بيننا وبين الشيخ عادل المعاودة، وكذلك مع جمعية الأصالة التي ينتمي إليها، علاقات ود واحترام، رغم بُعد الشقة بيننا في الفكر. لذا أردت هذه المصارحة مع الشيخ عادل المعاودة على أرضية الود الذي لا يفسده الخلاف، حول ما قاله في الحلقة الأخيرة من برنامج «في الميزان» حول مسألة الحوار الوطني الشامل، ودور مجلس النواب في هذا الحوار. لا توجد لدى المنبر التقدمي مشكلة مع مجلس النواب، ولا مع دوره في مختلف القضايا التي ننشغل بها، بما فيها مسألة الحوار الوطني، لأننا ننظر إلى المجلس بصفته إحدى أهم المؤسسات الدستورية القائمة في البلاد. وليس عبثاً أن أول خطوة قمنا بها بعد الإعلان عن تفاصيل مبادرتنا للحوار الوطني، هو اللقاء برئيسي مجلس النواب والشورى لتسليمهما نص المبادرة ووضعهما في أجواء محتواها، مؤكدين على تطلعنا لدور محوري للمجلسين في مسألة الحوار الوطني الشامل. لكننا قلنا أن المجلس الوطني في وضعه الراهن لا يمثل كل مكونات المجتمع، وبالتالي لابد من التفكير في صيغة لتمثيل من هم خارج المجلس من قوى. وهذا ما أخذه الشيخ عادل المعاودة وسيلة للتعريض بنا وبسوانا حين قال: «الشعب اختار نواب هذا المجلس، ورفضكم حين رشحتم أنفسكم في الانتخابات، وبالتالي فإنكم ليسوا مقبولين من الشعب، فكيف تكثرون على من انتخبهم الشعب حقهم في تمثيله، بما في ذلك في مسالة الحوار». وليسمح لنا الشيخ عادل بالقول أن كلامه تعوزه الدقة، وهو إلى التهويش الإعلامي أقرب منه إلى المنطق السياسي، فأليس من حق آلاف المواطنين الذين صوتوا لعبد الرحمن النعيمي ولزميلك في المجلس السابق عبدالنبي سلمان الذي حصد في دائرة وفاقية مغلقة نحو ألفين وخمسمائة صوت، وكذا نحو ألف وسبعمائة مواطن ومواطنة صوتوا لمرشح المنبر التقدمي علي حسين في الرفاع، فضلاً عن الآلاف الذين صوتوا للدكتورة منيرة فخرو والسيدة فوزية زينل وآخرين، أن تكون لهم كلمتهم، فهم يا شيخ عادل لم يختاروكم وإنما صوتوا لسواكم. أليس لهؤلاء من رب يحميهم، فتكون لهم كلمتهم في شؤون الوطن؟ وفي كلمات أخرى نقول : أعطونا نظاماً انتخابياً آخر غير المعمول به حالياً، وتوزيعاً آخر للدوائر غير القائم الآن، ستجدون ممثلينا وممثلي سوانا من القوى موجودين إلى جانبكم، في حدود ما نملكه من تأثير في مجتمع البحرين، ولعل نفوذنا لا يضاهي ما لكم من نفوذ اليوم في مجتمع البحرين، ليس لأنكم أكثر إيمانا أو إخلاصاً منا، وإنما لأن الأيام، يا أبا عبد الرحمن، دُول، ولستُ أكثر تفقها في الدين منك لأُذكرك بقول المولى عز وجل في سورة آل عمران: «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس» . والشاعر العربي القديم يقول: «فلا تغرنك من دنياك غفلتها»، فالدوائر يا شيخنا تدور كما دارت، ومن آية المؤمن تواضعه، فلا تخدعه مظاهر الأمور، فمن تستخف بهم ليسوا طارئين على السياسة وعلى العمل الوطني، فقد عركتهم الدنيا، وذوت أجساد الكثيرين منهم في السجون والمنافي، في وقتٍ كان فيه من يتصدرون المشهد اليوم نسياً منسيا. والمسألة أولاً وأخيراً ليست في كثرة العدد ، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة البقرة: «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ».
صحيفة الايام
28 ابريل 2009
مُصارحة مع الشيخ عادل
الأجـــــراس المنسيـــــة
عقد في المنامة عاصمة مملكة البحرين، وبتاريخ 15 – 16 ابريل مؤتمر حول «الهوية في الخليج العربي.. التنوع ووحدة الانتماء» مؤتمر يبدو لي مكررا في محتوياته في هذا الجانب أو ذاك، وهذا ما نراه في حشد البيان الختامي لجمل دارت حول نفسها كثيرا حتى كادت تبدو ملتبسة بجمل رنانة، ووصايا يبدو أنها خجلت بعض الشيء من التطرق لما هو أعمق لجذور تلك الصراعات والهويات المتنوعة في الوطن الواحد، والإقليم الواسع المحرض، وبيان غلبت على روحه النزعة التصالحية مع المرجعية الدينية المنتقاة، التي ترى في القومية خصمها، ونزعة قومية ترى في الدين توافقا ممكنا لتوجهات أنظمتها وشعوبها. وأخيرا هل وجد احد يطرق الأجراس الصدئة المثقلة بأوزانها حول مؤتمر يذكرنا بالهوية وتناقضاتها العميقة في الخليج العربي… وبتناقض التنوع ووحدة الانتماء والى أين يتجه القارب التائه؟ هل إلى مرافئ خليجية عربية أم يخرج من عنق هرمز ليدخل محيطا هنديا شاسعا بعد أن تمخره وتنخره أمواج محاذية للجمهورية الإسلامية الإيرانية؟! ’’ أجراس لم يدقها أحد بتلك النبرة الجديدة ’ الخائفة من الانفجار المحتمل والمهدد للوحدة الوطنية ولاستقرار بلدان مجلس التعاون؟ بعد أن مكثت ردحا طويلا منسية! للإنصاف لا بد وان نمنح أقلاما كثيرة التقدير لكونها كتبت عن هذا الموضوع في مقاربات عدة ’ وعن هذا الجرس منذ وقت بعيد ناهز العقود الثلاثة وقد أعيدت الكتابة فيه مجموعات كثيرة من الصحافيين والباحثين العرب والخليجيين وفي مقدمتهم الدكتور الفرجاني ’ الذي حذر منذ السبعينات عن أخطار العمالة الأجنبية على الهوية السكانية وتركيبتها ’. من يودون الاستعانة بكل هذه الكتابات الاستشرافية في هذا المجال عليهم بالعودة لمثل هذه المواضيع المخزنة في ذاكرة المكتبات كمرجعيات منسية، وعندما نشعر ونستشعر محنتنا الثقافية والحياتية نعود إلى عالم النكتة والاستخفاف على الغرباء وأصحاب البقالات والمهن الدونية منهم ’ ونستنجد بوسائلها الرثائية’ وبدلا من تفهم الجانبين مدى مؤثرات تدمير تركيب الهوية، وبدلا من الوعي بهذا الخليط (الهجين) الإنساني وعلاقته بجذور الهوية والحفاظ عليها من جانب ’ ومن الجانب الآخر وضع كل الأسس الإنسانية والثقافية في مواقعها الصحيحة في زمن يحيطنا بقوة وحقائق الأمور ’ ومن ضمنها كوننا بتنا في البيت العالمي المعولم كعضو واحد منه ولا يمكننا الهروب من قوانينه وتشريعاته ’ بل ولا يمكننا الهروب من حقائق قوة السوق كقانون يفرض نفسه علينا ’ خاصة في مسألة التنمية باعتمادنا على قوة وأهمية العمالة الأجنبية فيها ’ وهل توجد عمالة بلا ثقافة وهوية ولغة؟. لتلك الأسئلة حقائق تحتاج إرادة التنفيذ وقوتها ونقد الذات متى ما جلسنا بروح جادة نناقش معضلتنا ومستعدين لحلها بتخطيط جاد لا يجعل منا مكونات دول وشعوب مرتعبة من ذوبان الهوية كقطعة السكر، أو كأنها قيمة إنسانية منتهكة شرفها من تلك النقائض الثقافية وتضاداتها. لم نسأل أنفسنا برغم هذا التداخل الثقافي الجاد وتلك الجيوش الزاحفة من جوارنا وضفافنا، هل فعلا عرفنا كيف نحمي هويتنا العربية والإسلامية الفاعلة والمفعول بها؟ مع إننا لم نتعلم كيف نبني جسورا ثقافية مع تلك البلدان ’ وهذا ما فعلته قبلنا بقرون الثقافة العربية والإسلامية حينما كانت في عز ازدهارها ’ فكل ما فعلته اليوم الطفرة النفطية ونعمتها هو الكسل الثقافي والفكري والمعرفي والاسترخاء المعيشي ورفاهيته واستغلال رخص العمالة، والفساد المالي ’ على أساس أن الهوية قضية شعب وأمة قبل أن تكون قضية سلطة وثروة ’ وخمول الرجال والنساء في البيوت نتيجة ثروة طارئة ’. إننا بحاجة لربط كل المسائل معا ’ دون أن ننسى جانبا من الحقيقة إن الهوية معرضة للتدمير الكلي لكونها ظلت مكشوفة الظهر واستعلائية على الغريب ’ وفي الوقت ذاته عدائية وغير عادلة مع شعبها. أدواتنا وقراراتنا ومصيرنا بيدنا عندما نعرف كيف نلج الأبواب ونغلقها ونفتحها على الثقافات والعمالة الوافدة. لست هنا بصدد الحديث عن برنامج وتوصيات بلغت 14 توصية في مؤتمر إعلان المنامة ’ والتي علينا بعد مدة أن نجلس ولو لساعات ونسأل أين صارت تلك الوصايا الأربعة عشر، أتمنى أن تكون وصايا إعلان المنامة فاعلة كانطلاقة المؤتمر الأول ’ لكي نقرأ بجدية في المؤتمر الثاني القادم حقيقة الذات قبل قراءة الوصايا ’.
صحيفة الايام
28 ابريل 2009
العراق.. وروابط خريجي الجامعات
الاخ الصديق الناشط السياسي والنقابي، نقيب نقابة المصرفيين، خليل زينل من اكثر المثقفين البحرينيين الذين تربطهم علاقة حميمة مع شخصيات ورموز عديدة من النخبتين السياسية والثقافية في العراق الشقيق، وهو متابع جيد لنشاطات القوى الوطنية العراقية واصداراتها الثقافية والسياسية والفكرية.. وانطلاقاً من هذا الحب الكبير الذي يكنه للشعب العراقي، فإن الصديق زينل يتبنى منذ سنوات فكرة مشروع لانشاء جمعية للصداقة البحرينية مع العراق، وهو مازال رغم مضي سنوات على فكرته متحمساً لهذا المشروع، ولاسيما بالنظر لتعاظم النوائب السياسية والأمنية التي ينكب بها الشعب العراقي الشقيق في الظروف الراهنة الغنية عن الاشارة منذ الاجتياح الامريكي لبلاد الرافدين قبل اكثر من خمس سنوات.
ورغم ما ابديته له من تفهم لفكرة المشروع ودوافعه النبيلة من وراء ذلك، لربما لاحظ عليّ الصديق ابوهاشم ضمنيا عدم تحمسي الكافي للفكرة ويعود السبب باختصار شديد لعدم حماستي الكافية للمشروع والذي وددت طرحه هنا على بساط البحث تعميماً للحوار المفيد واثراء للموضوع ولاسيما انه يخص النخبتين السياسية والثقافية كافة في بلادنا، هو ان ما يربطنا بالشعب العراقي الشقيق ليس مجرد صداقة، بل اكبر من ذلك، انها رابطة قربى بكل معنى الكلمة، انها رابطة الدم الواحد والعرق الواحد، واللغة الواحدة، والتاريخ المشترك الواحد، والتراث المشترك، والثقافة الشعبية والدينية الواحدة، والجوار الجغرافي، والتشابه اللهجوي.. ولك ان تعدد ما تشاء من اشكال عديدة لا تحصى من تلك الروابط المتينة التي لا تنفصم عراها تحت أي ظرف وأي زمان، والتي توثقت وتوطدت بشدة عبر قرون مديدة من تاريخنا المشترك.
بكل تلك المعاني المتقدم ذكرها فإن ما يجمعنا بالعراقيين اكبر وأقوى من “صداقة” لا يمكن مقارنتها بصداقتنا مع شعوب اجنبية عديدة والتي يمكن فهم ان تكون لنا جمعية صداقة مع أي منها لتعبر عن هذه الصداقة وتسعى الى توطيدها، كالصداقة مع الشعب الهندي مثلاً أو الشعب الصيني او الشعب الروسي.. إلخ.
بيد ان انتفاء الحاجة الى اقامة جمعية صداقة من هذا النوع مع الشعب العراقي لتعبر عما يربطنا بشعبنا العراقي الشقيق من وشائج وتسعى إلى تطويرها وتوطيدها لا يعني انتفاء الحاجة البتة إلى تطوير وتعميق هذه العلاقة القرابية العريقة الحميمة على أصعدة مختلفة ومجالات ومستويات متعددة كالاصعدة البرلمانية والحزبية والنقابية والطلابية، والمجالات الثقافية والادبية والاجتماعية والدينية الاخرى. فعلى كل هذه الاصعدة وفي كل تلك المجالات يمكننا تطوير اشكال العلاقات الثنائية الشعبية المشتركة بين البلدين الشقيقين، ناهيك عن تطويرها على الصعيد الرسمي، فيكفي تفعيل وتعميق علاقتنا بالشعب العراقي العظيم الشقيق من خلال التنسيق والتعاون على مختلف مستويات تلك الاطر والتنظيمات السياسية والنقابية والثقافية والمدنية حتى دونما الحاجة بالضرورة الى وجود “جمعية صداقة”.
ولا شك ان الجانب البحريني يتحمل مسؤولية رئيسية استثنائية خاصة للقيام بهذا التفعيل الآن بالنظر لما يمر به العراق الشقيق من ظروف مأساوية راهنة لم يتعاف منها في ظل الاحتلال.
واذا جاز لي شخصيا ان اقترح بديلاً آخر عن “جمعية الصداقة” المقترحة، فلعل من الافضل تشكيل اطر أو منظمات اخرى تعبر عن أي شكل من اشكال تلك العلاقة التي تربطنا بالعراق، وتكون في ذات الوقت رمزاً وعربون محبة وعرفان ووفاء لما للعراق علينا من أفضال قبل ان يمر بمحنته الحالية، وأرى ان تشكيل جمعية رابطة لخريجي العراق هي أفضل ما يعبر عن هذا الوفاء، وبامكانها ان تسهم، علاوة على تفعيل روابط العلاقات الانسانية والاجتماعية بين خريجي هذه النخبة العلمية البحرينيين فإنها تستطيع ايضا تفعيل ما يمكن تفعيله على أي مستوى علمي او طلابي أو انساني مع الشعب العراقي الشقيق.
ويمكن تعميم الفكرة نفسها لانشاء روابط مماثلة من خريجي الجامعات العربية والاجنبية الاخرى التي قدمت معونات جامعية وعلمية كبيرة جليلة لا تقدر بثمن لسنوات طويلة حيث تخرج فيها الآلاف من طلبتنا البحرينيين على امتداد سنوات طويلة ولاسيما من الطبقات الفقيرة والوسطى وذلك قبل نشوء التعليم العالي في بلادنا. ومن هذه الجامعات نذكر على وجه الخصوص بالاضافة الى العراق: الجامعات المصرية، والجامعات السورية، والجامعات اللبنانية (الامريكية على وجه الخصوص)، وجامعة الكويت، والجامعات السعودية، والجامعات الروسية، وجامعات بلدان اوروبا الشرقية، والجامعات الهندية.. وغيرها من الجامعات الاخرى التي خرجت أفواجا كبيرة متعاقبة من البحرينيين طوال عقود والتي لولاها لصعب تخيل حالنا المزري الآن من الافتقار إلى الموارد البشرية المتميزة والادمغة العلمية التي قامت على سواعدها نهضتنا الثقافية والعلمية والحضارية المعاصرة.
ويمكن انشاء روابط الخريجين المقترحة إما بشكل مستقل، وإما كلجان فاعلة في اطار نادي الخريجين.
صحيفة اخبار الخليج
27 ابريل 2009
صراع البضائع العالمي (1)
إذا كانت الرأسماليات الخاصة الغربية لها نشأتها ومساراتها التاريخية، الأسبق، فإن الرأسماليات الشرقية الحكومية لها هي الأخرى مساراتها وتكوناتها الخاصة المغايرة، ولكن كان على الرأسماليتين العالميتين المختلفتين أن تتناقضا في القرنين الـ 19 والـ 20 وتتصارعا. وإذ تركز التأريخ الاقتصادي في الرأسماليات الغربية واعتبرت الرأسماليات الشرقية نسخاً منها، ونسخاً منحرفة في أفضل الأحوال، أو هي نسخٌ مضادة لها ومحطمة إياها، فإن للرأسماليات الحكومية الشرقية سببياتها المختلفة، وأشكالَ تطورِها المتمايزة، وهي الأمورُ التي كانت عصية على فهم المؤرخين والباحثين الاقتصاديين.
إن تناقض الرأسماليتين البشريتين هاتين يقع أولاً ضمن الجغرافيا، فلم تكن أوروبا وأوروبا الغربية خاصة سوى ركن بسيط من الأرض، أما القارتان الكبيرتان آسيا وافريقيا، فهما مركز الأرض وساحاته الكبرى، الصغر من جهة والضخامة من جهة أخرى، التاريخ القديم الموغل في الماضي، والتاريخ القريب، وذو الحيثيات والجذور البسيطة، ومن هنا أطلق الوعي الأوروبي الحديث وهو يتعكز على الفئات الوسطى الطالعة من العصر الوسيط اسم قارتي الطفولة البشرية كما قال هيجل، خاصة على القارة السوداء، وهو إسقاط جنسي على العمليات التاريخية المعقدة.
ونظراً لصغر أوروبا فقد تنامت عملياتـُها الاقتصادية التاريخية بسرعةٍ شديدة، وكانت أساليبُ إنتاجها السابقة قد قامتْ على وحداتٍ جغرافية صغيرة، ولم تعق الامبراطوريات نمو الرأسمال الخاص ، وجاءتْ الملكياتُ المطلقة والدستورية في أواخر العصور الوسطى وبدء النهضة لتفجر طاقات الرأسمال الخاص على نحوٍ غير مسبوق.
وهكذا فإن الأضلاعَ البسيطة من غرب أوروبا: (انجلترا وهولندا وفرنسا) من قارة صغيرة ضمتْ إليها قارات كبيرة مليئة بالموارد، فكان انضمام قارة أمريكا الشمالية إليها حدثا اقتصاديا كونيا، وبهذا وجدت الرأسمالية الخاصة النامية الأوروبية امتدادها الثوري في أمريكا الشمالية القارة البكر الهائلة في المساحة والإمكانيات.
ثم أضيفت إليها قارتا استراليا، وأمريكا الجنوبية، وبهذا فقد كان هناك حصار كوني للقارتين القديمتين، بدأ بحريا ودينيا وصار اجتياحا وضما، وبهذا ملكت أوروبا الغربية العالم برمته، إلا بقاعاً محدودة.
وبهذا راحت موارد العالم القديم (آسيا وافريقيا)، والعالم الجديد(الأمريكتين واستراليا وغيرهما)، تغذي المصانع والحياة الاقتصادية والاجتماعية في قارة القيادة الجديدة للعالم.
كانت سيرورة الرأسماليات الغربية إذًا صراعاً مع تكوينات شرقية مبهمة الملامح، لها سلسلة من التشكيلات الاقتصادية القديمة الواهنة، امبراطورايات دينية ومذهبية وعلاقات عبودية وإقطاعية وأمية وفقرا وتخلفا، وجاءتْ القيادة الاقتصادية الجديدة الأوروبية للعالم لا لتجعلها متطورة وندا لها، بل لتستعبدها وتمنعها من التطور الحديث.
كانت الرأسماليات الأوروبية الغربية الشمالية غير قادرة على النمو في مساحاتها الصغيرة من دون موارد العالم، ولهذا كانت شهيتها للذهب وللقطن والتوابل والحرير عظيمة، فكانت قرون النهضة منذ القرن الثاني عشر الميلادي حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، هجمات واسعة على المعادن النفيسة خاصة الذهب الذي وُجد بوفرة في أمريكا الشمالية، وقام بدورهِ الخلاق في تفجير طاقات المصانع الأولى: (المانيفاكتورة)، لتنمو شبكة من المعامل معتمدة على المواد الخام الشرقية.
كان الرأسمال الخاص الغربي وهو ينشأ عدوا لدودا للرأسمال الشرقي المنتج، إذا قدر له أن يتكون، وهو لم يتكون حينئذٍ، إلا على شكلي رأسمال تجاري ورأسمال فائدة، لهما من جذورهما القديمة العريقة ما يجعلهما غير ذائبين في اعصار الرأسمال الغربي.
وبهذا فإن الرأسمَالين الشرقيين التجاري والتسليفي ذا الفائدة، صارت علاقاتهما بالرأسمال البضائعي، محدودة، ومُنتزعة من صلاتها وإمكانيات تطورها، فالبضائع على شكل المواد الخام القابلة للتصنيع راحت تمضي عن الأسواق الداخلية نحو الأسواق الخارجية، مرة عبر التجارة الحرة ومرات عبر المدافع والأساطيل الضاربة للسواحل والمدن.
وهذا ما تحقق “بجدارة” في حرب الأفيون على سبيل المثال:
“اهتمت بريطانيا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بفتح ابواب الصين امام تجارتها العالمية، فطلب الملك جورج الثالث إلى الامبراطور الصيني شيان لونج توسيع العلاقات التجارية بين البلدين، الا ان الامبراطور أجاب: ان امبراطورية الصين السماوية لديها ما تحتاج إليه من السلع، وليست في حاجة إلى استيراد سلع اخرى من البرابرة. فلم تستطع بريطانيا في ظل هذه الظروف تصدير الا القليل جدا من سلعها إلى الصين، وفي المقابل كان على التجار البريطانيين دفع قيمة مشترياتهم من الصين من الشاي والحرير والبورسلين نقدا بالفضة، مما تسبب في استنزاف مواردهم منها، لذلك لجأت بريطانيا إلى دفع احدى شركاتها، وهي شركة الهند الشرقية البريطانية (؟فِ فيلَة ف) التي كانت تحتكر التجارة مع الصين إلى زرع الافيون في المناطق الوسطى والشمالية من الهند وتصديره إلى الصين كوسيلة لدفع قيمة وارداتها للصين. تصاعدت حركة التهريب للأفيون إلى الصين بصورة تدريجية حيث لم يُهرب إليها في عام 1729م سوى 200 صندوق تحوي 608 كيلوجرامات من الأفيون قدرت كلفتها بخمسة عشر مليون دولار. ثم في عام 1792م وصلت المهربات إلى 4000 صندوق حوت 272 طنا. انزعجت الصين لهذه الظاهرة، وللخطر الذي يمثله تعاطي الافيون الواسع على صحة المواطنين، والذي يسبب تدمير المجتمع الصيني، كان الصيني يبيع ارضه.. ومنزله.. وزوجته .. وأولاده.. للحصول على الافيون …” (موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة).
تقدمت الدول الرأسمالية الكبرى لتبيع بضائعها وتشكل ما يُسمى التجارة الحرة، مستخدمة السلاح ثم الغزو ثم تغيير الحكام، ناشرة سلعها ودينها فتداخلت عمليات نمو التجارة بالسيطرة السياسية.
صحيفة اخبار الخليج
27 ابريل 2009
عن إرث التنوير الخليجي
منذ شهور قليلة شاركتُ في فعالية أقامها مركز الحوار للثقافة في دولة الكويت الشقيقة بعنوان: «التنوير.. إرث المستقبل»، خصص جانب من هذه الفعالية لتاريخِ وراهِنِ فكرة التنوير والنهضة في إقليمنا الخليجي. وفعاليةٌ مثل هذه، جديرة بأن تتواصل في أنشطة قادمة في بلداننا الخليجية، وأن يكون من بين أهدافها تدوين تاريخ التنوير في الخليج، للتعرف إلى الظروف التي عمل فيها رواد هذا المشروع وأنتجوا ما أنتجوه، لأننا بذلك نُسدي خدمة ثقافية جليلة في إتاحة مادة توثيقية ومعرفية للأجيال الجديدة، علها تعرف شيئاً من ملامح تاريخ ما زال المجهول منه أكثر من المعلوم. كان د. إبراهيم غلوم قد نبه في بحثٍ قيم له عن وضع الثقافة في الخليج إلى ما دعاه «صور الانقطاع» بين أجيال المثقفين في بلدان الخليج، ملاحظاً أن المثقف الخليجي هو عضو شرعي في حركة جيله فقط، ولذا تكثر وتتعدد البدايات عندنا ولا ينشأ التراكم، فيكاد كل جيل يبدأ من جديد. وهذه فيما أرى ملاحظة دقيقة. ربما يدفعنا ذلك لإثارة سؤال عن مقدار معرفة جيلنا والأجيال التي تليه بالتاريخ الثقافي القريب لمنطقة الخليج، وهل تعي الشرائح الجديدة من مثقفي المنطقة أن للحداثة أو التحديث تاريخاً أبعد من تاريخ اكتشاف النفط في المنطقة والانفتاح الواسع على العالم ومفاهيمه ووسائله الجديدة؟ الأمر بحاجة إلى نقاش وإلى بحث. ومن يطلع على ما وصل إلينا من أشعار ومقالات ومراسلات يفاجأ حقاً بجرأة وشجاعة هذا النفر من الرواد في إثارة أسئلة كبرى في ظروف الحصار والعزلة والتخلف، وفي تواصلهم مع المشروع النهضوي العربي في الحواضر العربية المزدهرة، وفي إيقاظهم للروح الوطنية المتوثبة، وحُرقتهم للحاق بأشقائهم العرب الذين تهيأت لهم أسباب العلم والمعرفة. لذا كان هؤلاء الرجال هم من أدخل للمنطقة التعليم والصحافة والمسرح وفنون المقالة والقصة والنقد، كما فعل عبدالله الزايد مثلاً من خلال جريدة «البحرين» التي أصدرها في نهاية الثلاثينات واستمرت في الصدور لمدة 6 سنوات. وكان على هذا النفر من رواد التنوير الشجعان أن يواجهوا عسف المستعمر واضطهاد المؤسسات المحافظة والجهلاء من أبناء قومهم. ففي الكويت اضطر فهد العسكر بعد أن اشتدت عليه التهجمات إلى العزلة وعاش في غرفة مظلمة منطوياً على نفسه حتى مات وهو لم يزل في الثلاثينات من عمره، ومثله فعل صقر الشيب الذي اضطره سفهاء القوم إلى أن يلزم بيته حتى وفاته. وفي الإمارات ضايق الإنجليز الأديب مبارك بين سيف الناخي وطالبوا بإبعاده، ومات المصلح البحريني الشيخ عبدالوهاب الزياني كمداً في منفاه بالهند، وتشرد عبدالله الزايد سنوات عدة.وما يقال عن هذه البلدان قد يصح على المجتمعات الخليجية الأخرى كالمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان وقطر. هذه العلامات البارزة في تاريخنا الثقافي هي رصيد لمثل التنوير والنهضة والتحديث والعقلانية. ومن أسف أن كتاباتهم ومراسلاتهم، بما ذلك المراسلات بين بعضهم البعض كمراسلات مبارك الناخي مع الشيخ الزياني أو مراسلاتهم مع رموز النهضة في العالم العربي كمراسلات عبدالله الزايد مع أمين الريحاني أو مراسلات الناخي مع المفكر شكيب أرسلان، هذه المراسلات ما زالت مجهولة وغير متداولة. فهل تأتينا النخوة لنفعل شيئاً مفيداً في هذا السياق قبل فوات الأوان؟!
صحيفة الايام
27 ابريل 2009
ننتظر ان تنورنا يالمرزوق؟!
يشير رئيس مركز البحرين الشبابي التابع لجمعية الوفاق حبيب المرزوق في الورقة التي قدمها لمؤتمر الوفاق الى أهم التحديات التي تواجه مركزهم، الذي نتمنى له ولجميع التنظيمات الشبابية كل التوفيق، من اجل ان يستقطبوا الشباب الذي يقتلهم الفراغ يومياً دون ان يصلهم صوت هذه المراكز وتلك الجمعيات. ولكن من أبرز التحديات التي ذكرها المرزوق وجود تنظيمات قوية (غير إسلامية) بسبب الدعم الحكومي لها، ويعني بهذا التنظيمات الشبابية غير الإسلامية بحسب تعبيره. من هم هذه التنظيمات غير الاسلامية في البحرين والتي تتلقى دعماً حكومياً، لا اعلم ما هي؟! أرجو من الاخ حبيب المرزوق ان ينورني من هي هذه التنظيمات، فإذا كان المعني بها الجمعيات الشبابية المنتمية الى التيار الديمقراطي، فهذا اتهام غير مقبول، بل زلة واضحة، وعليه فليبين لنا ما هي طرق الدعم، هل الدعم مادي أو نوع آخر من الدعم، وإن كان الدعم الذي يشير اليه بالمادي، فلا اعتقد ان الجمعيات الشبابية الديمقراطية لديها مانع من ان تجلس جلسة حب واحترام ومكاشفة، وتضع بين يدي المرزوق دفاتر وكشوفات حساباتها، فلعل هناك اموالاً ترد الى هذه الجمعيات دون علمنا. تبرير الضعف لا يكون بالقاء التهم جزافاً، الجمعيات الشبابية الديمقراطية ما فتأت تطالب بتوفير الدعم المادي ليس لها وحدها بل الى جميع التنظميات الشبابية حتى تستطيع ان تحقق من برامجها وخططها الشيء الكثير. القاء التهم جزافا أمر لا يغتفر، وما زلنا ننتظر الرد والتنوير، لان التحدي الذي اصاب المركز الشبابي حيرني، فنورني يا المرزوق من هي الجمعيات غير الاسلامية التي تتلقى دعماً..
صحيفة الايام
27 ابريل 2009
ما بعد الإفراج.. ما قبل التأزيم !!
بكل تأكيد أشاع إعلان العفو والإفراج الذي أصدره جلالة ملك البلاد حمد بن عيسى آل خليفة منتصف الشهر الماضي عن 178 من المحكومين والموقوفين على خلفية بعض القضايا الأمنية خلال الأشهر الأخيرة، أجواء إيجابية كبيرة باتجاه تهدئة الأوضاع في الوطن، أفصحت عنه مسيرات الفرح التي طافت مختلف شوارع ومناطق البحرين، بعد أن أثار تصاعد وتيرة الأحداث مخاوف وهواجس حقيقية من عودة أجواء الاحتقانات إلى الشارع البحريني مجددا، ولكن إرادة جلالته أعادت الأمور إلى حالة من الهدوء والاستقرار التي نعيش أجواءها حاليا، مما يفرض على الجميع سلطة سياسية ومؤسسات مدنية وجمعيات سياسية مسؤولية كبرى في كيفية توظيف حالة الانفراج هذه والبدء بأخذ يد هذا الوطن وشعبه إلى حالات جديدة من التلاحم والانسجام والوحدة بين مختلف مكوناته، لتتضاءل أمامها كل الخيارات الأخرى المتربصة بمسيرتنا الحضارية.
وباعتقادي أن دعوات الحوار التي انطلقت إبان زحمة الأحداث الأخيرة وتصاعد عمليات العنف المتبادلة، قد أتت بعضا من أكلها في ما نشهده اليوم من حالات انفراج، وكان التعويل على الاستجابة لتلك المبادرات المخلصة سواء التي جاءت من قبل جهات سياسية أو شخصيات دينية ووطنية، وعلى رأسها مبادرة المنبر التقدمي، والتي طالبت بإطلاق سراح المحكومين والموقوفين والشروع في حوار وطني مسئول حول مختلف الملفات العالقة، مما أهلها لتحظى بترحيب منقطع النظير بين جميع فئات ومكونات شعبنا وقواه السياسية الحريصة على مستقبل ووحدة هذا الوطن وسلامته، وأن تسود لغة العقل والإيمان بوحدة مصيرنا المشترك والابتعاد عن كل مظاهر وأساليب العنف وإعطاء الحوار فرص لمناقشة كل القضايا العالقة والمؤجلة انطلاقا من احترام هيبة الدولة وقيادتها ورموزها، مما أهلها بأن تكون أرضية ملائمة للشروع في عهد جديد من إشاعة قيم التسامح والعمل بروح المسئولية والحرص على تطوير عملية الإصلاح بما يخدم مستقبل الوطن وتنميته وتقدمه.
فالمبادرة وعلى الرغم من كل ما تقدم لم تكن في منأى من ممانعة أو تشويش أو حتى تشكيك البعض، ممن يحاولون إخضاع العمل السياسي لمشيئتهم ولنزقهم ونزواتهم المريضة أو لمصالحهم الضيقة، وإن حاول أن يتظاهر بعضها بعكس ذلك، لكن أصحاب تلك المبادرة كانوا متفهمين جيدا حجم ردّات الفعل تلك بعقلية من خبر العمل السياسي في البحرين وعرف وعورة دروبه وقسوة منعطفاته.
وتبقى الانفراجة الأخيرة في مسيرة العمل الوطني مرهونة بمدى قدرة جميع الأطراف على مغادرة مواقعهم المتباعدة والاقتراب حثيثا إلى حيث يكون الوطن ومستقبله وأمانيه نحو تحقيق استقرار منشود تتبعه مصالحة حقيقة قائمة على الاحترام المتبادل وتعزيز عوامل الثقة والشراكة غير المنقوصة، مبتعدين عن تلك الحالة المرضية المزمنة من الصراع العقيم والنزف المستمرين، والتي علينا أن نعترف بأنها نجحت في إحالة أجواءنا المتفائلة بوطن سعيد وأيام جميلة إلى حالات من الكآبة والعتمة وانعدام الثقة في المستقبل بكل أسف، لنعطي من حيث ندري أو لا ندري مسوغا سهلا لمن ترتجف فرائصهم من مجرد ذكر كلمة إصلاح أو وحدة وطنية أو مستقبل مشترك، ليعيثوا في أرضنا تشطيرا وفي وحدة شعبنا فرقة.
من هنا فأن تطور العملية السياسية لدينا أو حتى انتكاستها لا سمح الله سيبقى رهنا بقدرتنا معارضة وسلطة سياسية على تحديد خياراتنا القادمة، بعيدا عن دعوات من لا يعنيهم أمر هذا الوطن إلا بقدر ما يستنزفون من خيراته لمصالحهم الضيقة، فهل سنرضى أن نكون نموذجا عربيا آخر للتمزق والتناحر لا سمح الله؟ في الوقت الذي أتاح لنا مشروعنا الإصلاحي الذي هو الأمل الباقي لنا كأمة أن ننسج معا مستقبلا ملؤه التفاني والإخلاص والعمل بمثابرة نحو تحقيق أحلامنا في المواطنة والبناء والتنمية، والتي يعرف الجميع أنها ستبقى حلما بعيد المنال طالما تمترسنا كل في صومعته ومعقله وطائفته وحزبه وقبيلته أو بين مريديه، وطالما تناسينا أننا أمة لها ذاكرة وتاريخ ناصع ومجيد، بنيناه بسواعد أبنائنا جميعهم على اختلاف فئآتهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، ودافعنا عنه في مواطن الشدة والرخاء دون منة.
فهي إذا مسئولية كبرى يجب أن نثق بقدرتنا على تحملها، وهي لن تتأتى من دون أن نبادر كل من موقعه بالتقاط حبل النجاة المتاح لنا الآن، وقبل أن يحين موعد آخر نجد أنفسنا فيه وسط أزمة أخرى ربما أشد عنفاً لا سمح الله، متناسين بذلك كل منغصاتنا والسعي لجعلها مواسم عمل وفرح دائمة، عبر حوارات تتسع للجميع دون استثناء حول كل معوقاتنا لتكون سماتها طول النفَس والصدق وبعد النظر والحكمة والعقل والتدرج في الحلول بمسئولية ومثابرة.
وقفات تأمل مستحقة !
بعد أن تمّ الإفراج بكفالات عن المعتقلين من المرشحين والإعلاميين فإنّ هناك استنتاجين متباينين يمكن التوصل إليهما تجاه ما حدث… وهناك بعد ذلك ضرورة لبعض وقفات التأمل المستحقة.
الاستنتاج الأول يرى أنّه تمّ التخلي عن النهج المستحدث لتقييد حرية التعبير عن الرأي، أو التوقف عنه على أقل تقدير، بعدما اتضحت استحالة استمرار هذا النهج غير المعتاد وإجراءاته الاستثنائية، وبعد أن تحوّلت ردود الأفعال عليه إلى تحركات ومواقف أقوى وأشرس من تلك التي كان يُراد قمعها وتحجيمها، وأنّ النتائج العكسية للهدف المرسوم لنهج التقييد قد برزت بوضوح مع الفوز الساحق وغير المتوقع للمرشح خالد الطاحوس في فرعية قبيلته، وكذلك في الالتفاف الحاشد حول النائب السابق المرشح الدكتور ضيف اللّه بورمية بعدما تحوّلا إلى «رمزين»، وأنّ المؤشر الأهم لهذا التراجع تمثّل في تخلي الحكومة عن مشروعات المراسيم الثلاثة بقوانين في شأن الاجتماعات العامة، وتجريم الاعتصامات والإضرابات، ومنع ترشيح مزدوجي الجنسية، التي سبق أن تمّ إعدادها وبحثها في لجنة الشؤون القانونية بمجلس الوزراء تمهيداً لاقتراح إصدارها خلال فترة حلّ مجلس الأمة وفقاً للمادة 71 من الدستور، إذ أنّ هذا التخلي عن مشروعات المراسيم بقوانين كان البداية الفعلية للتراجع عن نهج تقييد حرية التعبير عن الرأي، الذي جرت محاولة الاندفاع نحوه، وذلك بعدما ارتدت عواقبه سلبياً واتضح مقدار كلفته الباهظة!
أما الاستنتاج الآخر المتباين تماماً مع الاستنتاج الأول حول دلالة قرارات الإفراج فيرى أنّ نهج تقييد حرية التعبير مستمر ولم يتوقف، إذ حققت الاعتقالات والإجراءات الاستثنائية والاتهامات المبالغ فيها الأهداف المرسومة لها في «استعادة الهيبة»، و«خفض سقفي الخطابين السياسي والإعلامي»، وأنّ أي تصريحات مشابهة لما صدر على ألسنة مَنْ تمّ اعتقالهم وتوجيه تهم أمن الدولة إليهم ستُواجه بالأسلوب ذاته!
والآن وأياً كان الاستنتاج الأقرب إلى الصحة، وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة، فإنّ هناك ضرورة لوقفات مراجعة مستحقة يفترض أن تقوم بها الأطراف المختلفة… فالطرف الحكومي مدعو إلى إدراك صعوبة استمراره في مواصلة نهج تقييد حرية التعبير في ظل وضع دستوري قائم، وفي ظل الواقع السياسي والتاريخي والاجتماعي الكويتي، خصوصاً في فترة ما بعد الانتخابات وما سيفرضه وجود مجلس الأمة وحصانة النواب من اعتبارات لا بد من مراعاتها، وبالتالي فإنّه على الطرف الحكومي، خصوصاً المندفع منه، أن يدرك أنّ هذه طريق مسدودة، وأنّ هناك «أكباش فداء» قد تتمّ التضحية بها إذا ما تم التراجع عن السير في هذه الطريق المسدودة، وإذا ما أُريد تجاوز آثار ما حدث، وفي العادة فإنّ «أكباش الفداء» تكون هي العناصر الأشد حماساً وتطرفاً والتصاقاً بالإجراءات التي يتم التراجع عنها أو التبرؤ منها…
أما أعضاء مجلس الأمة المقبل فإنّهم بعد كل ما حدث لا يستطيعون طيّ الملف وكأنّ شيئاً لم يكن وذلك من دون مساءلة مستحقة ليس فقط للأشخاص المسؤولين عما حدث في حال استمرار توليهم المسؤولية، وإنما أيضاً لمساءلة ومراجعة أوضاع الأجهزة ذات الصلة والتأكد من حقيقة وضعها وطبيعة دورها، وفي الوقت نفسه لابد من معالجة الثغرات الصارخة في قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية بحيث يتمّ تقليص فترة الاحتجاز الطويلة نسبياً لدى الشرطة من أربعة أيام لتصبح 24 ساعة فقط، وأن يتم التدقيق في مدى سلامة وانضباط بعض التهم المطاطة في مواد قانون الجزاء خصوصاً في تعديلاته التي جرت في العام 1970 بشأن الجرائم الواقعة على أمن الدولة، التي تمّ التوسع في تفسيرها والتمادي في استخدامها، واستحداث قانون لتنظيم الدعاية الانتخابية مع توفير ضمانات جدّيّة لحرية المرشحين في التعبير عن آرائهم السياسية وفي انتقاد الحكومة ومعارضتها…
وكذلك فمن واجب النيابة العامة أن تلتزم تماماً بالدور المستقل الذي حددته لها المادة 167 من الدستور… ومن واجب القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني خصوصاً ذات الصلة بحقوق الإنسان وحرية التعبير وتحقيق العدالة أن تعيد النظر في سلبيتها الفاضحة وتقصيرها المكشوف وتخلي معظمها عن دورها ومسؤولياتها وتجاهلها ما حدث وكأنّه أمر لا يعنيها!
ويبقى الأمل قائماً بأن يكون ما حدث مجرد ظرف عارض…!
جريدة عالم اليوم 23 ابريل 2009
ديمقراطيتنا ليست مجرد انتخابات!
حكم البراءة الذي شرفتني به محكمة الجنايات يوم أمس من التهمة الكيدية الموجّهة لي بتوجيه النقد إلى شخص أمير البلاد، جاء ليقدّم دليلاً آخر على نزاهة القضاء الكويتي وعدله واستقلاليته، الذي يمثّل بحقّ أحد أعمدة نظامنا الدستوري الديمقراطي.
وهنا لابد من أن أسجل مجدداً ما سبق أن أعلنته في أقوالي أمام النيابة العامة أثناء التحقيق معي من تأكيد الولاء لصاحب السمو الأمير وتقديري لشخص سموه الكريم، الذي حاول البعض التشكيك فيه عبر تحريك دعوى باطلة لا أساس لها… وأتوجه بعد هذا بالشكر إلى هيئة الدفاع الممثلة في الأصدقاء الأساتذة المحامين محمد عبدالقادر الجاسم، وعبدالكريم جاسم بن حيدر، ويعقوب الصانع، على ما بذلوه من جهد في سبيل إظهار الحقّ وتبرئة ساحتي من تهمة ظالمة، وأشكر في الوقت ذاته كل مَنْ تضامن معي وفي المقدمة الزملاء في «عالم اليوم» وأخص بالشكر الزميلين الصديقين رئيس التحرير الأستاذ عبدالحميد الدعاس، والمدير العام الأستاذ أحمد الجبر الشمري، وكل مَنْ حضر المحاكمة، أو اتصل متضامناً، أو بارك مهنئاً بالبراءة.
ولئن كانت الكويت اليوم تعيش أجواء معركة انتخابية، فإنّه من المناسب القول إنّ الديمقراطية ليست مجرد انتخابات نيابية، كما أنّ النظام الديمقراطي لا يتمثّل في وجود مجلس أمة منتخب فحسب، وإنما الديمقراطية والنظام الديمقراطي هما قبل هذا كله يتحققان في مبادئ الحرية والمساواة وسيادة القانون واستقلال القضاء، التي ننعم في الكويت بالحدود الأساسية منها… فالديمقراطية هي حرية الرأي؛ وحرية النشر؛ وحرية التعبير، التي كفلها الدستور وجاء القضاء في حكمه العادل الأخير لينتصر لها ويعززها.
وما الانتخابات النيابية ومجلس الأمة سوى مظهرين من مظاهر النظام الديمقراطي وأشكال ممارسته، ولكن لا يكفي أن تكون هناك انتخابات ويكون هناك مجلس نيابي ليقال إنّ هناك ديمقراطية ونظاماً ديمقراطياً، فكم من بلد، خصوصاً من بلداننا العربية، تُجرى فيه انتخابات دورية ويتشكّل فيه مجلس نيابي ولكن تغيب وتقيّد فيه أبسط الحريات العامة، وتنعدم به سيادة القانون، ويخضع القضاء فيه إلى سلطان النظام الحاكم وسطوة الحكام، وما الانتخابات والمجلس النيابي إلا ديكوران خارجيات لتحسين الصورة البشعة لنظام الحكم المستبد في ذلك البلد.
وهذا ما تختلف عنه حال الكويت، ذلك إنّ سبعة وأربعين عاماً على قيام العهد الدستوري رسخّت الديمقراطية وعززت النظام الديمقراطي، وهذا ما يحقّ لنا ككويتيين أن نفخر به، وإن كانت ديمقراطيتنا ونظامنا الديمقراطي يعانيان من ممارسات مشوّهة، وإن كانا أيضاً لم يستكملا بعد تطورهما المتسق في ظل فرض قيود غير مبررة على الحريات الشخصية، وغياب التعددية الحزبية المنظمة قانوناً، وانعدام وجود آلية واضحة لتداول ديمقراطي للسلطة التنفيذية، إلا أنّه مع ذلك كله فإنّ ما تحقق فعلاً من هامش نسبي من الحريات الديمقراطية، خصوصاً في الجانب السياسي، وما يتوافر للمواطن الكويتي من حقوق المواطنة الدستورية، وما تشكّل على أرض الواقع من بُنى ديمقراطية ووضع مؤسسي، تمثّل في مجموعها خطوات ومكاسب ملموسة وأسساً وطيدة لوجود نظام ديمقراطي راسخ وقابل للحياة والتطور… وليس مجرد مظاهر شكلية فارغة المحتوى!
وهذا ما يميّز الكويت.
جريدة عالم اليوم 6 ابريل 2009
ســـــذاجــــة سيــــاسيــــة
أطرقت منزعجاً من نبأ إقدام رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس على رفع سماعة الهاتف والتحدث مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لتهنئته بتقلده لمنصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية وكذلك بعيد الفصح اليهودي.فلم أكن أتصور أن يبادر مسؤول فلسطيني، مهما كانت مرتبته السياسية أو الحزبية، للمشاركة في حملة العلاقات العامة الإسرائيلية الرامية لفك العزلة عن حكومة نتنياهو التي لا تختلف لا في الشكل ولا في المضمون عن حكومة موسيليني في إيطاليا وحكومة النازي في ألمانيا في عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي، وهي بتركيبتها الفاشية الفاقعة (نتنياهو+ليبرمان) قد وضعت حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا في حرج شديد حتى ضمن حدود المبدأ الذي تعملان به منذ إنشاء الدولة العبرية وهو الانتصار لإسرائيل مهما كان جورها. حتى وزيرة الخارجية الإسرائيلية وزعيمة حزب كاديما تسيبي ليفني لم تستسلم أمام إغراءات نتنياهو الحكومية ‘السخية’ وأبت إلا أن تحرم ‘العنجهي المغرور’ من الورقة التي كان يريد ستر عورته بها، ناهيك عن عورة شريكه في الائتلاف الحكومي ممثل المافيا الروسية في إسرائيل، المتسيس - لغرض في نفس يعقوب - أفيغدور ليبرمان. وحده الإرهابي المفلس باراك، وكما كان متوقعاً، لم يتورع عن بيع حزبه (حزب العمل) في سبيل إرضاء غروره وطموحاته الشخصية، حيث لم يتردد لحظة في تقديم غلالة حزبه اليساري المزعوم (بمقاييس إسرائيل) المتهتكة أصلاً، لستر ‘عرى’ نتنياهو وليبرمان، ولسان حاله يقول لكل من مازال يراهن على هذا النوع من اليسار المزعوم، بأنه ليس في إسرائيل الحزبية يمين ويسار وإنما هناك عقيدة واحدة يستظل بها الجميع وهي إن ما تم الاستيلاء عليه بالقوة تحت غطاء الدين والعصبية القومية الشوفينية، لن تتم إعادته إلى أصحابه الشرعيين. حيث يتم التعبير عن هذا الموقف إما مداورة بادعاء القبول بمبدأ المفاوضات، ولكنها من ذلك النوع من المفاوضات الذي يقطع النفس ويشيع اليأس إذ لا ينتج طحناً، وإما علانيةً على النحو الصريح والفاقع الذي عبر عنه ليبرمان ونتنياهو بالقول إن إسرائيل لا تقبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وإن إسرائيل غير معنية بنتائج مؤتمر أنابوليس. وأخيراً وليس آخراً قول ليبرمان لجورج ميتشيل المندوب الأمريكي لعملية ‘السلام’ في الشرق الأوسط، ‘بأن زمن التنازلات الإسرائيلية قد ولّى’. وتحرياً للدقة تعالوا نقرأ ما ورد في بيان رئاسة مجلس الوزراء الإسرائيلي بخصوص مكالمة أبومازن لنتيناهو، فقد جاء في ذلك البيان ما نصه: ‘إن رئيس السلطة الفلسطينية اتصل هاتفياً برئيس الوزراء ليعبر له عن تمنياته بمناسبة الفصح اليهودي ويؤكد على ضرورة العمل من أجل السلام، وأن رئيس الوزراء ذكَّر بالتعاون والمحادثات التي جرت بينهما في الماضي، وأبلغه نيته معاودة ذلك في المستقبل بغية دفع عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وإن المحادثة كانت ودية’. تبدو المحادثة الهاتفية بروتوكولية خالصة على الأقل بالنسبة للأخ أبومازن، ولكن ذلك في الظاهر وحسب. فإسرائيل لا تفوت، على جري عادتها، أية سانحة لاستثمارها حين ترى فيها فائدة ومصلحة تخدم آلتها وأجندتها الدعائية. إذ سارع مكتب رئيس الحكومة لإصدار بيان يرسل من خلاله رسالة تضليل للرئيس الأمريكي أوباما الذي بادر منذ البداية لتعيين جورج ميتشل مندوباً في الشرق الأوسط لتأكيد التزامه بإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، بأن حكومة نتنياهو-ليبرمان سوف تتعاطى مع الجهود الأمريكية في هذا الصدد من دون تقديم أي التزام، ولو شفهي، بالتوصل إلى حل الدولتين الذي اقترحته واشنطن. كما إن البيان حين أشار إلى عملية السلام ذكر بالحرف الواحد ‘بين إسرائيل وبين الفلسطينيين’ ولم يقل (محررو البيان) بين إسرائيل (الدولة هنا) والسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير، لما تمثلانه من رمزية للدولة الفلسطينية. والمغزى واضح لكل لبيب.فهل هذه الحكومة الفاشية الفاقعة يا أبومازن تستحق من يلقي عليها التحية؟ إنها حكومة حرب وعدوان.. هي تشبه الحكومة النازية التي نجحت بشعبويتها وأضاليلها أن تلحس عقول الدهماء في ألمانيا وأن تصعد إلى سدة الحكم في مطلع ثلاثينات القرن العشرين الماضي، والتي شرعت منذ البدء في تعبئة الشعب الألماني استعداداً لسلسلة الحروب العدوانية التي قررت الطغمة النازية بزعامة أدولف هتلر شنها في القارة الأوروبية وانطلاقاً منها إلى بقية أنحاء المعمورة.ولن يستطيع لا جورج ميتشيل ولا رئيسه باراك أوباما إيقاف غطرسة القوة لهذه الحكومة الفاشية الخطيرة. ولا أدل على ذلك من انهزام أوباما أمام سطوة جماعات الضغط الصهيونية وصقور اليمين الأمريكي المتصهين حين تخلى عن مرشحه لشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي السفير السابق لدى المملكة العربية السعودية تشارلز فريمان، وتركه نهباً لتهديدات وابتزازات ذلكم اللوبي، ما دفعه لسحب ترشيحه، وكل ذلك لأن الرجل جاهر بانتقاداته للسياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. منتهى القول، هذه حكومة فاشية لا تتورع عن التصريح جهراً باعتزامها تطبيق سياسة ‘الترانسفير’ (التطهير) ضد السكان العرب في إسرائيل البالغ تعدادهم أكثر من مليون نسمة ما لم يقسموا الولاء للدولة الصهيونية. فهي تستحق الازدراء لا التحية.
صحيفة الوطن
25 ابريل 2009