لفت نظري قبل أسابيع مضت خبر لو قاله صاحب متجر لرئيس دولة عربية لتعرض إلى محاكمة أو مهانة لا يمكننا تصورها, وعلى اقل تقدير أوحى الرئيس العربي المتقاعد لرجال الأمن الذين في حراسته بضربه ضربا مبرحا لكي يتأدب ولا يقل أدبه مرة أخرى. نعم هكذا سيفهم الرئيس الراحل والمتقاعد العرض المهني, وأخيرا بعد الضرب المبرح سينهي انفعاله بكلمة أخيرة قبل أن يخرج من المحل: «لازم تعرف حدودك وتعرف تكلم من« بهذه النهاية الأليمة والمهينة سيتلقى صاحب المحل المسكين حظه العاثر, فبدلا من أن يرد عليه بكل لطف على عرضه ويخرج بدون ضجيج, كانت اللكمات درسا في حياته لرئيس عربي, قرأ العرض بثقافة ناقصة. ولكي نفهم ما الذي علينا فعله بعد عقود مع أنفسنا قبل أن نكتشف أن ذلك الكلام وطبيعته لن يقبل به حتى اقل من الوزير, فمهنة من هذا النمط تشكل عرضا سيئا, إذ يرى بعض الناس بثقافتهم الشرقية أن تلك المهن لا يجوز امتهانها ابدا, فما بالنا ونحن كنا ذات يوم في موقع رفيع كالرجل الأول في البلاد أو بما هو اقل كمن هم في بطانة الرئيس الأسبق. ففي دالاس ولاية تكساس عرض صاحب المحل على الرئيس جورج دبليو بوش وظيفة في مكتب الاستقبال, وشرح له سبب الاختيار لشخصيته المناسبة بعد أن تجول الرئيس في أقسام المحل لشراء حاجياته, والأكثر من ذلك عرض عليه عدة امتيازات كالتخفيضات لكل مشترياته من المتجر, ومكان خاص لسياراته ووقت مريح لكي يتفرغ للكتابة عن المدة التي قضاها في إدارة البلاد في مكتبته الرئاسية. والظريف انه ذكر له في رسالة عرض الوظيفة عليه, أن ضغط العمل في المتجر سيكون بالتأكيد اقل مما كان عليه أثناء عمله في البيت الأبيض, غير إن الاختيار الحقيقي للرئيس لشغل هذه الوظيفة هي خبرته الطويلة في تعامله مع الأجانب, ولم يحتج الرئيس كون تلك الرسالة التي بعثت له تم نشرها في إحدى صحف دالاس. أليس حريا بنا أن نتعلم من تلك الثقافة والحضارة الحق الحقيقي للتعبير والاحترام المتبادل, ونفهم معنى تلك الثقافة بدون أن نتلبس بمعنى الكرامة ونتوه في متاهات التعبيرات الضيقة لمفردة المهانة, لسنا بحاجة للعودة لزمن داحس والغبراء ولا إلى كلثوم وهند عندما قالت لها ناوليني..!! فردت عليها لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها, فشب قتال عريض وطويل كلف القبيلتين عشرات الموتى, لمجرد أن كرامة أم أسياد إحدى القبيلتين تم اهانتها. بإمكاننا فهم العقلية القديمة, ولكن كيف نفهم عقل وثقافة هذا العصر حين يرى كل فرد وزعيم وشخصية بأنه تمت اهانته على صغيرة وكبيرة. لن نحصي القصص ولا عناوينها, بل نحن بحاجة أن نعرف أن الرئيس السابق كان ابن أثرياء, وبعد تركه البيت الأبيض سينال راتبا تقاعديا أسطوريا لا يحلم به الكثيرون, إذ يقدر شهريا بما يقارب 16,700 الف دولار شهريا وسيزيد سنويا حسب مكتب تحصيل الضرائب, وما إن يبلغ الرئيس من العمر الثالثة والثمانين فان مستحقات التقاعد ستكون خمسة ملايين دولار , هذا إلى جانب المستحقات الإضافية المدفوعة كمكتب لإعماله بموظفين وتكاليف السفر وامتيازات المراسلات البريدية. دون شك كان صاحب المتجر يدرك راتب الرئيس بوش التقاعدي ولا يمكنه أن يمنحه راتبا شهريا بهذا الحجم, ولكنه بالإمكان التفاوض معه بعد قبوله العرض على طبيعة راتبه وساعات العمل. لم تجعلنا تلك الرسالة المنشورة, أن نرى كلا الأمرين, رد الرئيس المهم وطبيعة تفاصيل ساعات العمل وحجم الراتب. المهم أننا اهتممنا بالحكاية إذ ما يحدث للرؤساء في الغرب والولايات المتحدة, بل وفي دول آسيوية من قصص مثيرة ومتواضعة, لا يمكننا سماعها في بلداننا العربية, حيث ينسى المجتمع الوزراء ومناصبهم وأسماءهم, غير انه لا ينسى قصص الفساد التي ختمت على جباههم.
صحيفة الايام
24 مارس 2009
شخص متقاعد براتب خرافي!
فرنسا.. ابن الناتو «الضال»؟
في 4 أبريل/ نيسان المقبل ستحتفل منظمة معاهدة شمال الأطلسي الناتو (North Atlantic Treaty Organization, NATO) بالذكرى الستين لتأسيسها في واشنطن العام .1949 فرنسا وبريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية هي الدول الرئيسة المؤسسة للحلف الذي ضم أيضا بلجيكا، بريطانيا، الدنمرك، إيطاليا، أيسلندة، كندا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج والبرتغال.
كانت تلك إرادة الولايات المتحدة الأميركية التي فرضتها على أوربا الغربية لمواجهة ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام المنظومة الاشتراكية العالمية بقيادة الاتحاد السوفييتي. شهد الناتو خمس موجات توسع بضم اليونان وتركيا (1952)، ألمانيا (1955)، إسبانيا (1982)، هنغاريا، بولندا والتشيك (1999)، بلغاريا، لاتفيا، لتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا واستونيا (2004). وسيشهد الموجة السادسة يوم 4 أبريل/ نيسان المقبل بضم ألبانيا وكرواتيا.
وبعد أكثر من عقد ونصف من تجربة فرنسا مع الناتو العسكري عز على الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول استمرار وجود قوات عسكرية أميركية على أراضي الجمهورية الخامسة. وأصبح ينظر إلى وجود قسم من القوات المسلحة الفرنسية تحت الإمرة الأميركية على أنه إهانة شخصية لتاريخه العسكري. كما رأى أن التكامل الأطلسي عرقل بشدة عملية التكامل الأوروبي العام الذي كانت تدعو إليه فرنسا. وأدرك أن فرنسا لن تستطيع إنقاذ عزتها القومية ولعب دورها الريادي في توحيد أوروبا إلا عندما تمتلك سياستها الخارجية، بما في ذلك العسكرية المستقلة عن أميركا وغير الخاضعة لمصالحها. ولم تكن عقيدة ‘كبح الاتحاد السوفييتي ورميه خلفا’ تعجب الرئيس الفرنسي، وفضل بدلا عنها مفهوم الدفاع ‘على كل الأقواس’. وكانت فرنسا في ذلك قد تمكنت من امتلاك سلاحها النووي الخاص.[1]
وهكذا أعلن ديغول العام 1966 انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية للناتو مع الإبقاء على هذه العضوية في إطار التنظيم السياسي للحلف. أقدم على طرد الحلفاء من باريس فكان عليهم أن ينتقلوا إلى بروكسل بشكل مفاجئ. ولعل كثيرين ممن عاصروا ذلك الانتقال يتذكرون قطعة الموزاييك التركية كشاهد على الحدث. كانت تلك هدية تركيا لمقر الناتو، والتي تعين نقلها إلى بروكسل على عجل. وتعبيرا عن الشؤم الذي حل بالناتو حينها قيل تندرا أن ‘قطة سوداء’ خطرت بين فرنسا وأميركا.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء ‘الحرب الباردة’ شهدنا عالم القطب الواحد تحت القيادة الأميركية. وفي هذا العالم وجدت باريس التي تشكل مركز تلاقح الحضارات والثقافات العالمية نفسها تخضع من جديد، ولو جزئيا، لسياسة استخدام القوة للتدخل في النزاعات حول العالم الذي تقود أميركا الناتو إليه. فمنذ العام 1995 شاركت في عمليات عسكرية من دون أن تكون لها أية مساهمات في التخطيط لها كحرب العراق الأولى وفي عمليات الناتو في يوغسلافيا وأفغانستان، بينما امتنعت عن المشاركة في حرب العراق الثانية وتحركت ‘أوروبيا’ بالمبادرة الفرنسية المصرية بشأن غزة بعد العدوان الإسرائيلي.
لكن كثيرا من المحللين والمؤرخين يرون أنه إذا كان الرئيس ديغول قد جاء على مقاس فرنسا حقا، فإن الرئيس الحالي ليس على هذا المقاس من نواح كثيرة. ورغم أن الحظ حالفه إذ جاء رئيسا لفرنسا وللاتحاد الأوربي دفعة واحدة، وفي فترة شهد العالم نزعة أوروبا للاستقلال عن الولايات المتحدة، ما يمكن أن يعطي لساركوزي ثقلا عالميا أكبر، إلا أنه منذ صيف العام 2007 كان يكرر تصريحاته عن احتمال عودة فرنسا إلى الناتو العسكري. والآن استطاع بغالبيته البرلمانية انتزاع قرار بإعادة فرنسا إلى القيادة العسكرية للناتو والتي سيعلن عنها في القمة الاحتفالية للناتو في ستراسبورغ وبروكسل يومي 3 و4 أبريل/ نيسان المقبل. وهكذا، وكما كان مخططا فستعود فرنسا لاحتلال 800 منصب قيادي في تشكيلات الناتو.[2] وفي اختتام أعمال مؤتمر ‘فرنسا، الدفاع الأوروبي والناتو في القرن ,’21 الذي نظمه صندوق الأبحاث الاستراتيجية FRS برر ساركوزي خطوته بالقول إن ‘عدم قدرتنا على احتلال مكاننا في هذا التحالف بوضوح يضع أهدافنا موضع شك. وبالنتيجة لدينا حلف ليس أوروبيا بما فيه الكفاية، والأمن الأوربي يتطور ليس على الشاكلة التي نريد’، مؤكدا أن إعادة التكامل في الناتو لا تهدد الأمن الوطني، وأن فرنسا ستحتفظ بقوة الردع النووية وحق الاختيار في حالة إرسال قواتها للمشاركة في عمليات الحلف.
منتقدو عودة فرنسا للناتو العسكري يرون العكس تماما. فهم يعتقدون بأن فرنسا ستصبح أكثر تبعية لواشنطن وستكون مضطرة لإعادة كتابة تشريعاتها بشأن الأمور الدفاعية. الاشتراكيون وقفوا ضد هذه العودة. وطالب الشيوعيون بإجراء استفتاء شعبي عام حول هذه المسألة. وقد انتقد ساركوزي النائبان الاشتراكيان ليونيل جوسبان ولوران فابيوس، وهما رئيسا وزراء سابقان وكذلك يمينيون بارزون كرؤساء وزراء سابقين مثل دومينيك دي فيلبين وألان جوبيه وبعض أعضاء الحزب الحاكم ‘الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (UMP)’ رأوا أن هذه الخطوة ستهدم استقلال السياسة الخارجية الفرنسية عن الولايات المتحدة الأميركية. ومن بين مختلف آراء الخبراء والسياسيين حول عودة فرنسا للناتو العسكري يضع دميتري روزوغين، ممثل روسيا لدى الناتو النقاط على الحروف ‘حتى الآن ظلت المعارضة للأميركيين من داخل الناتو تستند إلى فرنسا المستقلة كحليف لها في الصراع مع واشنطن. فإلى من سيستند الفرنسيون أنفسهم الآن من داخل الناتو؟ لا أحد يعرف[3]’.حتى الآن نجح ساركوزي في تمرير القرار رغم معارضة كبيرة له في الجمعية الوطنية الفرنسية (إلى جانب الحكومة صوت 329 مقابل 238 عضوا). وكان قد نجح في إسكات أول سخط شعبي ضده مباشرة بعد توليه الرئاسة، فهل سينجح في مواجهة ملايين الغاضبين الفرنسيين المحتجين ضد سياساته في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية وضد سياساته عموما؟
[1] راجع الوصلة: http://www.vesti.ru/doc.html?id=264092
[2] راجع الوصلة: http://www.rbcdaily.ru/2009/03/13/focus/405872
[3] انظر:http://www.rbcdaily.ru/2009/03/13/focus/405872
صحيفة الوقت
23 مارس 2009
المليارديرية العرب.. والبيئة
في أواسط شهر مارس الجاري، وعلى إثر نشر مجلة “فوربس” قائمة ملياردرية العالم لعام 2009، انشغل المراقبون والمحللون السياسيون والاقتصاديون عربا وأجانب بالتغير الكبير الذي طرأ على تلك القائمة، سواء من حيث ترتيبهم في القائمة، تبعا لاحجام الثروات أم من حيث ما طرأ من تغيرات في أحجام تلك الثروات، أم من حيث تدني أعداد المليارديرية انفسهم مقارنة بقائمة العام الماضي 2008، وكان محور اهتمام المراقبين قد انصب على تأثير الازمة الاقتصادية العالمية التي بلغت ذروتها في خريف العام الماضي على معطيات تلك القائمة، فحجم الثروة الكلية لهم انخفض الى النصف تقريبا (من 4،4 تريليونات دولار الى 2،2 تريليون دولار) وعدد المليارديرية انخفض من 1125 مليارديرا الى 793 مليارديرا.
لكن ما يثير الاستغراب حقا ان المراقبين والمحللين الاقتصاديين والسياسيين في العالم، وعلى الاخص العرب منهم، ومعهم كل المهتمين والمهمومين بقضايا البيئة، لا أحد منهم توقف امام مغزى ودلالات قائمة اخرى صدرت في اوائل نفس الشهر الجاري اعدتها صحيفة الـ “صنداي تايمز” تحت عنوان “الاثرياء الخضر” والتي يعدها الدكتور بريسفورد، وهذه القائمة تخص اكثر اثرياء العالم المائة اهتماما ومحافظة على البيئة في استثماراتهم التي ربحوا من خلالها تلك المليارات او عشرات الملايين من الدولارات وذلك من خلال اقدامهم على استثمارات جدية في التكنولوجيا الخضراء او التعهد الصادق بدفع التزامات لقضايا البيئة والاستثمار في القطاعات الخضراء الاخرى المختلفة مثل الطاقة البديلة والنظيفة التي تشمل السيارات الكهربائية، وطاقة الرياح، والطاقة الشمسية، وكيف انهم اوفوا بالتزاماتهم وتعهداتهم بمراعاة شروط المحافظة على البيئة في اعمالهم الاستثمارية حتى بالرغم من تأثر ثرواتهم بالأزمة الاقتصادية التي تأثرت كما ذكرنا احجام ثرواتهم بها.
وبصرف النظر عن مدى دقة وصحة التزام المائة ثري في العالم الذين ظهروا في تلك القائمة بشروط ومعايير البيئة، اذ في اعتقادنا لا يوجد ملياردير او مليونير في العالم لم تقترف يداه جريمة او انتهاكا بحق البيئة بهذا القدر وبدرجات وأشكال متفاوتة، الا ان ما يعد فضيحة مدوية عالمية، بامتياز وبجلاجل، ان قائمة “أثرياء العالم الخضر” لم تتضمن ولو اسما عربيا واحدا يتيما في عدادها، في حين كان للولايات المتحدة حصة الاسد في عدد الاثرياء الخضر يتصدرهم المستثمر وارن بافيت (37 مليار دولار حجم ثروته) ومؤسس “ميكروسوفت” بيل جيتس (36 مليار. دولار حجم ثروته) وكانا قد ظهرا في صورة صحفية جميلة بتلك المناسبة ويرتدي كل منهما قميصا وبنطالا خضراوين بأشكال مختلفة.
واذا كان عدد كبير من اسماء القائمة ينتمون الى دول غربية ديمقراطية فانه حتى الصين المصنفة سياسيا من الانظمة الشمولية حصدت 17 اسما ثريا صينيا بادراجهم ضمن قائمة “الأثرياء الخضر” باعتبارهم مهتمين بالاستثمار في قطاعات التكنولوجيا الخضراء الضخمة متفوقين بذلك على بريطانيا التي لم يظهر منها سوى عشرة اثرياء خضر، والمانيا التي لم تحصد سوى سبعة مراكز.
مهما يكن فإن السؤال المهم الجدير بالطرح: لماذا لم يظهر ولو ثري عربي واحد في القائمة الخضراء رغم ان اجمالي عددهم في قائمة مليارديرية العالم كبير او لا بأس به، لا بل إن عددا منهم يأتي ضمن العشرين الاوائل في هذه القائمة؟
في الاجابة عن هذا السؤال تحديدا يكمن مربط الفرس في فهم الفرق بين طرق واساليب الاستثمار الكبير التي يتبعها القطاع الاعظم من الطبقة الرأسمالية العربية وطرق واساليب الاستثمار التي تتبعها الرأسمالية العالمية، وعلى الأخص في البلدان الغربية الصناعية ذات التقاليد الديمقراطية العريقة.. فبينما الغالبية العظمى من شرائح الرأسمالية العربية وعلى الاخص العاملة في قطاع الخدمات كالسياحة والعقارات وحتى الرأسمالية التجارية والصناعية لا تضرب بشروط وقوانين البيئة في بلدانها عرض الحائط فحسب، بل هي متورطة في جرائم بيئية لا تحصى ولاسيما في البلدان الخليجية وبحماية السلطة التنفيذية وقوتها البوليسية في كثير من الاحيان، مستفيدة هذه الأخيرة بغياب رقابة فاعلة للسلطات التشريعية والقضائية والصحفية وغياب سلطة القانون بما في ذلك غياب مساواته على الجميع ان وجدت مستويات او اشكال من تلك السلطة، فان الطبقة الرأسمالية في البلدان الغربية الصناعية الديمقراطية، حتى بالرغم من انتهاكاتها بحق البيئة داخل بلدانها، وخارجها على وجه الخصوص، فإن ايديها غير مطلقة في جميع الاحوال بلا قيود وذلك في ظل وجود فصل حقيقي للسلطات الثلاث بما في ذلك سلطتان تشريعية وقضائية قويتان ومستقلتان وصحافة مستقلة ومؤثرة في الرأي العام واحزاب ومنظمات خضر فاعلة، والأنكى من ذلك ان كل المستثمرين الكبار في الطبقة الرأسمالية العربية والذين يتصدر عدد منهم قائمة اثرياء العالم لعبوا ومازالوا يلعبون دورا تخريبيا ومدمرا في القضاء على البيئة لشفط ما يمكن شفطه من ارباح خيالية لعلها ترضي نهمهم المالي الذي لا يعرف حدودا للرضا.
ولذلك لا غرابة اذا ما اطلق بعض الاقتصاديين العرب على شريحة كبيرة منها “الرأسمالية الطفيلية” أو “الرأسمالية المتوحشة”.
صحيفة اخبار الخليج
23 مارس 2009
برلمانات خليجية ضعيفة
عرفت الجزيرة العربية البرلمانات بصور متأخرة، ولم تستطع أن تكون سلطة تشريعية قوية مستقلة، مطردة النمو والتجذر في الأرض السياسية.
كذلك نجدها في بلدان متنائية صغيرة، أشبه بالمدن، كالكويت والبحرين، في حين جاءت التجربة البرلمانية اليمنية في أعقاب سيطرة مؤسسة الرئاسة سيطرة كلية على الحياة السياسية، أما بقية دول الخليج فلم تعرف البرلمانات المنتخبة بشكل حر ومباشر من قبل الجمهور.
إن ضعف التجارب البرلمانية ليس فقط في عدم السماح لها بالوجود والبقاء والتجذر وعبر خلق مؤسسات ديمقراطية على مختلف الأصعدة، بل كذلك في تيئيس الناس من وجودها، وعدم التعاون الوثيق معها، وفرملة جهودها ووضع العصي في دواليبها المترنحة!
تشعر الحكومات في المنطقة بأن البرلمانات تنافسها على السلطة، وتضعف من هيبتها، وأنها تزايد عليها، فهي قد عاشت على عدم وجود رقابة ثم وجدت رقابات منافسة وأحياناً طفولية، ولكن هذا من طبيعة ظروف مجتمعات كانت السلطات فيها هي الكل في الكل، ثم تغيرت الأوضاع ولم يعد مقبولاً وجود سلطة تنفيذية مطلقة.
وليس معقولاً أن تنشأ البرلمانات ناضجة كلياً ملأى بفلاسفة الحكمة!
إن هذه البرلمانات مجرد رقابة محدودة على الحكومات، ولم تتحول إلى سلطة منافسة، ولا يعينـُها في عملها حشدٌ من المؤسسات والأجهزة، ولم توجد فيها التيارات الحديثة الديمقراطية التي فيها خبرات سياسية واقتصادية وتشريعية كبيرة، بل جاءت من قوى لم تكرس نفسها للعمل البرلماني والديمقراطي العام، ولهذا نجد قلة من حملة الشهادات العليا بينها، فالعديد من النواب هم من القبائل أو من الجماعات البدوية والريفية أو من رجال الدين ذوي الخبرة في الفتاوى والارشاد الديني، أو من المستقلين الذين هم ليسوا مستقلين بل أفرادا تربطهم علاقات قوية بالحكومات، وكل هذه العناصر لا تمثل تحدياً كبيراً لحكومات عاشت على القرارات الواحدة نصف قرن، ولديها من الخبرات والأجهزة ما تدوخ به هؤلاء المستجدين على العمل السياسي.
ومع هذا فإن الحكومات تحصرهم حصراً في تقديم الأسئلة والاقتراحات، لا يتجاوزونها إلا لماماً لتقديم مشروعات متكاملة للقوانين، فإذا طمحوا لاستجواب مسئول أحيطوا بالموانع المختلفة، وتم نقل الاستجوابات إلى اللجان، أو يتم حل البرلمان الضعيف الباهت الصلاحيات، وتقوم البلد وتقف على رجل واحدة وكأن القيامة قد قامت!
ربما تعتقد الحكومات أو من يصور لها ذلك ويقدم تقارير مختزلة متشائمة، بأن أي شيء يجري في هذه البرلمانات سوف يفجرُ الأوضاع، أو يحدثُ بلبلة كبيرة في الشارع، والأمر ليس كذلك، بل ان الناس لا تتابع باهتمام كبير ما يجري من مناقشات أو ما يقترح من تدابير.
الناس لا تهتم كثيراً بكل هذا فهي مشغولة في مطاردة لقمة عيشها، والمهتمون فقط هم النخب السياسية التي هي أعداد محدودة من المواطنين!
أي ان العمل البرلماني الخليجي والعربي عموماً هو من شأن النخب الصغيرة، وليس له كما تتصور الحكومات أو كما يُصور لها نتائج مذهلة، فالبرلمانات لا تحدث الزلازل الاجتماعية ولا تفجر البراكين السياسية!
تعتبر هذه الدوائر الرسمية أن البرلمانات هي من قبيل الصداع السياسي كالصحافة والمواقع الحرة الإلكترونية، والفضائيات (المشاغبة)، والعالم بالنسبة إليها هو وجودها من دون حساب ولا كتاب، وتعتقد أن الأدوات الحديثة من رقابة ومشاركة هي من أدوات إسقاط الأنظمة وهدم المجتمعات المستقرة الآمنة، لا قوة مشاركة في تدعيم هذه الأنظمة وتطويرها وإزاحة الخلل والصدأ من دولايبها التي تتراكم فيها المخلفات وربما تقلبها رأساً على عقب.
البرلمانات أدوات تصحيح وتطوير للأنظمة، وما لا يراه المسؤولون في دوائر القرار، يراه هؤلاء ويصوبونه ويطورونه، فالبرلمانات ليست قاعات انقلابات ولا أدوات اضطرابات!
وإذا جثمنا طويلاً رهن وزارات في يدها كل شيء، ولا تريد سوى أشباح برلمانات، وأن المطلوب هو أن لا يتساءل أحد عن تضييع الملايين من الدنانير بدعوى الأزمة المالية، ولا عن الاستقواء بالعمالات الأجنبية والاثراء على حسابها، ولا عن هذا الهدر المالي على المظاهر والاحتفالات الباذخة وعلى المشروعات الخاصة وغيرها، فإن الثروة النفطية الهائلة تكاد أن تضيع والكثير من الشوارع لاتزال غير مبلطة.
إن العمل الحكومي يبقى ناقصاً بل معرضاً للخطر من عدم وجود أصوات مضادة له، تكشف قصوره، وتعرض آفاقاً جديدة له، وتحافظ على ثروة البلد وتنميها. وتجعل هذه الدول ذات السلطات المتوارثة عقلانية تطور نفسها في زمن الثراء قبل أن تتعرض لعواصف زمن الفقر والجفاف القادم.
وعلى العكس فالمطلوب هو تجذير البرلمانات وتطويرها ومساعدتها على معرفة الوقائع والأوضاع والقصور، لكي تساهم في تقوية الأنظمة وفصل الشوائب عن اللباب.
صحيفة اخبار الخليج
23 مارس 2009
إدانة العنف
سيتحول الصمت إزاء العنف الذي يمارس في الشارع, لا بل انه تحول بالفعل, إلى تبرير له, وربما مساهمة في تقديم الغطاء لأصحابه. وباتت مسؤولية وطنية كبرى على عاتق الجمعيات السياسية ورجال الدين والفعاليات الاجتماعية والشخصيات المستقلة وكتاب الرأي التبصير بالعواقب الوخيمة لممارسات العنف التي كان من نتائجها المؤلمة وفاة عامل باكستاني بريء, لا حول له ولا قوة, ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالتجاذبات الجارية في بلادنا. عارضنا وسنعارض كلما نعتقد انه سياسات خاطئة من قبل الدولة, ولكننا, وبمقدار لا يقل لن نسكت عن الممارسات العنيفة التي يقدم عليها البعض في الشارع, التي باتت عبئا على المواطنين في المناطق التي تشهد هذا الصنف من الممارسات العنيفة, حيث أدى حرق مولدات الكهرباء, وهي ضمن الممتلكات العامة التي تديرها الدولة لتقدم الخدمات الضرورية للمواطنين إلى أن الشوارع الرئيسة باتت تغرق في الظلام, وباتت مداخل القرى والبلدات محاطة بمظاهر أمنية تبعث على الضيق والقلق. هذا النوع من الممارسات لن يحقق هدفاً مشروعاً, ولن يؤدي إلى تحسين مواقع المعارضة في المعادلة السياسية في البلد, بل على العكس من ذلك سيضعف هذه المواقع, وسيعطي بعض الأجهزة المبررات الكافية للمزيد من تغليظ التشريعات المقيدة للحريات, وسيعيق الجهود الدؤوبة التي تبذلها القوى السياسية من أجل تعزيز المكتسب من الحريات وتطويرها, وهو مكتسب أحرزناه بشق الأنفس وفي نتيجة نضال طويل لأجيال من المناضلين البحرينيين, الذين قدموا تضحيات غالية وهم يؤسسون لتقاليد النضال السلمي الديمقراطي, وبناء مؤسسات المجتمع المدني الحديث من تنظيمات ونقابات وهيئات للشباب والطلبة والنساء والمثقفين. وهذه التقاليد هي التي رفعت البحرين إلى مستويات الوعي السياسي والاجتماعي الذي يتميز به شعبنا اليوم, والذي به تباهينا ونتباهى أمام محيطنا الخليجي والعربي, وقد تحقق ذلك دون حرق الإطارات أو رمي قنابل المولوتوف على العمال الأجانب وتهديد حياتهم أو الإضرار بهم. وإذا كانت الحركة الوطنية البحرينية قد توخت في مراحل من تاريخها بعض أشكال النضال العنيف, كما كان عليه الحال في انتفاضة مارس 1965, فعلينا التبصر في حقيقة أن هذه الأشكال مورست ضد المستعمرين الانجليز وعملائهم, يوم كانت البحرين تحت الحماية البريطانية. لقد تغيرت الظروف كثيرا في البلاد, ولا يمكن القياس على تلك المرحلة, فظروف اليوم تتطلب وجود معارضة منظمة وواعية, تعتمد البرامج السياسية والاجتماعية المقنعة القادرة على توليد الإجماع الوطني حولها, وتفعيل الأدوات الشرعية للعمل السياسي والمدني الرامي لتحسين أوضاع الشعب المعيشية وتطوير الحقوق السياسية وتوسيع نطاقها, وتسييد الخطاب الوطني الجامع, بديلاً للخطابات الطائفية والفئوية التي تخلق البيئة المُولدة للعنف والاحتجاج الأعمى الذي لا يتوخى هدفاً واضحاً, ولا يؤدي إلا إلى المزيد من التأزيم السياسي والأمني. هناك حُزم من القضايا والمشاكل وأوجه المعاناة التي على قوى المعارضة التصدي لها بعزيمة وإصرار ومثابرة, لكن علينا الإقرار بأن مظاهر العنف التي نراها تُلحق أشد الأضرار بهذه القضايا, وتُصَعب من عمل القوى السياسية وتزيده تعقيداً, وتحرف العمل الوطني عن جادة الصواب.
صحيفة الايام
23 مارس 2009
الباطـــــــــــــة السياســــــية
وضع التساوي أو تعادل القوى وضع معروف ومشخّص في كل الألعاب الرياضية بأنواعها ومنها الألعاب الذهنية.. ولعل الوضع الذي يعبّر ويتجسّد -اكثر من غيره- فيما نحن بصدده من مرام، هو لحظة وصول ذروة الصراع على رقعة الشطرنج (لعبة تعبّر عن المسألة خير من أية أداة / لعبة أخرى) إلى ما يطلق عليه عربيا بالمصطلح الشطرنجي وحتى العسكري- إن جاز التعبير مجازيا – ‘الباطة’ وعالميا ‘ستالمات’ Stalemate ، الأمر الذي نرى ما يشبهه في حياتنا الاجتماعية / السياسية في حركة سير المجتمعات(حركة التاريخ).. وهو أمر إشكالي .. بمعنى كيف يمكن أن تقف حركة التاريخ في مرحلة من المراحل أو تراوح مكانها، في حين يكاد الكل يجمع على؛ ‘لا سكونية’ الحركة التاريخية، وذلك لأن تطور المجتمعات البشرية عبارة عن صيرورة دائمة لا تنتهي، متجهة إلى الأمام في شكلها اللولبي! على أية حال هذه إحدى المشاكل العويصة التي يطول الخوض فيها، نترك تفاصيلها التحليلية لوقت ومجال آخرين..غير أن المطروح هنا قد يفيدنا وخاصة بالنسبة للمعنيّين ممن يتعاطون السياسة، الذين يحاولون سلك نهج المقاربة العلمية للتعامل مع الواقع، في تشخيص حالنا وحال مجتمعنا البحريني في اللحظة التاريخية الآنية.
ألا يبدو التطور السياسي في مملكة البحرين أنه يسير في مكانه وكأنه يدور في حلقة مفرغة؟! إن صح هذا الفرض فما هي أسبابه وكيف نفهمه؟ .. نعم دخل المجتمع البحريني المعاصر في الألفية الثالثة إلى طور نوعي من خلال نهج إصلاحي، تجسّد أولا في الحريات السياسية ومعالجة جدّية للمشاكل الاجتماعية وحتى الثقافية، أضحت فيه السلطة السياسية مركونة ومتفهمة لطبيعة وسمه عصرنا المتحول والانتقالي والملتبس أيضا، حيث بدأت تسود رويداً رويداً التأثيرات الخارجية / الدولية، تردنا على شكل موجات من ثقافة سياسية مؤسساتية، منبثقة من دول المركز العالمي متحولة نحو دول التخوم، الأقل تطوراً في تركيبتها الاجتماعية والسياسية وإن بدا الأمر كأنه جزء مما يسمى’الغزو الثقافي الغربي’ والهيمنة الرأسمالية أو الاستعمارية’الامبريالية'(الاستكبارية)!. على أن هذا التأثير والتغيير الايجابيين اللذين شهدتهما البحرين في بداية الألفية ذاتها (الضغط الدولي/ مبادرة الحكم الإصلاحية) لم يوازيهما – وللأسف- سقف معقول من وعي اجتماعي / سياسي موقوت، يمكنه دفع العملية الإصلاحية ورفدها والاستفادة من الايجابيات ‘التقدمية’ للمنظومة الرأسمالية المعاصرة انطلاقا من الفهم التاريخي الصحيح لفكرة أولوية المنظومات الاجتماعية /الاقتصادية/ الثقافية، المتقدمة – بالضرورة- على ما قبلها من منظومات ‘قرونوسطية’. بل صار العكس صحيحان حيث لعب الوعي السياسي/الاجتماعي الواهن والسائد (العاطفي/الطائفي/القبلي) دوراً كابحاً للتقدم والحداثة والتنوير المرتجى. ومما يزيد الطين بّلة أن هذا الشكل من الوعي الاجتماعي/السياسي (الاسلاموي/التقليدي والثورجيّ /الراديكالي) مازال سيد الموقف السياسي وحتى الأمد المنظور، الأمر الذي لا يدعو لأي تفاؤل قريب، بجانب أن هذا النوع من الوعي السياسي يقوم بدور’المعول’ الهدّام لما تم بناؤه وإنجازه من خلال سلك درب’الاحتقانات’الاجتماعية المصطنعة(المناطقية والفئوية)، مما يسهّل بالطبع في تراجع أي’ حكم’ أو أي’نظام’ عن الاستحقاقات الديمقراطية، إن رأى’الفرصة’ المحلية والإقليمية والدولية سانحة له!
لعل صغر رقعة البحرين، حجم اقتصادها المتواضع، موقعها الجيوبوليتيكي، تركيبتها’الموزائيكية’ وإشكاليتها الديموغرافية حدا بها أن تكون من أولى’ضحايا'(بالمعنى الايجابي) هجوم العولمة المعاصرة، المخترقة لنسيج الدول النامية الضعيفة، منها التخوم العربية ومثيلاتها الأكثر هشاشة والأقل حصانة من بين دول العالم.. في وقت تعبّر ظاهرة العولمة في العلاقات الدولية عن إرهاصات تاريخية واستحقاقات عصرية ذي محتوى موضوعي، لا يمكن التملص منها والمراوغة ضدها، من قبل أنظمة حكم مازالت تتسم بضعف مؤسساتي، خواء في التفويض الشعبي ونقص بيّن في الوعي الاجتماعي، وإن بدت لها أو توهمت أنها تملك مساحة من المناورة تؤهلها للحد من الضغط الدولي والتغاضي عن التزامات العهود الدولية، المنبثقة من القانون الدولي، الذي يعمل تحت مظلة الأمم المتحدة. غير أن المشكل هنا هو ‘وضع الباطة السياسية’، الذي حُشِرنا فيه أو حَشَرنا أنفسنا فيه، حيث صار فيه الوضع السياسي/الاجتماعي ضبابي الرؤى.. بل إن البرنامج الإصلاحي برمته قد يكون عرضة للتفريغ عن محتواه التحديثي والتنويري المرجو، إذا ما ظل اللاعبون الكبار غير مدركين ضرورة الخروج من ‘المأزق’ وجدوى اللقاء في منتصف الطريق والتعلق بـ ‘مبادرة’ ما، والركون إلى لغة الحوار للوصول إلى التوافق المجتمعي حول الأساسيات لصون المنجزات وتطويرها للخروج من المنغصات.. هل سنسلك هذا الدرب ضمن شروط اللعبة و انطلاقا من دوامة ‘ المروحة’ ووضعها ‘السكوني’ الحالي الموسوم بالـ ‘باطة السياسية’..أم يجرى البحث عن دور آخر من ‘لعبة الشطرنج السياسية’ ؟!
الوقت 21 مارس 2009
السر وراء صمود أسعار السيارات
تثير مسألة عدم انخفاض أسعار السيارات في البحرين، رغم أزمة الكساد العظيم التي تعصف بالعالم، جدلاً مجتمعياً واسعاً في الدواوين كما عبر عدد من المواقع والمراسلات البريدية الإلكترونية واسعة النطاق. فأسعار السيارات بجميع ماركاتها مازالت محتفظة بمستوياتها العالية التي بلغتها إبان ارتفاع تكاليف الإنتاج في السنتين الأخيرتين نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة (النفط والغاز ومشتقاتهما تحديداً). بل إن أسعار بعض أنواعها قد سجل ارتفاعاً ملحوظاً قياساً إلى سعرها في العام الماضي. والواقع أن الأمر لا يقتصر على أسعار السيارات وإنما يمتد ليشمل عدداً من السلع الاستهلاكية والغذائية أيضاً. ولكن إذا كان نجاح السلع الاستهلاكية والغذائية في الاحتفاظ بمستويات أسعارها التي كانت حققتها أثناء ذروة صعود الدورة الاقتصادية العالمية، مفهوماً باعتبارها تتمتع بطلب عال متصل غير منقطع بسبب صعوبة الاستغناء عنها، فإن إصرار وكلاء السيارات في البحرين (وإلى حد ما في دول مجلس التعاون الأخرى) على الاحتفاظ بالمستوى السابق للأزمة من أسعار سيارات معارضهم، بما في ذلك الطرازات الجديدة التي تم استيرادها في الربع الرابع من العام الماضي، أي بعد اندلاع الأزمة، فإن هذا في الوقت الذي يُعد فيه ضرباً من الفهلوة والتذاكي على حقائق السوق وروادها من منتجين ومستهلكين، فإنه يعكس في الوقت نفسه ضعف الثقافة الاقتصادية الكلاسيكية والمعاصرة لدى شريحة كبيرة من أرباب قطاع الأعمال، وضيق أفقها المتمحور، وربما المتوقف، عند ‘هامش الربح’ وحده كمتغير اقتصادي ثابت (Constant Variable). حدث هذا رغم التراجع الكبير في حجم مبيعات السيارات لدى كافة وكلاء السيارات المحليين في الشهور الأربعة التي تلت الأزمة، بامتناع المشترين الجدد عن الإقدام على شراء سيارات جديدة بانتظار هبوط متوقع ومفترض في أسعارها أسوة بما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. إلا أن ‘تجار’ السيارات لدينا لا يعترفون بشي اسمه تعاقب الدورات الاقتصادية باعتباره مكوناً أساسياً من بنية الرأسمالية وقوانينها، ولا دورة الكساد التي تتميز بتراجع أسعار المنتجات والسلع نتيجة لانكماش الطلب عليها وتكدسها في المخازن. العالم كله مقلوب بأحداث الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والحكومات والشركات والمؤسسات والبنوك تعمل المستحيل من أجل إعادة الروح إلى اقتصاداتها التي تصلبت مفاصلها بسبب عدم انتظام جريان ‘الدم’ (السيولة) فيها. حتى بات ممكناً القول إن حكومات دول عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان بدأت تستنفذ ذخيرتها من أدوات التدخل السريع لحقن وإنعاش الاقتصاد، بعدما فشلت الدفعات المتوالية لحزمة الأموال التي ضخت حتى الآن في اقتصاداتها، وبعد أن وصلت معدلات الفائدة فيها إلى ما يقارب الصفر. ومع ذلك فإن كل هذا لا يعني شيئاً لجهابذتنا التجار .. أبداً ‘عمك أصمخ’ كما يقول المثل الشعبي. في الولايات المتحدة التي هوت فيها مبيعات السيارات الأمريكية بأكثر من 41٪ في شهر فبراير الماضي لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ 3 عقود، لم يجلس منتجو وموزعو السيارات الأمريكية لينتظروا تخلي الأمريكيين عن عزوفهم عن شراء السيارات وأخذ قروض جديدة لتمويل عمليات الشراء هذه كما هو حادث في العادة، وإنما هم تحركوا لمحاولة استنهاض الطلب الراكد بعرض خصومات هائلة على أسعار سياراتهم كي لا ‘تصدِّي’ في مخازنهم. الشيء نفسه فعله أرباب صناعة السيارات الأوروبية واليابانية التي انخفضت فيها مبيعات كل من تويوتا موتور كورب ونيسان موتور بنسبة 37٪، وتراجعت مبيعات هوندا موتور بنسبة 38٪ من الشهر نفسه. وما دام الشيء بالشيء يذكر فلقد اشترى بعض كبار التجار لدينا كميات كبيرة من حديد التسليح إبان فترة ارتفاع أسعاره حين وصل سعر الطن الواحد إلى أكثر من 1700 دولار (أكثر من 600 دينار)، وذلك في محاولة للاستفادة من طلب قطاع الإنشاء والتعمير، القوي آنذاك، على مواد البناء. ولكن ذلك كان قبل بضعة أشهر. أما اليوم فإن سعر الطن الواحد من حديد التسليح فيبلغ حوالي 500 دولار (حوالي مائتي دينار). وكان من الطبيعي أن يتعرض هؤلاء التجار إلى خسارة كبيرة نتيجة الفجوة الكبيرة التي حدثت بين سعر كلفة الشراء وسعر السوق اليوم. فهم لم يتحسبوا لشيء اسمه فقاعة سوق العقار والتشييد، ولم يقرأوا التداعيات المالية والاقتصادية العالمية لأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، ولم يبادروا للتخلص من مخزون مشترياتهم حين استشعروا بداية انحدار السوق. فلقد آثروا الانتظار لحين استعادة مستويات أسعاره السابقة! وهم اليوم يحاولون بشتى السبل تعويض الخسائر التي مُنيوا بها! تجار السيارات لدينا، كما هو معروف يحسبونها بالملِّي كما يقول المثل الشعبي. فهم لا يشترون كميات غير معلومة من السيارات ويخزنونها في مخازنهم، وإنما هم يقومون بحجز الكميات المقاسة بناءً على طلبات الحجز الفعلية للزبائن، بما يضمن تصريف أغلب الدفعات المستوردة، وما يتبقى من معروض في المعارض والمخازن، بسبب ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية الداهمة المتسربة آثارها إلى كافة الاقتصادات العالمية، فهو لا يعدو أن يكون تلك الكميات التي تم استيرادها بناءً على تاريخ (History) الطلب على أنواع محددة من الماركات سريعة التصريف. أما لماذا لم تنخفض أسعار السيارات، فذلك لأن وكلاءها ليسوا مضطرين لتصريفها بأسعار مغرية لتحفيز الطلب المتراجع، وذلك لأنهم ليسوا في ضائقة مالية تضطرهم للبحث عن سيولة حالّة لسداد قروض شرائها كما هو حال أولئك الذين يشترون الأسهم بواسطة قروض مصرفية، فإذا ما انخفضت قيمتها إلى مستويات مقلقة فإنهم يضطرون لبيعها لسداد جزء من الدين للبنك. فتجار السيارات مولوا صفقات شرائهم، على ما هو واضح، ذاتياً. وهم لن يخسروا شيئاً إذا ما تأخر تصريف سياراتهم بضعة شهور على أمل يأس الزبائن من حصول تخفيضات في أسعارها ومعاودة طلبهم عليها بأسعارها المحسوبة على أساس هوامش الربحية السائدة إلى ما قبل الأزمة، مع أن بقاء السيارات غير المباعة في الميناء يكلف التاجر المستورد لها 5 دنانير يومياً كرسوم أرضية. كما إن عدم وعي المستهلكين، بمجاراتهم لقوانين لعبة السوق التي يفرضها التجار، بإقبالهم على شراء السيارات يجعل التجار غير مضطرين لإحداث حسومات سعرية عليها.
صحيفة الوطن
22 مارس 2009
العرب وفرنسا.. وحلف “الناتو”
جاء إنشاء الحلف الاطلسي الذي يضم في عضويته الدول الكبرى الغربية وعددا من الاوروبية الرأسمالية الغربية على خلفية بدايات انطلاق الحرب الباردة بين المعسكرين، الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي بعد أن برزت هاتان الدولتان باعتبارهما القوتين العظميين المهيمنتين على النظام الدولي الجديد المتشكل في اعقاب انتصارهما الكبير على المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
ومنذ انشائه ظلت الرسالة التي يتوخاها هذا الحلف أو العقيدة القتالية له، ان جاز القول، التصدي للشيوعية أو المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي وفرض الحصار العسكري عليه أو حتى ردعه عسكريا، إذا لزم الامر.
ولم يكتف هذا الحلف ذو الطبيعة العدوانية الامبريالية بذلك، بل امتدت مهامه الى التصدي لحركات التحرر الوطني في المنطقة العربية وعدد من مناطق العالم الأخرى وذلك بدعوى مواجهة “المد الشيوعي” في ظل تحالف تلك الحركات مع الاتحاد السوفييتي، سواء التي وصلت منها إلى السلطة وحققت لبلدانها انجاز الاستقلال الوطني عن الدول المستعمرة، أم التي مازالت خارج السلطة.
وليس سرا على سبيل المثال، لا الحصر، الدور الذي لعبته تركيا في تقديم خدماتها اللوجستية إلى الحلف في الحروب التي شنتها اسرائيل على العرب طوال سني الحرب الباردة، ناهيك عن الدور الذي لعبته دول عربية وخليجية من هذا القبيل، ان باسم اشكال من التعاون السري أو العلني بصورة مباشرة مع الحلف، وان من خلال احد اعضائه كأمريكا وبريطانيا خصوصا التي تكبل كل منهما بعض تلك الدول باتفاقيات تعاون عسكري ثنائي من ضمنها إنشاء قواعد عسكرية حتى لو تعارض ذلك مع سياداتها الوطنية.
على ان الحلف واجه تحديا حقيقيا في حجم قوته العسكرية في ظل ولاية الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول المعروف بنزعته الاستقلالية عن الدول الغربية الكبرى وعلى الاخص الولايات المتحدة وذلك حينما اعلن هذا الرئيس قراراً بالانسحاب العسكري من الحلف عام 1966م، وقام باخلاء جميع القواعد العسكرية في بلاده من القوات الاطلسية، بما في ذلك القيادة العسكرية للناتو (الاطلسي)، وذلك كتعبير عن التمسك بأولوية سيادة بلاده على جميع أراضيها، هذا فضلا عما نشأ من تضارب بين فرنسا وسياسات الحلف الاطلسي في القضايا الدولية الملتهبة حينذاك.. وكان هذا الانسحاب يشكل مكسبا كبيرا ليس للاتحاد السوفييتي السابق فحسب بل للعرب عامة وعلى الاخص قوى وحركات التحرر الوطني العربية وعلى رأسها الحركة الوطنية الفلسطينية الفتية، ولاسيما ان هذا الانسحاب قد جاء قبل عام واحد فقط من العدوان الاسرائيلي عام 1967م على العرب.
ومع انه يفترض ان يحل هذا الحلف العسكري الغربي نفسه بعد انتهاء الحرب الباردة على اثر انهيار الاتحاد السوفييتي اسوة ببادرة حلف “وارسو” الشرقي بحل نفسه عشية انهيار المنظومة الاشتراكية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن ساسة الدول الكبرى الغربية الاعضاء في الحلف، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ظلوا متمسكين بتأدية مهامه السياسية – العسكرية على الساحة الدولية بما يخدم مصالحهم واستراتيجياتهم العسكرية الكونية، مع اجراء بعض التغييرات والتكييفات المناسبة لاكساب هذا الحلف دورا جديدا يتلاءم مع مرحلة انتهاء الخطر الشيوعي بزوال الاتحاد السوفييتي في حين ظل الجوهر العدواني أو المناقض للمصالح الوطنية والعسكرية لبلدان العالم الثالث هو هو لم يتبدل.
وكانت الفزاعة الجديدة التي استعان بها الحلف بدلا من الفزاعة الشيوعية السابقة هي مكافحة “الارهاب” والتعاون في مجال الامن وتحقيق الاستقرار في البلدان والمناطق التي تواجه هذا الخطر، سواء ازاء قوى وجماعات غير نظامية، كالقاعدة، أو إزاء دول تهدد جيرانها واستقرار مناطقها كإيران وكوريا الشمالية والعراق في ظل النظام السابق، وإلى ذلك فقد حقق “الناتو” مكاسب عملية على الارض لم يكن يحلم بتحقيقها خلال مرحلة الحرب الباردة، ومن ذلك ضم عدد من دول العالم في صفوفه من بينها، ويا للمفارقات التاريخية، دول في حلف وارسو الشرقي السابق المعادي للحلف.
أكثر من ذلك فقد تمكن الحلف من ان يمد مظلته الامنية والدفاعية الى دول غير منضوية فيه من خلال اتفاقيات التعاون المشترك الثنائية، ومن بينها للأسف دول عربية، كما أضحى بعض هذه الدول ومن ضمنها دول خليجية لا تجد أي حرج أو خجل من الاعلان عن اشكال التعاون العسكري مع “الناتو” والتفاخر به بعدما كان ذلك في عصر الحرب الباردة من المحرمات التي تتجنب الدول الحليفة للدول الغربية الكبرى الاعلان عنها في ظل ما هو معروف من وقوف صريح للحلف إلى جانب اسرائيل ضد العرب. وهكذا وجدنا دولا عربية لا تتورع عن الاعلان عن اجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الناتو، أو لا تجد هي أو بعضها الآخر حرجا من احتضان ندوات سياسية امنية وعسكرية يدعى إليها كبار الاكاديميين والساسة والمتخصصين الامنيين والعسكريين لمناقشة افاق تطوير التعاون السياسي والامني والعسكري معها مجتمعة، إذا ما كانت تمثل مجموعة اقليمية واحدة متجانسة، أو مع كل منها على حدة، ويجري ذلك حتى لو كان الحلف مازال يتعاون مع اسرائيل ومازال يقف ضد دول ليس من مصلحة الدول العربية مواجهتها عسكريا كإيران وكوريا والصين وغيرها. ناهيك عن مخططاته العسكرية الجديدة ضد روسيا صديقة العرب.
ومن المؤسف ان كل تلك النجاحات الاختراقية التي يحققها “الناتو” في المنطقة العربية تجرى في ظل صمت شبه تام من قبل قوى وحركات المعارضة الوطنية والديمقراطية والإسلامية في المنطقة العربية وكأنما هذا التطور الخطير المتصاعد لا يعنيها من قريب او بعيد، ولعل آخر انجاز مهم يحققه هذا الحلف العسكري الغربي المشبوه في ظل انحسار حركة التحرر الوطني العربية، ناهيك عن حركة “عدم الانحياز” التي باتت تحتضر، إعلان الرئيس الفرنسي اليميني عن عودة بلاده إلى العضوية الكاملة للحلف بعد ان ظلت خارجه عسكريا طوال 43 عاما، تعاقب خلالها على رئاسة فرنسا قادة من انتماءات حزبية يسارية ويمينية معتدلة.. ويظل السؤال قائما: هل ستظل قوى وحركات المعارضة العربية تلوذ بالصمت مستنكفة حتى عن الكلام كأضعف الايمان؟!
صحيفة اخبار الخليج
22 مارس 2009
مسيرة نوال السعداوي
كان الأب مفتش التعليم والمثقف هو الذي وفر لها التميز، لكنها كانت تحس تجاهه بشكلٍ غريب؛ (كأنما أبي يكره قامتي المرفوعة أو البريق في عيني المتعجل الانطلاق خارج البيت)، (أوراقي ، حياتي، ج1، مكتبة مدبولي)، فهي تحس هنا بكون أبيها يمثل عائقاً أمام حريتها.
لكنه دعمها بالعلم ووقف معها، وهو كغيره جعله المجتمع الأبوي يفضل الذكور، ويريد أن يكون ابنه البكر هو البارز، لكن البنت (نوال) هي التي صعدت وبرزت، بل صارت مكان هذا الأب وتحملت مسئولية الأسرة.
ناوأت الذكورية المتسيدة حتى الداعمين لها من بينها، وأحبت من عائلتها النساء الرافضات للخنوع، القريبات من الذكورة الطاغية.
جانبان من شخصيتها متضادان، جانب ديمقراطي تناضل فيه مع بقية الناس للتغيير، فيتحد الرجال والنساء في عمل مشترك، وجانب دكتاتوري في شخصيتها، تريد داخله أن تكون هي الذكر المسيطر.
جانب عقلاني فيه هدوء وتبصر ونضال صبور، وجانب غير عقلاني، عاطفي حاد، تقفز فيه على الظروف والأوضاع الموضوعية، وتريد هدم ما تكرس خلال الآلاف من السنين، حتى لو كان ما تكرس أدياناً ورموزاً وعلاقات متجذرة.
ما وصل إليه الذكور في الحركات السياسية من قيادة ونضال مسلح، تريد اختراقه والاتحاد به، فتتطوع في خلايا عسكرية وتقاتل بشجاعة ولكن بلا نجاح وبلا صعود إلى القيادة البارزة.
الأديان لديها كأنها تآمر ذكوري وليست نتاج عشرات الآلاف من السنين؛(الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم)، (ج 2، ص 14).
لم تكن الأديان نتاج تآمر أو رغبة حكام، كانت تكوينات فكرية منذ فجر التاريخ، وفكرة اليوم الآخر ظهرت لدى الفقراء الذين حرموا من كل شيء وليست اختراعاً فرعونياً.
ومن هنا تصبح الأديان في وعي نوال السعداوي مؤامرات الرجال، وليست ثورات في زمنها سيطرت عليها قوى الاستغلال وكيفتها حسب مصالحها بعد ذلك.
ومن هنا كانت نوال ضحية الأنظمة الشمولية وهي تصادر سنوات من حياتها وترميها في السجن، وضحية التنظيمات الدينية المتشددة التي ترى كتاباتها الشاتمة لرموزها المقدسة.
مناضلة عنيدة طوال عقود من أجل تحرر النساء والشعوب، وكارهة لتراثها الذي هو في رأيها سجن لهؤلاء النساء وهذه الشعوب.
عاشت حياة التضاد بين الريف الفقير الذي ينتمي له أبوها وجدتها وجدها، الذين لهم جذور حبشية، وبين أمها التي تنتمي للفئة المتوسطة المدنية البيضاء ذات الجذور التركية.
تقول عن العامة (عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة).
رغم حضور الأب المحول لحياتها، وهو الأمر الثقافي الذكوري الذي أسسها، تظل مع الأم، التي لم تكن لها مواقف أو تأثير إيجابي محول فيها، لأن الأم ذهبت ضحية الولادات المستمرة والأمراض، فظلت في أعماقها بأنها هي الأصل.
(يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق. مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح)، ص 110، ج.2
وتقول أيضاً؛ (إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء)، والمنيسي أحد المقاتلين على جبهة القناة.
هنا في هذه التعبيرات تتحول إلى درويشة وتلغي ما تقوله عن المادية والعقلانية.
تنتمي للثقافة التي صنعها الذكور وتكرهها وتكرههم.
تتذبذب بين موقف نسائي ديمقرطي وموقف نسوي شمولي رافض للذكورة الإيجابية.
تعالج رموز الأديان بعقلانية لحظة ثم تقذفها في أسفل سافلين بعد فقرة أخرى.
تعتبر كل ما يكتبه الأدباء الرجال ضد النساء غير مميزةٍ بين روائي رومانسي وروائي واقعي، روائي يطمس عذابات النساء وآخر يجسدها بعمق وحرارة.
لا شك ان الأوضاع الريفية الرهيبة التي عاشتها، من الفقر وختان النساء وتزويجهن بالقوة واستخدام الضرب العنيف ضدهن، كلها شكلت لها هذه الخلفية:
(في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف)، ص 116، ج.2
عاشت مناضلة وطبيبة وسط الريف وكعادتها توحدت بنماذجها المحطمة كمسعودة التي كانت تعيش كابوساً أسرياً بسبب سيطرة زوجها وممارساته الجنسية المرضية، فتحول لها كل ذلك إلى تصور ممسوس تظن فيه أن الشيطان يلاحقها.
لكن نوال اتهمت الشرع بشكل عام بأنه وراء الدفاع عن هؤلاء الأزواج المجرمين، بدلاً من أن تدرس الحالة وتحيلها إلى قضية شرعية ضد الزوج.
وهذا يجعل الكاتبة تتحول إلى موقف عنيف:
(تحصنت بالطب لأبقي مسعودة بعيداً عن زوجها. القانون أقوى من الطب، يستند إلى شرع الله، اصبحتُ كمن تصارع الله والشرع)، ص 145، ج.2
كان من الممكن هنا أن تفضح ممارسات الزوج وتدينه، فموقفه ضد الشرع. لكن المؤلفة في لحظة الحرقة تنتقل من حدث صغير إلى حكم عام هائل، سلبي، يدفعها إلى ذلك الموقف الحاد المتسرع الكامن في ذاتها مع نقيضه العقلاني، وهذا ينتقل في حالات أخرى إلى سب الرموز، والتراث، فتشكل عداوات أخرى وتفتح معارك جديدة بلا قيمة.
لقد أعطت نوال السعداوي الكثير من الكتابات والأبحاث الهامة وناضلت بقوة من أجل تحرير النساء والمجتمعات من غياب المساواة.
صحيفة اخبار الخليج
22 مارس 2009
لماذا يغيب الجانب الرسمي؟
مرة تلو أخرى نعاود طرح ذات السؤال, علنا نحظى يوما بإجابة شافية من قبل من يعنيهم سؤالنا هذا لدى الجهات الرسمية, فمن خلال الحوارات والنقاشات التي دارت مؤخرا وفي أكثر من ورشة عمل وندوة ومؤتمر, ربما كان آخرها ندوة مناقشة توصيات نادي مدريد بالمنبر التقدمي, ومؤتمر المواطنة وتكافؤ الفرص الذي نظمته الجمعيات السياسية الست, والذي بعد الانتهاء من عرض أوراق العمل المعروضة عليه, كان واضحا التساؤل والاهتمام الذي أبداه الجميع تقريبا عن سبب غياب الجانب الرسمي عن مداولاته, حيث طالب المؤتمر بضرورة الإسراع في وضع حلول يتشارك فيها الجميع من مؤسسات مجتمع مدني وجمعيات سياسية ومهتمين إلى جانب اللاعب الرئيسي في هذه القضية بالذات ألا وهو الحكومة. فمن خلال الكلمات التي أُلقيت سواء تلك التي كانت باسم الجمعيات السياسية أو حتى مداخلات بعض الشخصيات الوطنية التي حضرت ذلك المؤتمر الهام, وقبلها أوراق العمل التي أفصحت بجلاء عن حجم الضغط الذي تمثله تلك القضية بكامل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية, ليس فقط على الحكومة فحسب بل على الدولة ككيان وعلى المجتمع بمختلف شرائحه, ووجدنا ذلك واضحا أيضا من خلال طبيعة الأوراق التي تناولت المسألة برمتها ومن مختلف زواياها وعلاقة كل ذلك بالتشريعات المعمول بها وعلى رأسها الدستور, وعلاقة ذلك بالتشريعات والمواثيق الدولية التي تجاهد الحكومة لمسايرتها , حتى تضمن أن لا يشوه ما أنجزناه معا, قوى مجتمعية وقيادة سياسية أيضا, من تقدم نسبي خلال السنوات الثمان الماضية, والذي أضحى استمراره ضرورة لإدارة الجهات الرسمية والمدنية المعنية لمثل تلك الملفات المعقدة والمعلقة إلى أجل لا نعلم متى يحين, خاصة وأن إفرازاته أصبحت مؤذية بحق, حتى لتطور دور الدولة المنشود , علاوة على أن طبيعة التحديات والمخاطر المنتظرة تظل مفتوحة على الكثير من الاحتمالات وسوء التوظيف من أكثر من طرف, وهي لذلك تستدعي سماع رأي الجانب الرسمي فيها, والذي ظل بكل أسف غائبا عن حضور تلك الملتقيات. ولكي ندلل على ما نقول فان مجرد عدم حضور الجهات الرسمية لمثل تلك الفعاليات والتي كان آخرها مؤتمر المواطنة هذا, وقبله الكثير من المؤتمرات والورش والندوات كما أسلفت, في ظل تزايد الهواجس الأمنية التي , فإننا نفهم بوضوح أن ذلك الغياب الرسمي وعدم الاكتراث المزمن معناه الوحيد والأوحد هو عدم التوجه الرسمي نحو القوى المجتمعية المختلفة بمزيد من خطوات تعزيز الثقة والسير بطريق تحقيق الشراكة المنتظرة, التي بقينا ومعنا السلطة الرسمية ننادي بها باستمرار, وقدمت مختلف القوى المدنية والسياسية ما يشفع لها باتجاه تحقيق تلك الشراكة الايجابية المنتظرة, والتي قلنا مرارا أنها كفيلة إنْ هي اُعتمدت كنهج رسمي على المستوى الرسمي أن تحقق المزيد من عوامل تعزيز الثقة وترشيد الخطاب العام على مستوى الدولة ككل, علاوة على أنها يمكن أن تفضي مع الوقت نحو تحقيق لغة مشتركة أو متقاربة, وحد أدنى من التفاهم بين مختلف الفرقاء بمن فيهم الجانب الرسمي طبعا, حول العديد من الملفات والقضايا المعلقة, حيث يصبح بعدها ممكنا التوصل ولو تدريجيا إلى حلول بدلا من المكابرة والتصلب في المواقف ومن مختلف الأطراف طبعا, دون التفكير بحكمة واتساع أفق في إيجاد فضاءات أرحب أمام العمل السياسي, وبدلا من التعويل دوما على الحلول التقليدية , التي هي بمثابة التعبير عن انغلاق كل منافذ الحوار البناء, والعمل المشترك بين الحكومة والمجتمع, أو حتى مجرد الاعتراف بضرورة الشراكة المجتمعية, حتى لا تسمح بجر الوطن إلى متاهات يصعب الخروج منها لاحقا, علاوة على مراكمة القضايا العالقة دون حلول, وهي لذلك كفيلة بتعطيل مسار البناء والتنمية وزيادة حدة الاحتقانات, في دولة توافقت جل مكوناتها يوما ولا زالت على المضي قدما في عملية النهوض الحضاري.
صحيفة الايام
22 مارس 2009