المنشور

وكيف لنا أن ننسى..؟!


 «الحياة أعز شيء للإنسان ,إنها توهب له مرة واحدة, فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنيين التي عاشها, ولا يلسعه العار على ماض وذل تافه, وليستطيع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي, كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية» – نيقولاى أوستروفسكى الكاتب الروسي الذي ألف كتاب والفولاذ سقيناه.
فهل يا ترى خطى حسن مدن في كتابه «ترميم الذاكرة» هذه الخطوة باتجاه ترميم ذاكرته فعلا من خلال تلك الآلام والمآسي والأحزان التي عاشها هو وغيره من المناضلين؟ فالواقع يفعل فعله فينا نحن البشر فنبدأ في غرس بذور الحياة رغم الأشواك. هذا الفتى الخارج للتو إلى حياة لا يعرف إلى أين ستقذف به بعد إكمال دراسته الثانوية, فإنه وبقوة وحماس وإخلاص للنضال تلتهب في أفكاره أنبل المعتقدات وأكثرها تقدمية عن الحرية وسعادة الإنسان, سيجد مشواره يطول ويتشعب إلى أن يصل في نهايته إلى ما وصل إليه. حدثنا حسن في كتابه عن اهتماماته الإبداعية وعن حياته الشخصية دون رتوش, وترك لنا الحكم على واقع عاشه هو وبمعية آخرون غيره ساهموا كل بقسطه في النضال من أجلنا جميعا. وفى الفصول التالية من كتابه القيّم الذي نعتقد انه يجب أن يُقرأ من قبل كل من يعنيهم ماضي وتاريخ ومستقبل هذا الوطن, يحكي لنا وبأسلوب شيق ورشيق بعضا من الأحداث التي مرت بها أجيال متعاقبة من خيرة أبناء هذا الوطن وبطريقة تكشف وتنم عن فكره ومحنه. فإلى جانب مشاغله الدراسية والحزبية وعذاباته الشخصية, كانت له اهتماماته الفكرية والأدبية إلى الدرجة التي جعلته يتدرج في مناصب مهنية وصحافية أهلته لأن يكون في مصاف الكتاب والأدباء المبدعين.
لم يشعر حسن قط, شعورا أجل وأعظم من شعوره الآن بعظمة الآمال والآلام التي عاشها من أجل أن يحظى هو والآخرون بعظمة المبادئ التي يحملها والتي مكنته من مواجهة صعوبات الحياة, فرغم كل الصعاب والعقبات بلغ بعضا من أهدافه وغاياته وانتصر على الكثير من محنه وآلامه, مثله مثل من كانوا ومازالوا يحفرون الصخر بكل تواضع وثقة وصبر.
لا أبالغ إن قلت إن كتاب «ترميم الذاكرة», هو أكثر الكتب التي كتبت بأسلوب مشوق عن أحداث السبعينات من القرن الماضي من تاريخ البحرين المأساوي إبان فترة الاحتقانات في ظل قانون أمن الدولة السيئ الصيت الذي لم يُوفر أحداً دون ندوب, فشظاياه طالت آلاف البحرينيين وحكايات حسن مدن هي حكايات هؤلاء جميعاً. إنه -أي الكتاب- يوجز ويعيد إلى الذاكرة كل ما عاناه الكاتب خلال فترة منفاه الطويلة عن البحرين, ونراه يقدم لنا من خلاله ضنك وعذابات سنوات طفولته وشبابه وتشكل شخصيته والخيارات الصعبة التي وجد نفسه في قبالتها في ظل عدم وجود خيارات حقيقية أصلا. يقول حسن «يبدو أن الدموع هي في الأصل لغة, وإلا لما كانوا تحدثوا عن دموع للحزن وأخرى للفرح», فما إن أوشكت على الانتهاء من قراءته حتى أغرورقت عيناي بالدموع وأنا أتخيل كل تلك المحطات وكل تلك الأحداث التي مرت به وكأنما هي سلسلة من الأحداث المتتابعة, وعلى الأخص حكايته مع ابنه (علي).
«كان علي في عمر حرج, لم يكن في عامه الأول أو شهوره الأولى, وإنما كان قد بلغ الأربع سنوات, وكان أمر علاقته معي صعباً في البداية لم يسبق له أن رآني ولم تشكل حكايات أمه عني إليه ما يعوض بعدي عنه, وسنحتاج معاً, أنا وهو لبعض الوقت حتى نستطيع الاقتراب من العلاقة المألوفة بين ابن وأبيه وأب وابنه». هكذا كان حال المناضلين جميعاً, النائب السابق وأحد ضحايا أمن الدولة المحامي محسن مرهون ولدت ابنته «زويا» وترعرعت وهو في المعتقل وآخرون غيره أيضا, لو أردنا تعدادهم وإحصائهم واستحضار عذاباتهم وقصصهم لاحتجنا وقتاً طويلاً ومجلدات للكتابة عنهم.
في روايته الرائعة سيدة المقام, يقول واسيني الأعرج «كم هو قصير هذا الزمن وذاكرته لا ترى أكثر من حاضرها» وأضيف عليه كم هي قصيرة ذاكرة بعض البشر من حولنا أيضا. منذ السبعينات وربما قبل ذلك أيضا, فقد مضى على أحزان مدن أكثر من ثلاثين عاماً وها نحن نتذكرها, كيف لا وقد خلقت فينا تلك الفترة الرعب وأدخلت فينا الرهبة, منذ أن تطأ أقدامنا مطار البحرين الدولي وحتى وأنت في منزلك تشعر بالرعب يجتاحك من كل حدب وصوب.
أقرأ كتاب حسن, أرتعش أمام الأحداث التي مر بها وكأنما هي شريط من الذكريات الحزينة المؤلمة في فترة لم يسلم منها أحد, ففي كل بيت هنالك قصة ولكل طفل حكاية ولكل أم مأساة. «ثلاثون سنة لا شيء في حياة إنسان يحب الحياة» يقول واسيني الأعرج في روايته طوق الياسمين, «ولكن ألا تكفي تلك السنون للخروج من ثقل أحزانها ووطأتها؟ لا أعتقد ذلك, فالندوب والمهانة والإذلال والقتل والتعذيب تحمل دلالاتها فينا وفي قسماتنا المتعبة ولازالت تشكل حاجزاً أمام نسيانها». وفي مكان آخر يقول واسيني, « الحياة إذا لم تكن مشفوعة بأمل فهي قاسية جداً» وهكذا كان حال حسن وغيره من أبناء تلك المرحلة, كان الأمل هو الطريق إلى الخلاص من ذاك الكابوس ومن حقبة لم تنته إلا وحفرت وأكلت من أجسادنا ومن نفوسنا الكثير الكثير.
وأنا اقرأ الكتاب دار في خلدي وتذكرت كل مآسي من أحببناهم, تذكرت هاشم الشهيد الحي في صورته البطولية وبشخصيته الألمعية القوية برغم محاولة سجانيه أن يهزموه فلم يستطيعوا فانتصر عليهم, ولم تمح من الذاكرة صورته الممتلئة بالشجاعة العالية والتفاني بمبادئه النبيلة تذكرت الأغلال والمحاكمات التي ما أن تنتهي واحدة لتبدأ أخرى وكل التهم جاهزة, فهل يكفي أن نقول كفى؟ كيف بجيل عاني ما عاناه أن ينسى؟ يقول حسن في كتابه «النسيان هو ذاكرة أيضاً يلجأ إليه وهو وسيلة من وسائل الهروب من سطوة حضور الذاكرة, لكنها أشد مكراً منا ومنه». كيف لهذه الذاكرة المثقلة بذلك الهم المهول أن تنسى ما ألم بها من أحداث وفصول متوالية من المآسي والأحزان. ففي لجة تلك المآسي هل مطلوب من الذاكرة أن تنسى وكفى؟ أشك في ذلك, فالنسيان نعمة لا يتمتع بها إلا القليل ومن فاقدي الضمير والإحساس. ومع ذلك فأمور عديدة نحتاج أن نتذكرها لتبقى وهجا في عتمة الأفق, وأمور أخرى نحاول جاهدين إن استطعنا نسيانها حتى نستطيع مواصلة مشوار الحياة الصعب. فهل لنا أن ننسى؟
 
الأيام 6 مارس 2009

اقرأ المزيد

عن الاتجار بالبشر


أمرٌ طيب أن تستضيف بلادنا مؤتمراً دولياً عن الاتجار بالبشر, وأن يستضيف المؤتمر هذا العدد المهم من الشخصيات ذات العلاقة بالموضوع. هو أمر طيب لأن المؤتمر, بالموضوع الذي يُعالجه, حدث مهم يضع البحرين في موقع الدول التي تتصدى لمعالجة قضايا كبرى ينشغل بها عالم اليوم, الذي يطرح على أجنداته مثل هذه المسائل التي تتصل بحقوق الإنسان وكرامته. والاتجار بالبشر, كما دلت على ذلك أيضاً مداولات المؤتمر الذي اختتم أعماله منذ يومين, موضوع معقد له أوجه عدة, مع أنها, من حيث الجوهر, تنطلق من قاعدة واحدة هي أهمية صون الكرامة الإنسانية, وحماية إنسانية الإنسان من الانتهاكات المختلفة, التي تجعل من البشر مادة للاستغلال والاضطهاد والتمييز بسبب العرق واللون والجنس والدين, وما إلى ذلك من صنوف التمييز.

كافحت البشرية طويلاً لمحاربة تجارة العبيد, وإنهاء عار الرق الذي أدمى كرامة الإنسان, وأظهر صنوفاً من البشاعة في طريقة تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان, واستطاعت بعض المجتمعات التي أسست «حضارة» عمادها القوة والجبروت على الآم البشر وأجسادهم, أن تجعل من مواطنيها موضوع الاستغلال جزءا من نسيجها الإنساني على أسس من التكافؤ, كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً, مما أثرى التعددية الثقافية والروحية. وتوج هذا المعراج الطويل الذي كان عبارة عن مخاض من الألم بأن تمكنت أمريكا من الدفع برجل ملون إلى موقع رئاسة البلاد, في ما يشبه المصالحة مع التاريخ, والتأسيس لواقع حضاري وإنساني جديد يعزز فكرة المواطنة المتكافئة, التي جعلت من أوباما ملهماً لملايين الأمريكيين من البيض والسود على حدٍ سواء.

لكن عار الاتجار بالبشر ما زال مستمراً بصور شتى في أنحاء العالم, وليس بوسع مجتمعاتنا الخليجية أن تتصرف كأن الموضوع لا يعنيها, فذلك لا يجوز لا من وجهة النظر السياسية, ولا حتى الأخلاقية, حين نتأمل في واقع اعتمادنا المفرط على العمالة الأجنبية, ليس فقط في المجال التنموي والاقتصادي, وإنما أيضاً في تدبر أمورنا المنزلية, وحتى في تربية أطفالنا. 

 الخليج اليوم تحت دائرة الضوء في هذا المجال. هناك منظمات دولية مرموقة ذات صلة بحقوق الإنسان وبحقوق العمالة المهاجرة تراقب بعيون يقظة أحوال مجتمعاتنا من هذه الزاوية بالذات. كما أن تفشي النمط الاستهلاكي للمعيشة, ومغريات السيولة المالية المتاحة في هذه المجتمعات باتت تشجع تجارة الرقيق الأبيض, الذي هو بدوره عار آخر في عالم اليوم, حين تقوم شبكات من المافيا المنظمة باستغلال الصعوبات المالية والمعيشية في بعض المجتمعات للدفع بفتياتها, بمن فيهن القاصرات في حالات معينة, إلى عالم الرذيلة التي تبحث لنفسها عن أسواق تتوفر فيها الأموال, وتخنقها أشكال الكبت الكثيرة. 

 أمر يحسب لصالح البحرين أن تستضيف مؤتمراً بهذه الأهمية تحت رعاية رسمية عالية المستوى ممثلة في قرينة عاهل البلاد, وسيحسب للبحرين أكثر لو أن مداولات هذا المؤتمر وقراراته شكلت محفزات ودوافع لتطوير التشريعات الوطنية ذات العلاقة بموضوع المؤتمر, وإذا أعطت البحرين مثالاً يُقتدى في التغلب على كافة المنافذ, المعلنة وغير المعلنة, التي عبرها تنشأ ظواهر المس بالكرامة الإنسانية في كافة أوجهها.



الأيام   5 مارس 2009

اقرأ المزيد

نـــِــــداءُ الــنَـهــــــار…!


 
 
 

 



نـــِــــداءُ الــنَـهــــــار…!
 




( إلـى عـشّـاق الـشـمـسً )

 

 

خـُـذوا مِـن شِـعـبــكـم هِـمَـمــا            وَمِــن تـــأ ريــــخِـــه شَـــمـمــا
ومـن ضــوءِ الـذيــن مـضــوا            لــتـمـشـــوا دربـَــــكــم قـُـدُمــــا
ومــن صــبــر ٍوتــضــحــيـــةٍ            لــمــن أمــسـى لــنـــا عَــلَــمـــا
ومــن عـــزم ٍبــمــعــتـــــــرك ٍ           بــكـــــم أُبْــقــــوه مُــحْــتـَــــدِما
وقـــوّوا نــظـــمَ أمْــــرٍكـُـــــمُ             فــقــد فـــاز الــذي نَــظــمــــــــا
ولا تــسـتــأنــســوا أبـــــــــداً             بــمـــن أبـــدى بـــكـــم بـَــــرَما
فـــهــذا مـــركــبُ الإبــحــــارِ            يــلــفــظ خـــــــــائــفـــاً نـَـــــدِما
وهــــذا مـــوكــبُ الأسـفـــــارِ            يــطــوي بـــأســـُـــــه عـَـــــدَمـا
فــلـــــولا ســـدرةٌ ســَمَــقـَـتْ             لــمــا طــيــــرٌ شـَـدا نــغــمــــــا
ولــــــولا قــطــرةٌ جـُـمــعــتْ             لــمــا غــيــثُ الــغــيــاثِ هـَمـــا
ولــــــولا جــمــرةٌ قـُـدحــــتْ             لــمــا دفءُ الــثــبــاتِ حَــمــــــا
ولــــــولا دُرّةٌ كَــمَــنـَــــــــتْ             لــمـــا غــواصُــنـــا اقــتــحــمـــا
ولــــــولا غــيـــــرةٌ بـَـذلـــتْ             لــمـــا عـَـرَفَ الــورى كــرمـــــا
ولــــــولا شـفــرةٌ رُفــضـــتْ             لــمـــا جــــاد الــوريـــــدُ دمـــــا
ولــــــولا حســـرةٌ سُـجـِــرتْ             لــمـــا طـَلـَبُ الـحــقــــوقِ سَـمـا
ولــــــولا نــظـــرةٌ صَــدقــتْ             لــمـــا أمــلٌ أنــــــــــــارَ سـَـمـــا
ولــــــولا فــكـــرةٌ لـَـمَــعَـــتْ             لــمـــا هــــدفٌ لــهــــــا رُسـمــا
ولــــــولا بــــــذرةٌ سُـقــيــتْ             لــمـــا جـــَـذْرُ الــثــمــارِ نـَـمــــا
ولــــــولا ســعــفـةٌ حــلــمـتْ             لــمـــا ضـــمّ الــطــيــورَ حـِـمـى
فـــلا تــهــنـــوا ولا تــدعــوا             لــكــم أمـــــراً وإن عـَـظـُـمــــــا
وكــونــوا مــجــدَ قــافــلــــة ٍ            وكــونـوا لــلــذُرى قـِـمَــمـــــــــا
وكـــونــوا قـــادةَ الـمـســرى            وصــونــوا الــصـفَّ مُــنْــسَجـِما
غـــداً تــأتــي نــهـــــــــارات ٌ            تــحــيـــلُ العــتــمَ مُــتـَّـهَــمــــــا
يــقــيــمُ الـعــشـقُ حـفـلـتـَـها             ويـُـصــبــحُ  عــدلُــهــا قـَـلـَـمـــا 


  
                   عـبـد الـصـمـد الـلـيـث                
26-2-2009
    خاص بالموقع     

اقرأ المزيد

علاوة الذل والمهانة!!


لو افترضنا جدلاً أن علاوة الغلاء صدقة – وهي أبعد ما تكون عن ذلك – فقد خسرت الحكومة أجرها بهتكها لآداب الصدقة التي تقضي بعدم تباعها بمنّ ولا أذى.. فعلاوة الغلاء كانت – ومازالت وما برحت وما فتئت – مبعث ذلٍّ وأذى لمشاعر المواطنين.. بدءاً بتأخيرها 3 اشهر بعد إقرارها من لدن سمو رئيس الوزراء.. مروراً بمطالبة الناس بالتسجيل لها علانيةً في مراكز مصطحبين معهم ‘’بقشة’’ أوراق ومستندات تثبت عوزهم ‘’مع أن المعلومات المطلوبة كلها موجودة في أجهزة الحكومة الإلكترونية التي أنفقت لعيونها الملايين’’.. وصولاً لنشر أسماء مستحقي العلاوة وأرقامهم الشخصية على الملأ، وما تلا ذلك من إجراءات مهينة: كمطالبة بعض من صرفت لهم علاوة الغلاء بإعادتها لسبب أو لآخر.. وفتح باب التظلم في مكان واحد ولفترة صباحية واحدة وليومين يتيمين في محاولة لتفويت فرصة التظلم على البعض.. وتنفير الناس ما أمكن من التظلم!!

الضجة التي طوقت المعونة منذ إقرارها مازالت مدوية لليوم، دخلت مؤخراً مرحلة جديدة انخرط النواب فيها بصراع مع الحكومة لتمديد العلاوة عاماً آخر فيما تصر الحكومة ممثلة في وزارة المالية على أن الغرض من المعونة قد انتفى بانحسار موجة الأسعار وانخفاضها!!
والله؟! انخفضت الأسعار؟ متى؟! ولم لم يخبرنا احد بذلك؟!
من الواضح أن الأسعار انخفضت في خيال الوزارات المعنية فقط لأننا – كمواطنين – لم نشعر بهذا الانخفاض بعد!!

مقابل كل ذلك رأينا كيف أفاضت دول الخليج على شعوبها بعلاوات وزيادات عدة في العامين الماضيين – بكل انسيابية وهدوء – تزامناً مع موجة الغلاء من جهة ولإشراك شعوبها في عوائد الوفورات والفوائض النفطية – التي بلغت في دولة كالبحرين حتى نهاية كما يتردد العام 2008 نحو 1,63 مليار دينار (الرقم المعلن فقط).. بل ورأينا كيف فزعت الدول الصناعية لإنقاذ أسواقها عبر ضخ المليارات لتخفيف صدمة الأزمة المالية رغم إيمانها المطلق – كدول – بقيم الرأسمالية الرافضة لكل أشكال تدخلات الدولة في إدارة السوق لنفسه – ورغم ذلك – لم تكن تلك الدول لتقف متفرجة على معاناة شعوبها وهي تملك ما تستطيع به فك خناق تلك المعاناة!!

في الأسابيع الماضية مرت العلاوة بمخاض عسير جعلها حديث الناس.. فأولاً فوجئ الناس بتصريحات عالية المستوى وصفت العلاوة بأنها ‘’نوع من الترف’’.. فلما اتحدت الكتل وأجمعت على عدم تمرير الميزانية ما لم يتم تضمينها علاوة الغلاء، جربت الحكومة مقاربة أخرى تقضي بمطالبة النواب بتمرير الميزانية مقابل وعد من الحكومة بـ’’ دراسة أمر المعونة’’ وحسناً فعل النواب حين فطنوا للأمر ورفضوا العرض؛ فلقتل أي قضية في البحرين كل ما تحتاجه هو تمييعها و’’دراستها’’.. وسيتكفل الزمن، وذاكرة الناس ونفسهم القصير، بالباقي!!

تصلُّب النواب في موقفهم دفع الحكومة إلى تقديم عرض ولا أغرب وأعجب.. ينص على مقايضة تمرير الميزانية بصرف معونة الغلاء للأسر التي يقل دخل الأسرة فيها عن 700 دينار (الزوج والزوجة معا) بواقع 50 دينارا للأسرة وتقليصها إلى 25 ديناراً بالنسبة للأسر التي تسكن في منازل مشتركة مع الأهل (باعتبار أن هؤلاء اقل عوزاً من سواهم!!) هذا طبعاً إن كان لديهم أبناء.. أما من لم ينعم الله عليه بالذرية الصالحة، فالحكومة لن تنعم عليه بالعلاوة (الصالحة).. وهو ما رفضه النواب بالطبع، ولا نعرف أساساً كيف تجرأت الحكومة على تقديم عرض ‘’يفشل’’ كهذا!!

ومازال مسلسل (تسول المعونة) مستمراً حتى إشعار آخر!!
 
الوقت 3 مارس 2009

اقرأ المزيد

نحو عقد اجتماعي جديد

يعرف الكثيرون الدكتور غسان سلامة بوصفه وزيرا سابقا للثقافة في لبنان, لكن سلامة قبل أن يكون وزيرا, وقبل ذاك أستاذا جامعيا وأكاديميا, فانه واحد من خيرة الباحثين العرب في التحولات الاجتماعية – السياسية في البلدان العربية, خاصة في ذلك الفرع من علم الاجتماع الذي يمكن أن ندعوه بعلم الاجتماع السياسي. وفي هذا السياق وضع غسان سلامة الكثير من المؤلفات والدراسات لعل أبرزها كتابه المهم عن المجتمع والدولة في المشرق العربي, الذي شكل أحد أعمدة البحث الميداني الموسع الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية عن تحولات المجتمع والدولة في العالم العربي, وفي منهج الدراسة وأدوات التحليل عند غسان سلامة ما يذكر بتلك النباهة والعمق اللذين أظهرهما الباحث الفلسطيني المرحوم حنا بطاطو في دراساته المعمقة حول تاريخ العراق الحديث والحركات السياسية فيه. وغسان سلامة من موقع الباحث الليبرالي المنتصر لفكرة الديمقراطية صاغ ذلك التشخيص الدقيق عما دعاه اللحظة الليبرالية في تاريخ المشرق العربي, ويعني بذلك تلك الفترة الزمنية في التاريخ العربي الحديث التي شهدت تعددية حزبية وسياسية شرعية قبل أن يصار إلى مصادرتها عبر حكم الحزب الواحد. وثمة حاجة ضرورية لأي باحث في التحولات الاجتماعية – السياسية في البلدان العربية للعودة المستمرة لأعمال غسان سلامة, وفي نطاق انشغالي, في إحدى المرات, بإعداد ورقة لأحد الأنشطة الفكرية عن «البنى التقليدية والولاءات السياسية» عدتُ إلى بعض كتابات غسان سلامة التي كنت قد اطلعت عليها سابقا, فوجدت أن أعماله تقدم دائما آفاق معرفة جديدة, ومن بين تلك الكتب وجدت كتاباً, هو إلى الكتيب منه أقرب إلى الكتاب, إذا ما اعتمدنا حجم المادة وعدد الصفحات مقياساً, ولكنه إلى الكتاب أقرب إن نحن اعتمدنا عمق المحتوى وجديته ورصانته, فما أكثر الكتب التي تقع في مئات الصفحات لكنها خلو من كل محتوى أو إضافة. عنوان الكتاب هو : «نحو عقد اجتماعي عربي جديد «, وصدرت طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية في عام 1987. وإذ يدعو باحث رصين مثل غسان سلامة إلى إبرام مثل هذا العقد الاجتماعي العربي الجديد, فان ذلك دلالة على أن العقود السابقة, أو ما يشبه العقود قد تآكل أو فقد مشروعيته, وبات حقاً أن تجدد العلاقة السياسية العربية نفسها بشرعية جديدة من خلال مثل هذا العقد الجديد, الذي من شروطه توفير قدر واسع من الحرية بوصفها ضرورة لإعطاء المجتمع المدني قدراً من الاستقلالية في مواجهة الدولة. ويخلص الباحث إلى أن نظاما عربيا جديداً, سياسيا واجتماعياً, هو قيد الظهور. والخيار أمامنا هو أن نسهم في إنشاء هذا النظام أو ندعه يظهر لوحده وفقا لمنطق القوة ولمصالح القوى الأجنبية. وفي تحديد ملامح هذا النظام تبدو الحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد طرفاه الدولة من جانب والمجتمع الأهلي من جانب آخر, ومسؤولية المثقفين كما يرى سلامة, هي إعادة تشكيل الثقافة السياسية العربية بحيث تكون أوثق احتضانا لأفكار الشرعية الدستورية والمشاركة.
 
صحيفة الايام
4 مارس 2009

اقرأ المزيد

أساطين الطبقة الجديدة.. ماذا فعلوا بروسيا؟!

ما من دولة عانت من تشويه سمعتها الاخلاقية والروحية والثقافية في تاريخنا الحديث كما عانت الدولة الروسية خلال الحقبة السوفييتية على امتداد نحو قرن منذ انتصار الثورة البلشفية الاشتراكية، وقيام الاتحاد السوفييتي عام 1917م حتى انهيار هذه الدولة الاتحادية في مطلع العقد الاخير من القرن العشرين، مع ان روسيا تحديداً ليست فقط لا تقارن البتة بالانحطاط الاخلاقي والروحي الذي اشتهرت به معظم البلدان الغربية الرأسمالية وعلى الاخص الكبرى منها، ناهيك عن عدد غير قليل من البلدان الشرقية في العالم الثالث، ومن ضمنها بلدان عربية واسلامية، لا بل ان روسيا نفسها هي واحدة من اعرق البلدان الاوروبية الشرقية حضارة في سمو ثقافتها وقيمها الاخلاقية والروحية والدينية المتغلغلة في ثقافات الناس وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الشعبية والدينية.
وهم كذلك أي الروس، اكثر الشعوب الاوروبية قرباً من ثقافات الشرق وعاداته المتصفة بالمحافظة باعتدال وسطي متوازن بين الجموح الغربي والتزمت الشرقي، ناهيك عما ينصهر ضمن نسيجهم الاجتماعي والوطني من مكونات اسلامية تؤثر وتتأثر بهذا القدر أو ذاك بالقيم المشتركة لهذا النسيج العريق.
وقد تضافرت جملة من العوامل المتداخلة والمتشابكة في خلق هذه الصورة التنميطية المبسطة لتشويه السمعة الروحية والاخلاقية لروسيا خلال العصر السوفييتي، منها شيوع المقولة المنقولة عن كارل ماركس، مؤسس النظرية الاشتراكية التي استرشد بها الحزب الشيوعي الحاكم السوفييتي إن “الدين افيون الشعوب” والمقتطعة ابتساراً من سياق نصها الاصلي، علاوة على ما شاب الممارسات التطبيقية في التجربة الاشتراكية السوفييتية من تطرف إلحادي، وعلى الاخص خلال العهد الستاليني، هذا بالرغم من ان برنامج الحزب الشيوعي لا يشترط ان يكون المنتسب إليه ملحداً.. كل تلك المظاهر والممارسات والدعاية المغرضة للدول الرأسمالية والاستعمارية عرفت كيف تستغلها وتوظفها جيداً في تشويه السمعة الاخلاقية والروحية لروسيا برمتها دولة وحزبا حاكما ومجتمعا على خلاف الواقع الفعلي الذي تعيشه روسيا.
وقد وجدت تلك الدعاية الغربية المغرضة ضالتها لتضخيم وزيادة هذه الصورة التنميطية المشوهة لسمعة روسيا الاخلاقية والروحية في العالم كله بوجه عام، وفي العالم العربي والاسلامي بوجه خاص، ما تمتاز به شعوب هذا العالم الاخير من تدين شديد ونفور من أي ايديولوجية او ثقافة موصومة بالكفر والالحاد. ولذلك لطالما ارتبط في اذهان معظم شرائح وفئات هذه الشعوب ان “الشيوعية” مرادفة تماماً للكفر والالحاد، وهذا على غير الحقيقة الموضوعية للمفهوم العلمي ودلالته السياسية في الفكر الشيوعي أو الايديولوجية الماركسية. هذا إذا ما اراد المرء حقا ان يستدل على هذا المصطلح من مصادره الاصلية.
كما ان الانظمة العالمثالثية والعربية الموالية للغرب هي الاخرى بدورها وظفت هذه الصورة التنميطية المشوهة لسمعة الاتحاد السوفييتي الروحية والاخلاقية لتضيف عليها من عندها عبر دعاياتها السياسية، سواء من خلال رجال الدين المضللين، ام من خلال رجال الدين المغرضين المسخرين لخدمة تلك الانظمة، المزيد من البهارات الخرافية والخيالية لتنفير عامة الناس بمختلف شرائحهم المتعلمة والنخبوية من الفكر الاشتراكي برمته ومن كل من القوى والاحزاب والافراد الذين يتبنونه في المجتمع وعلى الساحتين السياسية والثقافية.
والحال ما كان بمقدور الحزب الشيوعي السوفييتي لو اراد، ولا الدولة السوفييتية، تلحيد شعوب الاتحاد السوفييتي، او على الادق تجريدهم من قيمهم الاخلاقية والدينية وزجهم في اتون الرذيلة والتفسخ الاخلاقي او التهتك الروحي. فمثل هذه المرامي تتناقض تناقضاً صارخاً مع السجية الفطرية التي جبلت عليها هذه الشعوب، كما تتضارب مع ثقافتها الشعبية الدينية والحضارية التاريخية المتوارثة والتي نهلت ونشأت عليها اجيالاً متعاقبة. وما كان كذلك بمقدور الحزب الشيوعي السوفييتي السابق، حتى مما شاب في عصره ولاسيما في العهد الستاليني من بعض المظاهر المعادية للدين والشمولية، سوى التكيف مع تلك السجية الفطرية لشعوبه المحافظة باعتدال ووسطية. لا بل لطالما اعتبر منظرو ومفكرو وفلاسفة الحزب الحاكم ان القيم الاخلاقية الانسانية الاصيلة هي جزء لا يتجزأ من الثقافة والمبادئ الاشتراكية التي ينبغي المحافظة عليها وتربية الانسان الاشتراكي الجديد عليها.
ولطالما ادانت وسائل الاعلام في الدول الاشتراكية السابقة، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، مظاهر التفسخ الاخلاقي والروحي في الدول الرأسمالية الغربية، بما في ذلك في مجالات الفنون كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية، وفي الاماكن السياحية والعامة فضلاً عن اسواق الدعارة المنتشرة في تلك البلدان، ناهيك عن مجلات الاثارة الجنسية وصحف التعري واستغلال جسد المرأة للدعاية التجارية. واعتبرت ان كل تلك المظاهر ما هي إلا افرازات ونتائج حقيقية لافلاس ثقافة وايديولوجية النظام الرأسمالي العالمي، وأزمته الاخلاقية والروحية. حتى ان بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني، وبالرغم من دوره في تقويض المنظومة الاشتراكية السابقة وعلى الاخص في بولندا، اعترف بما يمتاز به الاتحاد السوفييتي السابق من ايجابيات في الحفاظ على جملة من القواسم المشتركة الاخلاقية مع المسيحية وذلك غداة انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذ كان من المستحيل على اي انسان منصف متجرد من الغرض والهوى زار موسكو في ظل الدولة السوفييتية ان يدعي بوجود اي مظهر من مظاهر التفسخ والانحلال الاخلاقيين والروحيين في روسيا طوال عصر تلك الدولة السوفييتية السابقة بطولها وعرضها، سواء في الشارع ام في الساحل، في السينما ام في سائر الفنون ووسائل الاعلام، ولا أي مظهر من مظاهر الدعارة والخلاعة والمجون التي شاعت ليست في الغرب فحسب بل وللأسف في عدد من العواصم العربية والشرقية في العالم الثالث، بما في ذلك اسواق الدعارة.. فكيف نفهم اذن تفشي وشيوع كل تلك المظاهر سريعاً في ظل النظام الجديد الحالي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي قبل أقل من عقدين؟ 

صحيفة اخبار الخليج
3 مارس 2009

اقرأ المزيد

مرحلة الليبرالية المنفلتة القادمة

تتقزم يوماً بعد يوم الملكيات الحكومية الشرقية أساس الشمولية، وتتزايد عمليات الرقابة عليها، ولكن آلاتها الكثيرة تجد حيلاً كثيرة للتخلص من الرصد واستمرار شفط الموارد لصالحها.
كما تتزايد من جهة أخرى توسعات الملكية الخاصة لتحل مرحلة أخرى في خاتمة المطاف حكوماتٌ معبرة عنها، وهذا يشكل مرحلة القطع بين بنية الاقطاع السابقة والرأسمالية. هنا تظهر الرأسمالية بصفتها بنية، وليس علاقات استثنائية أو متنامية في بنية.
هنا يكون الشرقُ قد قلبَ صفحة استمرت عشرات الآلاف من السنين، منذ أن تحولت القرية المصرية إلى حكومة مسيطرة على النهر وجريانه وعلى الإنتاج وتوزيعه، يرأسها فرعون ذو الأوتاد، حتى فرعون ذو الآبار النفطية.
هذا كله ينعكس على مستويات العلاقات السياسية بين الطبقات وأشكال الوعي الأخرى من قوانين وثقافة وعلاقات اجتماعية.
فلم يعد فرعون مقبولاً لا باعتباره حزباً أو قبيلة أو وزارات أبدية، ولكن ذلك لن يعني الانتهاء المطلق لطبقة مسيطرة غنية تمثل الأقلية، فمثل هذا يحتاج إلى أجيال.
لقد رأينا وميض تلك التحولات، فمن دواخل القطاعات العامة ظهرت القوى المالكة الجديدة، وأغلبها لا يريد ديمقراطية على الطراز الغربي، وأصبح الضباط والوزراء والتجار الأقرباء أصحاب قطاعات خاصة كبيرة، ورغم انشدادهم للعلاقات البضاعية والمالية التي لها قوانين مستقلة عن قوانين البيروقراطية الحكومية، لكن حبل المشيمة مازال يربطهم بالبطن الواسع لتلك الأجهزة.
قوى مالية ظهرت رساميلها بشكل غير معلوم، في الخفاء، ومن هنا هي تخشى المحاسبة، وإعلان كيفيات تشكل الثروات، وتؤسس أحزاباً ذات شعارات ليبرالية مفصلة على شموليتها.
هنا تصاغ قوانين انتخابية لكي تستمر الشموليات، قوانين تمتلئ بالاستثنائيات والشروط، ففي البداية كلمات كبيرة عن حريات التظاهر والتجمع والتنظيم والمحاسبة ثم تجيء استدراكات وتحجيم للحريات وتجسيدها على الأرض التي ضاقت.
ويتقارب مع ذلك الرأسمالية الدينية التي كونت رساميلها من (أعمال البر والتقوى)، خاصة في العالم الإسلامي، الذي أنشأ (الرأسماليات الدينية) خلافاً للأمم الشرقية الأخرى، ولهذا فإن هذه الرأسماليات تتشدد في صياغاتها الشكلانية للإسلام، وخاصة فيما يتعلق بقوانين الأسر، لتضبط إيقاع التحول الرأسمالي بسيطراتها ولجر بعض فوائضه في جيوبها.
لكنها ستظل دائماً الحزب المحافظ، الذي يرفض المواصفات العالمية للديمقراطية.
وهو أمرٌ يلقى صدى حميماً لدى الأوساط المالية الحكومية المتنفذة، التي تأخذ ذلك فيما يتعلق بالسلطات المنتخبة، وليس بالحلال والحرام. وهي إذ توظف أموالاً كثيرة في اقتصاد الخدمات بحاجة شديدة إلى المرونة الفقهية، لكن هذا التسييح للأحكام الفقهية يمثل ضربة للرأسمال الديني الذي يمثل ذلك أحد مصادر دخله.
هنا فراق بين الرأسمالين السياسي والديني، وهو فراق سيكون جذرياً مع تنامي العلاقات البضاعية والمالية التي سوف تكتسح كلَ شيء.
لكن اللقاء موجود كلما احتاجت الدول إلى فرملة التطور السياسي المندفع بقوة، وإلى تقييد الجمهور المندفع لعبادة التجربة الغربية، ليس خوفاً على الموسيقى الأهلية الذائبة، ولا التراث المتلاشي، بل حفاظاً على مصدر الفوائض الاقتصادية.
هنا لقاء تاريخي بين الرساميل المتكونة في الخفائين السياسي والديني.
لدى الرأسمال الحكومي كراهية للجرد المالي والسياسي، ولدى الرأسمال الديني كراهية لتفكيك عرى المؤمنين عن قادتهم، واستقلالهم بفهم الدين الذي لم ينشىء الكهنوت.
لكن مثل هذا الزواج الكاثوليكي غير ممكن، كما أن الموارد الطبيعية من غاز وبترول ومعادن ثمينة متجهة إلى النضوب، فإذا استطاعت القطاعات الرأسمالية غير الحكومية أن تحصل على موارد أكبر، وتفجر ينابيع الصناعات الخاصة، وتنشر ثقافة ديمقراطية وليبرالية بين الجمهور، وتعيد النظر في برامج التعليم النظرية الأدبية المسيطرة، فإن تشكل السلطات الحديثة على النمط الغربي يكون مفتوحاً.
تتفكك السيطرات الحكومية على مصادر الثروة، وتتفكك السيطرات الدينية الشمولية على الأديان، ولا يعني هذا ان ذلك سيتم عبر ازدهار عقلاني وديمقراطيات غير مشوبة بشموليات، بل سوف يستمر القديم طويلاً، وبعد زمن من التشدد الكبير يحدث انفتاحٌ فوضوي وحرياتٌ حادة في جوانب معينة.
فدولة دينية متشددة حين يحدث فيها الانقلابُ الديمقراطي يندفع الناس إلى اقصى الحريات الشخصية مع ما يترتب على ذلك من اختلال فكأنهم تخلصوا من كابوس ولم يعقلوا بعد.
ودولة متشددة في الملكية العامة يحدث فيها اندفاع هائل للملكيات الخاصة وتقزيم مروع للملكيات العامة.
بعضُ الدول تعرف بسبب تجربتها التاريخية الطويلة الحلقات الوسط المتنامية، لكون ثمة قوى متعددة أساسها فئات وسطى وعمالية متجذرة في الاقتصاد الحديث، لكن البعض الآخر لا يملك مثل هذه الفئات وتشكلت فئاته الوسطى والعمالية من أرياف متخلفة وبوادٍ متصلبة في عاداتها.
والبعض يتكون من فسيفساء مذهبية ودينية وقومية، والبعض ذو شعب موحد، وهذا كله يترك بصماته العميقة على التطور.
إن الشرق يدخل مرحلة التحول الكبير، والخروج من تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، إلى تشكيلة أخرى، تنقلب فيها المعايير والعلاقات، ولابد أن يشوب في أولها خاصة الانفلات والتطرف، ثم تعتدل الأمور وتميل للاستقرار مع قدرتها على تشكيل رأسماليات حديثة إنتاجية وإعادة تشكيل السكان لمثل هذه الاقتصادات المتطورة.

صحيفة اخبار الخليج
3 مارس 2009

اقرأ المزيد

هل هي قرية كونية؟!

كان مارشال ماك لوهان بين أوائل من تحدثوا عن «القرية العالمية», وسرعان ما جرى تداول هذا المصطلح على نطاق واسع في أرجاء المعمورة, بل أن «أطراف» النظام الرأسمالي العالمي, تمييزا لها عن مركزه, صارت تروج لهذه المقولة بحماس شديد مصدقة إنها محتواة بالفعل داخل هذه القرية, وان لها من الحقوق والواجبات ما لدى سكان القرية الآخرين. التكنولوجيا الحديثة, خاصة تكنولوجيا المعلومات ووسائطها: الكمبيوتر وشبكة الانترنت ومحطات التلفزة التي تبث عبر الأقمار الصناعية مع اندثار أو قرب اندثار البث الأرضي قادرة على خلق هذا الوهم وتزييف الوعي, لأنها تحجب تلك الفوارق الجوهرية بين الواقع, من حيث هو واقع بشر من لحم ودم وأفكار ومصالح متضادة, وبين الواقع الافتراضي الذي يوحي بنهاية جغرافية المكان, ونشوء جغرافيا جديدة خالية من الحدود, أو لا تحدها حدود. إزاء هذا الكرنفال الواسع من النشوة بسقوط الواقع نفسه أمام سطوة الواقع الافتراضي, يجري إغفال حقيقة أن المتمكنين من استخدام وسائط هذا الواقع البديل, يظلون أقلية في هذا العالم الواسع من القارات والثقافات والانتماءات العرقية والدينية الذين ما زالوا أبعد من ما يكونوا عن أن يتحولوا إلى سكان قرية صغيرة يعرفون بعضهم بعضا. ثمة إحصائية استشهد بها الدكتور علي اومليل في إحدى دراساته عن الموضوع فحواها أن نصف سكان الأرض لا يملكون حتى الهاتف, فكيف لنا أن نتخيل إمكانية استيعابهم في هذه القرية الكونية المفترضة طالما كانوا على هامشها؟ إن التقانة الحديثة, كما كان الحال فترة الثورة الصناعية, هي وسائل سيطرة ونفوذ بيد القوى الكبرى, القوى النافذة القادرة على إخضاع العالم ونهب ثرواته وغزو أسواقه ببضائعها. وتجير هذه الانجازات العلمية الكبرى لتحقيق الأهداف الخاصة بها, خاصة وان ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على منجزات الثورة المعلوماتية والوسائط الرقمية يشكل الآن حوالي 80% من الناتج العالمي الخام, حيث يجري دمج البحث العلمي في الاقتصاد, لا بل وإعطائه دورا قيادياً فيه ليذهب به نحو اكتشافات ومواقع جديدة . وهو أمر يعني أن البلدان المتخلفة, مهما سعت لمجاراة العالم المتقدم ستظل متخلفة, وتكفي الإشارة إلى أن حصة البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 0.1%, فيما تبلغ في الدول المتقدمة نسبة تفوق 3%. وهذه النتائج المتناقضة للتدويل الاقتصادي لا تنسحب على البلدان النامية وحدها, وإنما تترك آثارها السلبية على المجتمعات المتقدمة ذاتها, فحسب بعض المعطيات فان شركات أمريكية كبرى تشغل, وعن بُعد, مهندسين وخبراء تقنية, من الهند مثلاً, بأجور أدنى بكثير من تلك التي يطلبها نظراؤهم الأمريكان الذي يطالبون أيضا بضمانات اجتماعية أخرى. ويوفر ذلك لهذه الشركات أرباحا مضاعفة, ويدفع بأعداد كبيرة من الخبراء نحو البطالة, فالعولمة لا تجلب الثراء وحده, وهي لما تزل قارات متضادة من المصالح وليست قرية كونية للتكافل.
 
صحيفة الايام
3 مارس 2009

اقرأ المزيد

مستشار السوء… ونصيحة الاستفتاء!


هناك طرفة سياسية تروى عن اجتماع ثنائي ضم الرئيس الأميركي السابق بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني السابق بلير أعقباه بعقد مؤتمر صحافي سئلا فيه عما اتفقا عليه في اجتماعهما فأجاب بلير: لقد اتفقنا على قتل مئة ألف عربي وطبيب أسنان واحد(!) … وهنا انهالت أسئلة الصحافيين اللحوحة على الرئيسين: ولماذا تقتلان طبيب أسنان واحداً؟… فالتفت بلير نحو بوش وقال له: ألم أخبرك خلال اجتماعنا أنّهم لن يهتموا بقتل الـ«مئة ألف عربي»؟!
استحضرت هذه الطرفة للإجابة على كثيرين ممن اهتموا بالاستفسار عن اسم مستشار السوء المقصود في مقالي يوم الخميس المعنون «مستشار السوء… وتجربة البحرين»، حيث كان التركيز منصباً على معرفة اسم مستشار السوء وليس حول نصيحته المسمومة!
وأضيف أنه مع الأسف فإن هناك جزءاً آخر مكملاً لنصيحة مستشار السوء حول الاقتداء بتجربة البحرين خلال الأعوام من 1975 حتى 2001 كمثال على إمكانية فرض حالة العمل خارج إطار الدستور فترة طويلة من الوقت من دون حدوث أي مشكلات إلا أنني أوضحت كلفتها الباهظة على استقرار البحرين وأمنها الداخلي المتمثلة في سقوط أكثر من ثمانين شهيداً بحرينياً، واعتقال الآلاف من المواطنين، وتعرض نحو 7000 منهم للتعذيب وإبعاد ونفي نحو 600 مواطن بحريني في التحركات الشعبية المطالبة بعودة الدستور وإلغاء قانون أمن الدولة وما رافقها من اضطرابات وقلاقل وقمع بوليسي إلى أن قيض اللّه للبحرين عاهلها الشاب الملك الحالي حمد بن عيسى الذي خفف حالة الاحتقان السياسي وأطلق عملية مصالحة وطنية… هذا كان الجزء الأول من النصيحة المسمومة التي اقترح مستشار السوء اتباعها في الكويت وتعليقي عليها!
أما الجزء الآخر المكمل من النصيحة المسمومة المقترحة من مستشار السوء للاقتداء بتجربة البحرين فتتصل بإجراء استفتاء لتنقيح دستور 1962، على النحو الذي جرى فيه استفتاء البحرين في العام 2001 حول «ميثاق العمل الوطني» وتنقيح دستور 1973.
ومرة أخرى يتجاهل مستشار السوء في نصيحته هذه الفوارق الواسعة بين تجربة البحرين والوضع في الكويت… فالاستفتاء الذي جرى في البحرين في العام 2001 كان جزءاً من مبادرة الملك حمد للمصالحة الوطنية، وذلك بعد فترة زمنية طويلة امتدت لأكثر من ربع قرن جرى خلالها تعطيل العمل بدستور 1973 ووقف الحياة البرلمانية الوليدة، حيث لم يتجاوز عمر الدستور البحريني والمجلس الوطني المنتخب السنتين فقط… وهذا ما لا ينطبق على حال الكويت، فدستورنا معمول به منذ العام 1962 وقد أصبح خطاً أحمر في ضمائر الكويتيين، كما أن حياتنا البرلمانية قائمة منذ أكثر من سبعة وأربعين عاماً، أما المحاولتان البائستان للانقلاب على الدستور وتعطيله وتنقيحه وإلغاء الحياة البرلمانية في العامين 1976 و1986 فقد فشلتا فشلاً ذريعاً، ومن الحكمة عدم الإقدام على مغامرة تكرارهما!
وغير هذا، فإن أداة الاستفتاء أداة غير دستورية، ولا يمكن أن تتم إلا في إطار انقلاب جديد آخر على الدستور… وللعلم فقد سبق أن جرت مثل هذه المحاولة لإجراء استفتاء، ووردت في الأمر الأميري بحل مجلس الأمة وتنقيح الدستور في العام 1976، ولكنها جوبهت بالرفض التام، بحيث عارضها حتى أعضاء لجنة النظر في تنقيح الدستور أنفسهم، على الرغم من أنها كانت لجنة معينة حكومياً وغير منتخبة، واشترطوا للموافقة على المشاركة في تلك اللجنة عدم إيراد نص في مرسوم تشكيلها يشير إلى عرض نتائج أعمالها ومشروع تنقيح الدستور على استفتاء عام… ولا حاجة بعد هذا للخوض في تفاصيل وجزئيات تتصل بالمقاطعة الشعبية المؤكدة للاستفتاء غير الدستوري ومساوئ محاولات تمريره عبر تزوير نتائجه تكراراً للتجربة البائسة بتزوير انتخابات 1967، وغير ذلك من تعقيدات سياسية ومشكلات عملية يطول شرحها!
أخيراً، هذه نصيحة مني لمستشار السوء إذا كان مصراً على تقديم نصائحه المسمومة… فمن واجبه على أقل تقدير ألا يخدع من ينصحهم وأن يطلعهم على حقائق الأمور وعلى المصاعب والتعقيدات التي جابهت التجارب الخارجية التي يدعو إلى الاقتداء بها ليكونوا على بينة من أمرهم!
هناك طرفة سياسية تروى عن اجتماع ثنائي ضم الرئيس الأميركي السابق بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني السابق بلير أعقباه بعقد مؤتمر صحافي سئلا فيه عما اتفقا عليه في اجتماعهما فأجاب بلير: لقد اتفقنا على قتل مئة ألف عربي وطبيب أسنان واحد(!) … وهنا انهالت أسئلة الصحافيين اللحوحة على الرئيسين: ولماذا تقتلان طبيب أسنان واحداً؟… فالتفت بلير نحو بوش وقال له: ألم أخبرك خلال اجتماعنا أنّهم لن يهتموا بقتل الـ«مئة ألف عربي»؟!
استحضرت هذه الطرفة للإجابة على كثيرين ممن اهتموا بالاستفسار عن اسم مستشار السوء المقصود في مقالي يوم الخميس المعنون «مستشار السوء… وتجربة البحرين»، حيث كان التركيز منصباً على معرفة اسم مستشار السوء وليس حول نصيحته المسمومة!
وأضيف أنه مع الأسف فإن هناك جزءاً آخر مكملاً لنصيحة مستشار السوء حول الاقتداء بتجربة البحرين خلال الأعوام من 1975 حتى 2001 كمثال على إمكانية فرض حالة العمل خارج إطار الدستور فترة طويلة من الوقت من دون حدوث أي مشكلات إلا أنني أوضحت كلفتها الباهظة على استقرار البحرين وأمنها الداخلي المتمثلة في سقوط أكثر من ثمانين شهيداً بحرينياً، واعتقال الآلاف من المواطنين، وتعرض نحو 7000 منهم للتعذيب وإبعاد ونفي نحو 600 مواطن بحريني في التحركات الشعبية المطالبة بعودة الدستور وإلغاء قانون أمن الدولة وما رافقها من اضطرابات وقلاقل وقمع بوليسي إلى أن قيض اللّه للبحرين عاهلها الشاب الملك الحالي حمد بن عيسى الذي خفف حالة الاحتقان السياسي وأطلق عملية مصالحة وطنية… هذا كان الجزء الأول من النصيحة المسمومة التي اقترح مستشار السوء اتباعها في الكويت وتعليقي عليها!
أما الجزء الآخر المكمل من النصيحة المسمومة المقترحة من مستشار السوء للاقتداء بتجربة البحرين فتتصل بإجراء استفتاء لتنقيح دستور 1962، على النحو الذي جرى فيه استفتاء البحرين في العام 2001 حول «ميثاق العمل الوطني» وتنقيح دستور 1973.
ومرة أخرى يتجاهل مستشار السوء في نصيحته هذه الفوارق الواسعة بين تجربة البحرين والوضع في الكويت… فالاستفتاء الذي جرى في البحرين في العام 2001 كان جزءاً من مبادرة الملك حمد للمصالحة الوطنية، وذلك بعد فترة زمنية طويلة امتدت لأكثر من ربع قرن جرى خلالها تعطيل العمل بدستور 1973 ووقف الحياة البرلمانية الوليدة، حيث لم يتجاوز عمر الدستور البحريني والمجلس الوطني المنتخب السنتين فقط… وهذا ما لا ينطبق على حال الكويت، فدستورنا معمول به منذ العام 1962 وقد أصبح خطاً أحمر في ضمائر الكويتيين، كما أن حياتنا البرلمانية قائمة منذ أكثر من سبعة وأربعين عاماً، أما المحاولتان البائستان للانقلاب على الدستور وتعطيله وتنقيحه وإلغاء الحياة البرلمانية في العامين 1976 و1986 فقد فشلتا فشلاً ذريعاً، ومن الحكمة عدم الإقدام على مغامرة تكرارهما!
وغير هذا، فإن أداة الاستفتاء أداة غير دستورية، ولا يمكن أن تتم إلا في إطار انقلاب جديد آخر على الدستور… وللعلم فقد سبق أن جرت مثل هذه المحاولة لإجراء استفتاء، ووردت في الأمر الأميري بحل مجلس الأمة وتنقيح الدستور في العام 1976، ولكنها جوبهت بالرفض التام، بحيث عارضها حتى أعضاء لجنة النظر في تنقيح الدستور أنفسهم، على الرغم من أنها كانت لجنة معينة حكومياً وغير منتخبة، واشترطوا للموافقة على المشاركة في تلك اللجنة عدم إيراد نص في مرسوم تشكيلها يشير إلى عرض نتائج أعمالها ومشروع تنقيح الدستور على استفتاء عام… ولا حاجة بعد هذا للخوض في تفاصيل وجزئيات تتصل بالمقاطعة الشعبية المؤكدة للاستفتاء غير الدستوري ومساوئ محاولات تمريره عبر تزوير نتائجه تكراراً للتجربة البائسة بتزوير انتخابات 1967، وغير ذلك من تعقيدات سياسية ومشكلات عملية يطول شرحها!
أخيراً، هذه نصيحة مني لمستشار السوء إذا كان مصراً على تقديم نصائحه المسمومة… فمن واجبه على أقل تقدير ألا يخدع من ينصحهم وأن يطلعهم على حقائق الأمور وعلى المصاعب والتعقيدات التي جابهت التجارب الخارجية التي يدعو إلى الاقتداء بها ليكونوا على بينة من أمرهم!
 
جريدة عالم اليوم
3 فبراير 2009

اقرأ المزيد

رأس المال الشرقي

لم تتح لكارل ماركس فرصة تعرف رأس المال الشرقي، الذي تطور بعد وفاته، في أواخر القرن التاسع عشر، ولهذا لم تتم دراسة هذا الرأسمال التاريخي المغاير لرأس المال الغربي، فخلافاً للرأسمال الغربي القادم من الإنتاج الشخصي، بدءاً من الحرف فالمانيفاكتورة ثم الصناعة الآلية الخ، ظهر الرأسمالُ الشرقي بقوته الكبيرة من الحكومات أساساً. ولهذا كانت مرحلة الليبرالية العربية وامضة، محدودة التاريخ، لاعتمادها على الرأسمال التجاري أساساً، فجاءت مرحلة الرأسمالية الحكومية ورافقتها الأفكارُ القومية والبعثية والماركسية والآن الطائفية. لتطور أشكال الملكية العامة والخاصة في وسائل الإنتاج وفي نسبهما المتعددة، علاقاتٌ موضوعية، تعتمدُ على تطور هذه الوسائل. إن تقلصَ الأفكارِ الليبراليةِ يرجعُ لتقلص الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج، والتوزيع، والتمويل، ولهذا رأيناها في المرحلة الحكومية الرأسمالية تذبل، وسواء كان ذلك في روسيا السوفيتية أو الصين الشيوعية أو مصر الناصرية وغيرها من الدول، فالدولُ الشرقية لها قوانينٌ عامة مشتركة. كما أن الأفكار (الاشتراكية) مرتبطة بنمو الملكية الرأسمالية العامة، وهي تذبلُ كذلك مع تقلص هذه الملكية وتوسع الملكية الخاصة. لن تنتهي الملكية العامة الرأسمالية الكبيرة الحكومية في الشرق إلا بحدوث ثورة كبيرة في قوى الإنتاج، فهذه الدول تسيطر على منابع الثروة كالبترول والغاز والمناجم الكبرى، باسم الشعوب الغافلة، وحتى في عهد الاصلاحات الرأسمالية الخاصة الحكومية في روسيا والصين وبقية دول الشرق التي تقاطرت على هذه العملية واحدة بعد أخرى، فإن الدولَ لم تتركْ هذه الملكية التي تصنع قوى الرأسماليين البيروقراطيين الحكوميين الذين يخرجون من هذه المطابخ الكبرى كقططٍ سمان. ويجري ذلك إما بالتخلص من قطاعات خاسرة، وتحميل الشعوب فاتورة الفساد، وإما عبر المشاركة مع الرساميل الخاصة الوطنية والأجنبية في أرباح مؤسسات قوية، لكن لا يجري ترك الدجاجة التي تبيض ذهباً: قطاعات إنتاج المواد الخام الثمينة. وهذا على مستوى الأفكار يؤدي لشحوب أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية. وفي الدول الطائفية السنية والشيعية فإن المذهبية المحافظة تبقى حجر الزاوية في النظام الايديولوجي، معبرة عن سياقات خاصة لدول أكثر ترسباً في النظام الإقطاعي. وفي الوقت الذي تصعدُ فيه القوى البيروقراطية على جثة المجتمع القديم، فإنها لا تستطيع أن تكون ليبرالية ديمقراطية حقيقية، فهي بسيطرتها على أغلبية المال العام وإنتاجه تخشى هذ الديمقراطية، تخشى هروب الدجاجة الذهبية من تحت قبضتها، فتغدو لها تحفظات على هذه الديمقراطية لكونها (لا تتناسب مع تقاليدنا العريقة)، أو بسبب الخشية من الفوضى وغيرها من التبريرات التحكمية. وتقوم بمزج هذه السلطة التحكمية بكم ما من الشعائر الديمقراطية، لكن التي تجعل حزب السلطة، سواء كان الحزب الشيوعي في الصين أو حزب روسيا بيتنا، أو الحزب الوطني الديمقراطي المصري، أو النخبة المتحكمة في موارد بلد، أو النخبة المتحكمة في موارد بلد آخر، أو أن يجري وضع خليط من النخب الطائفية المتعددة في بلد ثالث. ومهما كانت الصراعات والخلطات فإن النتيجة هي إنشاء طبقة مسيطرة على وسائل الإنتاج، تتوزعُ بينها مصادرُ الخيرات العامة، بعضها متنفذ في أغلبية الملكية العامة وبعضها متنفذ في الملكيات الخاصة وبينها تعاون وصراع يتحددان بطبيعة العلاقات بين الطرفين وبحجم السوق ومسائل أخرى كثيرة. هذه مرحلة رجراجة بين الرأسماليتين العامة البيروقراطية المنتهية ولايتها، وبين الرأسمالية الخاصة التي لم تعط الولاية ولم يحن سعدها الكامل. هذه المرحلة التي نعيشها الآن والتي تمثل حلقة من حلقات تطور الرأسماليات الشرقية منذ أن كانت جنيناً في رحم الامبراطوريات الإقطاعية فأنتجت لنا متجراً ومصنعاً صغيراً وبنكاً محلياً متواضعاً، حتى تفتت الامبراطوريات أو تحولت بشكلٍ آخر محافظة على السوق الهائل كالامبراطورية الروسية التي صارت امبراطورية سوفيتية، والامبراطورية الصينية التي صارت جمهورية الصين الشعبية، وهذا التحول فيهما أدى إلى إنجاز ثورة صناعية كبرى لم تصل بعد لمستوى الثورة الصناعية الغربية، لكن ضخامة السوق كانت معجلاً آخر، وفي حين لم تهدر الصين بضائعها على الجمل الثورية كثيراً استنزفت روسيا نفسها في ذلك. كان المتفتتون – أي الذين زالت امبراطوريتهم كالمسلمين – أكثر الخاسرين، فعلينا مراجعة تجربة مفتتة زادتها الأيام تفتتاً، وهي مثلت في النهاية تجربة المذهبيات الإسلامية المشغولة بالحروب الكلامية والحقيقية معاً. كان بروز الرأسماليات الحكومية بشكل طائفي تعبيراً عن صراعات الماضي الخاوية، وعن الرغبة في استعادة الامبراطوريات، وعن ضعف الرأسماليات الحكومية في بلدان محدودة السكان، وعن تخلف هؤلاء السكان الاجتماعي والاقتصادي، وعن عدم وجود طواقم حكومية ذات كفاءة في رؤية مسارات التطور وضعف التعاون بين هذه الإقطار الدينية.
 
صحيفة اخبار الخليج
2 مارس 2009

اقرأ المزيد