرمجة لتقديم خدمات طبية من فحوص ومن علاج أو استشارات قانونية أو تعليم مجاني لطلبة وطالبات الفرجان والقرى وبعض المدن؟

ما تابعناه مناشط موسمية نادرة لا تستغرق أكثر من يوم أو يومين وتنتهي كما ابتدأت, فليس هناك أجندة وبرنامج طويل يستطيع مغالبة الصعاب والمعوقات وبطول النفس وبالاستعداد للتضحية أن يصل الى الناس وأن يترك بصمة في وجدانهم عملياً وفعلياً ممارسة وسلوكاً.
لا نحتاج للدخول في متاهات مناقشة حول الإمكانيات المادية والظروف المعنوية فهي معروفة ولا نختلف عليها وقد نضيف إليها لكن هذا هو الواقع والتحدي, كيف نتغلب عليه وكيف تصلون إلى الناس في مواقعهم ومن خلال الخدمات لا الكلمات.


الأيام 8 مارس 2009

اقرأ المزيد

التخلف مسئولية من؟


يوجه بعض الإخوة العلمانيين وأصحاب الحداثة بأصابع الاتهام نحو الإسلام بصفته أساس التخلف، ولو أنه ما كان الإسلام لكان العرب وأهل الشرق الذين يدينون به متقدمين الآن. وقد قيل كثيراً عن السببيات الموضوعية للتخلف لكن لا تجد صدى فكرياً في عداوة متأصلة غريبة متكلسة لا تنفع فيها التحليلات والقراءات. هي أشبه بكراهية عميقة تجاه دين، أو عقدة نفسية سياسية استحكمتْ وتغلغلت، منذ أن يُؤخذ الصبي ويُختن ويُحفظ آيات بقوةٍ ويُضرب وتـُحفر في جلدِ ذاكرتهِ آيات يرى بعد ذلك كيف هي متناقضة مع العلوم وكيف أن سيطرة أولئك البدو لا تزال تضعُ قبضاتها فوق روحه. وتتفاقم هذه العقد في نفسه حين يذهب للغرب أو للشرق المتقدمين عن أبناء وطنه أو أمته البسطاء، فيجد هناك أدوات التحليل المتقدمة والعلوم والحريات والمتع، وهي كلها تشكل في ذاته عالماً مغايراً كبيراً قوياً مضاداً لعالمه الديني الذي تربى فيه. عالم متقدمٌ جاهز فلماذا نتعب أنفسنا؟ وحين يجيء يجد أن عالمه صار أكثر تخلفاً، وصارت(الحركات الإسلامية) تقود الناس للوراء بدلاً من أن تقودهم لطرق التقدم فلا تريد أن تتفهم العصر ولها نسخها الجاهزة من الماضي ولا بد أن تـُركب هذه بالقوة على الناس والتطور، ويصل بعضها إلى استخدام العنف الرهيب بحيث لا يمتلك مثل هذا الصبي المجلود سابقاً بعصا المطوع، الذي حُوصر وحوصرت أمه وأخواته بكل قيد، وقـُمع باسم سلطات وحركات تتحدث باسم الدين، سوى أن يكفر بكل ذلك، ويغدو له هذا مخرجاً سهلاً ومضيئاً، فما أن تنكر تلك الحضارة(التي يتشدقون بها) حتى تنسجم مع نفسك وتقدم لهم الطريق الصحيح للتطور والحرية والتقدم.  ألم يكسر بطل (قنديل أم هاشم) القنديل بعد أن جاء من أوروبا وهذا القنديل في رأيه هو سبب الأمراض؟ ولم تقدم المدارس الأوروبية والحديثة التي تربى فيها ثقافياً أي أدوات ناجعة لتحليل أمته، فهي تلغي التقدم الذي تحقق سابقاً على أيدي أمة متخلفة، وهي تفرشُ سجاجيد السيطرة على العالم.

لم ينشأ الصبي على محبة الرموز بل على كراهيتها، لم يحبها وهي تناضل في ظروفها الصعبة الرهيبة، لم يجد أي تحول بين الانحصار في زوايا العالم الصحراوية وخلق إمبراطورية ثقافية متمدنة بمقاييس عصرها، وهو إنسان لا يحقب التاريخ ولا ينظر له كحلقات من التطور البطيء المتدرج الصعب، مثله مثل الديني المحافظ الذي يرى التاريخ كعلبةٍ سحريةٍ يجب نقلها من مكان إلى آخر ومن عصر إلى عصر، بكتائب الجهاد المقدسة، التي تحرسها عن العيون والمؤثرات الشريرة للأمم الأخرى الكافرة، وعبر بضعة مفاتيح تنفتح وتجلب كل الخير النافع. والصبي الذي صار مثقفاً يُشار إليه بالبنان  لا يقدر أن ينزل إلى مستوى العامة، وأن يجادلهم في معتقداتهم(الساذجة)، فينأى بنفسه عنهم، ويجثمُ مع صحبته التي تتداول نفس أفكاره فينشرح صدره ويقاوم قوى التخلف في المجالس المغلقة عن الهواء والجهات الأربع، ولديها معلباتها الجاهزة تفتحها وتتغذى ثقافياً منها. بوده لو يصرخ من النافذة: (تخلوا عن هذا الدين لتتطوروا وتلحقوا بالأمم المتقدمة!)، ويضيف (حتى تعاليم بوذا أفضل من هذا كله) ولكن الناس الجاهلة الغارقة في الزرع والمعامل والحارات المتعبة لا تسمع ذلك للأسف، وهناك كم هائل من المشكلات الاقتصادية والسياسية تتفجر كل يوم، فوق رؤوسها وعليها أن تدفع الأثمان للحكومات والحركات الدينية والسياسية، وترفع فوق كواهلها المتعبة منذ قرون قوى جديدة تمتصُ دماءها! وهي أمية في أغلبيتها قادرة على فهم آخر النظريات المنتجة في الخارج.

إذا استحكمت عقدة المثقف العدو اللدود للإسلام فأمامه طريقان لا ثالث لهما، إما أن ينضم للقطيع المتمصلح من بيع الأفكار، وإما ينتحر ثقافياً. الانتحار الثقافي يعني دائماً العجز عن مشاركة المثقف في تحليل الحياة ومعرفتها وتغييرها، يتمظهر في لوحات تجريدية أو قصص مسطحة أو أفكار معلبة تردد كل يوم، أو تنظيمات غير قادرة على الفهم والتطور، أو في عجز المثقف العدمي (المسلم) عن فهم واقعه والمساهمة في تغييره. مهما كانت أفكار المثقف العدمي المعادية للإسلام يظل مسلماً، فالإسلام كيان اجتماعي سابقٌ على وجوده الفردي، مثلما أن الإنسان يظهر وقد اكتسب يداً مدربة على العمل، هي نتاج ثلاثة ملايين من تطور البشرية، مثل بقية أجهزته، وحين يظهر الإنسان في المجتمع المسلم يغدو مسلماً بالضرورة، فثقافة المجتمع يتشربها، ويتشكل بها، وهذه الثقافة هي الجوهر الذي تكون فيه، يتألم مع معاناة أبطال الشعر الجاهلي، ويفرح لوحدة العرب غريزياً، ويتبصر تقدم حضارتهم، ويتعذب من استعبادهم واستغلالهم من قبل القوى الأجنبية، وتتحكم فيه ديانتهم بزواجه وتنشئة عياله وباستقلالهم عنه وعودتهم لينابيع إرثهم حتى لو كانت العودة ضد أبيهم، وبحلالها وحرامها، وبتغير زوجته تجاهه وعلاقاتها مع النسوة(المتخلفات)، وبإقامة علاقته مع جيرانه ومحيط عمله. فالعام والوجود الاجتماعي متأصلٌ فيك ولو كنت تحتقره. وإذا رفض كل ذلك وازداد انسحابه فإنه ينفصم اجتماعياً ويهاجر بجسمه أو بروحه.

كان ومازال لدينا علماء ومثقفون منكبون على قراءة التراث وفحصه، ورؤية بعض الخيوط المضيئة فيه، وعاش هؤلاء عيشة الزهد والتضحية، والتصقوا بتلك الأوراق التراثية الصعبة الفهم، وبمجلداتها، حتى كشفوا جوانب مهمة من الماضي وصفحات رائعة وبطولات ثقافية وفكرية، ومزجوا بين الماضي والعصر وجعلوا القراء يحصلون على جسور للتواصل وعلى مواد من الماضي لتغيير الحاضر. التخلف مسئولية جماعية بين الماضي والحاضر، منقولة إلينا بعض جوانبها منه، ومنتجة في عصرنا كذلك ومُضافة إليها السلبية وعدم تضافر الجهود الشعبية لتغيير ذلك.
 
أخبار الخليج 8 ابريل 2009

اقرأ المزيد

حسـن التـرابي


رجلٌ تعددت فيه الآراء والمواقف، ورفضته قوى دينية وليبرالية ويسارية، وكل من وجهة نظره، لا لثراء فكره، بل لقدرته على التلون وتغيير مواقفه وتجاوزه لفهم الدين كما يقرأه المحافظون وتأييده للنظام الديني، وتبقى ثيمة الدكتاتورية السياسية الدينية المحافظة متجذرة فيه.
وسيرته توضح هذه التقلبات وكذلك البحث عن مخرج لدولة نازفة في التخلف والصراعات القومية والدينية والاجتماعية: حسن عبدالله الترابي (ولد في 1 فبراير 1932). ولد في كسلا في السودان بالقرب من إريتريا. له دور فعّال في ترسيخ قانون الشّريعة الإسلامي في الجزء الشّمالي للبلاد. كان والده قاضياً وخبيراً في قانون الشّريعة. ويعد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السابق للسودان من أقربائه.

بعدما تخرج عاد للسودان، وأصبح أحد أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية وهي إحدى الفروع السودانية للإخوان المسلمين. بعد خمس سنوات أصبح لجبهة الميثاق الإسلامية دور سياسي أكثر أهمية، فتقلد الترابي الأمانة العامة بها عام  1964 ، عمل الترابي مع طائفتين من الحركة الإسلامية في السودان هما الأنصار والختمية.

بقي مع جبهة الميثاق الإسلامية حتى عام 1969 حينما قام جعفر نميري بانقلاب. تم اعتقال أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية، وأمضى الترابي سبع سنوات في السجن. أراد الانقلاب والطائفتان الإسلاميتان الوصول لحل وسط في عام 1977، وقد كان إطلاق سراح الترابي جزءا من هذا الحل. أعلنت حكومة نميري فرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983، وانقلبت بعدها على جبهة الميثاق الاسلامية – حليفتها في السلطة- عارض الشعب هذا الأمر بواسطة الإجراءات القانونية مثل حل البرلمان السوداني، وبواسطة المظاهرات مما أدى إلى ثورة شعبيه ضد نميري في عام 1985 .

بعد عام أسس الترابي الجبهة الإسلامية القومية، كما ترشح للبرلمان ولكنه لم يفز. في يونيو عام 1989، اقام حزب الترابي انقلاباً عسكرياً ضد حكومة المهدي، بعد ان طردت أعضاء حزبه من البرلمان، وألغت قوانين الشريعة الاسلامية، وعين الترابي عمر حسن البشير رئيسا لحكومة السودان.

في عام 1991 أسس الترابي المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي يضم ممثلين من 45 دولة عربية وإسلامية، كما انتخب الأمين العام لهذا المؤتمر. اختلف مع حكومة الإنقاذ حول قضايا، أهمها الفساد، والشورى، والحريات، وحل البشير البرلمان، في أواخر عام 1999م، وبعدها أصبح الترابي أشهر معارض للحكومة.

شكل مع عضوية حزبه المؤتمر الشعبي، في 31 يونيو 2001م.. وحوى معظم قيادات ورموز ثورة الإنقاذ الوطني، وتخلى مسئولون كبار في الحكومة عن مناصبهم. اعتقل في 2001م لتوقيع حزبه مذكره تفاهم مع الحركة الشعبية، ثم اعتقل مرة اخري في مارس 2004 بتهمة تنسيق حزبه لمحاولة قلب السلطة. له العديد من الرؤى الفقهية المتميزة والمثيرة للجدل)، (من وكيبيديا، الموسوعة الحرة، ومن فتاوى الدكتور الترابي ورؤاه).

نلاحظ بوضوح في سيرة الترابي هذه العملية المركبة للجمع بين الحداثة والإسلام، فهو باحثٌ متعمق في كلا الجانبين الديني والعصري، لكن على أساس سياسي غائي شخصي، وهو إذ يتمسك بحرفية النصوص الدينية لكنه يأخذها كنصوص من دون بناها الاجتماعية التي قامتْ عليها، أي يعتمدُ على ما قامتْ به الأنظمة المحافظة من تأويل الإسلام حسب مصالح طبقاتها العليا، فمن الناحية السياسية يرى منصب الرئيس أو الخليفة باعتباره المنصب الجوهري في الحكم، وليس البرلمان والمجالس الأخرى إلا ملاحق به، وإذ يتحول منصب الرئيس إلى منصب منتخب، لكن يتم ذلك على أساس انقلابي دكتاتوري، حيث يفرض الحزب المنتمي للترابي سيطرته، فتغدو عمليات (الديمقراطية) ملحقة بتلك السيطرة الشمولية، فهو لا يؤيد الحداثة الديمقراطية بمعاييرها الإنسانية، من علمانية وإبعاد الأديان عن الاستغلال السياسي، أي هي أشكال من (الديمقراطيات) الشرقية المقننة لخدمة الدول عادة. وابتكارات الترابي تغدو جزئية فهو لا يمانع بوصول (المسيحي) أو (المرأة) لرئاسة الدولة الإسلامية، ولكن هذه جزئية غير ممكنة في ظل سيطرة حزب العسكر الذكوري على سبيل المثال أو ان يغدو المسيحي أو المرأة مجرد أداة شكلية في دولة ذكورية ودينية. فالقضية ليست وصول المسيحي أو المرأة إلى الحكم بل هذا البناء السياسي المتلاعب بالدين، فالدولة الدينية المذهبية ستظلُ مسيطرة على الأقاليم المختلفة دينياً وعلى الجمهور المتعدد الرؤى.

لا يصل الترابي هنا ككلِ إجتهاداته الدينية المفيدة بطبيعة الحال، إلى نزع سيطرة المحافظين عن الدين. فهو محافظ مثلهم، بعدم رؤيته تاريخية الدين، وانتماء الدين للأغلبية الشعبية، بل هو ينتمي للأقلية السياسية العسكرية التي كيفت الدين خلال قرون لسيطرتها. ولهذا نرى هذه الجزئيات التجديدية التي يضعها في رؤية تقليدية شمولية، لا تتسق مع بعضها بعضا، بل هي جزء من رؤية استعراضية وتجميلية ودعائية بهدف كسب فئات مضطهدة لحساب الحزب. كذلك فهي اجتهادات تثير عليه رجال الدين مثل تدخلاته في قضايا الحدود ولكن مثل هذه الأحكام لم تدخل في تطبيقه السياسي، وتغدو هذه الانشقاقات الاجتهادية كجزء من محاولته التأثير في التنظيمات والناخبين، ولا تأتي جزءًا من مشروع ديمقراطي حداثي متكامل، وهي كلها جزء من محاولته التسريعية في الصعود. ولهذا نرى كيف أن الترابي كان من الإخوان المسلمين ثم انفصل عنهم، بسبب النمو المتدرج للإخوان وعدم تأييدهم للانقلابات السياسية والفقهية، حسب المسار السوداني المشار إليه سابقاً. 
 



حسن الترابي (2)


لا تقومُ مرجعية الدين أو الناس لدى حسن الترابي كمرجعيةٍ محورية ثابتة، بل تعودُ المرجعية لذاتهِ، لفرديتهِ الطموحة للوصول للحكم.
ومن هنا يغدو الفضاء العام المحافظ هو الذي تحلقُ فيه تلك الذات للوصول إلى كرسي العرش، لأن الفهم الديني المحافظ هو الذي يكون لها عصبة سريعة التشكل، وانتقائية الاجتهاد والتقلب.

يغدو الدينُ كما شكلهُ المحافظون عبر قرون الاستبداد هو المرجع وهو الذي طرأتْ عليه تغييراتٌ في التأويل السياسي الراهن، من حيث تراجع مرجعيات الليبراليين والعساكر الانقلابيين، والمدنيين القوميين التحررين، وصعود مرجعيات الأرياف الإسلامية، بغياب ذلك التحضر وتصاعد العصبيات الطائفية والعنصرية، واللاعقلانية السياسية واعتماد سياسات التصفيات والعنف والإرهاب في كثير من الأحيان. 
 
وفي هذا الخضم، وعبر موقع السودان المتقلب سياسياً ومدنياً، وجد الترابي نفسه بذلك الطموح المحوري في شخصه، وبتلك الحربائية المتلونة في كل مرحلة، يستعير لباساً لكي يصعد، لحلمه الدائم، فوجدناه ينضم لحركة الإخوان فلا يصبر على الثبات فيها، نظراً لبطئها، ويعادي حزب الأمة وهو مثله بانتمائه للمحافظين الاجتماعيين، ممثلي الطبقات المسيطرة، لكن حزب الأمة لا يؤمن بالمغامرات العسكرية والعنفية خاصة، وهي التي تجلبُ أكبر الكوارث للشعوب، ولهذا قام الترابي بمهاجمة هذا الحزب وإزاحته وتثبيت عقلية الانقلابات والمغامرات، التي هي جزءٌ أصيلٌ من ذاته السياسية.

إن ظهورَ القطعِ الكبير بين عقليةِ التدرج السياسي السلمية وتفجر عقلية المغامرات العنيفة، هو نتاجٌ لعدم تثبيت المؤسسات الديمقراطية الهشة في الأرض السودانية وعجز قوى المحافظين عن تطوير حياة الأغلبية العاملة، معاً.
إن ذلك خلق هوة سمحت للمغامرين السياسيين والعسكريين بالانقضاض على السلطة، وتشكيل إعصار سياسي راح يلفُ السودانَ ممزقاً خريطته وبشره.

لعب الترابي دوراً محورياً في إنتاج مثل هذا الإعصار، فقد قاوم جعفر النميري من خلال المنطلقات (الإسلامية)، كما يصورُ ذلك، وقد عارض النميري بسبب رفع هذا الأخير الشعارات القومية والاشتراكية التي لا يعرف عنها شيئاً، وحين انفضت القوى المدنية من حوله بسبب طغيانه الشخصي، رفع النميري الشعارات ) الإسلامية) وحاول أن يستثمرها لتمديد كابوسه السياسي. ووجدها الترابي فرصة للخروج من السجن والقفز للسلطة!

لكن القوى المدنية الشعبية هي التي أزاحت النميري، وظهر الترابي مناوئاً مرة أخرى لحزب الأمة، وللتدرج الإصلاحي، وراح يعدُ مغامراتٍ جديدة للحكم والشعب.

بدأت جماعة الانقلاب الديني والمغامرة تتخذ لنفسها مسمى جديداً، تضفي عليه الكثيرَ من بهرجة المشرق الإسلامي وشعاراته الحماسية الفارغة من أي مضمون ديمقراطي. وسمت نفسها جماعة (المؤتمر). وحاولت أن تجعل من هذا النهج نهجاً عربياً واسعاً، مما يمثل خطاً آخر بين الخطوط المتكاثرة للجماعات المذهبية السياسية.

وحانت الفرصة خاصة عندما ألغى حزب الأمة التشريعات التي سماها النميري )الإسلامية)، فكان أن ظهر فصيلٌ في الجيش خيطهُ الترابي بإبرتهِ الحادة، وألبس السودان بدلة نظام شمولي عسكري جديد، فكان أن ظهر البشير، فصار للدولة رأسان، ولكن الرئيس هو من يقبض على أداة العنف، لا من يقبض على أداة الكلام.

إذًا جاءتْ كلُ تحركاتِ الترابي التنظيمية والدعائية والسياسية لكي تصب في وصولهِ للسلطة، وهنا ظهر بوضوح ذلك أثناء تسلم البشير مقاليد الحكم، فالبشير رفض أن يكون الرجل الثاني، أو الأداة للترابي، رغم أنه قادم من نفس التنظيم، ونفس (الفكر( .
ومثل كل الفرق الدينية – السياسية التي نتجت من خلال استغلال مادة الإسلام التراثية، التي تجعل الدين أداة لوصولها للحكم، لم يكن لدى الإنقاذ شيئاً تنقذ به السودان، بل على العكس جاءتْ لتغرقهُ في الأزمات، ويقومُ ذلك على عدم فهم الدين والعصر، وعدم اعتماد هذه الجماعات على أي ركيزة اجتماعية موضوعية، فشكلتْ التعصبَ المزعوم للإسلام والمسلمين، وتصعيد قوانين الردة والعقاب الجماعي (للمرتدين) و(أهل الذمة)، وتبرير قطع الأيدي وغيرها من ترسانة القوى المحافظة المتطرفة، وتحولت تلك إلى حروب للمسيحيين والقوميات الأخرى والديانات المغايرة!
أي أنه في عجز الطبقة السائدة من العسكريين وحرامية الحكم والإقطاع وغيرهم عن تنفيذ سياسة إصلاحية مدنية متطورة، وضعوا أخطاءهم على مشجب الدين، ومزقوا الخريطة الوطنية للسودان.

ولكن الترابي في صعوده الإنقاذي هنا رأيناه في حالتين، الحالة الأولى هي حالة المصاهرة السياسية مع البشير، مثلما استغل المصاهرة الزوجية مع عائلة المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق، فعلى كل مصاهرة هو يصعد، ويقتربُ من حلمهِ الخاص، ومن إنتاج الكوابيس للناس، ومصاهرة البشير قادتهُ للاقتراب الكبير من السلطة الفردية، لكنه لم يصل إليها، فغيّر من قناعته تجاه حزب المؤتمر وحيال حال السودان بكل سهولة، وتلك حالته الثانية التي غدت تشهيراً بالعسكريين والدينيين الشموليين وبضرورة الديمقراطية!

تغير الحال فتغير الخطاب، لم يحتل السلطة، فلا بد أن تتغير المصطلحات والحلفاء ويُدان الرفاقُ الشركاء، والرجلُ قادرٌ على تفتيق الكلام وزخرفته بجدارة، يقول عن البشير الذي صعدهُ للسلطة وشاركَ معه في مسئولية الحكم، حول قضية المحاكمة الراهنة:
(هي مبادئ ونحن في سبيلها ويمكن أن نـُعتقل في سبيلها من قبل ومن بعد والموقف واحد . أولا نحن نؤمن بالعدالة على كل مسؤول في السلطة. لا نعرف حصانات. البلد كله الآن حصانات تحمي المسؤولين. نحن نرفض هذه الحصانات تماماً. ثانيا نحن مع العلاقات الدولية ونؤشر في العلاقات الدولية العلاقات العدلية لان بين أيدي المحكمة الناس سواء. في المنتديات العامة والصراعات السياسية يمكن القول ان الضعيف يُؤكل والعالم كله الآن يعرف من هي الدول الأقوى والدول الأضعف والدول الأفقر. ولكن إذا كانت فيه محكمة في العالم وبدأت تتحول خلافات العالم إلى محاكمات والى قضاء فنحن نقف معها تماماً. والسودان بلد واسع وله جيران عديدة. هو بلد مركب من تركيبات عالمية وهو بلد عالمي أصلا. هذه مبادئ نعلم بها ورأينا أن الحكومة كان ينبغي إذا لم تفصح حصانتها وحريات الناس وحريات القضاء حتى يستقيم السودان. لا بد أن نطلب العدالة في أي مكان كما نطلب الإعانات الاقتصادية والصحية من منظمة الصحة العالمية والمنظمات الخيرية العالمية. جاؤوا الآن وانقلبوا على المنظمات الخيرية وانقلبوا على العدالة الدولية. نظام الحكم بدأ الآن يتشدد في التضييق)، (9، 3، 2009(

تصريحٌ لا غبار عليه في المضمون لكنه يبقى صادرا من زعيم متقلب ذاتي الهوى.


أخبار الخليج 7 ابريل 2009

اقرأ المزيد

نحن حبـات البــذار..


 
محمد نجيب سرور محمد هجرس ولد بقرية إخطاب، مركز أجا، محافظة الدقهلية في 1 يونيو 1932 وتوفي يوم 24 أكتوبر 1978 م). شاعر مصري معاصر، لقب بـ”شاعر العقل.

إدراك نجيب أهمية عالم المسرح بالنسبة لقضيته الأولى، النضال من أجل كشف الحقيقة سعيًا للحرية والعدالة، جعلته يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر. حياة البؤس والحرمان واضطهاد بقايا الإقطاعية من مالكي الأراضي والمتنفذين للفلاحين البسطاء في الدقهلية، حيث نشأ نجيب سرور، تركت بذورًا ثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا ً على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين.

أخفى نجيب بداية انتماءه إلى جماعة حدتو الشيوعية قبل سفره في بعثة حكومية إلى الإتحاد السوفييتي لدراسة الإخراج المسرحي من عام 1958 وحتى عام 1963 حيث أعلن هناك تدريجيًا ميله للماركسية مما كان له أثر سلبي لدى مجموعة الطلاب الموفدين الذين حرضوا السفارة المصرية ولفقوا التقارير ضده وفي نفس الوقت تحول تساؤل الشيوعيين العرب عن كونه يحمل الفكر الماركسي في حين أنه موفد ضمن بعثة حكومية إلى شكوك أقلقته وأثارت في نفسه اكتئابا.
 
هذه المعاناة جعلته يبالغ في تأكيد صدقه ونفوره من مجموعة الموفدين وعدم ارتباطه بأية جهة غير شيوعية عن طريق تشكيل مجموعة الديمقراطيين المصريين في السنة الدراسية الثانية عام 1959 وتعمد المشاركة في الحياة الطلابية وإلقاء الخطب الحماسية والبيانات ضد النظام الديكتاتوري وسياسة القمع في مصر وسوريا والتي امتلأت بسببها سجون البلدين بالآلاف من أبناء الوطن الشرفاء من عمال وفلاحين ومثقفين. عندها فقط زالت الشكوك عن نجيب الذي سرعان ما أحاطه الشيوعيون من بلدان الشرق الأوسط بالمحبة والدعم وساعدوه بالتعاون مع إدارة الجامعة لحل مشكلة المنحة الحكومية المسحوبة وإبقائه في موسكو بمنحة حزبية أممية.

مع عودة الشاعر إلى مصر عام 1964 بدأت حياته الفنية والأدبية والسياسية التي استمرت قرابة الأربعة عشر عامًا حتى وفاته متأرجحة بين النجاح والمعاناة الشديدة، بكتابة وتقديم النصوص الدرامية ومسرحياتها، استهلها في عام 1965 بعمل مسرحي من إخراج كرم مطاوع بعنوان “ياسين وبهية” وهي رواية شعرية كتبها في بودابست قبل عام واعتبرها الجزء الأول من ثلاثية ضمـَّت “آه يا ليل يا قمر”، المسرحية الشعرية التي كتبها عام 1966 وأخرجها جلال الشرقاوي عام 1967 ، و “قولوا لعين الشمس”، مسرحية نثرية في ثلاثة فصول، كتبها عام 1972، وأخرجها توفيق علي عام 1973.
 
في فترة السبعينيات واجهت نجيب سرور ظروف قاسية للغاية وصل فيها اضطهاده وفصله من عمله مدرسًا في أكاديمية الفنون في القاهرة إلى التشرد المأساوي مما حفزه، وهو الإنسان الذي يكره الصمت والخنوع والاستسلام، على كتابة قصائد الساخنة انتقد فيها بشكل لاذع سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب وخاصة قمع الحريات العامة وحرية التعبير والتسلط على المثقفين والتنكيل بالمواطنين. تحاملت أجهزة السلطة في حينها على الشاعر فلفقت له التهم المختلفة وساقته إلى مستشفى الأمراض العقلية. وقد تكرر ذلك سعيًا من السلطة لتحطيم نفسية نجيب سرور.
 
توفي نجيب سرور في 24 أكتوبر 1978 بمدينة دمنهور بمصر عن ستة وأربعين عامًا.

فأثار رحيله المبكّر اكتئابًا في نفوس محبيه من الأدباء والفنانين والمفكرين والمناضلين وغنى رفاقه الثوريون مرثيته التي كتبها
   

  نحن حبات البذار..
 


نحن حبـَّات ُ البذار ْ

نحن لا ننمو جميعا ً عندما يأتي الربيع ْ
بعضـُنا يهلك ُ من هول ِ الصقيع ْ
وتدوس البعض َ منا الأحذية ْ
ويموت البعض ُ منا في ظلام الأقــْبية ْ
غير أنـَّا كلــَّنا لسنا نموت ْ
 
نحن حبَّاتُ البِذارْ

نحن نعلمْ  أن أطلالَ القبورْ
ستُغطِّى ذاتَ يومٍ بالسَّنابلْ
وسينْسى النَّاس أحزانَ القرونْ
وسينسون السَّلاسلَ والمقاصلْ
والمنافي والسُّجونْ
وسنكسو الأرضَ يوماً بالزُّهورْ
وستأسو الفرحةُ الكبرى جراحاً في الصُّدورْ
فرحة النصر إذا جاء الربيع
نحن إذ نحيا فمن اجل الربيع
وإذا متنا فمن اجل الربيع
 


 

اقرأ المزيد

إصلاح المجلس بإصلاح الحكومة!


الملاحظ أن هناك دعوات مطروحة تركز فقط على ضرورة ترشيد الممارسات النيابية السلبية وتتجاهل الحاجة الملحة إلى إصلاح الحال السيئة للإدارة السياسية للدولة… فهناك دعوات لتفعيل بعض بنود اللائحة الداخلية لمجلس الأمة أو تعديلها لضبط الممارسات النيابية، وهناك اقتراحات أخرى لاستحداث لجنة للقيم في مجلس الأمة، فيما يتوسع البعض الآخر في اقتراحاته فيدعو إلى تنقيح الدستور بحيث يرتفع النصاب العددي المطلوب دستورياً لتوجيه الاستجوابات إلى رئيس الحكومة والوزراء، بحيث يقيّد حقّ النائب الفرد في توجيه الاستجواب باشتراط مشاركة خمسة نواب في التوقيع على صحيفة الاستجواب وأن تتم مناقشة الاستجوابات أمام لجان المجلس وليس في الجلسات العامة… وغير ذلك من دعوات واقتراحات تتركّز فقط حول الممارسة النيابية!

وفي هذا السياق نجد من يختصر الأمر ويختزله ويرفع شعاراً مباشراً يدعو إلى عدم انتخاب من يسميهم «نواب التأزيم»، قاصداً بذلك نواب المعارضة وغيرهم من النواب الذين يصرون على ممارسة دورهم الرقابي، وكأن الرقابة البرلمانية تأزيم وليست دوراً دستورياً مقرراً لنواب الأمة، وكأن الشرط الأساسي لوجود حياة برلمانية سليمة أن يكون البرلمان ذا لون واحد و«صورة طبق الأصل» عن الحكومة!

ومع أني لا أنكر هنا وجود العديد من الممارسات النيابية السلبية على مستوى لغة الخطاب النيابي، والاستهداف الشخصاني والنزعة الفردية الطاغية التي تتطلب ترشيداً ولكن ليس عبر مثل ذلك التشخيص الأحادي القاصر ولا من خلال مثل تلك الدعوات الارتدادية المطروحة، إذ إن المدخل الأهم إلى تطوير الحياة البرلمانية وترشيد ممارساتها لا يمكن الوصول إليه ما لم يتحقق ذلك في إطار أوسع يستهدف ترشيد الممارسة السياسية في البلاد ككل…

وهنا لا بد أولا من معالجة الخلل الأخطر في الممارسة السياسية المتمثل في النهج الفاشل المتبع في الإدارة السياسية للدولة والمعايير القاصرة في التكليف بتشكيل الحكومة واختيارات الوزراء بحيث يتم تغيير هذا النهج وتصحيح هذه المعايير ليتحقق الترشيد المطلوب على مستوى الممارسة الحكومية، التي هي مدخل تصحيح وترشيد الممارسة النيابية، إذ يفترض أن يتشكل مجلس الوزراء رئيساً وأعضاء من رجالات دولة من ذوي الكفاءة السياسية والشخصية وممن يتصفون بالنزاهة، ويمتلكون تصورات إصلاحية واضحة يكونون قادرين على بلورتها على شكل برنامج حكومي إصلاحي واقعي قابل للتطبيق… فالأساس أن الحكومة هي التي تمتلك زمام المبادرة في العمل التشريعي، والأصل أن تتقدم الحكومة وليس النواب ببرنامج العمل وبالأولويات وبمشروعات القوانين المدروسة بناء على ما يتوافر لديها من معلومات وبيانات ودراسات حول المشكلات والقضايا العامة وسبل معالجتها وكيفية التعامل معها والحكومة هي التي يفترض أن تعمل على إقناع الرأي العام قبل النواب بأهمية هذه البرامج والسياسات والمشروعات بقوانين وسلامة مقاصدها وجدوى تشريعها، وأن تكون قادرة على تبريرها والدفاع عنها والتفاهم مع النواب على تعديلها وإقرارها، ناهيك عن أنّ الحكومة وحدها هي التي تشكّل داخل مجلس الأمة الكتلة التصويتية العددية الأكبر التي يمكنها أن ترجح كفة أي تشريع، كما أنها غير ذلك هي التي تمتلك حقّ اقتراح ردّ القوانين التي يقرّها المجلس في حال وجود اعتراضات جدّيّة عليها…

 وهذا كله ما افتقدته تماماً التشكيلات الحكومية المتعاقبة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، فأدى الضعف الحكومي الفاضح إلى بروز خلل صارخ في موازين القوى بين المؤسسات الدستورية، وبالتالي فقدان الحكومة زمام المبادرة السياسية، وهذا ما فتح الباب أمام بروز بعض الممارسات النيابية السلبية وانتشارها.

ومن هنا فإن ترشيد الإدارة السياسية للدولة، بمعنى ترشيد الممارسة الحكومية هو مدخل أساسي لترشيد الممارسة السياسية في البلاد وبالتالي ترشيد الممارسة النيابية… أما السبيل الآخر لتطوير الحياة السياسية في البلاد وترشيد ممارساتها فيتمثل في استكمال أسس النظام الديمقراطي ومتطلباته ووجود حياة حزبية سليمة وهذا ما سأتناوله في مقال الغد. 



 
جريدة عالم اليوم 6 ابريل 2009
 

اقرأ المزيد

النعيمي… الغائب الحاضر


عامان مذ ترجّل الفارس… وعامان مذ توارى عن الأنظار خلف السحاب.

في ذكرى غيابه الثاني، كتبت كريمته أمل عن ذكرياتها مع الأب الذي هاجر بأسرته إلى موانئ الثورة البعيدة، متنقلاً كالرحّالة القدماء بين ظفار وعدن ودمشق وبيروت وطرابلس الغرب. رحلة شتاتٍ تكبدتها مئات الأسر من أجل الوطن في أزمان العسر والشدائد. حتى الأسماء يغيّرونها بتغيّر الأمكنة والفصول… دع عنك الدراسة والمدارس والأصدقاء مع الإبقاء على الحبل السري الذي يوصلهم بالوطن.

أن تكون وحدك مهاجراً فذاك خيارٌ يخصك وحدك، أما أن تحمل على ظهرك أسرةً كاملةً، فذاك خيارٌ أصعب وأشق، ألذلك كان عبدالرحمن النعيمي يختار دائماً الأصعب على نفسه؟

كان الحديث في الماضي عن التجارب الشخصية. عن الروّاد والمضحّين من أجل الوطن. عن جيل الكبار والمؤسّسين في الحركات القومية والإسلامية. اليوم على البحرين أن تصيخ السمع لجيل «الدياسبورا». الجيل الذي تربّى في المنافي أيام «أمن الدولة». كانوا صغاراً في أحضان أمهاتهم اللائي كنّ يرضعنهم في الغربة حبّ الوطن العاقّ. تُرى لو تفرّغ البحرينيون قليلاً لكتابة تاريخهم القريب جداً… كم من التحف الروائية سيهدونها للمكتبة العربية؟

عامان مرّا… وهل غاب النعيمي يوماً؟ زرته مع بعض الزملاء بعد عودته من الرياض، حيث ألقى المسافر المُتعَب عصاه واستقرت به النوى على سريرٍ في أحد أجنحة مستشفى السلمانية. كان يحفه جمعٌ من أسرته ومحبيه ومريديه. كان صعباً أن ترى عزيزاً ممدّداً تحت الملاءات البيضاء. ابنته كتبت عن تلك اللحظة تقول: «أيقنت ولأول مرةٍ أننا لم نرتوِ من والدي»… وكذلك كثيرون مثلكِ.

عامان مرّا… وفي كل انعطافةٍ حادةٍ يمرّ بها الوطن نتذكّر النعيمي، ونتمنّى لو يطل علينا لنسمع صوته. نتمنّى لو يجلس ساعةً لنبوح له بما يفعلونه بالوطن. فالشعب يجري تشطيره إلى طوائف وأقليات، تتصارع اليوم على فرص الرزق، وغداً على اللقمة والفتات. والوطن يجري تشطيره إلى غيتوات مغلقة متنافرة، وأصبح شعار المرحلة: «لنا مساجدنا ولكم مساجدكم»، و»لنا وزاراتنا ولكم وزاراتكم»، ولم يبق إلاّ أن يقوم المنادي لينادي: «لنا ديننا ولكم دينكم»!

عامان مرّا… ونحن نرتكس في المستنقع أكثر فأكثر. من يدعو إلى الحوار ولغة العقل صار ملعوناً، ومن يدعو إلى الفرقة والشقاق وبث الضغائن والأحقاد صار حادي العيس في الليالي المدلهمة. وإذا كنا نحن إليه اليوم كثيراً، فسيزداد حنيننا له كلّما أوغلنا مستقبلاً في رحلة الضياع.

غاب النعيمي عن الأنظار، ولكنه سيبقى طويلاً طويلاً كذكرى ناصعة بيضاء في أفئدة الناس. رجلٌ شرب كأس الغربة المرّة حتى تقطّعت منه الشفاه. ما عاد ليبيع ماضيه أو يمنّ على شعبه بتضحياته، أو يذكّر الآخرين بما لاقى في الغربة من شظفِ عيشٍ أو أيام جوعٍ وحرمان. فالمتفاني وناكر الذات، الذي يجعل هموم الآخرين همّه الأول ليس غريباً أن يردّد: «لسنا أفضل من أصغر فلسطيني يتألم، ولسنا أفضل من الشهداء أو المعتقلين، فذرة تراب أحذيتهم أطهر وأنقى… حتماً من الكثير مما تتقيأه بعض الأقلام المريضة هذه الأيام.

سيبقى النعيمي للشعب رمزاً وفخراً أن يده ما تلوّثت باستلام جزء من المال العام، في زمنٍ كثر فيه المتسوّلون والمتسلّقون والرُكّع السجود على الأبواب.
 
الوسط 6 ابريل 2009

اقرأ المزيد

إمنحوا مواهبكم للشعب …!

تحت هذا العنوان ، بالضبط ،وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي ، قمت بكتابة مقال ، سلمته للصحفي الشاب – حينذاك – الأخ د.حسن مدن ، ونشره مشكوراً  في مجلة “صدى الإسبوع ” البحرينية التي ، كان يعمل فيها.
 
تضمن المقال ، مناشدة المبدعين البحرينيين ، بضرورة تعبيرهم عن قضايا شعبنا وواجب منحهم له ، كل تلك المواهب المبدعة ، بإعتماد المدارس والأساليب المفهومة لدى الغالبية العظمى من المواطنين ، دونما مباشرة أو تهافت ، والإرتقاء بذائقة الجمهور المتلقي والتواصل الحميمي ، بل والعضوي معه عن طريق التواضع المبدئي وعدم التعالي أو التقوقع في الأبراج العاجيّة المغلفة بالغموض والإفتعال والتقليد الأعمى للمدارس التغريبية ، والترفع عن الإسفاف في الشكل والمضمون ، على حد سواء.
 
من نافلة الكلام ، القول بأن الآداب والفنون عامة ، هي أرقى مظاهر الحضارة الإنسانية ، وبها يحفظ للأمم والشعوب ، تأريخها المجيد ونتاجها المفيد الناصع ، فلا غرو إذا إهتمت الأجيال المتعاقبة ، بدراسة مختلف الحقب التأريخية ، عن طريق ، ما وصل لهذه الأجيال من روائع تلك الأمم والشعوب .
 
لقد أنشئت المنظمات الدولية ، الوطنية والقومية والأممية ، التي تعنى بالآداب والثقافات والفنون ،وعقدت المهرجانات والمؤتمرات ، ووضعت الجوائزالعديدة ، في مختلف البلدان ، وبقيم متفاوتة ، لمنحها ، في فترات زمنية محددة ، وأحياناً ، كل عام ، للمبدعين في كل الأصعدة ، تقديراً لإبداعاتهم وتشجيعاً لنتاجاتهم ، وهم يستحقون – طبعاً – المزيد من الرعاية والتقدير والإحترام .
 
واليوم ، تمر بلادنا ، البحرين الحبيبة ، بفترة تأريخية ذات دلالات وطنية تتطلب منّا بعامة ، ومن المبدعين بخاصة ، ضرورة البذل اللا محدود والعطاء الواعي، في سبيل التصدّي لكل السلبيات ومحاولات الطأفنة المقيتة والتشظّي والتمييز والتجنيس غير المنضبط والبطالة والغلاء والإبتزازبالترهيب والترغيب ، وكل مظاهر الإستغلال والتخلّف .
 
إن المبدعين أصحاب المواهب ، هم الطليعة الواعية – أو هكذا يجب – من خيرة أبناء شعبنا ، وعليهم يقع العبء الأكبر ، للحفاظ علي الهوية الوطنية المستقلة والمتميزة لهذا الوطن الغالي ، وحريّ بهم ، اليوم قبل الغد ، الإضطلاع بهذه المهمة النبيلة ، بدوافع الإخلاص الدائم والإلتزام التام ، بقضايا وهموم وآلام وآمال شعبنا العظيم في الحياة الحرة الكريمة .
 
وقد ختمت المقال المذكور ، بقول لأحد معلمي البشرية التقدمية :” إلى الجانب الآخر فليذهب كل المتذبذبين ” .
 
ومن البديهي ، أن يستلهم مبدعونا ، كل الإضاءات الإنسانية المشرقة ، في الفكر الوطني والقومي والإسلامي والأممي ،ويوظفونها من أجل الإنسان والدعوة إلى الخير والمحبة والسلام .
 
إضـــــــاءة
 
أيـهـا الـمـبدعـون يـا خـيـر صاحـبْ    إمـنـحـوا شعـبـنـا عـظـيـم الـمواهـبْ
نـوّروا مـن سـرى بـدرب الـمـعـالي   حـيـث أنــتــم لـه الـهـداة الـكـواكــبْ
فـبـكـم – مـن جـهـودكم – يـتـجـلّى    عـزم مـن كـابـدوا لـنـيـل الـمـطـالبْ
فـاز مـن صـار لـلـحـيــاة حـلـيـفــاّ     ويـشـعّ الـضـيــاءَ كـالـنـجـم ثــاقـبْ
 


نشرة التقدمي مارس

اقرأ المزيد

الرقابة الاجتماعية


كل الثورات والنضالات والوعود المشرقة والأحلام الاجتماعية على مدى التاريخ كانت ومضات ولحظات سريعة في مسيرات الأمم والشعوب والطوائف، وكان السائد هو القهر والاستغلال والإذلال والتجارة باسم المبادئ والتغني بالماضي المبهر غير المستعاد.

ولهذا يتشكل التاريخ الباقي كصنوف وألوان من المعبودات، وصلات بين المؤمنين بتلك الأفكار، وروابط من مضامين خبت وزالت.
لا فرق فيها هذا بين الإسلام والشيوعية، فكلاهما حلمٌ، وثورة في زمنه، ونقلة في مدارج التاريخ العليا، وفي الاثنين شيءٌ مشتركٌ آخر هو الرغبة في هزيمة الأغنياء وعدم وجود سلطان لهم على جماهير المؤمنين المساكين، الذين قدموا التضحيات في البدء ورفعوا الدول إلى الذرا.
هناك الظروف الموضوعية المختلفة، وهناك العادات المتباينة، وقسمات القوميات والقبائل والطبقات الحديثة، ولكن المشترك يبقى وهو ثورة إلى القمة ثم تبدل مريعٌ، وتتلاشى الأحلام بسيادة العدل.

حين نجد صرخات المعتزلة والقدرية والجهمية وغيرها في بدء الانتقال من الذروة الثورية إلى حضيض الاستغلال الجشع، ومن الحلم المشترك بأن يبقى الناس متساوين، تطالبُ تلك الصرخات بإعادة عقارب الساعة للوراء، وبضرورة توزيع الفيء العام على أهله، الذين لهم حقٌ فيه، فتطاردهم قوى الشرطة والعيون البصاصة، وتلقيهم في المطابق والمحابس، تذيقهم ألواناً من التعذيب حتى ينسوا تلك الدعوات ولا يقارنوا عصراً بعصر آخر.

والناس مشغولة بأرزاقها تسأل عن الدرهم وكم يُباع البقل وبكم يشوى اللحم، وبكم إيجار البيت الصغير، وكيف يُلقى الأولادُ في حفرِ الشغل ومستنقعاتِ الزرع، وبكم تـُباع البنت لعريسها..
والمعتزلة والإمامية يقولون لهم أنتم تطالبون بالفلس والفلسين ونحن نريد أن نعطيكم حقكم في فيئِكم الذي كتبه لكم الدين، ولكن الرجال يذهبون لزوجاتهم المريضات ومنازلهم الساقطة وأولادهم الضائعين.

لم تفكر الفرق بإنشاء لجان للرقابة الشعبية على الأموال العامة، وكم كانت لهم مجالس للأدب والفقه والتاريخ، ولكن لم يشكلوا من الناس رقابة تتبع ما يجري من سيل أموال نحو القصور واللهو، وبعضه القليل المتوجه للخدمات العامة.

كانت الفرق السياسية ذاتها لا تعتني بأن تكون للناس البسطاء إرادة مستقلة وعيون مفتوحة على السرقات العامة، وعلى قصور الخدمات، وكانت تستهين بالعامة وما يطلقون عليه اسم(الرعاع)، فهي يجب أن تسمع الكلام فقط وتؤيد وتحفظ أما أن تشارك في السلطة الرقابية وتكتب الدفاتر بالأموال وبنقصها وبسوء توزيعها فهذا ما يعرفونه ولكنهم لا يريدونه.

ومن النظام المؤمن إلى النظام غير المؤمن دينياً، ستجد أن السلبيات واحدة، فقد قامت الثورة السوفيتية وكنست امتيازات الأغنياء الكبار، وحررتْ الفلاحين من عبودية الأرض وأعطت العمال الكثير من الحقوق، وصارت تلك ذروة خلاقة منيرة للقادمين من بعدهم، وانصبت عليها أحلامٌ كبيرة بتجاوز الإنسانية مرحلة الحيوانية حيث المجتمعات غابات، لكن الغابات عادت كالعادة.

كلمة (سوفيت) تعني المجالس الشعبية المنتخبة، وهي أكبر شكل خلقته الإنسانية للرقابة الشعبية، حيث يقوم العاملون المزاحون عبر التاريخ بالرقابة المباشرة على الوزارات ويشكلونها ويتتبعون خطواتها ويزيحون الوزراء غير الكفوئين، وينتخبون غيرهم.
وحين استمرت هذه المجالس بقوة وحين ظل لها بعض القوة عرف الاتحاد السوفيتي التطور الكبير في الصناعة والزراعة ومعاش الناس المتقارب والسيطرة على الأسعار والأعمال، ثم تلاشى دور هذه المجالس، فالقوى البيروقراطية الحزبية والعسكرية والاستخباراتية، وجدت فيها عائقاً يمنع سيطرتها على المجتمع، وعلى تسرب الفوائض إليها، وعلى حرية حراكها السياسي، فقلصتْ من دورها حتى جعلتها مجرد مجالس شكلية معينة، وانتقلت السلطة كلياً للهيئة الحزبية العليا فالزعيم الأوحد.

والسوفيتات التي كانت في كل جمهورية، وعلى مستوى الجمهوريات، معبرة عن قوميات مشتركة متوحدة في إرادتها السياسية لخلق مجتمعات تمنع تكون كبار الأغنياء وعودة سيطراتهم، تهمشت هذه المجالس فتباينت الأحوالُ بين الجمهورياتِ والقوميات، وبين مستوياتِ الإدارات الحكومية وما تقبضُ من مالٍ حرام. تضاءلتْ السوفيتات وسُحب مضمونها، وصارت أشكالاً مفرغة من دورها الرقابي الحاكم الحازم، فتهدم الاتحاد (السوفيتي(!

القوميات التي كانت تأكل على سفرة واحدة، وتقدم لحوم أبنائها للدفاع عن الوطن، تحاربت مع بعضها بعضا وتمزقت الخريطة الجامعة.
وهكذا في كل صيحة وطنية للجهاد وفي كل ثورة يضحي فيها الفقراء، وفي كل دعوة للانتخابات وعقد الدورات البرلمانية، التي تـُذبح فيها الذبائح وتـُرش الوعود وتتجمع التبرعات، يُطلب من الناس المشاركة والتصويت والتضامن، ثم ينفض المولدُ ويعود الفقراء والعاملون إلى بيوتهم يحسبون فواتير الكهرباء والإيجارات ويعدون لعرس أولادهم وبناتهم، وقد تركوا السياسيين يديرون ما يريدون من صفقات وعمليات سياسية ويصعدون في سلالم الثراء، من دون أن تكون لهم لجان يراقبون الأعضاء وما فعلوه وأين دخل البلد؟ وكيف يتوزع ويضيع؟ ثم يعودون للتصفيق والإشادة بدور الزعماء والعلماء!
 

اقرأ المزيد

البحرين وتقرير جامعة «جورج تاون»


التقرير الأخير الذي نشره مركز الدراسات الدولية والإقليمية التابع لجامعة «جورج تاون» الأمريكية, حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البحرين, وهي تحتفل بالذكرى الثامنة للتصديق الشعبي على ميثاق العمل الوطني, ومرور 10 سنوات على تولي جلالة الملك مقاليد الحكم في البلاد, أعتقد انه يعد تلخيصا مكثفا ومدخلا لتشخيص حالة وأوضاع البحرين, ونوعية وحجم التحديات التي تواجهها في الوقت الراهن, حيث حمل العنوان الآتي «إصلاح المملكة.. التطور السياسي والتحديات الاجتماعية والاقتصادية في البحرين». 

 أكد التقرير بأن البحرين قد دخلت تحت قيادة ملك البلاد, ما أسماه بحقبة من التقدمية والليبرالية لم يسبق لها أن عاشتها من قبل, مستعرضا بذلك مختلف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ومؤشرا على ما اسماه بتقدمية الإصلاحات التي تمثلت بمجموعة الإجراءات التي اتخذت طريقها إلى التفعيل على الأرض, ومنها إعادة الهيكلة البرلمانية والتشريعية, بالإضافة إلى إحداث مجموعة تغييرات مميزة داخل المجتمع البحريني على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

التقرير الذي كتبه «ستيفن رايت», الأستاذ المتخصص في الشؤون السياسية بمنطقة الخليج بجامعة قطر, أوضح أن الاعتراف بأهمية إحداث تلك التغييرات السياسية والاقتصادية التي كانت تعد بعيدة المنال, قد ساهم في الإقدام على تنفيذ تلك الإصلاحات بغرض التصدي لخطر العودة مجددا لمرحلة أعمال الشغب التي حدثت مع نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي. 

 أوضح التقرير أن الحاجة تفرض الدعم لبرنامج النمو الاقتصادي والاجتماعي, حيث إن ما أسماه بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية, تبقى كفيلة بزيادة الهوة بين مختلف الشرائح والفئات, وبالتالي تصبح عامل وقوة دفع كامنة إلى عدم الاستقرار.

وفي موضع آخر من التقرير نرى وجها آخر للمقارنة, يساعد على فهم ومحاكاة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بموضوعية أكبر, حيث يشير بوضوح إلى أن البحرين قد حققت معدلات نمو اقتصادية جيدة بلغت 7% في الفترة من 1999 حتى نهاية 2007 وأزيد عليها حتى نهاية 2008 كذلك, غير أن التحدي الرئيسي الذي ستواجهه الحكومة هو الاستخدام الحكيم للعوائد النفطية, وهنا يشير إلى ضرورة التوزيع العادل للثروة ومبدأ العدالة الاجتماعية, خاصة مع ما ستحدثه الأزمة العالمية الأخيرة من تداعيات سلبية على الاقتصاد والمجتمع بأسره, وهنا يشير التقرير إلى الخلل الذي أحدثته السياسات الاقتصادية المتبعة من مستويات غير مريحة من التضخم, انعكست تلقائيا على تلك الشرائح الفقيرة أصلا, والتي زاد بدورها من تدهور الطبقة الوسطى من المجتمع بطبيعة الحال.

ويجدر القول أن عامل الربط بين ما هو اقتصادي واجتماعي مع ما هو سياسي قد جاء موفقا جدا, ويعد مربط الفرس كما يقال, لتحقيق مقاربة تنأى بنا بعيدا عن أي توظيف سياسي, أو حتى اختزال أو ابتسار, وعندما لا يُفصّل التقرير المشكل الاقتصادي أو السياسي, فاننا لا تعوزنا الجرأة أو الفهم للقول بوضوح انه يعني بكل تأكيد كل تلك التفاصيل اليومية التي يعيشها الوطن والمواطن من تأزمات, والتي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات, فهي تشمل مجمل القضايا المعيشية اليومية, من فقر وبطالة وإسكان وتعليم وصحة وغلاء معيشي ومعدلات جريمة وتلوث بيئي وتعد على السواحل والأراضي الشحيحة أصلا وتجاوز للقانون, كما أن إهمالها يهيئ الأرضية بالتدريج, لصالح فئات نفعية, تصبح مع هكذا وضع متسلقة ومنفتحة الشهية لتجاوز القانون والحقوق, بل هي لا تتورع عن الشروع في هدم قيم وركائز الدولة والمجتمع بأسره نزولا عند نزواتها الضيقة والمريضة.

إن فهمنا لتقرير «جامعة جورج تاون» يجب أن يتجاوز مجرد مفهوم أين أصابت الدولة وأين أخطأت, أو أين فشل المجتمع وأين أضحى محقا في مطالبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية, حتى نستطيع أن نصل سوياً للتأسيس لمفهوم افتقدناه طويلا في زحمة الشعارات السهلة, ألا وهو كيف نبني الدولة وأن نُقوّم المجتمع وأن نُصيغ معا عقدنا الاجتماعي بكثير من النجاحات وقليل من الألم والمعاناة, معتمدين على تجاربنا كدولة وشعب, ومستفيدين من تجارب الآخرين بنجاحاتهم وفشلهم وانكساراتهم وصعودهم, حينها فقط نكون قد حققنا الغاية من تجربتنا السياسية التي توافقنا حولها, ذاهبين بشراكتنا المأمولة نحو البناء والتنمية لوطن مزدهر ستظل تنتظره أجيالنا القادمة بشغف ومحبة.
 

اقرأ المزيد