إذا كنا قد لاحظنا تجمد الرأسماليات الحكومية الخليجية عن توظيف المواطنين، مما يعكس توقف الدور الأبوي الذي كان يتردد بقوة طوال العقود السابقة، فإن الأعباءَ المالية بدءًا من هذا التجمد سوف تـُوضعُ على كواهل القطاعات الخاصة وهي سوف تضعُها على الجمهور العامل:
“في الخليج، شكل الطلب المحلي ما نسبته 70% من الناتج المحلي الإجمالي في عام .2006 وبالنظر إلى مكونات ذلك الطلب، بلغت حصة الاستهلاك الخاص 45%، أي نحو ضعف حجم الاستهلاك الحكومي. بينما شكل الإنفاق الاستثماري للقطاعات الخاصة والحكومية على حد سواء حصة الـ30% المتبقية من الطلب المحلي، وهذا يدل على مدى أهمية الإنفاق الخاص في تحديد إجمالي النمو الاقتصادي”، (القبس).
لكن حين تنفق المؤسسات الخاصة ذلك كله من أين تستخرجه؟ إنه من عمل القوتين العاملتين الأجنبية والمحلية. وحين تقلصُ الحكوماتُ إنفاقـَها سوف تقلصُ القطاعاتُ الخاصة إنفاقـَها تسريحاً للعمال وتقشفاً وتظاهراً أحياناً بطرد المديرين الأجانب ذوي الرواتب العالية المخيفة، لكن ألم يكن هؤلاء متبحبحين طوال السنوات السابقة يديرون ويقدمون الأرقامَ حسبما تشتهي تلك الإدارات؟
والفوائض الحقيقية الكبيرة نبعتْ من النفط والغاز والمصانع التي رضعت من حليب تلك المؤسسات الواسع غير المراقب. لكن أين ذهبت أغلبية الفوائض؟
لقد قامت السياسات الاقتصادية بشكل عام في دول الخليج على احتكار القطاعات العامة للثروة الأساسية، ثم تشغيل أعداد واسعة من المواطنين في أجهزة الدول، وترك هوامش محدودة للقطاعات الخاصة في جوانب الاقتصاد التابع للاقتصادات الحكومية، ومن ثم جلب أعداد هائلة من العمال الأجانب.
وكل هذه الجوانب تبدو متباعدةً عن بعضها بعضا لكنها مترابطة، فقد أضعفت الدولُ الثرواتِ البشرية والمادية، وقد أشار البنك الدولي إلى إشكالية دول الخليج هذه عبر تضخم أجهزة الدول بالموظفين، من جهة وضعف التعليم عن إنتاج عمال في مستوى حاجات الأسواق من جهةٍ أخرى، كما قامت القوى العاملة الأجنبية بتحويلات هائلة، فصار الخليج سوقاً عابرة، أكثر منه سوقاً متجذرة تغني الغرب والشرق وتجفف الثروة من داخله، مما لم يجعل القطاعات الحكومية تتطور صناعيا وتقنيا، ولم يدع القطاعات الخاصة تتولى الأمور.
ومع تلك التحويلات الهائلة من المليارات تجد القطاعات العامة نفسها بحاجة إلى سيولة.
ومع ضخامة الأعداد العاملة في الحكومات تجد أنها يمكن أن تتقلص لغياب الإنتاجية، فتضخمها يأتي بشكل سياسي وليس اقتصاديا.
لا نعرف لمن هذه التريليونات في الخارج (ثلاثة تريليونات ونصف تريليون) وكيف تتوزع وكيف تنمو وما هو عوائدها على الدول والشعوب، ولكن الذي نعرفه هو هذا التضاد الكبير بين ما أنتج ومازال يُنتج من ثروة وضخامة الحاجة المحلية الماسة الخليجية إلى رؤوس الأموال وإلى توزيعها على الإنتاج والبشر.
أما الإصلاح الاقتصادي الذي تطرحه هذه الدول فهو إصلاح محدود ولا ينفذ لجوهر الأمور، بل هو ترقيعٌ وابتعاد عن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية المنتظرة.
وتتباين دول الخليج في العلاقات بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة ففيما هناك لم تستفد كثيراً من القطاعات الحكومية، استفادت القطاعات الخاصة في الكويت والإمارات وقطر من القطاعات الحكومية وازدهرت على ضفافها:
“ان النمو في كل من قطر والكويت والامارات العربية المتحدة ارتبط بنمو قوي في القطاع غير النفطي، حيث ان نصيب الفرد في النفط والغاز أعلى بكثير منه في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، وقد كانت هذه الاقتصادات حريصة على تبني سياسات اقتصادية تهدف الى تنويع مصادر دخلها، وفي هذه الاثناء كانت السعودية تحاول تشجيع القطاعات غير النفطية عبر مختلف الوسائل، غير انها تواصل تحقيق نسبة نمو متواضعة نسبيا، حيث يتفوق القطاع النفطي على غير النفطي بهامش ضئيل”، (النفط نعمة ونقمة معاً، 24 مارس، 2009 إبراهيم سيف، جريدة القبس).
تواجهنا الأسئلة نفسها فلماذا استطاعت هذه الدول أن توسع على القطاعات الخاصة والسكان فيما لم تستطع الدول الأخرى القيام بهذه التطويرات للمعيشة وازدهار القطاعات الخاصة؟
تعود المسألة إلى ظهور قوى اجتماعية داخل القطاعات العامة الرأسمالية وحازت ثروات كبيرة منها بفضل احتكارها المناصب طوال سنوات، وهذا يتبدى في مظاهر كثيرة، مثل الرواتب العالية والدخول غير المنظورة، وتملك الأراضي وبيعها خاصة أراضي الشواطئ وأراضي المدن التجارية، والدخول في الأعمال التجارية وتشكيل الشركات بأسماء تكون غالباً واجهات، والحصول على امتيازات من الأعمال الحكومية المختلفة كمعرفة المخططات وبيع الأراضي، وجلب الفيز الحرة وتوزيع أصحابها في كل مكان، واعطاء الموظفين الأجانب الكبار رواتب عالية وتسكينهم في مساكن وعمارات خاصة تابعة لموظفي الدول، والحصول على دخول نفطية باطنية الخ…
وأما الميزانيات فهي ميزانيات سياسية وليست ميزانيات حسابية دقيقة، فهي تقوم على تنظيف الأرصدة من أي تلوث ظاهري وتقدمها نظيفة خالية إلا من بعض العجوزات المرتبة.
ولهذا فإن النظرة السطحية تشاهد أملاكاً ومدخرات بتلك المبالغ السابقة الذكر من دون أن تكون ناتجة عن استثمار عادي، فلا تكفي مئات السنين لتكوين تلك المليارات والتريليونات.
ومع هذا التباين فإن الدول التي سربت تلك الأموال تطالب القطاعات الخاصة وتطالب المواطنين بتحمل أعباء المرحلة، أو تقوم برفع الرسوم على الخدمات وغيره من الأساليب.
صحيفة اخبار الخليج
15 ابريل 2009
إشكالية الرأسماليات الحكومية الخليجية (2)
للتجربة وجوه
لو نزعنا التجارب من الحياة، ما الذي يبقى في هذه الحياة؟! إن الحياة هي التجارب، لأنه ما من تجربة إلا وتترك في نفوسنا أثراً، لا بل آثاراً. والتجارب هي من الاتساع بحيث تشمل حيزاً من المعارف والخبرات والمشاهدات والقراءات والأسفار. وأنت لا تستطيع على وجه التحديد معرفة ما الذي تحدثه هذه التجارب في نفسك من متغيرات، ولكن هذه المتغيرات تحدث مهما كانت درجة وعيك إزاءها، حتى لو كنت قررت سلفاً أن تتعاطى مع تجربة أو تخرج منها وقد اكتسبت أشياء، وفقدت أشياء أخرى. لو إن الواحد منا قام بمراجعة لحياته تشبه تلك المراجعات التي تقدمها المحطات التلفزيونية أو الصحف تحت عنوان «حدث في مثل هذا اليوم». وسأل نفسه: ترى أين كان في مثل هذا اليوم قبل عشر أو عشرين سنة، أو حتى قبل عام؟ ما الأحداث أو المناسبات السعيدة، أو غير السعيدة التي عاشها في مثل هذا اليوم؟ من هم الأشخاص اللطفاء وغير اللطفاء الذين عبروا في حياته، وأي أثر تركوه؟ لو فعل ذلك لخرج بحصيلة من التأملات والأفكار والاستعادات. بالطبع إن حياة الفرد مهما كانت درجة صخبها وثراء تفاصيلها تبقى حياة مفردة محدودة التفاصيل قياساً إلى حياة الجماعة التي هي أكثر من مجرد حاصل جمع التجارب الفردية، لكن ذات الفرد عالم بكامل تعقيده واتساع مداه وتناقض المؤثرات فيه. نحن نقرأ تجاربنا عادة بأشكال وطرق مختلفة. إن تقييماتنا نسبية، لأن الظاهرة نفسها التي كنا ننظر لها قبل عام أو عامين بشكل ما، نعود فنرى فيها بعد تقادم الوقت أوجهاً أخرى كانت غائبة عنا. مرة تساءل أحد الكتاب: كم وجهاً للحقيقة؟ كم وجهاً للتجربة؟ وخلص إلى أن الحقيقة كقيمة مطلقة هي واحدة. لكن نحن لا نرى الحقيقة كاملة أو نلامسها مرة واحدة من جميع جوانبها. إننا نرى في كل مرة وجهاً واحداً من وجوهها. وبالطبع فإننا في كل مرة تبعاً لمزاجنا النفسي وحالتنا المعنوية أو العصبية نميل إلى المغالاة في تقدير حجم هذا الوجه بحيث يطمس أو يقلل من أهمية الوجوه الأخرى. الناس يفترضون أنه كلما تعمقت تجاربهم وازدادت غنى أصبحوا أقرب إلى النضج، أقرب إلى الحقيقة، ولكن مثل هذا الفهم ينطوي بدوره على شيء من الاستكانة لمعطى نهائي. حين يقدم النضج بديلاً للاندفاع أو الحماس أو المغامرة أو شهوة الكشف والتجريب. لعل النضج فضيلة، ولكن في الاندفاع فضيلة الشك. والشك طريق النضج الذي إن شعرنا ببلوغه كففنا عن أن نكون باحثين عن الحقيقة، كففنا عن أن نكون راغبين في ولوج تجارب جديدة.
صحيفة الايام
15 ابريل 2009
إشكالية الرأسماليات الحكومية الخليجية (1)
تعتبر ملكيات الدول الخليجية مصادر الثروات من القضايا الشديدة الغموض، فهي غير مدروسة، ولا توجد مصادر لكشف تجلياتها، ولهذا فإن البحث فيها أشبه بمتاهة، ولكن لا يمنع ذلك من بعض المناوشات التحليلية، بغرض الوصول لأبعادها مستقبلاً، فهي بحاجة إلى أجيال من المحللين لكشف ثروات هائلة لبلدان ومع ذلك تشكو الآن من العجز. تعطينا المظاهر الخارجية للتناقضات الاقتصادية والتباينات والمشاركات بين القطاعات العامة والخاصة في الخليج فكرة أولية عن مسارين مختلفين إشكاليين يبدوان بشكل غامض، فهنا يجري حديث عن أزمة اقتصادية تعانيها خاصة القطاعات العامة، وتطلب مساعدات وتعاون القطاعات الخاصة، ويظل ذلك محصوراً في الشأن الاقتصادي من دون تبلوره في الشأن السياسي. وهذا يشير إلى مشكلات عميقة في البنى الاقتصادية، رغم أسطورية المداخيل التي حازت عليها القطاعات العامة، التي واجهت تصاعد الدين العام، وتفاقم البطالة الأهلية ثم اختلالات النمو الاقتصادي بين الأقاليم والمناطق! فراحت تطلب المعونة من القطاعات الخاصة أو تشركها في مساعدتها عبر آلية القرارات السياسية والاقتصادية. فرغم سيطرة القطاعات العامة على الاقتصاد خلال العقود السابقة، فإنها توقفت عن التطور، بل يحدث فيها جمودٌ كبير، وسنلاحظ ذلك على صعيد التوظيفات، أي توظيف المواطنين في الأجهزة الحكومية. (تظهر البيانات الأخيرة المتاحة أن عدد العاملين في الخليج وصل إلى 14 مليون فرد بحلول نهاية 2007، شكلت العمالة الوطنية 18% منهم. وبلغ عدد العاملين في القطاع العام 13% من إجمالي عدد العاملين، 80% منهم عمالة وطنية. وبينما يقدر معدل البطالة بين العمالة الوطنية بنحو 3،.6 ووفقا لتقديراتنا الأولية لعام 2008، فقد تكون مؤشرات سوق العمل في الخليج قد أظهرت المزيد من التحسن مع انخفاض معدل البطالة إلى 2،3%. إلا أن تدهور البيئة الاقتصادية للمنطقة في الوقت الحالي مقارنة مع السنوات السابقة، يتوقع أن يقلص تلك النجاحات جزئياً وأن يطرح تحديات جدية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة والقوانين المرتبطة بتوظيف العمالة الوطنية، مازال سوق العمل الخليجي يواجه خللا هيكلياً مقارنة مع نظرائه عالمياً. فعلى سبيل المثال، يشكل عدد المواطنين العاملين في القطاع العام في الخليج نحو 58% من إجمالي العمالة الوطنية، (مقارنة مع 42% فقط في القطاع الخاص). ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً، كما أنه يتخطى ذلك في بعض الدول، إذ بلغ نحو 90% في قطر في عام 2007، و86% في الإمارات، و84% في الكويت، بينما بلغ 50% في السعودية. وتشير هذه الأرقام إلى أن قدرة القطاع العام الخليجي على استيعاب العمالة الجديدة قد تكون بلغت حدودها القصوى. وقد أعلنت البحرين بوضوح في ديسمبر الماضي الحد من التوظيف في قطاعها العام)، القبس، 9 يناير 2009). تتوجه الأرقام والأبحاث نحو جوانب جزئية وتعتبر ارتفاع البطالة أو انخفاضها هي مشكلات صغيرة، ولا تعتبرها كمؤشرات على خلل بنيوي في البناء الاقتصادي. فحكومات تملك أغلب الثروات الهائلة لكنها تعجز عن التوظيف، وهي غير قادرة على تغيير بنائها هذا. ونلاحظ هنا أن الأبويات الاقتصادية وسيطرة الدول على توظيف العمالة الوطنية تتزايد في دول بعينها، فيما تتقلص في دول أخرى، ويتعلق ذلك بحجم الثروة النفطية وعدد السكان، من دون أن تلعب المدخرات الهائلة السابقة التي لا يعرفُ أحدٌ كيفت تسربت وتنامت في جهاتٍ أخرى، أي من دون أن يكون لها دور جدي في التغيرات الاقتصادية الراهنة السلبية، حيث تقلص الحكومات الخليجية توظيف المواطنين. فهناك ثلاثة ترليونات ونصف الترليون كودائع خليجية في العالم من القطاعين العام والخاص، ثم تعجز عن الدور الأبوي الذي قامت له خلال عقود التهمت فيها الدخول. هذا شكلٌ أولي لتوقف مكائن الدول عن دورها الراعي السابق. ولكن في المقابل يتنامى دور القطاعات الخاصة التي لم تستحوذ كلياً على تلك الثروات في المواد الأولية التي احتكرتها الحكومات لكنها عاشت في خيرها كذلك! تتوجه التحليلات الاقتصادية الخليجية إلى القشور: ( تظهر البيانات أن معدل التوظيف في القطاع الخاص نما بواقع 0،8% في المتوسط سنوياً بين عامي 2003 و2007، بينما بلغ متوسط النمو في القطاع العام نحو 8،2%. وبالتالي، فقد ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل التوظيف بخمس نقاط مئوية خلال الفترة نفسها. ويعود هذا الإنجاز المهم إلى البيئة الاقتصادية المؤاتية التي دعمت نمو أنشطة القطاع الخاص. وفي الكويت، تشير احدث البيانات إلى أن معدل توظيف المواطنين في القطاع الخاص نما بواقع 16% في العام الماضي، بينما ارتفع في القطاع العام بنحو 9،2%، ما رفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل توظيف الكويتيين بنقطتين مئويتين إلى 18%. وفي السياق نفسه، تراجع عدد الكويتيين العاطلين عن العمل من 9،19 ألف مواطن في 2007، إلى 6،16 ألف مواطن في العام الماضي. وبالتالي، فإن معدل البطالة تراجع من 5،6% إلى 2،5% في الفترة نفسها. (القبس، المصدر السابق). إن المصدر لا يوضح لنا سببيات هذا التراجع في القطاعات العامة وصعودها في القطاعات الخاصة، لا بالتحدث عن طبيعة الأملاك العامة هذه؛(مصانع، معامل تكرير، وزارات، جيوش، شرطة الخ). فالأملاك العامة تـُجرد بتعبير (القطاعات العامة)، مثلما يتم تجريد القطاعات الخاصة وفروع إنتاجها وتبادلها وتداولها بالقول إنها قطاعات خاصة، والأمر له علاقة بالبيانات وطرق التوزيع وغياب الشفافية على مدى عقود في القطاعات العامة. كما أن بؤرة الأملاك العامة كمعامل التكرير والمصانع لا يتم درس علاقاتها بالمؤسسات المدنية الخالصة، وأحجام الفوائض وطرق تراكمها وتوزيعها بين إعادة الإنتاج، وبين صرفها على المشروعات العامة والوزارات. لكن التقرير يعطينا أن قدرة القطاعات العامة على الصمود في معركة التوظيف غير ممكنة، وأنها سوف تتراجع، ويعيد ذلك حسب رأي الخبراء العالميين الذين استعان بهم التقرير إلى عدم القدرة على تطوير قوى العمل البشري الوطني في المنطقة. وهو سبب وحيد مقطوع الصلة كما سوف نرى بعمليات الإنتاج والتراكم، فالتربية والتعليم وإنتاجها لقوة العمل لا تتشكل بشكل مجرد، ومن دون خطط مترابطة بين الإنتاج، وقوة العمل الوطنية، وإذا كان الإنتاج غير مُسيطر عليه، خاصة السيطرة على فوائضه وطرق توزيعها وعودتها لإعادة الإنتاج الموسع، فإن التآكل على مستوى الإنتاج المادي، وعدم الفائدة لقوة العمل الوطني، تغدوان مظهرين لمشكلتي: غياب التخطيط وتسرب الفوائض. وهذا يشير إلى آلية العجز الاقتصادي البنيوي حيث التركيز في النفط ثم في صناعاته أما القدرة على تغيير الخريطة الاقتصادية المتناقضة فهو أمر ليس بقدرة الحكومات كما يبدو، والمقصود بتغيير الخريطة الاقتصادية الاعتماد على قوى العمل المحلية والعربية، وإحداث تحولات صناعية تتناسب مع قوى المنطقة السكانية، وتطوير قدرات شبابها لتلك الصناعات التقنية. لكن القطاعين العام والخاص غير قادرين على ذلك، يدفعهما هاجس الحصول على أكبر الأرباح وتصديرها للخارج للمزيد من الأرباح، أما الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الأهلية فهي مضغوطة في ظل الميزانيات المحدودة التقشفية خاصة في بعض الدول الخليجية، فيما يشهد الوضع المالي على ترحيل الأموال من القطاعين العام والخاص للخارج عبر أشكال متعددة، وكذلك عبر العمالة الأجنبية.
صحيفة اخبار الخليج
14 ابريل 2009
بعد انتخابات الصحافيين
نهنئ زميلنا عيسى الشايجي رئيس تحرير «الأيام» بفوزه رئيساً لجمعية الصحفيين للمرة الثالثة، كما نهنئ جميع الزملاء والزميلات الذين فازوا بثقة الجمعية العمومية للجمعية في عرسها الانتخابي الكبير الذي شهدته قاعة نادي الخريجين مند أيام قليلة. والمناخ الذي ساد هذه الانتخابات دلل على ما بلغه الواقع الصحافي في البحرين من نضج خلال السنوات الأخيرة، بسبب ارتفاع سقف الحريات الصحافية وتعدد المنابر الصحافية، كما ان هذه الانتخابات تعكس، الى حدود كبيرة، طبيعة التحولات الايجابية التي بلغتها مؤسسات المجتمع المدني في البحرين بفعل الوضع الذي تشكل في البلاد بعد المشروع الاصلاحي. وستقع على عاتق مجلس الادارة الجديد الذي أسفرت عنه هذه الانتخابات مسؤوليات كبرى في الدفاع عن منتسبي المهنة وفي الارتقاء بالواقع الصحافي في البلاد، خاصة على صعيد تطوير الحريات الصحافية والضغط في سبيل صدور قانون متقدم للصحافة، يضمن هذه الحريات ويوفر لها السند القانوني الغائب الآن. إن الأمور تؤخذ بالمنظور النسبي، فحجم الحريات المتوقعة في بلد مثل البحرين يجب أن يكون أكبرمنه في بلدان أخرى لا تمتلك الديناميكية السياسية والاجتماعية والفكرية التي تتسم بها البحرين، فهناك تنظيمات سياسية معارضة ناشطة، وهناك هيئات للمجتمع المدني، والمتوقع من الصحافة أن تواكب هذه الحيوية، لكن العقبات في وجه ذلك كثيرة، وفي مقدمتها أن قانون المطبوعات والنشر والمعمول به قانون لا يليق بمستوى الحريات المتاحة في البلد بقوة الأمر الواقع. فالقيود التي يتضمنها هذا القانون كثيرة جداً، وهي قيود على أساسها اقتيد للمحاكم رؤساء تحرير صحف ومحررون، بل إن هذا المرسوم بقانون ينص على حبس الصحفيين، وهي عقوبة تخلت عنها الكثير من الحكومات التي عرفت بالصرامة في التعاطي مع الصحافة. وكما في مجالات أخرى، حيث يكون حجم الحريات المتحقق على الأرض بفضل حيوية المجتمع البحريني وبفضل المناخ السياسي الجديد في البلاد، فان الواقع على الجبهة الصحافية لا يختلف، ففي الوقت الذي صدرت فيه صحف جديدة ما دعم التعددية الإعلامية في البلاد، فإن البنية التشريعية التي تنظم العمل الإعلامي والصحفي عندنا مازالت بنية محافظة ومقيدة ومثقلة بالكوابح والممنوعات. ولا تقل خطورة عن ذلك تلك «القوانين» غير المكتوبة المستقرة في الأذهان والتي يجري اعتمادها قواعد في تحديد ما هو الممكن وما هو غير الممكن في العمل الصحفي، أي ما هي الحدود التي يجب عدم الاقتراب منها. إنها حدود غير مكتوبة، ولكنها أشد صرامة من تلك المكتوبة. ونحن نعلم أن المرسوم بقانون حول الصحافة هو واحد من حزمة مراسيم القوانين المقيدة للحريات، وهناك مطالبات مستمرة من قبل الجسم الصحفي ومن قبل التنظيمات السياسية ومن قبل مؤسسات المجتمع المدني بضرورة استبداله بقانون يليق بالبحرين في مرحلتها الجديدة، شأنه في ذلك شأن مجالات أخرى شديدة الحيوية وتشكل مفاصل العمل الديمقراطي يجب أن تنظم بقوانين ديمقراطية. وباتت وسائل الاتصال الحديثة تعمم المعلومات بسرعة البرق، ولم تعد أشكال الرقابة، في صورها المكتوبة: أي المنصوص عليها قانوناً، أو تلك التي تحتكم إلى الأمزجة أو إلى القوانين غير المكتوبة، لكنها نافذة وفعالة أكثر من تلك المنصوص عليها، قادرة على منع تدفق المعلومات.
صحيفة الايام
14 ابريل 2009
مشاكل العرب للعرب
عودتنا الجامعة العربية في كل لقاء سنوي ـ هذا إذا لم تنشب ظروف معطلة ـ على أن تحدث مشاكل ثنائية أو جماعية قائمة على تحالفات وتكتلات عربية إزاء مشكلة عربية ـ وإذا لم تتفجر تلك المشاكل بحدة في اجتماع وزراء الخارجية، فان الرؤساء والزعماء يتمتعون بصلاحيات الحديث والقول وفق ما يرونه، خاصة وان الدول العربية اعتدنا على أن نسمع فيها اصواتا قد لا تعبر عن شعوبها في ظل غياب مؤسسات دستورية وبرلمانية تناقش اعقد المشاكل المتعلقة بمصير شعب وأمة. وبما أننا ظللنا لنصف قرن أو يزيد منذ نشوء الجامعة العربية على هذا المنوال، وهي لازمة فنية – نقاش وزراء خارجية ـ تمهد جدول أعمال بمشاكل عالقة وخطاب ونقاش ومجاملات ترطب مناخ التوتر ـ وحضور زعماء لاجتماع عربي ناقص. هذه اللوحة السياسية والفنية تطربنا بجدول أعمال كثيرا ما يردده الأمين العام للجامعة، واليكم جدول الاعمال والقضايا الساخنة: 1 ـ القضية الفلسطينية ومسيرة السلام. 2 ـ الوضع في السودان بشكل خاص. 3 ـ الوضع العربي الراهن وكيفية استمرار تنقية الأجواء العربية. الآن موضوع السودان هو الساخن، وفي فترة أخرى تغيب السودان وتصبح مسألة الاعتداء على جنوب لبنان وحربها هي التي تحتل الصدارة، غير أن في سنوات أخرى تتحول المشكلة الخاصة هي المسألة العراقية، وإذا ما عدنا للوراء فان غزو الكويت وقبلها الحرب العراقية ـ الإيرانية، وهلما جرا، وهناك من القضايا الساخنة العربية التي لن تتوقف بسبب حجم الوطن العربي جغرافيا وبسبب استعداد دوله على الصدام الساخن، فهل عشنا بلا قضية ساخنة؟ وطالما هناك جرح فلسطيني عميق المدى وصراع مركزي فلسطيني ـ إسرائيلي يشكل لب الصراع العربي، وهو بحاجة إلى حل شامل بقيام دولتين بحقوق كاملة، فان تلك المسألة لا نعلم متى تفك عقدتها، فكلما أتي رئيس يتمتع بمرونة إزاء حل الصراع في واشنطن صعدت حكومة متطرفة في إسرائيل، وإذا ما صادف وان كان هناك حكومة مرنة في إسرائيل وجدنا الانتخابات الأمريكية تتحفنا برئيس من طراز ريغان وبوش، وأحيانا نلتقي بحكومتين معاديتين ومحافظتين في واشنطن وتل أبيب، ولا تخلو الضفة العربية من أجنحة متشددة في الحكومات وفي أحيان أخرى في الجسد الفلسطيني، فهناك تيار مستعد للتفاوض بمرونة فيما نجد هناك تيارا يرفض رفضا تاما الحوار ومبدأ النقاش إلا وفق شروطه. هكذا عاصرنا الألم وعصرنا الوقت. الآن هناك موضوعان يهمني التطرق لهما بعيدا عن القضايا الأخرى؛ هو مسألة مذكرة اعتقال البشير كرئيس سوداني، ومسألة حدثت قبل شهور كشفت عن اعتداءات جوية على مناطق في دارفور. فكيف سنواجه المجتمع الدولي في إلغاء قرار المحكمة الجنائية الدولية؟ وماذا نمتلك من قوة ضغط داخل أروقة الأمم المتحدة؟ ثم ماذا بعد ذلك الإخفاق؟ أليس عار على جامعة عربية بأكملها باتت عاجزة عن إلغاء مذكرة اعتقال احد زعمائها؟ ألن تصبح القمم العربية بسبب المذكرة شرخا جديدا في تصدعنا وفرقتنا وإخفاقنا الدولي في حالة رفض الأمم المتحدة ومحكمتها الإذعان لشتى أنواع المطالب العربية؟. أما المشكلة الأخرى وهو الاعتداء المجهول على مناطق من إقليم دارفور، والتي بعد مدة كانت تلميحات اولمرت تشير إلى انه الطيران الإسرائيلي، فهل يترك العرب هذا التحدي الخطير بفتح جبهات جديدة تتحول مستقبلا إلى حالة متوترة في المنطقة تنشب من خلالها دعوات لمطالب انقسامية بحجج الهوية. وإذا ما جلس العسكريون وقلبوا مساطرهم في الخارطة العسكرية في المنطقة، أليس هناك من أسئلة عن مسار الطيران الإسرائيلي للوصول إلى دارفور. وهل هذا التحليق الجديد نوعا من التمرين العسكري لفحص القدرات الإسرائيلية الجديدة، وبوجود تسهيلات وعلاقات ثنائية باستخدام قواعد بعض البلدان المجاورة للسودان. وإذا لم تتوافر تلك العلاقات، فان التحليق من فوق المياه الإقليمية الدولية في البحر الأحمر ساعد على المرور من حدود بعض الدول نحو دارفور. لا ينبغي أن تمر مسألة السودان بجانبيه، المذكرة والاعتداء، غير أن حقيقة المذكرة قد تدخلنا إذا ما فتحنا أفواهنا بأكثر مما ينبغي إلى ورطة دولية حول اتفاقية روما التي امتنع غالبية العرب عن توقيعها، وإذا ما مطط بعض الزعماء المسألة وحاولوا البحث عن مساومات ترضي الطرفين، فان ذلك لن يغير كثيرا بتقديم أشخاص لمحاكم حرب وإبادة جماعية ومسؤولية التعذيب. العرس العربي الجديد هو عودة العمق العراقي للجسم العربي، ونجاح العرب في استبعاد إيران عن مؤتمرات عربية خالصة، فكل ذلك يحمل دلالات على تفهم الفرق بين التدخل في الشأن العربي، ودور الأهمية السياسية والاقتصادية والأمنية للعلاقة العربية ـ الإيرانية.
صحيفة الايام
14 ابريل 2009
إرادة الحكمــاء
الأمر الملكي الذي صدر مساء أمس بشأن الإفراج عن 178 من المحكوم عليهم والمتهمين في قضايا سياسية وأمنية يُعبّر عن إرادة حكيمة تستحق الشكر والتقدير، ولعل أفضل شكر لحكمة جلالة الملك يأتي عبر إرادة حكيمة من الذين لديهم نفوذ في الشارع المتحرك، على أن تتجه تلك الإرادة نحو ترشيد الخطاب السياسي وتوجيه أساليب التعبير عن الرأي بما يتلاءم ومواثيق حقوق الإنسان الدولية التي تؤكد ضرورة التعامل السلمي مع مختلف القضايا ومن جميع الاتجاهات.
قد نسمع الكثير عن الحكماء الذين استطاعوا عبر إرادة مشتركة أن يخلقوا ما تعتبره الإنسانية منجزات رائدة… وتكرر كثيراً الحديث عن بلد مثل سنغافورة التي اجتمعت إرادات قيادات الفئات المكونة لذلك المجتمع على بناء بلاد حديثة يشار إليها بالبنان، وهو أمر نستطيع تحقيقه في بحريننا الغالية.
إن الحكماء يفترض فيهم امتلاك حرية الإرادة، وامتلاك القدرة على إقناع الآخرين بالخيارات التي قد تبدو صعبة في بدايتها ولكنها تأتي بالخير للجميع. نعم هنا مطالب لا يمكن التنازل عنها لأنها من صميم حقوق المواطن الأساسية، ولكن هناك أيضاً وسائل سلمية وأساليب حضارية يجب أن نلتزم بها جميعاً.
لسنا بحاجة إلى إطلاق التصريحات التبجيلية في الإعلام الرسمي أو إطلاق التصريحات التهكمية في الإعلام غير الرسمي… فالمحك الحقيقي هو كيف ننجح في أن نمسك بأيدي بعضنا البعض لنتفق على كيفية خدمة وطننا ولنتفق أيضاً على احترام بعضنا الآخر فيما نختلف فيه، وذلك لأن الاختلاف في الآراء يبقى من طبيعة البشر، وما نخشاه ليس اختلاف العقول والآراء، وإنما اختلاف القلوب… إننا بحاجة إلى قلب واحد محب لوطننا الذي يهمنا أن ترتفع سمعته في الآفاق، ويهمنا أن نرى كل مواطن يمشي رافعاً رأسه رغم كل التحديات الحياتية.
نعم… إن أي شيء يبدو صعباً الآن يمكن تحقيقه من خلال إرادة الحكماء في بلادنا، ونحن نثق بحكمة جلالة الملك وبأن يقود سفينتنا الوطنية من خلال مشاركة الحكماء من كل الأطراف في الرأي والمشورة ومن خلال إزالة كل ما يبعث على الشك والتشاؤم.
إن الإخلاص للمبدأ والتفاني من أجل الأهداف السامية لرفع شأن البلاد وحماية حقوق العباد تتطلب الاستمرار في الاستماع لبعضنا البعض وتتطلب إبعاد الأساليب الانفعالية وعدم البكاء على اللبن المسكوب وضرورة التغلب على الألم، وأن ننظر إلى المستقبل بعيون منفتحة على آفاق أوسع… وكل هذا يتطلب أن تتماسك وتتواصل إرادة الحكماء.
الوسط 12 ابريل 2009
كلنا «هاملت»..!
لا أظن أن أحداً كان سيترجم رائعة شكسبير: «هاملت» إلى العربية بالجودة والبلاغة التي ترجمها الراحل جبرا إبراهيم جبرا. وكلما عدنا إلى هذه الترجمة اجتاحنا طوفان البلاغة الشكسبيرية في تصوير تمزقات النفس البشرية وعذاباتها.
وأذكر أنني شاهدت «هاملت» مشغولة سينمائياً في فيلم روسي قديم، وهنا أيضاً بدت اللغة المترجمة إلى الروسية في غاية العمق والجمال، ومؤخراً قرأت للدكتور جابر عصفور إشارة إلى أن من قام بالترجمة إلى الروسية ليس سوى «بوريس باسترناك» الأديب الشهير صاحب رواية «دكتور جيفاكو»، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب في ستينات القرن العشرين.
ما يشدنا إلى «هاملت» ليس فقط تلك العبارة الشهيرة التي أضحت مثلاً أو قولاً مأثوراً: «نكون أو لا نكون.. ذلك هو السؤال»، وإنما أيضاً ذلك التوصيف العميق لحالة التردد العنيف التي تنتاب البشر حين ينوون الإقدام على قرار معين، خاصة إذا كان لهذا القرار طابع مصيري يحدد مجرى حياتهم.
فقد أراد شكسبير اختبار هذه الحالة من التردد عبر شخصية الأمير الدنماركي «هاملت» الذي كان عليه أن يثأر لمقتل أبيه بقتل عمه. كان شبح أبيه يناديه دوماً بالإقدام على الثأر، لكنه في كل مرة يوشك فيه الفعل سرعان ما يتراجع مأسوراً بتردده.
لم يكن «هاملت» كما رسمه شكسبير شخصاً ضعيفاً أو جباناً، لكنه لم يقدم على القتل. كان قوياً وشجاعاً ونبيلاً، لكنه كان متردداً. لعل شكسبير كان يريد القول إن التردد ليس دلالة الضعف أو الجبن أو اهتزاز الشخصية، إنما دلالة ذلك التمزق العميق الذي يطبع شخصية الإنسان، أي إنسان. وباختبار بسيط يجريه كل واحد منا على نفسه سيلاحظ أن في داخله، بالضرورة، مساحة للتردد في اتخاذ كل القرارات، حتى لو كانت قرارات بسيطة، من نوع أن تذهب للسينما هذا المساء أو لا تذهب، أن تزور صديقاً أو لا تزوره. حتى أكثر الناس إقداماً أو تهوراً أو رعونة لا يستطيعون الزعم أن دواخلهم لا تنطوي على مقدار من التردد، وإن زعموا ذلك فإنهم يكذبون. التردد صفة ملازمة للبشر، معطاة لنا بالفطرة.
بالطبع هناك فروقات بين الأفراد، البعض يكون التردد عندهم مَرضياً، ينم عن هشاشة في الشخصية وضعف فيها، والبعض منهم يكون الإقدام عندهم أشبه بالتهور والرعونة، والبعض يكونون أميل إلى التوازن، إنهم يعيشون حالة التردد لفترة قبل أن يرسوا على قرار، فما أن يتخذوا هذا القرار فإنه ما من قوة قادرة على إثنائهم عن عزمهم على إتيان ما نووا عليه، لأن الإنسان السوي لا يمكن أن يظل متردداً كل الوقت، فهو في النهاية مطالب بالحسم أو معني به. لكن كلنا «هاملت». في داخل كل منا «هاملت» يشبه ذلك الذي رسمه شكسبير. وقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً. ولكنه موجود. في لحظة من لحظات كل منا، في مرحلة من مراحل حياة كل منا لا بد أننا كنا مترددين.
الفــّـــن لغـــدٍ أجمــــل
في الثلاثين من شهر مارس الماضي، فقدت الساحة الفنيّة العربية الممثِّل الكوميدي السوري ناجي جبر ‘ أبو عنتر ‘، والذي جسدّ بشكلٍ بارعٍ هذه الشخصيّة الفريدة في المسلسل الكوميدي الاجتماعي الشهير ‘ صحّ النوم ‘ مع الفنانيّن الكبيرين دريد لحّام (غوّار الطوشه) والراحل نهاد قلعي (حسني البورظان)، وذلك في سبعينات القرن الماضي.
لقد استطاع هذا المسلسل (الذي تم تحويله لاحقاً إلى فيلم بالاسم نفسه)، بشخصيّاته العفوية الطريفة، ولغته المميّزة، وأحداثه المسلِّية المتصاعدة درامياً، التغلغل في وجدان المشاهدين، وصارت التعليقات والجمل المحبّبة على القلوب التي كان يطلقها ‘ أبوعنتر ‘ تتردّد على ألسن الناس البسطاء، واحتلّت مكاناً عزيزاً في قلوب الصغار والكبار.
ويرى الكاتب السوري نضال نعيسة أن ‘ شخصية أبي عنتر، ابن الحارة القبضاي المحافظ على الشرف والأخلاق، والذي لا يهادن في قضايا الرجولة، والشرف، والإباء ‘، هي واحدة من أبرز شخصيات المسلسل، نظراً ‘ لما تستجيب لعمق ونوازع ومكنونات لدى المتلّقي من ميل غريزي للفتوّة والقوّة وحب الخير والبطولة ونصرة الضعفاء، رغم أنها كانت تُظهر أحياناً جانباً الرعونة والطيش والتهوّر البريء المضحك ‘، ويستغلّها غوّار لغايات شخصيّة من أجل إلحاق الهزيمة بالبورزان(1)’.
لقد كان الفنّان ناجي جبر، على حد تعبير الناقد الفنِّي محمّد منصور، ‘سريع الاستجابة لكل تجربة جديدة تُعرض عليه، فلم يكن يشغل باله بفلسفة الأمور وأدلجة الأفكار، بل كان يتحمّس بحبٍ، معتبراً أن مهمّته كممثلٍ تنحصر في الاقتراب من الشخصيّة، والإيمان بها، ولهذا نجح في أن يجعل موهبته وقوّة حضوره، حالةً قابلةً للاستثمار متى ما وجد الكاتب الجيِّد أو المخرج الذكي اللمّاح’. ومع أن شخصية ‘أبو عنتر’ هي ‘نموذج مكرّر لصديق البطل في السينما العربية’، والتي كانت وظيفته الدرامية تتلخّص في أن ‘ يستنطق هموم البطل’، إلا أن ناجي جبر تمكّن، بفضل إخلاصه للشخصية وتماهيه معها، أن يوظِّف طاقاته الإبداعية في الارتقاء بهذا النموذج إلى شكلٍ من أشكال ‘ العلاقة الثنائية مع البطل’، والتي شكلّت فيما بعد بديلاً ناجحاً لثنائية المرح: غوّار – حسني أفندي [2].
إن هذه الواقعة تستلهم ذكرى الفنان الكوميدي الراحل عبدالمنعم إبراهيم الذي شكّل ثنائيات فنيّة جميلة في معظم أفلامه السينمائية، حيث كانت له شخصيّته المميزة، وبديهته السريعة غير المتوقعة المثيرة للضحك، إذ يفاجئ المشاهد في كل لحظة بخفة ظله، وحركاته دون تصنّع أو إسفاف، فكان يضفي على الفيلم نكهةً خاصةً جعلته في مصاف العمالقة الذين تركوا بصمات واضحة في السينما المصرية.
لماذا إذن لا توجد قنوات أو برامج تلفزيونية مخصّصة لعرض الأعمال الكوميدية العربية واستثمارها مادياً؟ في بريطانيا مثلاً هناك برنامج تبّثه محطة (BBC1) على الهواء مباشرةً على مدار عشرين عاماً باسم ‘فسحة للضحك’ (Comic Relief)، حيث يتم الاستعانة بأشهر نجوم التلفزيون والغناء والكوميديا في البلاد ليقدِّموا أحد أطول الاستعراضات الكوميدية والغنائية الحية المتواصلة في العالم، ويجري عرض الوصلات الكوميديّة الصارخة إلى جانب المشاهد والتقارير التلفزيونية المؤثرة عن الموضوعات الإنسانية المؤلمة، وذلك بهدف حّض المشاهدين على تقديم التبرعات المالية لضحايا الفقر والمرض والحروب في العالم.
ورغم أن الفنّانين لا يتقاضون أي عائد مادي عن اشتراكهم في البرنامج المذكور، إلا أن الشعبيّة التي تحيط بالاستعراض الحي، تساهم في تعزيز نجوميّة بعضهم، وتذكِّر بمواهب بعضهم الآخر ‘، كما أن البرنامج حقّق حتى الآن ‘نحو 600 مليون جنيه إسترليني، ناهيك عن آلاف المشاريع الخيرية التي حسنّت حياة آلاف البشر في أرجاء العالم كافة (3)’.
لقد كان الممثِّل، والمخرج، والكاتب السينمائي الشهير وودي ألن على حقّ بقوله إن الظرفاء يجلسون دائماً إلى مائدة الأطفال، لأنهم لا يبتغون رسم البسمة على شفاههم فحسب، بل يوظِّفون فن الضحك الجميل لتأمين الغد الأفضل لهم، وجعل حياة الملايين أكثر إشراقاً وإغراقاً في التفاؤل والأمل!
[1] نضال عنيسة، أبو عنتر في ذمة الله، جريدة إيلاف، 1 / 4 / .2009
[2] محمّد منصور، رحيل ناجي جبر . . . قبضاي الشاشة السورية، ‘ أبوعنتر ‘ خريج السجون الذي أحبّه الكبار والصغار، جريدة القدس العربي، 4/4/.2009
[3] عشرون سنة على البداية وأكثر من نصف بليون جنيه إسترليني: ‘ بي بي سي ‘ في يوم استعراضي مع الضحك، جريدة الحياة، 13/3/.2009
ما بعد لندن
خلصنا في آخر مقال إلى أن قمة العشرين التي انعقدت في لندن ستبين أن الأزمة المالية الاقتصادية آخذة في التطور سياسياً. وقد بينت القمة بالفعل هذا التطور. طبعاً، لايزال الوضع لا يشبه ما كان عليه حين انعقد مؤتمر لندن النقدي الاقتصادي العام 1933 في عز الكساد العظيم. في ذلك الوقت لم يستطع المؤتمرون تحت راية عصبة الأمم أن يتفقوا على وسائل مكافحة الأزمة الاقتصادية. وقد أطال هذا الفشل عمر الكساد لسنوات، ثم تطور الوضع بشكل مأسوي أدى في النهاية إلى نشوب حرب عالمية.
لايزال الوقت مبكراً للحديث عن النتائج النهائية لقمة العشرين، لكنه أصبح من الممكن الحديث عن بروز مراكز قوى – تحالفات – ثلاثة جديدة نتيجة التطور السياسي للأزمة، وأن القمة تمكنت لحد الآن من تدوير بعض الزوايا الحادة في العلاقات بين المحاور الثلاثة: محور الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا (الأنجلوساكسوني)، محور القارة الأوروبية بقيادة ألمانيا وفرنسا، وأخيراً محور العالم النامي بقيادة جمهورية الصين الشعبية. نتائج القمة بيّنت أن أميركا لم تعد قادرة على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية من دون الالتفات إلى أحد، فعالم القطب الواحد قد أفل فعلاً. كما أن للضعف الاقتصادي الذي تعانيه أميركا إسقاطاته على قدرتها على المناورة في القضايا الجيوسياسية أيضاً. وكذلك الحال بالنسبة إلى النزاعات الإقليمية التي كانت تحضر فيها المصالح الأميركية بشدة. لكننا اليوم سنركز على التطور السياسي من أجل صوغ نظام اقتصادي جديد.
بخلاف كل التوقعات لم تصر الصين في قمة العشرين على مطلبها باستحداث عملة عالمية جديدة تحل محل الدولار الأميركي. ذلك رغم أن الصين وجدت في روسيا داعماً قوياً لمطالبها. والحقيقة أن الصين لم تعد ميالة إلى إحداث هزة نوعية جديدة في النظام العالمي غير المستقر أصلاً. تبلغ أصول الصين من الدولارات حسب مختلف التقديرات ما بين 1.2 و1.7 تريليون دولار. وأي تهديد لوضع الدولار حالياً سينال من رفاهية الدولة الصينية نفسها. لكن الصين نجحت في إرسال إشارة قوية للاعبين الأساسيين عن عدم قبولها بالوضع القائم من حيث المبدأ، على أن يتم التصدي لهذا الوضع في وقت لاحق. أما على المدى القريب (في السنة الحالية) فمهمة الصين الرئيسة تتمثل في تقليص أصولها الدولارية من دون أن يثير ذلك الفزع في أسواق المال. ويرى بعض الخبراء أن إحدى الوسائل هي شراء بعض مكامن الثروات الطبيعية في الخارج. وبالفعل، فقد اشترت الصين في الشهرين الماضيين ما قيمته 50 مليار دولار. ويؤكد آخرون أن هدف الصين سيكون إيصال خفض الدولارات في احتياطاتها النقدية الذهبية من 70 إلى 50%. عند ذلك سيتم التعويض عن هبوط سعر صرف الدولار بارتفاع العملات الأخرى وأسعار الذهب. وإذا ما احتسبنا ليس الاحتياطات فقط، بل وأصول المصارف الصينية وصناديق الاستثمار الحكومية، فإن الصين «ستلفظ» نحو 500 مليار دولار بحسب بعض التقديرات.
وقد حققت الصين انتصاراً آخر في قمة العشرين، حيث لم يتم إدراج منطقتي الإدارة الخاصة في هونغ كونغ ومكاو ضمن قائمة «الواحات الضريبية»، ما يسمح ببقائهما على ما هما عليه. كما ستتعزز مكانة الصين في صندوق النقد الدولي، حيث وافقت على استثمار 50 مليار إضافية فيه.
ألمانيا وفرنسا بدورهما استطاعتا تحقيق كل أهدافهما. كان لدى الألمان أربع قضايا رئيسة: الوصول مع مساهمي القمة إلى اتفاق على تنسيق الإجراءات من أجل حفز الاقتصاد العالمي، وضع نهاية للإجراءات الحمائية وحيدة الجانب من قبل بعض الدول وخصوصاً أميركا، إيجاد رقابة صارمة على سوق المال العالمية، وخصوصا صناديق التحوط وبعض المنتجات المالية ذات المخاطر العالية، وأخيراً وضع نظام فعال للتفتيش على ما يسمى «الواحات الضريبية». وكان الألمان يدركون أنهم إذا لم يحققوا أهدافهم هذه المرة فلن يتمكنوا من ذلك في السنوات الخمس المقبلة، كما أوضحت ذلك ميركل نفسها مساء الأول من أبريل/ نيسان.
لقد شكّلت ألمانيا وفرنسا العمود الفقري لجبهة المواجهة الأوروبية ضد النموذج الاقتصادي الأنجلوسكسوني. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أكدت قبل انعقاد قمة العشرين أن «استنفار القوى من أجل الخروج من الأزمة لا يجب أن ينسينا الأسباب التي أوقعتنا في الأزمة، لكي لا نبدو فيها مجدداً»، مشيرة إلى ضرورة صوغ نظام مالي جديد. أما ساركوزي فقد هدد بالانسحاب من القمة، وأيّدته ميركل في الوقوف ضد محاولات بريطانيا لما أسمته «المساومات الجبانة».
ما كشفت عنه قمة العشرين من تطورات سياسية بشأن الاقتصاد العالمي، وما تشير إليه معطيات الأزمة بأنها ستمتد لسنوات لا شك سيؤثر كثيراً على نفوذ أميركا العسكري السياسي حول العالم. فلن يعود لدى الولايات المتحدة ما كانت تتمتع به من مواردها الذاتية والعالمية لدعم ذلك النفوذ. وسيتعين عليها طوعاً أو كراهية إعادة النظر في سياسياتها الخارجية إزاء مختلف بلدان العالم ومناطقه. وهو ما سنعود إليه لاحقاً.
صحيفة الوقت
13 ابريل 2009
قوانين متدرجة للأسرة
لا شك أن النساء يقع عليهن الظلم الأكبر في العلاقات الأسرية، فحرياتُ الذكور واسعة، وكلما قام المشرعُ بتقنين وضبطِ هذه الحريات والتقارب مع وضع النساء، كان أدعى هذا لإنتاج أسر أكثر عصرية وديمقراطية.
وكان سبق الشق السني من قانون الأسرة يعود في تصوري إلى كون المذاهب السنية ذات تعددية وتنوع، وكانت يجرى إنتاجها في المدن، فأخذت باجتهادات متعددة، ولم تعان الحصار من قبل الدول فهي ذاتها كانت تشارك الدول في السيادة الفقهية إن لم ترتفع إلى السيادة السياسية.
لكن لا يعني ذلك أنها أعطتْ النساءَ كل الحقوق، فمن قام بصياغة القوانين الوضعية الدينية هم شيوخ الدين الذكور المتعاونون مع الحكومات خلال القرون السابقة.
وهو الوضع المقلوب الذي نتج مع زوال الخلافة الراشدة ومجيء دول الأسر المتحكمة في الثروات والعباد، رجالاً ونساءً، وهو أمرٌ يجعل تلك الأحكام محل نقاش.
ولهذا كلما حاولتْ القوانينُ الوضعية المذهبية الجديدة المقاربة مع وعي المساواة الإسلامي العميق، وحرصت على توحيد المسلمين، وضيقت الهوة بين الرجال والنساء، وقللت من شهوات الرجال واستبدادهم، وجعلت النساء أكثر حرصاً على الأسرة المتوحدة وأكثر عناية بتطوير أطفالهن، كان ذلك أدعى وأقوى في إنشاء أسر أكثر قوة أمام تحديات الحياة المختلفة.
ومن هنا فإذا كان الشقُ السني أسرع في القدوم للتشريع فهذا بسببِ ما كان من تحررية لهذه المذاهب، ومن تخفيف السيطرة على اتباعها، في ظلِ وجودِ دولٍ مهيمنة فيها، في حين كان الأمرُ مختلفاً في المذاهب الأخرى الأقل عدداً من أهل السنة، التي كانت مُحاصرة غالباً أو حتى مضطـهدة ووجدت في التمسك الشرعي الفقهي، خاصة في أمور الأسرة والأحوال الشخصية، باباً يمنعُ من تحللِها أو من السيطرة عليها.
وعموماً كانت المحافظة سيدة الأحكام في المذاهب الدينية جميعاً التي راعت الحكام والذكور المسيطرين، أكثر من العدل بين الجنسين.
وكان ذلك في زمن مختلف، في ظروف كانت الأممُ الإسلامية فيها مسيطرة على ظروفها وبلدانها، وقامت تلك الأحكامُ الأسرية المحافظة بإضعافِ دول المسلمين أمام الغزوات الأجنبية، وتم اختراقِها والسيطرة عليها، لما سببتهُ تلك الأحكام من ضعف الأسر الإسلامية وكثرة أعداد أطفالها وغلبة اللامسئولية في هذا الصدد، وتم تحميل النساء أعباء البيوت وإنتاج الأطفال الأميين غالباً أو الأميين الثقافيين حاليا، وتقييدهن في هذه الأوضاع فيما كانت أغلبية الرجال تفعلُ ما تريد وتكثر من النسل بلا تخطيط، مع غياب المؤسسات التربوية والديمقراطية الراصدة للخلل في ذلك.
ومن هنا تتباين ظروف المسلمين من بلد إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى في البلد الواحد، وهذا يتطلب من المشرع مراعاة هذه الظروف كلها، وعدم التسرع في إصدارها وضرورة المرونة في تطبيقها.
فبين مدينة وقرية ثمة تباين وبين مذهب وآخر هناك اختلافات، فأهل المدن أقل تشدداً في مثل هذه المسائل، بينما أهل البادية متشددون عموماً، ويغدو القانون العصري المتعلق بالأحوال الشخصية قارئاً قراءة عميقة لهذه التلاوين.
ولهذا فإن المشرع الفقهي الحديث هو قائد سياسي ويغدو رديفه القاضي على مثل هذه الدرجة من الرؤية الثاقبة المسؤولة، فمن خلالهما يمكن للعائلات أن تتطور أو تتهدم وهي مسئولية بالغة الحساسية والخطورة.
وإيجاد العدالة يكمن ليس في النصوص وحدها بل في التطبيق.
والهدف الأساسي للأحكام ليس التحلل أو تأسيس العائلات المتفسخة بل تقليل التفسخ الراهن الذي سببتهُ سيطرات حادة وأنانياتٌ لا ترى بالعين المجردة لكن تـُرى في أروقة المحاكم وفوضى الأطفال والمراهقين في الشوارع.
يُفترض من المشرعين في مختلف المذاهب أن تكون وحدة المسلمين وتقدمهم هي الأهداف التي تحركهم جميعاً، فمهما تكن درجاتُ الاختلاف والسرعة في هضم مسائل الحرية والألتزام الأخلاقي الأسري بينهم ومهما يكن التعبير عن مصالح مذاهبهم واستقلالها لكن لا يجوز استقلالهم عن مصالح العرب والمسلمين العليا ووحدة أوطانهم وتقدمها، بحيث يكونون مسئولين عن سلامة أجيال لا تتشرد وأسر لا تتفكك وعلاقات أسرية عقلانية وفيها مساواة.
ولا شك أن جهود الجماعات النسائية مهمة في دعم ومراقبة تلك الجهود الفقهية والقضائية، عبر رصد الحالات والقضايا المطروحة والأحكام وتصويب ذلك بما يخدم العدالة للنساء والتآزر في الأسر والتوحد في الوطن والتطور فيه، ولابد من إجراء الحوارات مع الفقهاء والقضاة، وإقامة منبر صحفي يتابعُ ويرصد ويقومُ ذلك، وهذا كله يقود لتراكم قانوني يظل محدوداً وصعباً بسبب قدم العلاقات الأسرية ومشكلاتها وتعقد أحوالها بين مذهبي جامد وسياسي متنازع ومصالح متباينة للجماعات وللرجال والنساء، لكن هذا التراكم هو الذي يمثل التقدم المرجو من دون الانقطاع عن التراث بل من خلال رؤيته العميقة وليست الشكلانية الخارجية.
صحيفة اخبار الخليج
13 ابريل 2009