بعد نحو عقدين من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، فإن أفكار العدالة الاجتماعية والبحث عن خيار آخر للعالم تعود لتطرح نفسها بقوة، حتى تلك القطاعات من الناس التي صدقت أن هذه الخيارات أصبحت من الماضي ولن تقوم لها قائمة بعد اليوم، وانطلى عليها وهم أن العولمة ستعمم الديمقراطية والرفاه في العالم بدأت تدرك وبالمعاينة الميدانية زيف ذلك. ففي أمريكا اللاتينية والوسطى، على سبيل المثال، التي طالما نظرت إليها الولايات المتحدة بصفتها حديقة خلفية لها، شهدت العديد من دولها تحولاً واضحاً باتجاه الخيارات اليسارية والمعادية لنهج العولمة المتوحشة وللسياسة الأمريكية بشكل خاص. إن خطاب النزعة الاقتصادية صار هو السائد في عالمنا المعاصر، بل إن سيادته شبيهة بسيادة خطاب الأصوليات، وإذا كنا نعرف من دروس التاريخ أن الأصوليات تتسبب في كوارث، ألا يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت الأصولية الاقتصادية أسوأها؟ هذا إذا جرى الحديث على مستوى المجتمعات، كل مجتمع على حدة، أما إذا دار الحديث عن المستوى الكوني، فلنا أن نرى في الحروب التي تعمل شركات ومافيا السلاح على إشعال فتيلها مظهرا من مظاهر هذه الأصولية الاقتصادية التي لا تتورع على الدفع بعشرات ومئات آلاف وحتى ملايين البشر إلى الموت، طالما كان استمرار الحروب يؤمن عائدا دائما متناميا من الاتجار بالأسلحة. وعلى المرء ألا يفتش في الدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية للحروب، وإنما يفتش أيضا عن شركات ومافيا السلاح الدولية التي لها مصلحة في تسعير هذه الحروب وإدامتها، لتظل سوق السلاح منتعشة. صحيح أن خيار الغزو واحتلال البلدان الأخرى ليس هو الأسلوب الوحيد الذي اتبعته الولايات المتحدة وحلفاؤها في إخضاع العالم، بل الصحيح انه استخدم حتى الآن على سبيل الاستثناء، وتؤمن آليات العولمة الاقتصادية والثقافية وغيرها سبلاً فعالة لتحقيق الأهداف التي يمكن للقوة العسكرية المباشرة أن تؤديها من خلال إضعاف الدول وتفكيكها. والهدف هو تحقيق انسيابية أكبر في تدفق رؤوس الأموال والسلع التي تبحث لها عن أسواق وفرص جديدة للاستثمار والتصريف لا تحيط بها أسوار الحماية، ولا تتدخل الدولة فترهقها بالضرائب العالية، وعن عمالة رخيصة غير محمية بفرض حد أدنى لأجورها، أو بوضع الشروط القاسية لفصل العمال. ولكن يظل باعثاً على الاهتمام أن الغرب لم يعد يجد غضاضة في اللجوء إلى الأساليب التقليدية بما فيها الغزو والاحتلال. إن بدا أن ذلك يعني في الظاهر إخضاع العالم، فإنه في الجوهر يستنهض قوى عديدة على مدار الكوكب لن ترضى بأن يقاد العالم نحو هذا الخيار المدمر للبشرية وللبيئة، نتيجة استشراء نفوذ ما بات يدعى «الليبرالية الجديدة» التي تستعير من الرأسمالية، أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد. ومن هنا استهدافها للضمانات الاجتماعية والمكتسبات التي نالتها الفئات الكادحة في صراعها المديد مع أصحاب رؤوس الأموال، وتطال إعادة النظر هذه حقولاً مهمة كالتعليم والصحة والإعانات المعيشية والاجتماعية والخدمات الثقافية والترفيهية وإلغاء الدعم على الأسعار وتجميد الأجور وتحرير التجارة الخارجية وبيع القطاع العام.
صحيفة الايام
11 مارس 2009
يوجد بديل !
الوجه الآخر لإيران
حقائق كثيرة أفرزتها التصريحات الإيرانية المتكررة المسيئة لسيادة البحرين أبرزها ان إيران التي تشهد وعلى الصعيد الداخلي أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية سيئة من شدة تقليص مساحة الحريات وحقوق الإنسان لاتزال أطماع استراتيجيتها الخارجية قائمة على التهديد وبالتالي فلا عجب من تدخلها في شئون دول عديدة تحت شعار تصدير الثورة!!
ومن هنا فالسياسة الخارجية الإيرانية بوجهها المزدوج من الطبيعي أن تثير القلق والريبة وما يؤكد ذلك بشكل جلي تكرار ادعاءاتها الباطلة بتبعية البحرين لإيران واستمرارها في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث والتدخل السافر في الشئون الداخلية العراقية بتصعيد الحروب الطائفية وكذلك خلافها مع الكويت حول أحد حقول النفط مع اليمن بسبب دعمها “للحوثيين” آبرز الحركات الانفصالية، إيران التي يفترض منها أن تدعم علاقاتها المتميزة مع دول الخليج وفقاً للمصالح المتبادلة نجدها وبكل أسف ماضية في طريق التهديد لهذه الدول!!
ما أشبه الليلة بالبارحة فالشاه إمبراطور إيران السابق كانت أطماعه القومية والسياسية تصر على أن البحرين هي جزء من إيران التي كانت كما يقول تحتلها في القرنين السابع عشروالثامن عشر.. مدعماً هذه الادعاءات بدعاية متشنجة عن كون البحرين المقاطعة الرابعة عشرة في إيران!!
وسؤالنا هنا ما الفرق بين ادعاءات الشاه وادعاءات إيران الثورة الإسلامية؟!
يقول “فريد هوليداي” في كتابه الصادر (1975) “النفط والتحرر الوطني في الخليج العربي وإيران” ظهرت ادعاءات الشاه في وقت كان النظام يجتاز فيه مصاعب جديدة في وجه الاتهامات الموجهة إليه لخضوعه التام للمصالح الأجنبية ورغبته في كسب رصيد سياسي عن طريق طرح قضية البحرين في الأمم المتحدة إذا ما أعلنت بريطانيا عن مخططها بالانسحاب.
وأما اليوم وبعد أربعة عقود تقريباً نجد إيران تسير بإساءاتها للبحرين على نهج الشاه إبان الاستعمار البريطاني للبحرين التي قاوم شعبها هذا المستعمر ببسالة وتوج هذا النضال عندما نالت البحرين استقلالها عام (1971) العام الذي شهدت استفتاءاً شعبياً برفض ما يدعيه الشاه بتبعية البحرين لإيران.
ونعتقد إن أهم الأسباب وراء ادعاءات إيران المتكررة في الوقت الحالي بهذه التبعية أن إيران فيما لو أجبرتها مصالحها السياسية الدخول في مفاوضات مع الأمريكان في المستقبل ربما تستغل البحرين كورقة في المفاوضات للخروج بشروط أفضل أو ما يسمى بالكسب السياسي.
وعلى هذا الأساس نعيد ونكرر سؤالنا وهو: ما الفرق بين ادعاءات الشاه وادعاءات إيران الثورة الإسلامية؟!
في واقع الحال المصالح الإيرانية من هذه الادعاءات قبل الثورة وبعدها لم تتغير!!
والغريب أن إيران التي تدعو إلى علاقات وثيقة مع دول الخليج وإلى الحفاظ على أمن واستقرار هذه المنطقة الحيوية الاستراتيجية من العالم التي حولتها المصالح الأجنبية إلى منطقة توتر نجدها بدعمها لقوى الإرهاب والنزعات الطائفية والحركات الانفصالية والتعدي بين وقت وآخر على سيادة واستقلال البحرين واحتلالها للجزر الاماراتية وأطماعها في العراق التي تود فصل وعزل شماله عن جنوبه يضاعف هذا التوتر!!
وبالتالي أليس من حق البحرين ودول الخليج أن يدافعوا عن سيادتهم تجاه السياسية الخارجية الإيرانية المزدوجة في المنطقة؟
ما من شك هناك من استغل واستثمر التصريحات الإيرانية لتعميق الفرز الطائفي في البحرين وهناك أيضاً من قلل واستهان بهذه الادعاءات المرفوضة وهناك من رحب بالاعتذار الإيراني للبحرين لأهميته في توطيد العلاقة بين الطرفين وكذلك بين طهران والدول الخليجية والعربية، ولكن سؤالنا: متى تضع إيران حداً لمثل هذه التصريجات والتجاوزات؟ هذا ما ينبغي على إيران أن تلتزم به اتجاه البحرين والمنطقة عموماً.
8 مارس 2009
لكل النساء السلام
اليوم الثامن من مارس يوم المرأة العالمي، الذي أضحى رمزاً لكفاح المرأة من أجل حقوقها وصون كرامتها، ومناسبة للتعبير عما نكنه من تقدير وود وحب لنصفنا الأحلى والأجمل والأعذب والأرق.
في عام 1975، وبمناسبة السنة العالمية للمرأة بدأت الأمم المتحدة الاحتفال بهذا اليوم كعيد عالمي للمرأة، غير أن فكرة هذا العيد تعود إلى ما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمان.
ففي الثامن من مارس عام 1857 نظمت النساء العاملات في مصنع الألبسة والنسيج في مدينة نيويورك مظاهرات احتجاج ضد ظروف العمل السيئة. كانت الرأسمالية يومذاك في أوج وحشيتها وهمجيتها، وكانت النساء يعملن اثنتي عشرة ساعة يوميا بأجور زهيدة ويساق الفتيان والأحداث إلى المصانع للعمل في أسوأ الظروف.
غير أن الشرطة فرقت المتظاهرات بالقوة.
وفي ذكرى هذا الإضراب في العام 1908 اندفعت نحو خمسة عشر ألف امرأة إلى شوارع نيويورك في مظاهرات مشابهة تحت شعار: خبز وورود، وهو شعار رمز إلى الحقوق المعيشية وتحسين الظروف الاقتصادية للعاملات، وإلى حياة أفضل للشغيلة.
وتقديراً لكفاح النساء ارتأى قادة الحركة العمالية الأمريكية يومذاك تخصيص اليوم الأخير من شهر فبراير من كل عام للاحتفاء باليوم الوطني للمرأة.
وبعد ذلك بعامين اقترحت القائدة العمالية النسوية الألمانية المعروفة “كلارا زيتكين” في المؤتمر العالمي الأول للمرأة، اعتماد الثامن من مارس من كل سنة عيداً عالميا للمرأة.
وحتى قبل أن تقر الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم يوماً للمرأة، كان هذا العيد قد تكرس كمناسبة يحتفى بها على أوسع نطاق للمطالبة بحقوق النساء ومساواتهن بالرجل في الأجور وفي المشاركة السياسية وفي حقوق التعليم والعمل وتبوء المناصب العليا.
وهو إلى ذلك أضحى عيدا للحنان واشراقة للربيع والورد، ونشيداً للحرية والحب والعذوبة والطهر والأمومة، وهي قيم إذ ترد على الذهن، ترد المرأة بوصفها ملاكاً، وفضاء براءة.
دعونا في هذا اليوم نزف باقات الزهور، ونحمل الورد ومعنى الورد لكل النساء: الأمهات والأخوات والزوجات والحبيبات والزميلات، فلهن الحديث المعطر بالود والحب والوفاء.
لكل النساء السلام وعليهن السلام، فهن واهبات الحياة والفرح، لهن النشيد وسماء الأمنيات والأغاني والأيام والأماسي المضيئة بالفرح والكلمات التي لم ينطق بها الشعراء بعد.
أزمة النخبة العالمية
في حديث شيق جرى مع صديقي وأستاذي د. عبدالله الصادق عن الأزمة الاقتصادية العالمية قال إن الواضح هو أن الرأسمالية كنظام اقتصادي باق، إلا أن نظامها المالي لم يعد قادرا على البقاء. وقد شجعني هذا الحديث على المضي أكثر في قراءة المزيد حول نظرية الأزمة الحالية تحديدا.
مضى نصف عام تقريبا والأزمة لاتزال في نمو مضطرد. لم تتضح نهاياتها بعد، إلا أنه أصبح ممكنا الحديث عن دروسها الأولى. وأول هذه الدروس أن الأزمة لم تعد مالية-اقتصادية فقط، بل وسياسية أيضا. كان أسطع دليل على ذلك انعقاد قمة العشرين في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 الأشبه بكونسيليوم بشأن سرير الاقتصاد العالمي المريض. كان من الطبيعي توقع أن تبدأ الوثيقة الختامية بتتبع وتوصيف كيف بدأت الأزمة وما القوى المحركة لها وحجم أثرها. وتصف بعد ذلك الإجراءات التي يمكن أن تضعف تأثيرات الاتجاهات السلبية، وتقوي الاتجاهات المضادة لها، وفي النهاية، توضيح متى ولماذا ستنتهي الأزمة وما هي آثارها الفعلية لحد الآن. لكن كلما قالته الوثيقة هو إعادة التأكيد على بعض الإجراءات التي تم اتخاذها ووعود باستمرار المضي فيها من دون تبيان مدى فعاليتها. وقد أخفقت المحافل الدولية الأخرى في ذلك وفي رؤية البعد الزمني والكيفية التي ستنتهي إليها الأزمة. كان الحديث يدور عن نهايتها مع نهاية العام الجاري .2009
وفي مؤتمر منظمة بلدان أميركا اللاتينية الذي أعقب قمة العشرين فقد قيل بأن إقلاع الاقتصاد العالمي سيبدأ ليس قبل نهاية العام .2010 واليوم يتحدث كبار مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي أوباما عن ثلاث سنوات مقبلة من الركود. أما آخر ما قاله رجل المال الأميركي الشهير بأن النظام المالي العالمي قد انهار بالفعل لكنه لا يعرف ما الحل. وهكذا يبدو أن تطور الحالة لا يشيع أي مزاج للتفاؤل، وأن قادة السياسة والاقتصاد العالمي يفتقدون لفهم كيف ولماذا وإلى أين تتطور الأزمة.
المسألة الأكثر تعقيدا (الدرس الثاني) هي أن النخبة المالية العالمية ليست معنية بالبحث عن حلول للمخرج من الأزمة. ونتائج دافوس في هذا الصدد ذات دلالات مهمة. الأدهى من ذلك أن من مصلحة النخبة خلق ظروفا إضافية تضيق إلى حد بعيد إمكانات البحث عن الحلول. والهدف هو الحفاظ بأي ثمن على النظام القائم بما يضمن لها سلطتها على العالم وتحكمها في النظام المالي والاقتصادي العالمي. وما أثار دهشة الكثيرين هو أنه في أكثر البلدان عداء تاريخيا لأفكار الاشتراكية أصبحت الحلول المطروحة تشكل عودة إلى الطرق الاشتراكية في إدارة الاقتصاد. هذه الحالة المدهشة ترتبط وثيقا بصياغة نظرية الأزمة الحالية. لكن هذه النظرية موجودة أصلا، ولأكثر من عقد من السنوات. وهي قد ‘’اختبرت’’ بما فيه الكفاية، بدليل أن كثيرا من تنبؤاتها تحقق بالفعل. ما لا يعجب النخبة العالمية المعاصرة في هذه النظرية هو أنها تؤدي إلى نتيجة مفادها أنه لم يعد ممكنا الحفاظ على النموذج الذي في إطاره نمت وازدهرت هذه النخبة (حتى وقت قريب). ولهذا فهم حتى لا يجهدون أنفسهم في مناقشة هذه النظرية.
وفي كل الأحوال فإن من المجدي إعادة التأكيد على الاستنتاج الرئيسي للنظرية. ولتوضيح ذلك نورد عرضا مقتضبا لشرح الاقتصادي والخبير الشهير في نظرية الأزمات ميخائل خازن على المثال التالي1: يجري دعم الطلب الحالي للاستهلاك المنزلي للأميركيين بشكل جدي، الأمر الذي يمكن ملاحظته على وتيرة نمو إجمالي ديونهم الذي وصل إلى 15 ترليون دولار وينمو بسرعة تقارب 10% سنويا. وباحتساب أن نمو إجمالي الناتج المحلي الأميركي يساوي الصفر تقريبا (العام 2008) فإنه يمكن تقدير صافي الدعم السنوي بـ 1.5 ترليون دولار. المعدل التاريخي للادخار في الولايات المتحدة الأميركية الذي كان عند نحو 10% سنويا، أصبح في العام 2008 (باستثناء الشهرين الأخيرين) يساوي قرابة الصفر. العادة أنه في ظروف الأزمات يقفز معدل الادخار إلى أكثر من متوسطه التاريخي، لكنه يمكن حتى تجاهل ذلك، غير أن نمو المدخرات حتى 10% كان سينقص 1.5 ترليون دولار من حجم الطلب الإجمالي. وبالتالي كنا سنجد أنه بنتيجة الأزمة يجب أن ينخفض إجمالي الطلب الخاص في الولايات المتحدة الأميركية بنحو 3 ترليون دولار. ويمكن حساب تأثير مثل هذا الانخفاض في الناتج الإجمالي المحلي بضربه في مضاعفات ,2.5 1.5 وعندما نأخذ بالتقديرات الدنيا لذلك سنجد أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي يجب أن ينخفض بما قيمته 4.5 ترليون دولار. وهذا ما يعادل بالضبط ثلث الناتج الإجمالي المحلي الأميركي في أفضل احتمالاته حاليا (14 ترليون دولار)، أو ما يعادل 40% في حالة التقدير المتشائم (12 ترليون دولار).
ويرى خازن أنه يمكن أيضا تقدير حجم المشطوبات من أصول المؤسسات المالية. فبما أن الشركات كانت قد أغرقت بالقروض حتى أقصى حد ممكن، فإنه يمكن تقدير خسائرها الرأسمالية بضربها بمضاعف أدناه 3 إلى 5 نسبة إلى عوائدها السنوية. فإذا كانت العوائد ستنخفض بمقدار 4.5 ترليون دولار فإن الشطب سينسحب على أصول تبلغ قيمتها 12 – 15 ترليون دولار. ويقصد بذلك، طبعا، الأصول الأولية، لا الأوراق الثانوية والمشتقات.2
ومع الأخذ في الاعتبار أن التقديرات أعلاه قد بنيت بالافتراضات الدنيا، فإن الأمور ستتخذ على الأرجح منحى أسوأ بكثير. وعليه يصبح مفهوما أن أزمة كهذه تجعل من غير الممكن الحفاظ على النظام الساري. وقد يكون ذلك مدعاة لأسى الكثيرين، إلا أنه لا يمكن ابتداع نظرية أكثر تفاؤلا. وكل ما ستحاول النخب فعله هو بذل الجهود لإنقاذ مؤسساتها الاقتصادية والمالية بدرجة أولى. وكل ما فعلته الإدارة الأميركية السابقة والحالية يؤكد ذلك. هذا يعني أن الأزمة ستظل فاعلة بكل عفويتها الذاتية، وأن أية إجراءات لن تسيطر على تلك العفوية. أما المخرج الحقيقي فسيكون ممكنا فقط بعدما تتضح نتائج الأزمة بوصولها إلى نهاياتها، وعندما يدب الوهن في أوصال النخبة العالمية الحالية.
الدرس الثاني المهم، هو أن المهمة الرئيسية للذين يهمهم ليس الحفاظ على ما تم الحصول عليه من ثروات (بطرق غير شرعية غالبا)، بل الحفاظ على ما حققته مجالات الأعمال الحقيقية، ستكمن في البحث عن مصادر المعلومات الموضوعية وفهم الأسباب والنتائج الفعلية للعمليات الجارية. أما بالنسبة لقادة الدول فإن مسألة مصير بلدانهم وشعوبهم تكمن في البحث عن الإجراءات والخطط التي تسمح بالخروج من الأزمة قبل انتهاء مرحلتها الدنيا. بناء النظام المالي الإقليمي الذاتي على قاعدة فهم النظرية الصحيحة للأزمة الحالية هو وحده الكفيل بقيادة نموذج التطور في القرن الحادي والعشرين.
[1]، [2] لمزيد من الاطلاع، يمكنكم مراجعة الوصلة: www.worldcrisis.ru، 12 فبراير/ شباط .2009
1 http://www.worldcrisis.ru/ , 12.02.2009
2 نفس المصدر
صحيفة الوقت
9 مارس 2009
تحولات الرأسماليات الحكومية
تغيرت النسب بين الملكيتين العامة والخاصة وبدأت مؤسسات الملكية العامة الضمور، لكنها لاتزال تتمتع بثلثي الإنتاج، فيما تتوسع الملكيات الخاصة وتحتكر السوق في التجارة والتمويل.
الأحزاب (العامة) التي تعبر عن تلك الملكيات العامة، تتراوح بين أقصى اليسار حتى أقصى اليمين، لعبت اهداف التنمية كما تحرسهما القوى المتنفذة في كل مجتمع السياسة الاقتصادية الأساسية.
إن أهداف الدول الرأسمالية العامة الشرقية تتراوح بين تحقيق الاشتراكية والشيوعية إلى تحقيق النهضة القومية أو إعادة مجد الإسلام أو تحقيق التنمية المستدامة.
وهي كلها مصطلحاتٌ ايديولوجية تسقطها القوى الحاكمة على الواقع، ولكن عبر الهدفين (الاشتراكي والشيوعي) المعبأ بطاقة تغيير كبيرة للوصول إلى زوال الطبقات، تتحقق أكبر معدلات التنمية الصعبة وبناء الصناعة الثقيلة فوق تضحيات جسيمة من قوى الشغيلة.
إن الشعارات المرفوعة سوف تعبر عن تناقضات اجتماعية حادة مع تطور قوى الإنتاج، وفي المراحل الأولى لا تظهر هذه التناقضات، ومع تشكيل البنية الاساسية تبدأ التناقضات بالظهور.
إن الكلام عن البطل الاشتراكي المضحي يتناقص، لأن التباين بين الحاكمين البيروقراطيين والعسكريين الكبار وبين القاعدة الشعبية يتسع، ويشعر العاملون بأنهم يضحون من أجل رفاهية طبقة منفصلة عنهم، ويبدأون بالتشكيك في الايديولوجية المرفوعة، إن الجمهور غير مستعد لخوض حرب والدفاع عن المعسكر الاشتراكي، ومن هنا تغدو الحروب (قاطرة التاريخ) وهي العبارة التي قالها ماركس في وصف فعل الحروب (البناء)، وهي حقيقة مأساوية كذلك، ورفضها جورباتشوف وهو يقود البلد للانسحاب من تكلفات الحروب الباهظة، وليفكك رأسماليات عامة بيروقراطية تجاوزها الزمن.
كيف يغدو الاشتراكي ذا وجهين، اشتراكي ورأسمالي في ذات الوقت؟
إن المرحلة هي مرحلة رأسمالية شرقية، والقيادي إما أن ينضم للبيروقراطية وإما للجمهور العامل، لهذا فإن الوحدة الاشتراكية بين الحاكمين والمحكومين تنفصم، ويغدوان إما الجنرال الحاكم كما في بولندا وإما ليخ فاليسا، فأوربا الشرقية وروسيا جزآن من الشرق، من حيث التشكيلة، لا من حيث الجغرافيا، وفي الواقع العربي ينفصم القيادي المتمسك بالايديولوجيا القديمة عن الشغيلة، يتداخل بالقوى البيروقراطية الحاكمة إما على هيئة حزب قومي وإما على هيئة حزب(اشتراكي)، وتظهر لغة سياسية غائمة، مائعة، حتى تتضح الهويات الاجتماعية مع تطور قوى الإنتاج، وزيادة رقعة الملكية الخاصة على حساب العامة، واليساري البيروقراطي الذي كان يردد شعارات الاشتراكية يبدأ الانتقال للشعارات الرأسمالية، وهي في جوهرها الشرقي واحدة.
تبدأ القوى العاملة إدراك تميزها الطبقي عن فئات القوى البيروقراطية والثقافية المسيطرة على إنتاج السياسة، وتصبح إما متحجرة في خصوصيتها وإما مرنة ومستفيدة من التحولات الصاعقة فوق معيشتها وظروفها التي تـُطحنُ بين الرأسماليتين العامة والخاصة.
ولهذا فإن شعارات الحكومة الإسلامية والثورة تغدو في رأسمالية عامة أخرى منهوبة باسم الدين، منهكة من النقد الجماهيري المتصاعد، وتتركز الهجمات في الدين، وكل ايديولوجية سياسية شرقية تتحول إلى دين في الواقع، ولكن إذا كانت جماهير المعسكر الاشتراكي تعود للدين، فإن جمهور الدولة الإسلامية المتشددة ينسلخ من الدين، وفي برزخ الانتقال من نظام الرأسمالية الحكومية إلى الرأسمالية الخاصة، تحدث اضطراباتٌ جمة، يشعر قسمٌ من السكان متضرر من سقوط جوانب من الملكية العامة بالرغبة في البقاء في النظام القديم الذي وفر له مزايا مهمة في السيطرة على الأسعار وفي تحديد الأجور، لكن أقساماً أخرى مرتبطة بصعود الرأسمالية الخاصة تعمل لإزالة تلك الجوانب الممثلة للدولة (الأبوية) الراعية الخيالية لجميع أفراد الشعب.
إن انفصام هذه الأقسام في الرأسماليات الشرقية العامة، فهي نماذج عديدة، ذات تطورات تاريخية متباينة، يتم على أنحاء مختلفة، وعبر اضطرابات مذهلة.
وفيما تتوجه الطبقات العليا لاستثمار هذا التحول بسرعة نظراً لامتلاكها الأسواق والبنوك والإعلام وتبرر التحول لصالحها، فإن الطبقات العاملة تجد نفسها متأخرة، تنزل فوق رؤوسها الفواتير المتأخرة للدولة السابقة، من فساد ضار في الملكية العامة ومن نقل الأموال وغياب الأثمان الحقيقية للسلع الخ.. وكلما عملت هذه الطبقات العاملة على التمايز مع المالكين وحددت خريطة مصالحها الخاصة، وتنظمت نقابياً وسياسياً، تكيفت بقوة مع الطوفان القادم فوقها.
بعض الدول الكبرى الشرقية على حافة العبور بين نظامين تاريخيين متناقضين، والبعض الآخر يزحف نحو ذلك، وبعض ثالث خارج هذا التغيير.
إذا كان تخلي الدول الشرقية عن جوانب محدودة من ملكيات وسائل الإنتاج قد أحدث ذلك كله فكيف ستجري الأمور مع التخلي الكامل عن هذه الملكيات؟!
من المؤكد أن ذلك سيكون أشبه بزلزال وهذا أمر سيترافق ولا شك مع نضوب الموارد الطبيعية، وتسارع العولمة، ونمو الإنتاج الخاص. هنا تغدو مسألة الملكيات العامة الديمقراطية مثل خشبة النجاة، وهو أمر يستدعي منذ الآن تكاتف القوى العاملة في القطاعات الخاصة والعامة لإصلاح هذه الملكيات الوطنية المشتركة.
صحيفة اخبار الخليج
9 مارس 2009
الملاذات الجديدة للنقـــود الساخنـــة
الأزمة الاقتصادية العالمية التي خطفت الأضواء من كل القضايا التي كانت تحتل حتى وقت قريب صدارة اهتمام الأسرة الدولية مثل قضية التغيرات المناخية، والتي استنفرت كافة حكومات دول العالم وقادتها، بدأت أولاً كما نعلم في القطاع المالي والمصرفي قبل أن تنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي وتؤدي إلى انهيار كبريات الشركات الصناعية في العالم وتدفعها لشن حملة تسريحات لمئات الآلاف من العاملين. وهذا يعني أن القطاع المصرفي والمالي سيبقى عرضة للمخاطر الناجمة عن حجم الخسائر المهولة التي تعرض لها، ويشمل ذلك الثقة والمصداقية اللتين فقدهما القطاع، واللتين تشكلان أساس العمليات المالية والمصرفية لوحدات القطاع، بين بعضها البعض وبينها وبين المستثمرين. هذا المناخ الاستثماري العالمي الغائم يطرح سؤالاً طبيعياً وهاماً هو: ما مصير مليارات الدولارات الحائرة التي لم تتآكل قيمتها بعد كما هو حال تريليونات الدولارات التي تبخرت فجأة من محافظ استثمارية مختلفة (ودائع مصرفية لم يعد لها وجود نتيجة إفلاس مديريها، كما في حالة بنك ليمان براذرز، وتوظيفات في صناديق استثمار، أو في أصول ثابتة (عقارية أساساً) أو أصول قابلة للتسييل السريع كالأسهم؟ ذلك أن تجميدها أو تعليق توظيفها استثمارياً، اعتباراً بمخاطر الأزمة التي لازال شبحها يخيم على كافة مفاصل الاقتصاد العالمي وأدواته، يعتبر في عداد الفرص الضائعة، أي الخسارة ترتيباً. ولذلك فإن فترة ‘انغلاق’ مديري المحافظ الاستثمارية من صناديق ومصارف وبيوتات مالية، على بعضها، وتحفظها المفرط في مسألة ‘الإفراج’ عن الأموال قيد التوظيف التي بحوزتها، لن تطول كثيراً. إذ سرعان ما ‘ستعود حليمة إلى عادتها القديمة’ بعد زوال مفعول فترة الترقب والانتظار، وبعد تبلور القناعة الجمعية لرواد السوق ‘بزوال الخطر’، حتى ولو بصورة غير كلية. وبما أن الأضرار التي ألحقتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية بالدول الأعضاء في منظومة الاقتصاد العالمي، ليست متساوية، وإنما تفاوتت من دولة إلى أخرى، فإن المستثمرين وأصحاب ومدراء المحافظ الاستثمارية هم الآن بصدد رصد وتقييم مختلف الأسواق والمراكز المالية العالمية التي يفوق تعدادها المائة والمنتشرة على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، لكي يختاروا من بينها الملاذات الاستثمارية الأكثر أماناً. ولعل أكثر المتحفزين لالتقاط الفرص الاستثمارية الشحيحة التي لازالت متوفرة في بعض أسواق ومراكز المال العالمية، لاسيما تلك الموجودة في الدول النامية ذات الاقتصادات الجيدة التي لم تتأثر بشدة بالأزمة، هي الصناديق الاستثمارية، لاسيما منها صناديق التحوط (Hedge Funds) التي مازالت تتوفر على محافظ استثمارية مليارية رغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها إبان الأزمة. ولما كانت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والصين والهند وبعض الدول الجنوب شرق آسيوية من الدول القلائل في العالم التي لازالت تحتفظ باحتياطيات نقدية وفوائض مالية ضخمة رغم تقلصها بشكل كبير نتيجة تحويل جزء منها لدعم المصارف المحلية وتمويل مشاريع إعادة إنهاض لاقتصاداتها، فضلاً عن تبخر جزء منها في الانهيارات المالية للمؤسسات الحافظة والموظفة لها- فإنها تبقى الدول الأكثر ترشيحاً للهجوم القادم لصناديق التحوط. وكلنا يعلم ماذا فعلت صناديق التحوط قبل اندلاع الأزمة المالية الاقتصادية العالمية المركبة؟ وكيف أسهمت بصورة كبيرة في تخليق وانضاج الأزمة من خلال هجومها الكاسر على أسواق السلع المستقبلية (Future Commodity Markets)؟ لاسيما سلع النفط والمعادن غير النفيسة، وكيف أدى ذلك إلى ارتفاع حمى المضاربة على هذه السلع ورفع أسعارها إلى المستويات الشاهقة التي أحدثت أزمة غذائية عالمية نتيجة ارتفاع أكلاف الطاقة، قبل أن ينكشف مستور فقاعة أسواق العقار والأسهم وتنفجر في وجه صانعيها والنافخين في كيرها. والحال أنه بموازاة تحفز صناديق الاستثمار، لاسيما صناديق التحوط التي نالت الأزمة كثيراً من سمعتها، للتفتيش عن ‘صيد’ جديد في أسواق غير مرتادة وملائمة، مؤقتاً، لتحركاتها الاستثمارية على المدى القريب، ريثما تستعيد المراكز المالية الرئيسية الكبرى، عافيتها وديناميتها، هناك بالمقابل في المراكز المالية الطرفية متحفزون لاستقطاب هذه الصناديق بهدف تعزيز مكانة مراكزهم ورفع درجة تصنيفها بين مراكز المال العالمية. وهذا توجه مفهوم على أية حال في إطار المنافسة الدولية على استقطاب الرساميل لتنشيط الدورة وخلق فرص عمل جديدة. ولكن حذاري من الوقوع في شرك الطموح المفرط المعادل للوهم في نهاية المطاف. فليس كل ما يلمع ذهباً كما يقول المثل. وعلى المرء أن يتحوط من مثل هذه ‘الصناديق التحوطية’ وأضرابها. فلا ننس في لحظة ‘هيام استثماري’ غلاَّبة أن هذه الصناديق هي الأب الروحي للنقود الساخنة (Hot money) السابحة دون قيود عبر مختلف أسواق ومراكز المال العالمية لاصطياد أسهل وأسمن الفرص. والنقـود الساخـنة كما نعلـم هي نجمـة الاسـتثمارات غير المباشرة (Indirect Investment) بلا منازع. وهي بهذا المعنى لا تشكل أية إضافة نوعية للاقتصاد الحقيقي.
صحيفة الوطن
8 مارس 2009
أفكار الرأسماليات الحكومية الشرقية
إن الأفكارَ الخاصة التي تنتجُها الرأسمالياتُ الحكومية الشرقية، وهي لحظاتٌ من عالم الانتقال من الإقطاع نحو الرأسمالية الخاصة على النمط الغربي، هي قوالبٌ إيديولوجية تمثل القوى السائدة في كل نظامٍ شرقي منها. فهي كلها تزعم الحقيقة، ومطابقة أبدية التاريخ، وتمثل حال الإنسان حتى يوم القيامة، من كتب لينين عن الاشتراكية مروراً بالكتاب الأحمر لماوتسي تونغ وبرامج الجبهات الوطنية في سوريا والعراق والميثاق الوطني لعبدالناصر وكتاب الجمهورية الإسلامية للخميني والكتاب الأخضر في ليبيا وغيرها كثير. كلها تشترك في البحث عن طريق آخر غير الطريق الغربي، وابتكار صيغة يُزعم فيها الابتكار والتجديد.
إن تحديات التخلف لهذه الأمم الشرقية، وعمليات التجنيد الأجبارية لجهود الشعوب وخاصة العمال، لهذه الممالك الجديدة الناهضة بعد قرون طويلة من التخلف والتبعية، تجعلها تضع هالات مقدسة على برامجها السياسية هذه، وتصويرها كما لو كانت الطريق الوحيد الذي لا يوجد أبداً غيره. تتميز كل هذه التنوعات من الأفكار في الفرض الجبري المدعوم بالقوة المسلحة على الجمهور. نعم قد تجري إنتخابات وتظهر سوفيتات منتخبة من العمال والجنود، أو يجري إستفتاء على الميثاق أي يتم فرض الدين السياسي الجديد، أو تـُفرض مليشيا عسكرية وفتوات باعتبارها لجان الشعب الحرة، أو تقوم دكتاتورية البروليتاريا يقودها مثقفون نخبويون وعسكر متنفذ، أو يظهر رجالُ الدين الريفيون باعتبارهم صوت الإله المتحكم في العملية السياسية، أو يظهر حكم قوى الشعب العامل وغير هذا من صيغ دكتاتوريات الرأسماليات الشرقية الحكومية. الفرض الجبري للفكرة المسيطرة السياسية يرسمُ خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، ليتم الحفاظ على صيغة نظام اقتصادي معين يمثل امتيازات الطبقة الحاكمة في كلِ بلدٍ ويضعُ فوق القوى العاملة الشعبية الواجبات الكثيرة وقليلاً من الأجور المحدودة المحددة الصارمة. يتم تبرير هذه الصيغ بأشكال متعددة من الأفكار الانتقائية والحذلقات الفكرية. ولا بد أن يعطى الجمهور العامل بعضاً من الأمل لإجباره على هذه الأعمال الشاقة التي سوف تجلب السعادة الأبدية للأمة أو للطبقة، أما في شيوعية بروليتارية سعيدة قادمة يزول فيها إلى الأبد الاستغلاليون، أو في جنة العالم الآخر حيث يُجزى المؤمنون الصالحون أو لإنشاء الوطن السعيد أبداً.
في مصر الفرعونية كان الجمهور يبنى الأهرامات ويعطونهُ خبزاً وبصلاً وثوماً خلال عشرات السنين من البناء الشاق. أعمال التأسيس لرأسماليات الشرق الحكومية لا تختلف كثيراً عن ذلك، موتى في المصانع بالآلاف، قتلى بالملايين في الحروب، تتحول السجون إلى معسكرات اعتقال ومؤسسات خالدة، أثراء فاحش على صمت الملايين وحبسها ودغدغتها بالحشيش الوطني، استيلاءات عارمة على الأراضي والموارد، استيراد مخيف للعمال والعبيد بالملايين للأعمال الشاقة الرثة الخ. وفي كل تجربة حكومية رأسمالية كهذه لا بد من وجود أمة كبرى تغدو بمثابة الهيكل البشري المسيج للدولة، وكلما كانت موحدة وذات موارد كبيرة أمكنها إحداث القفزة التنموية المطلوبة، كوجود الأمة الروسية أو الفارسية أو الصينية، وغير هذا يجري بصعوبات وتمزقات. إن أفكار الأمة الكبرى المقدسة؛ (أمنا روسيا)، (بلاد العُرب أوطاني)، (مجد الأكاسرة) الخ، تضيفُ إلى زنزانات الحزب الواحد ودستورية الميثاق وحكم العسكر توابل أخرى؛ دغدغاتٌ قوية على المشاعر القومية المصابة دائماً بالجراح، إستحضارُ الأبطال القوميين وبثهم في الشوارع والأغاني والمناهج، دمجهم بالقادة المعاصرين، الحماسة الهائلة للقومية ومعاركها الحقيقية والزائفة الخ. ثم تؤدي هذه المرحلة التشييدية التأسيسية دورها، فلا دكتاتورية البروليتاريا باقية ولا الميثاق ولا الكتاب الأحمر ولا دستور الجمهورية الدينية(الاشتراكي)، ويظهر الرأسماليون الحكوميون كأرباب عمل، كأصحاب شركات عملاقة، كرجال أعمال لهم أمبراطوريات المال، لاعنين المرحلة السابقة وأخطاءها الجسيمة. وإذا كان الزعيم لا يزال باقياً في النفوس والمكان والمزار، فلا بد من الاستفادة من جثته للسياحة أو لتوسيع التأييد للنظام الراهن، وعدم نقده بقوة وعلانية، لتظل الانتقادات في الدوائر الحزبية المغلقة خوفاً على مشاعر الشعب من الجرح، ويصبح الكتاب الأحمر مما يشتريه السياح في الميادين ويغدو الميثاق مرمياً في المخازن لكثرة طباعاته السابقة وتحويل ورقه للصحف. التلفيقات الفكرية الشرقية لها اختصاصيوها ومثقفوها وسدنتها، وهم يقبضون كثيراً من هذه التلفيقات على هيئة أراض وسندات وأموال، فهم يعرفون كيف تتبخر الأفكار، وأن الباقي هو الذهب، لهذا يكثر اليمين واليسار الملفقان، من هذه الفئات الوسطى الطامحة أبداً للثراء، وتنضم إليهم شرائحُ العمال العليا، وتتحول كل هذه الفئات إلى الفرقة الوطنية المسبحة بمجد المرحلة. كان من الممكن أن تكون المرحلة الرأسمالية الحكومية مرحلة اقتصاد حر وتعددية حقيقية وحكم برلماني نظيف، لكن ذلك لا يتحقق بدون أسس موضوعية كسيادة الملكية الخاصة لوسال الإنتاج، وهو شرط لم يوجد في دول الشرق إلا في إستثناءات نادرة ولأسباب تاريخية خاصة.
صحيفة اخبار الخليج
8 مارس 2009
عواطفنا المتشظية !
ربما كان سهلا أن اعتقد أن الكتابة لا يمكن فعلها وتفعيلها وأنا محبوس داخل كتلة من الجبس، فبدت يداك التي تكتب بها معطلة عن فاعليتها ونشاطها ، وبالفعل فلكل صاحب مهنة عضو أساسي لديه فالذين يكتبون باليد اليسرى لا يتمنون أن تصاب يدهم بالأذى ويفضلون بين خيار اليدين أن تتعطل يدهم اليمنى، أما إذا كان الشخص كاتبا يتعاطى مع الحرف والموضوعات يوميا من مثل شاكلتي، فهو يصاب بخيبة أمل قصيرة الأمد، عندما اكتشف الطبيب علة في الأربطة ( الوريد ) في كتفه الأيمن ومن الأفضل أن يخضع لعملية جراحية عاجلة. صار الأمر واقعا ولا فكاك من معضلة العملية وواقعها وأهميتها ومحنتها وخيارها المقيت، فمن خلال تلك اليد نسترزق قوتنا وخبزنا اليومي. لكم بدت الحقيقة مؤلمة عندما نكتشف كيف يعيش ذوو الاحتياجات الخاصة طوال حياتهم بتلك الصورة ، بينما سنمر نحن بالحالة نفسها لمجرد أسابيع ، ورغم ذلك، يداخلنا شعور مختلف بأنها مجرد حالة عطل مؤقتة مخيبة للآمال كلما تلمسنا حالة ما بأننا غير قادرين على انجازها بمفردنا ، ولا بد من أن يكون حولنا شخص نتكئ على مساعدته ، وهي بالطبع فرصة لاستخدام الابتزاز العاطفي وتوظيف المسكنة والدلال، فالآخرون ينظرون لنا بعين الشفقة، إلا ذلك المنحوس الذي مر بتجربة أسوأ فسيقول لك، بسيطة المسألة مافيها شيء ، كلها أيام وترجع لنشاطك ، ويبدأ يقارن السيئ بالأسوأ ، يبدأ يعد لك كيف مر بظروف سيئة فأنت وحالتك لا تعد أمرا يستحق التفكير فيه، إذا ما قستها بالويلات التي مررت بها ، لحظتها ينسونك الجالسون وكأنك مقعد فارغ لا قيمة لك وحالتك مجرد زكام عابر، لحظتها تود أن تخنقه من عنقه وتريح العالم منه وتريح نفسك . لكم مزعج هذا النوع من البشر، الذين لا يفهمون معنى المواساة والحنان وشعور الآخرين بأهمية الدفء وبضرورة رفع معنوياتهم المنهارة أو حتى الهابطة. لكل واحد فينا تجربة من هذا القبيل، يلامسها بأسى داخلي خاصة لمعرفته وتجربته اليومية وانه يعطل معه بعض أفراد العائلة لكي يقوموا بخدمته ورعاية مطالبه ومشاطرته ولو جزء صغير من معاناته، هكذا أعادت لذاكرتي زوجتي عندما أجرت عملية اعتقد في كتفها الأيسر وقمت كممرض لمتابعة شؤونها وحاجاتها، ولازمتها حتى في سفرتها إلى مسقط أثناء حضورها المؤتمر ، فقد كان عليها أن تستحم وترتدي ملابسها وتنظف أسنانها وان أكون برفقتها في المطعم ، إلى أن يحضر زملاء العمل فعلى الأقل هناك من تستطيع أن تطلبه أن يساعدها في حالة احتياجها لضرورات قصوى، لا يمكننها أن تفعلها إلا بوجود يدين معافيتين، في التجربة النسوية تعلمت كيف أشياء كثيرة عن النساء، وهن لا حول لهن ولا قوة، استعدت الحالة وما مرت بها، وها أنا أقع فريسة العملية في الكتف، متذكرا حكاية ذلك الإنسان، الذي لم يتعلم أن المشاعر والعاطفة الإنسانية، وفي لحظات معينة من الضعف الإنساني تحتاج إلى مشاعر استثنائية لا يمكن أن نقارنها بأوقات اعتيادية فزمن زمبرك الساعة فيه ممل من حياتنا، ونحن في كامل صحتنا ، فهناك لا يهتم البشر بكل ما يتحرك في داخل جسدهم ولا يستشعرون بدفق ذلك الدم، المميت أحيانا، فيما لو قيل لنا ذات يوم عن مدى نزيف منهمر لم يجد صاحبه وقت لإسعافه بسرعة . المرض والزمن هما حالتان تتحركان ببطء شديد ومقيت لا نحبه، ونود أن يمر الوقت بأسرع ما يمكن ، وكلما تقدمنا في وضعنا الصحي شعرنا أن مشاعرنا وعاطفتنا تتماسك كفصل من فصول السنة الأخضر، بينما الحياة الرمادية ليست إلا تشظيا حقيقيا في مشاعرنا المنهكة، كما هو الإعياء الخفي للموت المتربص بعاطفة امرأة، غادرها عشيقها ليلا مع امرأة أخرى، أو زوج تخونه امرأته مع صديقه العزيز، فتبدو عندنا الحياة لحظتها أكثر من حالة تشظي زجاجي لكأس من الكريستال . تذكرت أيام مراهقتي احد الأصدقاء من بين مجموعتنا كان معاديا للمدرسة والدروس وكل شيء يذكره بالدوام المدرسي، فقد كان يتمنى أن تنكسر رجله أو يديه لكي يمنحه الطبيب إجازة ! ولكن دورة الحياة غريبة فحينما زرته في المستشفى قابعا داخل ذلك الجبس، ذكّرته بحكايته فضحك : «هل ما زلت تذكر السالفة !! « فقال صحيح أن مدارسنا بدت لنا سجنا ولكن أن تحبس في هذا العالم الأبيض، فان عصا الأستاذ ارحم بمرات من آلام الكسور، ولكن مشكلتي إن كسور عواطف الخيانة ، لم اجمع شظاياها وقطعها المتناثرة حتى الآن ! لا أحد يستطيع رؤية الجبس الداخلي.
صحيفة الايام
8 مارس 2009
في يومها العالمي: المرأة إنسان قبل أي شيء آخر
يتحول اليوم العالمي للمرأة الذي يصادف 8 مارس/ آذار من كل عام إلى مناسبة دولية يجتهد خلالها، أنصار المرأة والحركات النسائية، من أجل تحويلها إلى تظاهرة تلقي المزيد من الأضواء على أحوال المرأة، وهمومها. هذا يشمل الإشادة بما انتزعته من حقوق، ومواصلة النضال في آن، لتحقيق المزيد من تلك المطالب المنصفة للمرأة وتقليص وطأة الظلم الذي ترزح تحته.
وفي هذا السياق يقرأ المرء ويطالع أو حتى يسمع ما يعكس ذلك من أمثال تبوء المرأة مناصب قيادية في هذا البلد أو ذاك، أو تزايد نسب مشاركتها في مشروعات التنمية، وعلى نفس المستوى نتلقى أخبار مطالبات جديدة من أجل رفع الحيف الواقع على المرأة من طراز مساواتها بالأجر عند إنجاز الأعمال ذاتها مع الرجل، أو حقها في التمتع بالحريات التي يتمتع بها شريكها الرجل.
كل هذه الأنشطة والفعاليات صحيحة بل ومطلوبة، وجميع تلك المطالب لها ما يبررها، طالما ما تزال المرأة أسيرة القيود التي فرضتها عليها ظروف مختلفة، لا يمكن إغفال مساهمة الرجل فيها، ولولاها ما نجحت المرأة أيضاً في الوصول إلى ما وصلت إليه أو نيل ما نالته، رغم أن كل ما حقته لا يزال دون طموح أي حركة نسائية تناضل من أجل الوصول إلى مساواة الرحل بالمرأة. لكن، وفي غمرة النضال من أجل انتزاع المزيد من الحقوق النسائية، يغيب عن أذهان المخلصين لقضايا المرأة، من رجال ونساء، قضية نسائية في غاية الأهمية والتي هي، أن المرأة أولاً وقبل كل شيء إنسان من لحم ودم لها شعور وأحاسيس تتفاعل من خلالها مع القضايا التي تواجهها كل يوم في مجتمعنا برجاله ونسائه.
وبعيداً عن المجردات، ودون التحليق في أوضاع النساء على المستوى العالمي، بوسعنا أن نطرق قضيتين أساسيتين محليتين لا تزال تعاني منها المرأة البحرينية، رغم كل المكاسب التي حققتها الحركة النسائية البحرينية، بفضل نضالات وتضحيات نساء بحرينيات رائدات، لا يتسع المجال هنا لسرد أسمائهن.
المسألة الأولى هي حق المرأة البحرينية في منح جنسيتها لأبنائها من بنين وبنات.
كيف بوسعنا أن نتحدى ونقتل الأحاسيس الإنسانية عند أم تجردها قوانين بلادها من نقل جنسيتها إلى الجيل القادم من أبنائها.
والأمر لا يتعلق بالأحاسيس الإنسانية تجاه الأبناء، بل يسبقها تجاه الأب. فالنتيجة المنطقية التي تقود إليها هذه الحالة ” اللا إنسانية” هو إجبار الفتاة، وهي في عز شبابها أن تكبح عواطفها وأن تدفنها تجاه كل من هو «غير بحريني» خشية من مستقبل «أسود مظلم» يتربص بالأبناء.
وإذا ما تجاوز «العنصر الرومانسي» في العلاقة، على الرغم من أهميته إنسانياً، تبقى أمامنا القضايا الأخرى التي لا تستطيع المرأة البحرينية الراغبة في الزواج من غير بحريني أن تقفز فوقها. هناك أمور معقدة بانتظار الأبناء من الأب غير البحريني، من مثل اضطرار الأم لتجديد «سمات الدخول والإقامة»، وبعد ذلك استخراج «رخص العمل لأبنائها الأجانب». وهناك قائمة أخرى من المتطلبات التي تفقد العلاقة الزوجية بعدها الإنساني وتحول البيت ذي «الزوج الأجنبي»، ولأسباب خارجة عن إرادة الوالدين، إلى جحيم لا يطاق بدلاً من أن يكون “عش الزوجية الجميل”.
المسألة الثانية، هي قانون الأسرة، الذي لا يزال يترنح في دهاليز القنوات التشريعية دون أن يرى النور، حتى في آخر النفق.
ليس المجال هنا الدخول في مجادلات فقه قانوني، ولا في حوارات شرعية، فهذا يجر موضوعنا الإنساني نحو مدخل آخر لا نرغب في ولوجه.
من المنظار الإنساني المحض، أكثر ما تخشاه المرأة البحرينية أن تجد نفسها أمام قانونين للأحوال الأسرية كل منهما يعالج قضايا المرأة على نحو مختلف. الأمر الذي يشطر المرأة البحرينية، معها بالطبع المجتمع البحريني إلى شطرين غير متكاملين.
حينها، لن تملك المرأة البحرينية، وحرصاً منها على تحاشي «الشطر»، من القبول بما يوضع أمامها. من المتوقع أن تضحي المرأة بمطالبها المشروعة، على مذبح الحفاظ على وحدة المجتمع والحيلولة دون تشرذمه.
هذه الحالة تذكرنا بقصة نبي الله سليمان مع المرأتين اللتين ادعت كل منهما أمومتها لطفلة، لكن عندما قرر، لحكمته، شطر الطفلة إلى شطرين، انبّرت الأم الحقيقية، كي تتنازل عن طفلتها، كي لا يشطرها سيف الجلاد، حتى وإن أدى ذلك إلى حرمانها من فلذة كبدها.
ينبغي أن لا نستبعد أن تقبل المرأة البحرينية وأمهات الحركة النسائية، بأي قانون، طالما أنه لا يشطر البحرين إلى نصفين.
هاتان المسألتان، ليستا، ومن الخطأ أن تكونا بديلا لمطالب الحركة النسائية، أو حرفاً لمسار نضالاتها، لكنها إشارة لربط بين المطالب النضالية والقضايا الإنسانية، ولربما أفضل صيغ النضال هي تلك القادرة على صهر الإنساني في بوتقة النضالي، والعكس صحيح أيضاً.
هذا الصهر التكاملي هو الذي ينزع عن الحركات النضالية، ويحتفظ فقط بردائها الإنساني، وهو أرقى رداء وأكثرها مناسبة لأية امرأة عصرية مناضلة.
الوسط 8 مارس 2009
مؤتمر تكافؤ الفرص.. والحاجة لفهم مغاير!
في البحرين عقد منذ أكثر من أسبوعين مؤتمر المواطنة وتكافؤ الفرص، والذي دعت اليه ست جمعيات سياسية، هي الوفاق والعمل الإسلامي والعمل الوطني والمنبر التقدمي والتجمع القومي والإخاء الوطني، فيما غاب عنه احد المدعوين الرئيسيين والذي تيقنا لاحقا أنه السلطة التنفيذية، كما غاب إعلامنا الرسمي عن متابعة هذا الحدث الهام، وحضر الإعلام الأهلي والصحافة المحلية إلى جانب فضائية عربية شاركت حتى اللحظة الأخيرة منه في نقل وقائع الحدث. مؤتمر المواطنة هذا والذي تأخر تاريخ انعقاده قرابة الشهر بسبب الأحداث المؤلمة في غزة ، حيث كان مقررا له بداية أن يعقد في الأسبوع الأخير من شهر يناير الماضي، جاء ليقدم دليلا من جانب تلك القوى في القيام بدورها على طريق تحقيق الشراكة في إدارة شؤون الوطن، حيث أكدت وبرهنت كل تلك الجمعيات التي شاركت ومن خلال طرح رؤاها على حسها المسؤول وذلك من خلال الأوراق القيمة التي تمت مناقشتها في قضية تعتبر من بين الأبرز على الساحة السياسية، والتي لا تخلو من تعقيدات مركبة بحكم تشابكها وإسقاطها على أكثر من ملف وقضية متصلة بها، لعلنا نذكر من بينها ملف مفهوم المواطنة بكل إرهاصاته الضاغطة وملف التمييز أيضا بكافة تفاصيله وكذلك انعكاس ذلك على ملف مهم آخر هو ملف التمييز ضد المرأة والذي يتداخل مع ملف يعج هو الآخر بسوء الإدارة وتسعى الحكومة ذاتها لوضع حلول جذرية له وهو ملف الأحول الشخصية. تلك الملفات تمت مناقشتها في ذلك المؤتمر وتحت سقف واحد بحضور أطياف ذات تلاوين متباينة استشعرت فيما بينها هاجسا ضاغطا ومقلقا فتداعت بحكم مسؤولياتها للبحث فيه ووضع الحلول له هذا كل ما في الأمر، وكانت فرصة أمام السلطة التنفيذية والمؤسسات الرسمية ذات العلاقة كالمجلس الأعلى للمرأة والمجلس الوطني بغرفتيه وممثلي الوزارات المعنية أن يؤكدوا على قدرتهم على المشاركة والإسهام في وضع الحلول، كما سبق لهم أن كبروا جميعا في عيوننا إبان مناقشة القضايا الوطنية المختلفة طيلة السنتين الأخيرتين عندما قاد مسؤولو نادي مدريد نقاشات حقيقية معمقة تجاه مختلف القضايا وبحضور الجميع من ممثلي السلطة التنفيذية والجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والصحافة وممثلي القضاء والشخصيات الوطنية تحت سقف واحد أيضا، وكان ذلك شاهدا على سعة الأفق والاحترام المتبادل من قبل الجميع وبحضارية يبدو أننا قد حسدنا أنفسنا عليها آنذاك! . مؤتمر المواطنة هذا الذي عقد تحت شعار لا يمكن أن يُختلف حوله، لما له من علاقة وثقى بأكثر من بند ومادة دستورية وبميثاق العمل الوطني الذي نعيش ذكرى المصادقة الشعبية التاريخية عليه وهو «بالمواطنة الكاملة نقضي على التمييز ونحقق مبدأ تكافؤ الفرص»، والذي عرضت خلاله أكثر من ست أوراق لباحثين يمثلون الجمعيات السياسية الست، بالإضافة إلى الحوارات الموسعة التي طرحتها بعض الشخصيات الوطنية التي حضرت النقاشات، علاوة على التعقيبات الرصينة التي أثرت وعمقت مضامين تلك الأوراق، حيث تم تناول مواضيع مثل المواطنة وتكافؤ الفرص والتمييز ودور مؤسسات المجتمع المدني وقضايا الأقليات والمرأة وحقوق الطفل والحريات وحقوق الإنسان والجوانب الشرعية ذات العلاقة، إلى جانب دراسات معمقة حول بعض التجارب الناجحة في دول سبقتنا ووضعت لنفسها تحصينات تشريعية وقانونية نزولا عند مصالح مجتمعاتها، وكان مؤملا أن تحظى تلك النقاشات بتداخلات وردود السلطة التنفيذية وربما تفنيدها وتوضيحاتها على ما قدم من رؤى وأفكار كانت جلها مهمومة بالشأن العام وكيفية تحقيق معالجات ناجعة لها، انطلاقا من تلك المحاور السالفة الذكر، وأعتقد جازما أن حضور ممثلي السلطة التنفيذية وبقية الرسميين المعنيين فيما لو تحقق لمثل تلك المؤتمرات فان من شأنه أن يكرس الكثير من الأمور الايجابية ويبلور مفاهيم أكثر رشدا وتعاطيا مسؤولا بصورة متزايدة حتى لدى القوى السياسية والمدنية مع الوقت، ويسهل من مهمة إدارة القضايا والملفات العالقة، والتي نعلم أنه لا يخلو منها أي مجتمع مهما بلغ من مثالية وحسن تنظيم، وفي هذا مكسب بل مجموعة مكاسب يمكن تعظيمها بكثير من الممارسة، ويريح البلد من كثير من الاحتقانات بدلا من ترك القوى السياسية تحدث بعضها بعضا، فهذا ليس من الشراكة في شيء. وبالمثل فان ذلك ينطبق على العديد من القضايا والملفات العالقة دون حلول، واذكر هنا انه مع تدشين ميثاق العمل الوطني كانت هناك مؤتمرات وعمل مشترك بين الدولة من جهة ومختلف القوى السياسية والمدنية والنقابات والجمعيات المهنية والتجار والمختصين من جهة أخرى، حول ملفات مثل البطالة وملفي تنظيم سوق العمل وصندوق العمل وكذلك جودة التعليم، وكان الجميع يشعرون بالمسؤولية والفخر معا، وبأنهم على الطريق الصحيح الذي دشنت له مضامين الميثاق، فما الذي جرى، فملفات مثل تنظيم سوق العمل والبطالة كانت مجرد مناقشتها كفيلة بإثارة زوابع وغبار، إلا أن القوى السياسية كانت قد برهنت على حسها المسؤول حين تم التعاطي معها، أملا في بلوغ حلول يكسب منها الجميع وهذا ما تم بالفعل فقد تراجعت البطالة بشهادة الجميع إلى أدنى المستويات بعد أن وضعت لها الحلول بل أن ذلك أضحى أمرا إيجابيا تتحدث عنه الحكومة بفخر في المنتديات الإقليمية والدولية ، كما يتم الآن تنظيم سوق العمل بكوادر وجهود بحرينية، ويأخذ صندوق العمل دوره في تمكين أبناء الوطن جميعا دون تمييز وفتح آفاق العمل والتوظيف أمامهم.
8 مارس 2009
صحيفة الايام