يستفزنا الأخ سعيد الحمد أن نشعل ذاكرتنا بخشب الصنوبر في ليل جبلي بارد , وفي مدفأة تجعل تلك الغابة الشاسعة المظلمة من الذاكرة أكثر وهجا. هكذا كلما جلست في فراغ الوحدة استعيد حياة مليئة بحكايات خصبة ربما لا يفهم ولا يدرك رائحتها إلا جيل عاصر ذلك الزمن , ولكننا لا نحرم أو نقلل من مخيلة الجيل الشاب بالدخول إلى تلك الغابة الباردة ويلتقط أخشابه لكي يتدفأ من حطب لم يجف عن برودته ورطوبته . ما زلت اقلب كل حكاية وأسجل عنوانها , وكلما اجلس إلى مكتبي وافتح اللاب توب أرى إن الوقت لم يأتِ بعد للشروع في تلك التجربة الطفولية والمراهقة والشباب الشيطاني , والدخول في غمرة الحياة الصعبة والعبور نحو البحر المجهول . كلها تجارب ليست بعيدة عن جيلنا وقد تبادلنا نكاتها وضحكنا من القلب لها وفككنا دلالاتها الشعبية , وفي غمضة عين لامس ذلك الوهج الجميل دفء الشتاء . لم تكن الفصول تمنعنا عن المغامرة مهما كانت الموانع , مثلما لم تكن فتيات ذلك الوقت يقبلن بأن يسجن خلف جدران البيت , فقد تسللن بطرقهن , مثلما صارت ضلفة الباب والنافذة والسطح مخارج للتعبير والتراسل العاطفي وعشق الكلمات المخبأة في الورق , فكم كان للكلمة الواحدة معنى وكم كان للسطر اليتيم حياة كبيرة. كل فتيات الزمن الأول عندما كان العريش أو الحضار عبورًا للضوء وللهمس , عشن النساء مشغولات في ثرثرة الحوش , والأمهات يصرخن على بناتهن وهن يلامسن بهمسهن إذن الحبيب , وحالما يخرجن النساء من ذلك البيت يبدأن في الهمس على جارتهن , فصخت البنت كله يالسه عند الحضار وكل يوم واحد , صافه لنا مصبنة الفريج , هكذا تتم الشائعات ولعبة الحديث الذي كانت تسلية النساء , ولكن فطوم بنت الأكابر ببيت وجدار مطوق من الطين في ذلك السطح البارد , وثقوب يمر منها الهواء لعل صيفنا يجعل من نومهن رغيدًا وناعماً , بأحلام الصبايا اللاتي لتوهن نضج عنقودهن وقد نعت الحي فطوم باسم سري , عنز السطوح , لكونها كانت طوال الوقت تعيش هناك تبصبص على طابور الصبية والشباب , وقد كان يفرحها أن تقذف بوريقة صغيرة كتبت عليها مفردات الأغنيات , وكان كل واحد يتلقى من فتاة السطوح ورقته , ومفرداته , ولم يحاول يومها كل شخص إن يقول للآخر إنها تحبني , أنا أيها المغفل , فقد كانت ملعونة وشيطانة وذكية كبنية غادرت وقتها المدرسي المبكر , فلم يكن لدى عائلاتها إلا إخراجها من المدرسة وتزويجها بسرعة وترحيلها لدول الخليج المجاور , فمرة فضحتنا , جملة صارت أمام الناس وباتت عادية , ويا ليت الفضيحة كانت بحجم حكاية قيس وليلى . أنها مجرد شقاوة ذلك العمر وعذرية الكلام وبراءته , فكم كانت في ذلك الزمن والعمر تفرحنا مجرد مفردات بريئة , ظلت فطوم نكهة الحي , فكم كان كل واحد منا يتمنى أن تحبه تلك الشمس الدافئة في أيام شتائية عرفتها البحرين , دفء بلا هواء الشمال البارد ولا أمطار غزيرة تغرق بيوتنا, حيث يخرج الناس إلى البر البعيد !! إذ يتداخل شتاؤنا بربيعنا فلا نجد فواصل للأيام والأسابيع . هكذا يداهمنا موسم الحب والغناء والغزل , فبإمكان, عنز السطوح , التمتع بخيالها وأوراقها , فقد قررت أن تختار شخصا آخر , وكعادتها تضع اللازمة المعهودة , لا تخبر أحدا ولا تصدق أحدا فكلهم سيقولون عني إني أحبهم . فأنت معبودي الأول. آه من هاتيك الكلمة , معبودي الأول !! حتى وان كنا لا نعرف ما معنى المعبد ولأننا كنا نرددها كالعميان فقد ظللنا نشعر أنها كلمة رومانسية يوم ذاك , تلهب نارها قلوبنا المتعطشة . صارت عنز السطوح حكاية الجميع وحبًا وحلمًا للجميع , مثلما ظلت وريقاتها الجميلة انتظار لم يأتِ . من أين جاءت مفردة عنزة السطوح ؟ فجيلنا الجديد المحاط بفيلل مسورة وبيوت تحيطها جدران مرتفعة , لن يدرك ان في ذلك الزمن كانت بيوت كثيرة بحظائرها وعنزاتها , وحوشها الكبير , وإذا ما خرجت تلك الأغنام من حظائرها ولم تجد الباب مفتوحا تصاب بخيبة الأنثى , فكم كانت طرقات الحي عشقهن وان لم يخرجن تلك العنزات , فان السلالم المؤدية للسطح تصبح ملاذهن الدائم , حيث تمتعها تلك الحرية الصغيرة بالتجوال فلا نسمع إلا صوت اضلافها التي طالت , كأنها فطوم السجينة في تلك الدار , والتي وجدت في السطح حديقتها والوريقات المتطايرة من فوق رقصتها الصبيانية , فكم تقافزنا لعل الورقة , السرية لأحدنا , فمن منا يوم ذاك لم يحب عنز السطوح التي سمعنا من أمهاتنا عن جمالها وعن أمنيات كل رجال الحي ( الفريج ) بالزواج منها , ويا من حظي وفاز بذاك القمر , فإنها ساعة المباركة , جمال ودلال وحسب ونسب . في تلك الجمل الشاعرية تتحفنا الأمهات بقصصهن عن الأحلام والأمنيات عن هاتيك البنية . عند تلك السفرة وقت الغداء والعشاء تتكرر الحكاية وبأن فلان تقدم لخطبتها ولكن العائلة لم توافق , وبأن سبب الرفض تم التكتم عليه , ولكن صديقات أمها المقربات استطعن معرفة سر الرفض , «يا حسره , على ماله ونسبه بس قصير ويمشي يضولع «, ويبدأن في خلق المزيد عما سمعن وتتناثر أشلاء القصة فوق فضاء البيوت كالدخان , فنفرح لكونها لن تتزوج , ونعيش بذلك الحلم العاطفي الخفي. لم تعرف كل أم تسرد الحكاية إن ابنها الصامت , السكيتي , هو من تلقى ورقة تاريخ مشنقته فهو معبودها الأول !
صحيفة الايام
22 مارس 2009
عنز السطوح!
من يحاسب المسؤول؟
التطور الإداري ليس إصدار قوانين وتشريعات وربط العملية الإدارية بالتقدم العلمي التكنولوجي وتنظيم الهياكل الإدارية فحسب, وإنما هو أيضا تحقيق مواءمة بين مهام الدولة وحاجات المواطنين وبين البنى الإدارية ووظائفها ومهامها والنهوض بالعملية الإدارية على أسس حديثة وعصرية تعتمد الرقابة والمحاسبة واختيار الموظف المناسب وتأهيله إداريا وعلمياً بمعنى الاهتمام بالعنصر البشري وبدوافعه وحوافزه وإشباع حاجاته ورغباته المادية والمعنوية بشكل يتناسب مع الجهد المبذول ومع كفاءته الإنتاجية ومؤهلاته ومهاراته وقدراته الشخصية وإبداعه وخبرته العملية.
والبحرين خبرتها طويلة في المجال الإداري, ولدينا من الإداريين الأكفاء تبوءوا وبجدارة وظائف إدارية عليا وحققوا نجاحات باهرة لإدارتهم بأفضل الطرق والأساليب فعالية وإنتاجية. ومع ذلك حاجتنا للإصلاح الإداري حاجة ضرورية ولاسيما على صعيد تحديث القوانين والعقليات واعتماد المساواة ومبدأ تكافؤ الفرص واختيار الموظف المناسب في المكان المناسب.
ومن هنا وحينما نقول إننا في أمس الحاجة لهذا الإصلاح نعني من ذلك من المهم ان نكافح المحسوبية والازدواجية والبيروقراطية في المؤسسات الحكومية والخاصة وان نعالج التضخم الوظيفي في هذه المؤسسات ونعمل جاهدين على تذليل المعوقات الإدارية لتأمين خدمات المواطنين بسرعة وكفاءة, وكذلك لابد من تفعيل لوائح الجزاءات من عقوبة وثواب.
بالطبع هناك من الإداريين في هذه المؤسسات اقل ما يقال عنهم إنهم ليسوا في المكان المناسب. وبالتالي كيف وصل هؤلاء الى الوظائف الإدارية العليا لا تدري؟!! احد الموظفين المتضررين من هكذا إداريين قال: في قاموس هؤلاء الولاء للمسؤول يختصر عليك الطريق للوصول إلى أفضل الوظائف.. واما اقصر الطرق فهو الولاء الطائفي والمذهبي والعقائدي. وقال أيضا: ان الشلة المحيطة بالمسؤول اذا رضت عليك كسبت المسؤول والعكس صحيح, ومن هذه الطرق أيضا اذا كانت اهتماماتك وهوياتك و”عيارتك” تتفق مع اهتماماته وهوياته و”عيارته” بالتأكيد كل الطرق تبدو لك مفتوحة: ومن الأمثلة على ذلك هناك مسؤول مولع «بالحداق» والرحلات البحرية وهناك من يهتم «بالكرة» وهناك أيضا من لديه عقارات و”بزنس” والشلة هي العلاقات العامة لهذا «البزنس» وهي تحظى على نصيب الأسد من الترقيات والعلاوات والدورات و” البونس” في حين من هو خارج هذه الشلة «عليه العوض» حتى لو كان على قدر كبير من التفاني والمؤهلات والتدريب والخبرة العملية والمبادرات, وبعبارة أخرى لا حماية إدارية له وربما لا استمرارية في وظيفته طالما هو خارج السرب, وطالما الشلة لم ترضَ عليه وبالتالي من يحاسب المسؤول؟؟ نعم هكذا تساءل: من يحاسب المسؤول اذا ما ارتكب أخطاء فادحة بحق اي موظف كان؟ هناك لوائح للجزاءات وهناك عقوبات رادعة تضمنتها هذه اللوائح, ولكن وعلى سبيل المثال الى الآن لم نسمع عن مسؤول تمت محاسبته بسبب التمييز الوظيفي!
بالمختصر .. حاجتنا للإصلاح الإداري ضرورية وضرورة مستمرة والحاجة هذه ليست هي فقط تحديث القوانين وإنما العقليات أيضا.. العقليات التي لا تزال تعتقد أنها فوق القانون.
الأيام 21 فبراير 2009
لا أفهم غير هذا اليسار
لا أفهم أن يكون تنظيماً ما يساريا دون أن يدافع عن حقوق الناس, ويتبنى مطالبهم, ويخفف آلامهم, وينادي في كل مكان باسمهم. لا افهم أن تكون هناك قيادة لتنظيم يساري لا تؤازر الناس, ولا تدخل قراهم ولا منازلهم, اياً كانت هذه القرية وأيا كان هذا المنزل.
أليست هذه أهم مبادئ اليساريين في جميع أنحاء العالم, يطالبون بحماية أرزاق الناس, ويرفعون شعارات الفقراء والعمال والفلاحين والصيادين.
إذا لم يكن هذا التنظيم يدافع عن الناس فلا معنى له ان يدعي اليسارية, وإن كان حقاً يعتمد على هذه المبادئ فإن اليسارية تدعوه أن يكون في سترة وفي الحد, في الدراز أو قلالي, لأن الطائفية لا تتخلل إلى جسمه, لأن كل خلاياه التنظيمية لم تعرف يوماً ما قطرة من المياه المتشابهة مع أطياف اخرى, إذا كانت هذه القطرة بها شائبة واحدة بعيدة عن الوطنية والانتماء الوطني, ومعكرة بالطائفية.
وهذا محل فخر لتنظيم له تاريخ سياسي فاق الخمسين سنة, لم يحمل على ظهره إلا آلام الناس وأحزانهم, ويدافع عن أراضيهم, ليس من الآن فحسب, بل مازال أعضاء كتلة الشعب موجودين على قيد الحياة, ويمكن ان نسألهم لماذا أصروا على فتح ملف الأراضي وتسجيلها.
ان «اليسار» لا يتهاون في الدفاع عن أي مكان لرزق الناس, ومستعد ان يمد يده وتتشابه مياهه في الدفاع عن الناس, دون ان تخالجه قطرة عكرة تدعى الطائفية. اليسار هو الجسر بين المذاهب, ولكنه لا يمكن ان يتغاضى عن ما يحرم الناس أرزاقهم. عندما نضع أيدينا مع أيدي الناس وننزل من بروجنا سنستشعر آلامهم, فشتان بين من يده في النار ومن يده في الماء.
الأيام 21 فبراير 2009
هل تتفقون معي؟!
لعلكم تتفقون معي بأن الكثير من المشاكل والأزمات التي تغمر واقعنا المحلي الراهن معظمها ميسور الحل, فقط لو كانت الإرادة حاضرة, والرغبة في المعالجة قائمة, والنوايا صادقة, والجدية واردة, وسياسة النعامة مستبعدة. ولعلكم تتفقون معي أن هناك ولدواع معلومة, من يريد وبإصرار أن يكون مجتمعنا مليئاً بالأجواء والمناخات الباعثة على القلق الحقيقي, خاصة باختلاق المشاكل والمشاحنات واتخاذها ذريعة لإحداث ضجة مفتعلة تشغل الناس وينشغل بها الرأي العام. وربما تتفقون معي أيضاً أن جزءاً من مشاكلنا إن لم تكن الجزء الأكبر هي من ذلك النوع الذي يثيره ويقف خلفه ووراءه ممن يدعون احتكار الوطنية وينكرونها على الآخرين, أو من بعض من سخروا مواقعهم لغايات وأغراض ودوافع ذات صلة بصراعات أو نفوذ أو مصالح خاصة أو فئوية أو مناطقية أو طائفية ومذهبية, كما إن هذه المشاكل قد تأتي من فئة من المسؤولين ممن نجحوا بامتياز في شرعنة اللامبالاة إزاء هموم الناس ومتطلباتهم. وأرجو أن تتفقوا معي على أن أخطر ما يحدث في ساحتنا المحلية, هو أن تصبح الخلافات والاختلافات والتجاذبات أكثر فائدة لمصالح من يغذونها ويبثون سمومها من التفاهم فيما بينهم على وضع حد لها, فهواية هؤلاء لم تعد مجرد دفاع الواحد منهم عن مصالحه تجاه الآخر, بل باتت تشكل احترافاً لتأمين تلك المصالح, وبات كل رأي, وكل طرح, وكل موقف من هؤلاء مهما غلف من شعارات تتلفع بالمصلحة العامة, أو الوطنية, هو مشروع أقل ما يمكن أن يقال عنه بأن يثير عوامل القلق والالتباسات والشكوك والاتهامات بين المواطنين أكثر مما يعبر عن هاجس الرغبة في وحدة الشعب والوطن.
والمؤلم جداً أننا أصبحنا نرى أن كل قضية وطنية صرفة قد تحولت بقدرة قادر إلى مشروع طائفي ومذهبي, ووجدنا ممن يعلنون بأنهم ضد الطائفية هم أنفسهم الذين يتسلحون بها, ويسعون الى أن يكون الوطن جزراً متقطعة الأوصال, ويوسعون حلقات الضلال والفساد ومستنقعات الفرقة والانقسام.
هل يكفي إذا ما أردنا أن نرصد بعض ما شهدته ساحتنا المحلية في الأيام الأخيرة والمعبر عن وجود من يتفنون في صناعة الالتباسات, أن نقف عند حمى طلبات رفع حصانة بعض النواب التي من الواضح أنها جاءت رداً على خلفية طلب رفع حصانة النائب السعيدي, وهو أمر وراءه بعد لا يخلو من النفس الطائفي, وكأن نوابنا أو من يقفون وراء التأزيمات الحاصلة في واقعنا أبوا إلا أن يؤكدوا لنا استمرار نهجهم في المقايضة, وفق مقولة ” واحد منا وواحد منكم “.. !!, تماماً كما حدث في السابق على خلفية استجوابات بعض الوزراء, اذا أردنا حقاً أن نصوب الأمور ونمضي في الطريق الصحيح وليس على طريق «حق يراد به باطل»..! ان رفع حصانة أي نائب, أو استجواب أي وزير, أو مساءلة أي مسؤول, أو محاسبة أي من أصحاب المقامات الرفيعة, لا يجب أن تخضع لمناورات أو ابتزاز أو مقايضة, أو اعتبار ذلك خطاً أحمر. واذا كنا نستطيع أن نستدعي من ذاكرتنا التي تختزن صوراً مكدسة من صور هذا الواقع المأساوي, فإننا لا نجد مناصاً من الإشارة, مجرد إشارة إلى الإشكاليات والمعوقات والمناكفات التي مازالت تواجه لجنة التحقيق النيابية في أملاك الدولة, وجعل المجلس النيابي عاجزاً عن القيام بدوره الرقابي. أما تضييق هامش الحريات, والمحاكمات الجارية لصحافيين وكتاب وهم يساقون إلى النيابة والمحاكم, فهي مشكلة من جملة المشاكل التي بات علينا أن نتصدى لها وبقوة حفاظاً على مستقبل حرية الرأي والتعبير, كما لابد من الالتفات إلى تلك المشاكل التي تتصل بإصلاح القضاء وضرورة رفع جاهزيته وكفاءته لضمان سرعة تحقيق العدالة, إلى جانب مشاكل ذات صلة بالعنف والعنف المضاد في الشارع البحريني, ومشاكل الفساد والتعدي على المال العام, عموماً المشاكل التي يزخر بها واقعنا كثيرة ولكننا نعود ونقول إن الكثير منها ميسور الحل فقط لو كانت الإرادة حاضرة, والنوايا صادقة, والجدية واردة, وسياسة النعامة مستبعدة.
الأيام 20 مارس 2009
تغييرات سياسية على حساب التجار
ترافقت رأسمالية الدولة مع رأسمالية التجار التي كانت أسبق منها ووضعت أسس النظام الاقتصادي، وتنامت رأسمالية الدولة عبر تدفق فوائض النفط، وضخت أغلبها في بنيتها الكبيرة، وتسربت أجزاء منها في السوق المحلية.
تم وضع أسس النظام السياسي على أساس احتكار هذه الملكية الرأسمالية الحكومية، للمال العام، ثم راحت هذه الملكية العامة تستنزف بدلاً من أن تتنامى وتتطور، فلجأت للمشاركة مع رؤوس أموال أجنبية، وترنحت شركات كبيرة وتفككت بسبب الفساد، وتجمدت الميزانيات ثم تراجعت، وتعمقت الاستدانة، وتنامت القوى البيروقراطية داخل هذه الملكية (العامة).
وبدأت سياسة احتكار الحكومة للمشروعات الكبيرة تتصدع، فظهرت شركات خاصة في مسائل كانت محتكرة كالطيران.
ثم جاء (الإصلاح) الاقتصادي على حساب رؤوس الأموال الخاصة، مركزاً على تغيير نسب العمالة الأجنبية وعملية الإحلال للعمالة البحرينية.
إن التركيز فقط على مسألة العمالة يغيب طابع الإصلاح الاقتصادي الشامل، فهو يجعله في يد وزارة أو مؤسسة عامة، بدلاً من أن يكون ثمرة تعاون بين كل القوى والفاعليات السياسية والاقتصادية الرئيسية.
فالبرلمان غير قادر للوصول إلى فهم عمل المؤسسات الاقتصادية العامة وأرقامها، وهي تفلت من بين أصابعه لأسباب كثرة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعدم وجود لجان متخصصة في درس هذه الملكيات وجعلها موجهة حقاً في خدمة الاقتصاد الوطني وحاجات المواطنين.
وكان أسهل إجراء هو فرض رسوم وكأن فرض الرسوم رغم أهميته سوف يؤدي تلقائياً إلى تغيير نسب العمالة الأجنبية واكتساحها السوق.
ورغم الرسوم فإن العمالة الأجنبية زادت، ولم تتطور كثيراً نسب البحرنة!
إن الإدارة البيروقراطية الحكومية وظلالها الاجتماعية الكثيرة، تستفيد من العمالة الأجنبية وخاصة من فئاتها العليا التي تستأجر البيوت والفلل الفخمة، ومن الفيز المفتوحة ومن المشروعات الاقتصادية الخاصة التي تستجلب مزيداً من العمالة الأجنبية.
هناك نمو للعمالة المحلية ونقص في البطالة لكنهما لا يصلان إلى تحول كبير.
إذن الفئات البيروقراطية والفئات المتشابكة المصالح بين بعضها هي التي استفادت بقوة من (الإصلاحات).
لا يزال النفط هو أساس الدخل وهو بيد الشركة الحكومية.
لماذا تصر الحكومة على أن يتحمل التجار فاتورة الإصلاح الاقتصادي وهم لا يُسمح لهم بدخول بحر الثروة الأساسية؟
لا نعرف كيف تجري المناقصات وإرساؤها ولماذا ترتفع مجموعاتٌ محددة وتنتشر على السواحل والجزر مقيمة الأصرحة الكبيرة وبحر التجار والصناعيين مُبعد عن ذلك؟
لا يزال الاقتصاد العام وظله الخاص في دائرة الغموض الشديدة من دون أي شفافية.
لا توجد دراساتٌ اقتصادية تبين كمية الدخول عبر العقود المالية السابقة وهل هي مطابقة للرأس المال الحكومي الحالي المكون من أبنية ومؤسسات وشركات وما صُرف من أجور ورواتب؟
أما التغييرات السياسية التي يفترض أن تـُبنى على هذه الإصلاحات الاقتصادية فهي جاءتْ على حساب التجار والصناعيين وأرباب العمل عموماً، فلا توجد كتلة مهمة أو مجموعة ولو صغيرة في مجلس النواب معبرة عن هذه القوة الاقتصادية الكبيرة.
أما مجلس الشورى الذي يتكون من بعض الفاعليات الاقتصادية فهو مكون من أعضاء معينين فيفقد التجار حضورهم الديمقراطي المنتظر واستقلالهم السياسي.
فمن دون تغييرات حقيقية في الملكية العامة، ومن دون حضور صوت الفاعليات الاقتصادية والبيوتات التجارية ومشاركتها في النقد والتضحية، داخل المجلسين، لا يمكن أن يحدث إصلاح اقتصادي جوهري، ويزداد الأمر سوءا بجعل وإدارة مسألة الإصلاحات على حساب الرأسمالية الخاصة، فهي التي تنافس من قبل الشركات الحكومية بشدة، ينتظر منها كذلك أن تصلح ما كونته تلك الرأسمالية (العامة) وما راكمته من جمود اقتصادي وأخطاء هيكلية!
ثم يتم الإصلاح فوق ظهورها بشكل مادي كذلك، ويتدفق من دون علم لمساربه ودوره.
يقولون ان مسألة حضور الفاعليات الاقتصادية الخاصة سياسياً وانتخابها بسبب عدم شعبيتها، وغيابها عن الفعل السياسي، لكن أليس هذا يرجع لمحدودية التجربة وتوجهها لتصعيد ما هو طافح، وشعبوي مليء بالشعارات، لكن غير الواعي بالملكية العامة ومشاكلها؟
إن تحميل الرأسمالية الخاصة أثمان فشل وجمود بقية القوى الاقتصادية والاجتماعية وهي الناجحة في ميدانها الاقتصادي الخاص، يؤدي عملياً إلى استمرار المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فلابد من إصلاح اقتصادي عميق وجعل السوق حرة بشكل فعلي وليس مسيسة وخاضعة لتوجهات البيروقراطية الحكومية.
أخبار الخليج 20 مارس 2009
يوم المرأة العالمي ونضالات المرأة البحرينية
بحسب ما تناضل المرأة البحرينية في (يوم المرأة العالمي) الذي يصادف الثامن من شهر مارس من اجل التمكين السياسي والتمكين الاقتصادي.. فإن هذه المرأة تكافح في (عيد الأم) الذي يصادف الحادي والعشرين من الشهر ذاته من اجل التمكين التربوي والتمكين الأسري في ظل مطالبتها بتشريع مشروع حضاري وعصري وتحرري.. وهو مشروع قانون أحكام الأسرة على غرار قوانين الأحوال الشخصية المتحررة والمتقدمة في كل من مصر وتونس ولبنان.. ومثلما ناضلت بأروع تضحياتها وإبداعاتها وعطاءاتها، ولو بقلة عددها ولكن يظل هذا العدد بمقاييس نوعية ومعايير كيفية، ابرزت مواصفات ومعايير المرأة الواعية والمثقفة والمستعدة للتضحية، في مواجهة المجتمع الذكوري والأبوي، وكذلك نقد الممارسات المنغلقة لتيار الإسلام السياسي، ومحاربة الموروثات الاستبدادية والتقاليد المغلوطة.. وتألق هذه المرأة بالتالي بتاريخها النضالي المضيء في حملها راية العلم والتعليم والتربية ومجالات الطب والتمريض والنضال الوطني منذ عقدي الأربعينيات والخمسينيات ومشاركتها في العملية التنموية بشكل عام، ومساهمتها في العملية الانتخابية البرلمانية والبلدية على وجه الخصوص مترشحة وناخبة في عامي (2002 و2006) لتواصل هذه المرأة اليوم بشجاعة نادرة جهودها من اجل مشروع قانون أحكام الأسرة، الذي ناضلت من اجل نيله بل انتزاعه وتحقيق تداعياته ومفاهيمه الى حيز الوجود وفي دائرة الضوء ما قبل ثلاثة عقود خلت.
هذا المشروع.. مشروع قانون أحكام الأسرة بات تحقيقه بين قوسين أو أدنى.. إلا ان قوى تيار الإسلام السياسي نوابا تحت قمة البرلمان وقوى إسلامية ومراجع دينية من خارجه حالت دون تحقيقه.. فمثلت هذه القوى الإسلامية كعادتها عقبة كأداء، من دون تحقيق أماني المرأة البحرينية، بقدر ما قدمت للسلطة التنفيذية مبررا بسحب هذا المشروع من تحت قبة البرلمان.
ولكن يظل بالمقابل وعلى الأخص بحلول مناسبتي (يوم المرأة العالمي) و(عيد الأم) ان هذه المرأة المثقفة والواعية والمدركة لحقوقها ) السياسية والاقتصادية والمدنية) تبدو مصممة على نيل هذه الحقوق، وخاصة مشروع قانون أحكام الأسرة طبقا للدستور والميثاق الوطني.. وتماشيا مع الاتفاقيات الدولية وما جاء في الاتفاق الدولي المبرم عام 1952 الذي أكد “حق المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات وفي جميع المجالات من دون تمييز”.. وايضا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966،. واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 1979 .
ليس هذا فحسب ولكن يظل أيضا ان تصميم هذه المرأة الراسخة النضج وعيا وفكرا لبلوغ غاياتها النبيلة يكمن في عقدها العزم الأكيد على مواصلة النضال ضد كل ما يمت بصلة إلى الأنساق التربوية الاستبدادية والمفاهيم الثقافية والتاريخية برواسبها المتخلفة، وبثوابت العادات والتقاليد المقولبة والمعولبة من دون تجديد وبلا تحديث، وذلك انعكاسا للتركيبة الرجولية والذكورية للبنى الفوقية وتجسيدا لأجندة خطاب تيار الإسلام السياسي.
يبقى القول صحيحا بهذا الصدد انه لا يعقل ان تتأخر المرأة البحرينية وهي في الألفية الثالثة في الوقت الذي قطعت فيه شوطا كبيرا بتبوئها منذ عقود من الزمان مواقع قيادية سياسية وتنموية وتربوية.. كما لا يجوز ان تتحكم ثلة من قوى تيار الإسلام السياسي في مصير وحياة هذه المرأة المناضلة من اجل حريتها وكرامتها وإنسانيتها، بينما كانت هذه الجماعات الإسلامية بالأمس خالية الوفاض، مفلسة المكانة الاجتماعية، بعيدة عن الساحة المجتمعية.
وفي هذا الإطار فإنه يحق للمرأة البحرينية مطالبتها بحقوقها في اي وقت وكل الاوقات.. ولهذا السبب هي تستنهض الإرادة وتستصرخ الضمائر الحية، بمناصرة ودعم قضيتها حول مشروع قانون أحكام الأسرة.. وتشحذ الهمم وتستجمع الشجاعة، من معين مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات سياسية ونسائية ومهنية، بمختلف الطرائق وشتى القنوات، ومن خلال العرائض في جمع التواقيع وبواسطة الوسائل الإعلامية من صحافة وتلفزيون، وعبر إجراء اللقاءات وتنظيم الندوات والمحاضرات والمؤتمرات حتى تصل هذه المرأة إلى هدفها المنشود ومن اجل تمكينها تربويا واسريا في إبراز مشروع قانون أحكام الأسرة إلى حيز الوجود وأرضية الواقع الملموس، بدلا من رزوحه بين أدراج السلطة التنفيذية او تحت قبة البرلمان ما بين التهميش والتعطيل.. وذلك لما لهذا المشروع من أهمية قصوى بالغة الإلحاح لمكانة وحرية المرأة حول قضايا الزواج والعصمة والطلاق والتعليق والنفقة وحضانة الأطفال وفي صون كرامتها والذود عن حقوقها.. مثلما يمثل هذا المشروع صمام الأمان لاستقرار الطفولة والنشء والعملية التربوية والأسرية.. بل القضاء أو الحد من طائلة الوصايا الأبوية والذكورية والدينية التي عادة ما تصدر عن أزواج يتظاهرون بدعم المرأة، وتنبع من أزواج يدعون الديمقراطية خارج المنزل، بينما هم داخل منازلهم يحملون في أغوار أنفسهم وعقولهم قوانين حالات الطوارئ.
من هذا المنطلق فإن هذه المرأة قد صبرت وتصابرت برزوحها تحت الاوزار الثقيلة، للانتظار الطويل حتى تنتصر إرادتها بتحقيق هدفها المقدس والمنشود مشروع قانون أحكام الأسرة.
أخبار الخليج 20 مارس 2009
مراحل تطور الرأسمالية الحكومية
تتداخل الرأسماليات الحكومية الشرقية مع أساليب الإنتاج السابقة عليها، وبعضها يقوم بالقطع مع تلك الأساليب كما حصل في التجربة الروسية والتجربة الصينية، وبعضها لا يقوم بالقطع وتتداخل أساليب الإنتاج، كما حدث ويحدث في التجارب العربية.
ورغم التداخل والتباين فإن للرأسماليات الحكومية الشرقية ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة النشوء، والثانية مرحلة التطور والاتساع، ثم مرحلة الأزمة.
مرحلة النشوء هي مرحلة البحث عن مصادر التمويل، وبناء الأسس الاقتصادية الأولى للمؤسسات الحكومية الجامعة بين المهمات السياسية والمهمات الاقتصادية، والحصول على تراكمات نقدية تشغل المؤسسات الاقتصادية، وتجمع بين مهمات عامة كبناء الجسور ومحطات الطاقة وإنشاء التعليم ومؤسساته أو تطويرها إذا كانت موجودة، إضافة إلى مهماتٍ تدخلُ في صلب البناء الاقتصادي كإنشاء المصانع.
إن اقتصاديات ما قبل الرأسمالية لها أثرٌ كبيرٌ في نشوء الرأسمالية الحكومية فهي تعبرُ عن وجودِ أو عدم وجود امتيازاتٍ للطبقةِ الحاكمة القائدة للنظام الاجتماعي المعني، وهو أمرٌ يحددُ مداخيلـَها وطرائقَ تدخلِها في إنشاء ونمو الرأسمالية الحكومية وتأثير ذلك في مستقبلها، ويحدد مدى حراك الرأسمالية الحكومية في تملك واستثمار الأراضي والمناجم وتحديد الأجور وتوزيع الأرباح وخلق التراكم الاقتصادي الخ.
إن ذلك سوف يحدد المرحلتين اللاحقتين وهما مرحلتا التوسع والأزمة.
إن الخيارات السياسية للنظام تمثل المحرك الأول، فهي القراراتُ التي تحرك توجه الأموال، ومن هنا تلعب القواعد الاقتصادية دورها في استعمال رؤوس الأموال وتوجيهها.
فلم تكن قرارات الملك البريطاني ضرب الكنيسة البابوية في القرن السادس عشر، وتشجيع نمو الرأسمالية الخاصة بقوة، تجري من دون زمني نهضة وتصنيع سابقين، أي كان لابد من فترة تراكم أولي تفصل المنتجين الصغار من فلاحين وحرفيين عن أدوات إنتاجهم، وتجعلهم يتحولون إلى عمال بأجرة متدنية، ويتراكمون في المدن، وتكون أدوات الإنتاج قد تحولت إلى الصناعة اليدوية فالآلية.
إن فترة التراكم الأولي تجمع بين تكدس ثروة من جهة وفقد العمال أدواتهم من جهة أخرى، كذلك كان تطور أساليب الإنتاج عموماً في الغرب من دون سيطرات واسعة من قبل الدول، فأعطى ذلك نموا للرأسمالية الخاصة.
في حين ان العمال يواجهون في الشرق رب عمل كبير هو الدولة، وقد لعبت انهيارات أنظمة الإنتاج ما قبل الرأسمالية دورها في تحضير العمال الفقراء المتكدسين في المدن، فتقوم الدولة باستخدامهم في مؤسساتها الشاملة.
وفي حين كانت الدولة الروسية تجمع بين يديها المصانع فإنها حررت الفلاحين من الاستغلال الإقطاعي العتيق، فأحدثت تطورات كبيرة رأسمالية في الأرياف، وأوجدت عمالة كبيرة لمشروعات التطوير الصناعية، فلم توجد هناك عوائق كبيرة تعرقل نمو الرأسمالية الحكومية التي راحت تمد سيطرتها على كل الاقتصاد بالتدريج.
في حين ان دولاً أخرى شكلت الرأسمالية الحكومية بجوار أساليب ما قبل الرأسمالية، كوجود أرياف متخلفة لم يحدث فيها إصلاح زراعي، وبقاء النساء في البيوت من دون تحولهن للصناعة، وتخلف التعليم، وهذا مما يعرقل بشكل كبير مستقبل هذه الرأسمالية الحكومية بتضييقه السوق وبإحداث قيود وكوابح على رأس المال بشكليه الحكومي والخاص.
هنا تغدو سيطرات الإقطاع مؤثرة في نمو الرأسمالية الحكومية ولجم انطلاقها.
في حين ان الرأسماليتين الحكوميتين الروسية والصينية ألغتا هذه القيود، وبوجود سوق هائلة فيهما، انطلقت قوى الإنتاج في مدى هذه الرأسمالية الكبيرة.
وهو أمرٌ كذلك يتعلق بالفوائض فوجود بقايا كبيرة لعلاقات الإنتاج السابقة يجعل تلك الفوائض غير كاملة وغير مركزة في التوجه للمشروعات التنموية.
لكن من جهة أخرى فإن السيطرة الحكومية الشاملة على وسائل الإنتاج، تقود كذلك إلى تدمير بعض هذه القوى، ولا تخلق منافسات ضرورية بين الملكيتين العامة الحكومية والملكيات الخاصة (سواء على المستوى السلعي الداخلي أو الخارجي) وهو أمرٌ يتجلى في تردي أنواع السلع المنتجة على المدى الطويل.
إن نشوء وتوسع هذه الرأسمالية يعتمدان على الموارد الطبيعية، والدول الآسيوية الكبيرة كروسيا والصين والهند واليابان لديها مثل هذه الموارد، والأهم حضور العمال بكثافة، وتقود عمليات إنشاء طرق المواصلات العصرية وشبكات الطاقة العامة الهائلة إلى جعل تلك المواد الأولية في متناول التصنيع.
وتوجهت روسيا والصين (والأخيرة أثناء حكم ماو تسي تونغ) إلى التركيز في الصناعات الثقيلة، فشكلت قواعدها ثم توقف ذلك بعد قيامها أو قيام أسسها الرئيسية. هنا تستنفد الرأسمالية الحكومية دورها المطلق، فهذه الصناعات الثقيلة هي الرافعة الهائلة للنهوض الصناعي الكبير وللنهضة القومية، وبعد ذلك فإن توسع الصناعات الخفيفة المرافقة الثانوية، يغدو أمراً بسيطاً.
وقد استغلت المواد الخام المتنوعة وقوى العمل الرخيصة، ولكن إنشاء الصناعات الخفيفة يتطلب شروطاً أخرى غير متوفرة في هيمنة الرأسمالية الحكومية المطلقة.
في اليابان كان نوعا الملكيتين عاملا مهما لتناسقهما معاً، وفي الصين تمت إزاحة رؤية ماو المتحكمة في التطور الاقتصادي، ونشأ القطاع الخاص بتوسع وركز في الصناعات الاستهلاكية، وفي روسيا حدثت إعادة البناء وظهر القطاع الخاص عبر عملية انفجار سياسية.
أخبار الخليج 18 مارس 2009
مراحل تطور الرأسمالية الحكومية (2
))
كانت عملية التطور الرأسمالي اليابانية نموذجية لدول آسيا والعالم المتخلف عموماً، بسبب تناغم تطور الرأسماليتين الحكومية والخاصة، وتعاضدهما لتكوين الصناعات المختلفة، في حين مثلت روسيا نموذج النزاع الكبير بين هاتين الملكيتين.
ووجود الملكيتين الحكومية والخاصة يتيح مستوى من العلاقات الديمقراطية بين هذين الشكلين من التملك، وكلاهما تملك رأسمالي، لكن الأول يتسم بسيطرة السياسة، وبغياب الديمقراطية، وهيمنة القوى البيروقراطية التي قد تنفذ منها قوى ما قبل الرأسمالية أو قوى الرأسمالية الخاصة الحكومية الفاسدة.
إن الملكيتين تعبران عن قوى الفئات الوسطى المختلفة التي توصلت إلى ملكية وسائل الإنتاج، وفي حين ان الأولى توصلت لتلك الملكية من خلال سيطرتها السياسية عبر حزب أو جماعة متنفذة، فإن الثانية نمت رأسمالها من خلال نشاطها الخاص.
وإذا كانت الرأسمالية الحكومية مطلقة فإنها تفرضُ السوقَ الذي تريده، وتحددُ أثمانَ السلع بأشكال بين الموضوعية والتعسف، ولا يحدث نمو نوعي للسلع، وهذا الأمر يظهر بصورة قوية مع الانتقال للصناعات الاستهلاكية، ومع عدم وجود وسائل للرقابة المستقلة، وغياب الصحافة الحرة، فإن قوى الإنتاج تصاب بالتآكل ثم التوقف عن التطور والنمو.
كما أن التسربات المالية وأشكال الفساد البيروقراطية كلها لا تـُراقب ولا تـُنقد ولاتصحح، وهو ما رأيناه في التجربة الحكومية الروسية وما يستمر في التجربتين الإيرانية والسورية، لكن التجربة الصينية انتقلت لنشوء الرأسمالية الخاصة بشكل غير صاعق، وبشكل حثيث، متنوع، مما أدى إلى إغناء الخريطة الوطنية الرأسمالية ككل، استفادة من التجربة اليابانية، بعد أن استفادت من التجربة الروسية في مرحلة سابقة، من دون أن يعني هذا زوال الفساد.
إن الملكية العامة والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هما شكلان للتملك القانوني للملكية، ولنوعين من علاقات الإنتاج الواحدة، وفي حين إن الأولى تتم باسم الشعب والوطن، فإن الثانية تتم بأسماء أشخاص أو مجموعات بعينها.
إن علاقات الإنتاج الرأسمالية تظهر هنا عبر الصورة الأولى بشكل غير مباشر، ومع انقطاع العلاقة بين الجمهور العامل والملكية العامة التي سُجلت باسمهم وباسم الناس والوطن، تتوجه الملكية بشكل حقيقي لتكون ملكاً للقوى الإدارية الكبرى، إما بوضع اليد وإما بالبيع مستقبلاً في حالة الخصخصة أو في حالة الثورة المضادة برفع الحراسات والمصادرة أو في حالة الأفلاس الحكومي أو الفساد.
هنا يتضح المضمونُ الرأسمالي الخاص للملكية الرأسمالية الحكومية، وهو أمرٌ يستمرُ في بعض جوانبهِ سياسياً، فلا يمكن بيع جميع قطاعات الملكية العامة ذات التاريخ الاقتصادي العام، إما لصعوبة ذلك، كأن تكون هذه الملكيات نشأت فوق مصادر ثروة عامة هامة للبلد، كآبار النفط أو المناجم، وإما تكون مرافق عامة حيوية كالسكك الحديدية ومحطات الطاقة.
ومن هنا تظهر جماعاتٌ حكومية ترفض البيع الكلي لكونها تتعيشُ منها، ويواصل الحزبُ الحاكم أو الأسرة الحاكمة استغلالَ هذه المصادر العامة حسب كل مجتمع وظروفه وعلاقاته السياسية.
إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تنمو وتتصحح بالعلاقة بالسوق، وتتوجه لما عجزت عنه الملكية الحكومية أي بالتوجه للسلع الاستهلاكية، فتقوم بتطوير قوى الإنتاج، فتحدث صراعات أقل وتعاون بين الملكيتين العامة والخاصة.
لا تستطيع دول الشرق بهيمنة الملكية العامة الرأسمالية أن تكون ديمقراطية مهما تحدثت ورفعت من شعارات، ولهذا فإن تبادل السلطة والتعددية الحقيقية لا تجري إلا بخفوت هذه الملكية العامة بكل الأشكال الاقتصادية والسياسية الممكنة، وتحول الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج المصدر الأكبر للثروة، فلا يمكن لمن هو مسيطر على وسائل الإنتاج أن يعطي السلطة لغيره.
ومن هنا شهدنا سلطات البيروقراطيات الحاكمة في الأغلبية الساحقة من هذه الدول، ولم تصبح اليابان والهند دولتين ديمقراطيتين استثنائيتين إلا حين لم تعد الدول هي المسيطرة على وسائل الإنتاج.
ومن هنا كذلك فإن الديمقراطية بعيدة عن الدول الأخرى، وستظل الدول المهيمنة هي التي تحدد المسارات السياسية، إلى أن تتغير الملكيات العامة، أو تصيب مصادر الثروة الحكومية انتكاسات كبرى، أو تظهر مصادر ثروة هائلة لدى الرساميل الخاصة.
كما أن الانتقال للرأسمالية الحديثة أي للديمقراطية يتطلب ثقافة سياسية متقدمة لدى قيادات القطاعات الخاصة، فهماً لتطور الحياة وحلولاً لبعض مشكلاتها المحورية بحيث تغدو قيادات القطاعات الخاصة قادرة على التصدي لمشكلات السياسة الوطنية والعالمية.
إن هذا يحدث حين نرى مؤشرات الأزمة في الرأسمالية الحكومية: تفكك الملكيات العامة، وفسادها، وعجز الميزانيات المتفاقم، تصاعد دور البنوك والرساميل الخاصة في تسليفها وإنقاذها، وهي كلها مؤشرات على انطفاء دورها المحوري.
لا يعني ذلك عدم أهمية الخطوات المقاربة للديمقراطية في هذه الدول، فهي بمثابة الاستعدادات الاقتصادية والسياسية في وراثة دور محوري مطلق كان للدول، وصار لغيرها.
لكن عملية التحول النوعية تعود للتحول في الملكيات الخاصة وقدرتها على تصعيد الإنتاج وتنويعه وخلق فرص عمل وغيرها من المهمات الكبيرة.
أخبار الخليج 19 مارس 2009
انتفاضة مارس: الدرس الأهم
انطلقت أمس الاحتفالية التي تقيمها ثلاثة تنظيمات وطنية هي المنبر التقدمي وجمعية وعد والتجمع القومي بمناسبة مرور الذكرى الرابعة والأربعين لانتفاضة مارس من عام 1965المجيدة التي انطلقت في الأساس احتجاجاً على الإجراءات التعسفية التي اتخذت بتسريح أعداد كبيرة من العاملين في الشركة. وهو الأمر الذي هبت الطبقة العاملة البحرينية محتجة عليه, وتضامن معها في ذلك طلبة ومثقفو البلاد وكافة الشرائح والفئات الاجتماعية الكادحة, في الانتفاضة التي استمرت شهورا قدم خلالها شعبنا تضحيات غالية, حيث سقط الشهداء الأبرار من مختلف مناطق البحرين بدءا من المحرق مرورا بالمنامة وصولا إلى الديه ونويدرات وسترة وسواها من مناطق البلاد.
وفي ذلك دلالة عميقة على الوحدة الوطنية للشعب في السعي نحو تحقيق الأهداف المشتركة, وهذه كانت إحدى التقاليد الإيجابية التي تكرست في العمل الوطني في البلاد منذ حركة الهيئة, والتي استطاعت القوى الوطنية المنظمة التي نشطت في البلاد بصورة سرية ومن مختلف الاتجاهات والتيارات الوطنية الديمقراطية والقومية أن تعززها وترسخها في وجدان الشعب من خلال خطاب وطني وديمقراطي عام يربط النضال الوطني بأبعاده الاجتماعية وبالقضايا المعيشية المباشرة للمواطنين. لم تعد قضية ضد النضال الهيمنة البريطانية على البلاد مفصولة عن النضال ضد تعسف الشركات الأجنبية وضد الاستغلال الطبقي. كما بات النضال الوطني أكثر صلة وارتباطاً وتفاعلا مع نضال حركة التحرر الوطني العربية من أجل الحرية والاستقلال والديمقراطية.
واذا كانت انتفاضة مارس 1965 قد عكست الثقل العددي والنوعي للطبقة العاملة في المجتمع البحريني على خلفية الحراك الاجتماعي – السياسي الذي نشط منذ الخمسينات خاصة, فإنها قد تحولت إلى انتفاضة وطنية شاملة كل المناطق والفئات دون استثناء, واستطاعت أن تحقق بعض أهدافها في إعادة العمال المفصولين إلى أعمالهم. لكن الآثار العميقة لهذه الانتفاضة ستمتد لاحقاً وستظهر في بنية وأداء الحركة الوطنية البحرينية وفي خبراتها النضالية والتنظيمية وفي تعزيز خطابها السياسي والفكري وازديادها نضجاً. وانعكست روح انتفاضة مارس ودروسها في مجمل المسيرة الوطنية اللاحقة التي أدت إلى نيل البلاد استقلالها الوطني وفي سَن أول دستور في البلاد وإقامة حياة نيابية عام 1973, التي سبقها مباشرة التحرك العمالي المجيد في مارس 1972 بقيادة اللجنة التأسيسية لاتحاد العمال والمستخدمين وأصحاب المهن الحرة.
ولا يمكن فهم التطورات السياسية الإيجابية التي بلغتها البحرين في المرحلة الراهنة بفضل خطوات الإصلاح مفصولة أو معزولة عن سياق التاريخ الكفاحي المجيد لشعبنا بانتفاضاته وهباته وتحركاته الجماهيرية, بما فيها انتفاضة مارس بالذات. بعد مرور أربعة و أربعين عاماً على هذه الانتفاضة المجيدة يظل مهماً الحفاظ على أهم ما جسدته وهو الوحدة الوطنية, وحدة فئات الشعب وطبقاته الاجتماعية بصرف النظر عن الطائفة أو المذهب أو الفئة, وصيانة مكاسب الشعب والعمل على تطويرها وتعميقها بالمزيد من الحريات السياسية والنقابية والحريات العامة, خاصة حرية التعبير عن الرأي بمختلف أشكال الاحتجاج السلمية, وحرية الصحافة والتنظيم, وإيجاد آليات الحوار المستدام والشراكة بين الدولة والمجتمع.
الأيام 19 مارس 2009
شريحتا الاستثمار والديمقراطية
لم يكن ثمة تلازم ميكانيكي بين ظهور الفئات الوسطى الأوروبية وظهور الديمقراطية، فالديمقراطية من تعددية حزبية وبرلمانات ونقابات لا تظهر دفعة واحدة وراء ظهور الفئات الوسطى، فمع وجود الشروط الموضوعية من ظهور صناعة وتجارة وصحافة لكن الأمر يحتاج كذلك إلى قوى سياسية وفكرية فاعلة في إنتاج الأفكار الديمقراطية ونشرها وجعلها بؤراً للحراك السياسي.
ويجري الخلط بين الطبقات الوسطى في الغرب والفئات الوسطى في الشرق، ويتم تداول نفس المقاييس عليهما.
فهناك باحثون يستغربون لماذا لم تنتج تجربة الصين الشعبية العملاقة في التجارة والصناعة طبقة وسطى متحركة من أجل الديمقراطية؟
ويقارنونها باليابان التي انتجت مثل تلك القوى الفاعلة من أجل الديمقراطية؟
(إن الطبقة الوسطى الصينية، بما فيها تلك التي تنشط في قطاع الصناعات التصديرية، وهي عادة الشريحة التي تملك أقوى المصلحة في اقتصاد السوق الحر والسياسات الليبرالية – لا تقدم شيئاً يُذكر تجاه تحويل النظام السياسي ديمقراطياً)، (ثائر كريم، ما تأثير الرأسمالية والطبقة الوسطى في إنجاح الديمقراطية في العراق، الحوار المتمدن).
وتقارن التجارب الديمقراطية بتشوشٍ بين البلدان، فنفسُ الكاتب يتساءل؛ لماذا الهند فيها ديمقراطية على الرغم من فقرها الشديد والصين تغيبُ عنها الديمقراطية وهي غنية؟
إن نشوء الفئات الوسطى وتطورها في أوروبا لتكون طبقات وسطى أمرٌ مختلفٌ عن تشكل الفئات الوسطى في الشرق وبدايات تحولها الراهن لتكون طبقات وسطى، فأوروبا لم تكنْ فيها دولٌ شمولية احتكرتْ الصناعة أو جوانب أساسية منها، بل تنامت الصناعة الخاصة مع الثقافات وتشابكت معها في عمليات التغيير.
(إن النظام الياباني اتسم بالتعددية والحزبية السياسية واستند على دستور ديمقراطي متين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى)، إن هذا صحيحٌ ولكن هذا هو الوضعُ السياسي المستندُ على نمو صناعاتٍ خاصة كبيرة، في حين ان الصناعة الصينية ارتكزت على الدولة وأجهزتها البيروقراطية.
وحين سمحت الحكومية الصينية بنشوء الأعمال الاقتصادية الخاصة من كان يملكُ رؤوسَ الأموال؟!
أليسوا هم الموظفين الكبار الذين تراكمت رواتبهم واختلاساتهم من الأموال العامة؟ وهؤلاء يخشون الديمقراطية حين كانوا داخل أجهزة الدولة وحين صاروا خارجها!
رأيتُ شركة كبرى عالمية للتقنيات الحديثة في بكين يملكها جنرالٌ صيني متقاعد!
في الدول ذات الأجهزة الحكومية القديمة والتي تدخلُ العمليات الاقتصادية الحديثة تدخلُها بتراثِها الشمولي الشرقي، سواءً على مستوى الدين أم على مستوى الوعي السياسي.
وكلما ازدادتْ هذه الأجهزة الحكومية تدخلاً في العمليات الاقتصادية فارقتْ الديمقراطية ورحلتْ عنها بعيداً!
والفارقُ كبيرٌ بين الهند والصين، فالهندُ لم يتشكلْ فيها جهازُ حكومةٍ واسع النطاق ومتجمد طوال التاريخ كالصين والبلدان العربية والإسلامية، وحين استقلت قادها حزبُ المؤتمر الديمقراطي، الذي لم ينشئ دولة تمتلكُ كلَ شيء، واعطى الشرائح الوسطى حريات كثيرة، إضافة إلى تاريخها التعددي الديني الواسع النطاق.
في الدول التي تقلص جهازُ الدولة المالك الأوحد للخيرات تنامت الأفكار التحررية والتعددية، وثمة فرق رهيب بين الهند وباكستان التي انشقت عنها وزعم قادتها بأنهم ينشئون دولة إسلامية، بل كانوا ينشئون دولة دكتاتورية وكانوا مرعوبين من الديمقراطية!
وهذا يؤدي كذلك على المستوى الدول المالكة للقيم والصناعة إلى ضعف الفئات الوسطى الليبرالية واليسارية، ويغدو نشوء أحزابها القومية والبعثية والشيوعية والطائفية ارتكازاً على مثل هذه الدول المالكة للخيرات العامة، والمصادرة للتنوعين الاقتصادي، والثقافي، فلا تستطيع أن تدفع في التوجهات الديمقراطية.
بل تقود أفكارها لنمو الدكتاتوريات، فالشرائح الحقيقية للفئات الوسطى التي تمتلك الثروات الخاصة التي أنتجتها بصعوبة في ظل أنظمة الاستبداد الحكومية تخشى منها، ولا تريد أن تنشىء أنظمة متدخلة في الاقتصاد، ولهذا تظل الحركات السياسية في الفراغ السياسي معتمدة على العاطلين واليائسين الاجتماعيين والإرهابيين.
ولهذا فإن الأفكار الليبرالية التي تنتجها الفئات الوسطى هي أفكار خجولة شاحبة، غامضة، خائفة ليس فيها جرأة في الدفاع عن النظام الرأسمالي الحر، فهي تواجه حكومات شمولية وأحزاباً شمولية، فتضيع ملامحها الفكرية قبل أن يتبلور أي مشروع سياسي لها، فتبلور المشروع السياسي يعني الضياع بين القوى الكبيرة وأجهزة الدول المتحكمة، وهي قد عاشت في ظلالها (الطيبة)!
تحتاج عمليات تشخيص نمو الديمقراطية في الدول والمجتمعات المختلفة إلى قراءة تواريخها وتطوراتها الاقتصادية، وخاصة الترابط بين الصناعات والحريات والثقافة، فدول الغرب لها تاريخها المختلف، ودول الشرق لها تواريخها المختلفة، وثمة دول التماثل الشمولية المتشابهة، ودول الاستثناءات كالهند واليابان وغيرهما من القليل النادر، وحتى هذه لها مراحل.
ودور التأثيرات السياسية والفكرية على المسارات الموضوعية لهذه الدول في معرفتها أولا، ثم في تغييرها.
أخبار الخليج 17 مارس 2009
الكتابة على الهامش
أن تطالب جهات متضررة بأن يجري رفع الحصانة عن النواب، فهذا أمر مقبول، لأن من نافلة القول أن بعضاً من النواب لا يملكون زمام ألسنتهم في فورات الغضب، وبعضهم من أجل إرضاء قواعده الانتخابية وضماناً للترشيح والانتخاب في المرات المقبلة يقوم بتعلية ‘التون’ قليلاً من أجل إظهار كمّ من الشجاعة والمحاججة في مصالح الناس. ومنهم أيضاً من يجوز عليه الخطأ والوقوع في بعض المخالفات من أنواع متعددة، إذ ينسى لبعض الوقت أنه ممثل عن الشعب فينزلق، أو ينزلق لأنه ممثل عن الشعب وليس ملاكاً لا يخطئ.
ولكن أن يبدأ النواب في طلب رفع الحصانات عن بعضهم البعض؛ فإن هذا أشبه ما يكون بكشف عورة العملية الديمقراطية في شكل التصيّد المَرَضي فيما بينهم، وتعبئة الملفات السود لحين الحاجة، فإن بدأ أحدهم تلاه الآخرون، وإن عدتم عدنا، وبالتالي فمن الأفضل أن يسكت الكل عن الكل، أو يفتح كلٌّ على كل أبواب جهنم.
يتهم النواب الشيعة (والله ليندى الجبين خجلاً من هكذا تقسيمات)، زميلهم جاسم السعيدي بالمساس والتعريض بالطائفة وتقدموا بطلب رفع الحصانة عنه لتقديمه إلى القضاء ليقول فيه كلمته الفصل، بينما يقول النائب السعيدي إنه انتقد مواقف وتصرفات ولم يسئ لطائفة أخرى (أية طائفة هي المقصودة يا ترى؟). فما هي إلا أيام معدودات حتى جرى تقديم طلب رفع حصانة من قبل نواب من الكتل السنية للنائب جاسم حسين لما قاله في الكونجرس الأميركي، وقناة ‘العالم’ الإيرانية، فقلنا: حسنٌ، جاسم بجاسم، وإن كانت المسألة واضحة المعالم، وأنها لا تعدو رد فعل على التصرف الأول. ولكن تواردت أيضاً من الأنباء التي نشرتها الصحف ما يفيد بأن النائب جواد فيروز قد يدخل القفص نفسه، ويذوق من الكأس ذاتها التي أرادت كتلته أن تذيقها للنائب المستقل.
ليس لي – ولا لغيري حالياً – الحكم بصحة ما تقدمت به الطلبات السابقة لرفع الحصانات عن النواب، ومن النواب أنفسهم، وكأني بالمثل الكويتي الذي بات برنامجاً فكاهياً فيما بعد ‘حيلهم بينهم’ يتحقق في هذا المجلس، وكأن هناك جهة ما، أيادٍ ما، ثقافة ما، إرادة ما، توجهاً ما، كلها معاً تود أن ينشغل المجلس ببعضه بعضاً، وتترسخ مسألة الانشطار العمودي الحادث حالياً، حيث يقف كل طرف معرقلاً أي مقترح يتقدم به الطرف الآخر حتى لا يسجل أحد نقاطاً، ولا الوطن نفسه يسجل أي شيء، ويكفر الجميع بالعمل الديمقراطي وسنامه البرلماني ما دامت هذه التصرفات تردُ من بطن البرلمان الذي يفترض فيه أن يكون سادن الديمقراطية ومرسّخها الأهم، لتراه هو – في جانب محدد – من يعمل على شلها وتنفير الناس منها، حتى ليتحسّروا على الأموال التي تنفق لقاء ديمقراطية شوهاء لا يجنون من ورائها ما يطمحون.. كأن هناك من يود ألا تتحرك مفاعيل المجلس إلى الأمام، وإنما تتحرك في اتجاه أفقي بين الأعضاء أنفسهم وبين رئاستهم ومجلسهم ومكاتبهم، حتى ينفصلون عن من انتخبهم.
لقد صارت الهموم التي ترد من المجلس لا تعدو توحيد زي المعلمين والمعلمات وفصل الجنسين في أي مكان يختلطون فيه، وهم يعلمون علم اليقين أن هذه المقترحات سوف لن يجري تطبيقها، وأنها ستجلب عليهم السخط من الشارع.
في عصور الانحطاط العلمي والثقافي التي حلت بالأمة الإسلامية بعدما كانت تنتج العلوم بغزارة، صاروا يلجأون إلى أمهات الكتب ويكتبون شروحاً لها، وشروحاً للشروح، وهوامش على الهوامش، وذلك من الإفلاس الفكري الذي عانت منه الأمة، ولا تزال.. أتمنى ألا يبدأ برلماننا مفلساً وهو لم يتم عامه العاشر بعد.
الوقت 16 مارس 2009