المنشور

8 مارس… ورؤى مقلقة


يحتفل العالم اليوم بيوم المرأة العالمي, هذا اليوم الذي كسرت فيه نساء العالم الكادحات المحرَّمات المعيقة واللاغية لدور المرأة وذلك عبر قيادة حملات شجاعة وملهمة من أجل حقوقهن.

رفعن أصواتهن عالياً، واستطعن أن يحققن قدراً مناسباً من العادلة التي نلمسها في القرن الحادي والعشرين وأيضاً ما كان جزءاً كبيراً منها يتحقق لولا جهود النساء أنفسهن في العمل الدؤوب على تغيير القوانين والسياسات وحتى الممارسات والمعتقدات الخاطئة ضد المرأة.

يوم المرأة العالمي هو عيد كل امرأة في العالم على رغم بروز أعياد ومناسبات أخرى للمرأة إلا أن الثامن من مارس/ آذار يبقى هو عيد المرأة الأصلي لكل بلد وعرق دون حدود أو ملامح معينة.

وعلى رغم المخاطر والصعوبات، يواصل النشطاء من الرجال والنساء في شتى أنحاء العالم تنظيم حملات من أجل حقوق المرأة ومواجهة التمييز والإفلات من العقاب إذ يواجه العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان المخاطر، ولكن النساء من الناشطات تحديداً يواجهن مخاطر إضافية بسبب نوع الجنس والقضايا التي يتصدين لها.

وإحدى النتائج المترتبة على التمييز حرمان المرأة من الفرص المتساوية مع الرجل في التعليم والتدريب الوظيفي وهذا بدوره يمكن أن يقيِّد فرص المرأة في الحصول على العمل والتعليم بسبب امتناع الحكومات عن خلق بيئات تمكِّن المرأة وتحميها من التمييز.

الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أكد من جديد دعوته الملحة لإنهاء العنف ضد المرأة، الذي يعد كارثة ذات تأثير مدمر لا حدود له معلقاً: «إن المرأة تحمل وترعى أطفالنا، وفي معظم أجزاء العالم تقوم بزراعة المحاصيل لإطعامنا، وينسجن خيوط مجتمعاتنا، وإن العنف ضد المرأة يعد هجوماً علينا جميعاً، وعلى الأساس الذي تقوم عليه حضارتنا فهو عمل «كريه» يتعارض مع كل ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة».

حقوق المرأة وقضايا العنف, جميعها قضايا معلقة ومقلقة لمجتمعات كثيرة, لكن بالنسبة إلى البحرين فالمرأة حصدت الكثير عبر التعليم وتقلدت مناصب كبرى بالدولة, لكن قوانين تنصفها وتحمي حقوقها المدنية مازالت معطلة وخارج غطاء قانوني يحفظ حقوقها وحقوق أسرتها من الضياع.

أيضاً وصول المرأة إلى المنصب الرفيع ليس بالضرورة مكسب, كون أن ذلك عائداً لدوائر صنع القرار السياسي الذي يخدم في تكميل الصورة الجميلة للدولة الضامة لعناصر نسوية في الحكومة التي لا تسعى إلى توفير أبسط عوامل مساعدة للأم العاملة, فلا تعامل على أن عملها ضرورة بل إكسسواراً.

أما إذا جاءت المرأة وتحدثت عن معاناتها فإما أن تلصق بها التهم أو توصف بأنها معادية للرجل والدين والقانون. وفي كل الأحوال تبقى المرأة في البحرين أسيرة ذلك المدار -للأسف- لكون أن القناعة العامة تقول إن دورها يدور في فلك النظام الأبوي والخروج عن ذلك يحتاج إلى تغيير جذري للمفاهيم سواءً كان ذلك على مستوى صنع القرار أو مستوى رجل الشارع. 



 
الوسط 8 مارس 2009

اقرأ المزيد

هــــــــــي…! ” إلى المرأة البحرينية “

8 مارس هو اليوم العالمي للمرأة  وهو مناسبة تحتفل بها المجموعات النسائية في العالم ويحتفل أيضا بهذا اليوم في الأمم المتحدة وقررت بلدان عديدة جعله يوم عيد وطني. واليوم العالمي للمرأة هو قصة المرأة العادية صانعة التاريخ، هذه القصة التي يعود أصلها إلى نضال المرأة على امتداد القرون  والتي ترجع جذورها إلى القرن 19، حيث خرجت عاملات النسيج سنة 1857 في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الشوارع في مظاهرة تنادي بتحسين ظروف و شروط العمل الممتد طيلة 12 ساعة في اليوم،  وتوالت هذه المظاهرات والإضرابات لتصبح قاعدة تسير عليها النساء العاملات في العالم من أجل مناقشة قضايا المرأة والمطالبة بحقوقها الشرعية وخاصة مشاركتها في المجتمع على قدم المساواة مع الرجل.

وقصيدة من الشاعر عبدالصمد الليث تحية إلى المرأة البحرينية في يومها العالمي


 


هِــــــــــيَ…!     




 





( إلــى الــمــرأة الـبـحــريـنـيــة ) 
  

                  1
 
تـكــابـدُ أشــواقَـهـا سـِـدرةٌ…
بـلــيــــل ِالـمَـدى… 
والـــصَـــدى..
والســــُـدودْ
ونــورسُ ضــوء ٍبــلـحــن ٍذبــيــحْ
وخــوفُ الـفــراشــات ريــحَ الـخــريـفْ
تـكــابـرُ أحــزانَـها حُــرّةٌ…
بــويــلِ الـعـِـدى…
والــردى…
والـقـيـــودْ…
فـَـثـَـمَ عــويــلٌ لــحــلــم ٍجــريـــحْ…
رعــافُ الـظُـلامــة ِجـمــرُ الـنـزيــفْ
تــحــاورُ أيــامَــها حـسـرةٌ…
بـشُـحِّ الــنــدى..
والـسُــدى…
والــوعــودْ…
ومــن غــائــمِ الأفــق ِغـيــر الـشـفـيــفْ
تـُـصَـبـِّـرُ أتــرابَـهـا غــيــرةٌ…
عـلـى مــا حــَـدا…
ومــمــا بــَـــــدا…
مـــن جــحـــودْ…
وسـيـفٌ تـمـادى بـحَــدٍّ رهـيــفْ
وحــيـرةٌ بـحــر ٍطـوى ظـامــئــاً…
يُـشـاطـئُ مـَـحـْـلاً…
تــؤرقــه آهــةُ الـيــاسـمــيــنْ
يــقــيــنــاً تـَـرى…
جــنــائــــز تـحــوي غـصــونَ الـشـبــابْ…
وأعــيــن حَــزنــى…
تـُــوَدّعُ بـــدراً …
بــصــدرِ الـنـشـيــج ِلــكــف ِالــرصـيــفْ  
  
                 2

وجـــاءَ الــمَــخـــاضُ:
تــرجـَّـل حــزنُ الــرِكــابْ…
أطـَـلَّ عـلـى الـقــلــب ِوجــهٌ وآبْ
وعـــاد الـمـحــبــّون بـعــد الـغـيــابْ
تـنـاسـت جــروح ٌسـنـيــنَ الــعــذابْ
ولاح الـمــؤمــّلُ ( فـالـجـلّ قـــال) 

                  3



بــطــعــم ِالـسـؤالْ:
أكــان الــمــحـــالْ ؟
أّمْ الـلـيــل ُشَــدَّ سـروجَ الـخــيـــالْ ؟
أم إنــفــض ســامــرُ دفء ِالـمَـضـيــفْ ؟
أم الـقــولُ مــا قــال يـــوماً (وصـيــفْ) ؟
فــمــا زال لـلـغـبــن رأيٌ يُــطـــاعْ …
ومـــا زال لـلـحُـبِّ حَــقٌّ يــضـــاعْ
نــســـاءٌ تـــــؤولْ …
لـعـسـف ٍيـطــــــــولْ…
وســودِ الــعــقـــــولْ 

                  4
 
هـــي الـوطــنُ الـعــشــقُ والـعــنــفــوانْ
هـــي الأمُّ والأخــتُ ..عــطــفُ الــزمــــانْ
هـــي الــزوجــة ُالــروح ُفـي غـصــن ِبـــانْ
هـــي الإبــنــة ُالــعــطــرُ والأقــحـــــــــــوانْ
مــعــاً إذ نــصــــولْ…
سـنـُـلـغـي الـحــؤولْ…
وعــتـــمٌ يـــــــــزولْ …
بـــفــجــرِالـوصـــولْ 
   

عــبــد الـصــمــد الـلـيــث 
    
8 مارس 2009  
                                                                        
                                                                                                   

اقرأ المزيد

الاستفادة من التجارب الناجحة


يوم أمس احتفى سفير المملكة المغربية لدى مملكة البحرين «محمد ايت وعلى» بوزير حقوق الإنسان السابق في المغرب «محمد أوجار»، وذلك بحضور شخصيات شاركت في حوار معمق حول خدمة الأوطان على أسس سياسية وتنموية سليمة وبعيدة المدى. تناول الحديث عدداً من الأفكار النوعية التي تناولت التجربة المغربية، وهذه الأفكار يمكن الاطلاع على بعضها في المقابلة المنشورة للوزير المغربي السابق في «الوسط» اليوم (ص2).

وكان من بين الحضور المدير التنفيذي لمعهد التنمية السياسية إبراهيم الرميحي، ورئيس جمعية المنبر التقدمي حسن مدن، وقد سعدت لاحقاً بمعرفة أن معهد البحرين للتنمية السياسية «أبدى رغبته للمساهمة الإيجابية في تفعيل مبادرة الحوار الوطني التي أطلقتها جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي»… لأن مثل هذا التفاعل الإيجابي هو مانحتاجه من أجل رأب الصدع وتوثيق العلاقات بين مختلف الجهات وإزالة الهواجس والشكوك التي تنطلق بصورة طبيعية في أي عملية سياسية، ولكنها إذا تركت من دون معالجة تتحول إلى مرض سرطاني ينتشر في الجسم السياسي ويقضي على الحراك السلمي داخل المجتمع.

وإذا تحققت الأنباء على الأرض وساهم معهد التنمية السياسية بتفعيل مبادرة المنبر التقدمي الهادفة لحلحلة الأوضاع ، فإن ذلك يعتبر أفضل خدمة يقدمها المعهد للعمل السياسي في البحرين.

الوزير المغربي السابق محمد أوجار أوضح كيف استطاعت القوى المغربية أن تواجه الماضي بجرأة وشجاعة، وأن تتجاوز آثاره من خلال التصالح مع الذات و«جبر الضرر» ودمج أكثرية الفاعلين على الساحة في العمل الوطني بشكل إيجابي خدم الجميع.

لقد أشار أوجار في حديثه المنشور في «الوسط» اليوم، إلى انه وجد لدى المسئولين البحرينيين إرادة سياسية قوية للإصلاح في البحرين، وهناك انفتاح مجتمعي واضح وبيّن، وهناك دينامية وحيوية في أوساط المجتمع المدني، وهناك عزيمة لدى الفاعلين السياسيين على تقوية المشروع الإصلاحي والدفع به إلى الأمام ليرقى إلى مستوى طموحات الشعب البحريني بما يدعم تشبث كل الفرقاء السياسيين بالثوابت الوطنية وبالدستور وبما يدعم أجواء التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي.
إننا في أمس الحاجة الى استعادة الثقة في قدرتنا كأطراف فاعلة على الساحة السياسية نؤثر إيجابياً بحيث تعود الساحة إلى الحيوية المنتجة، وأن تبقى ضمن إطار سلمي يوحد الجهود نحو القواسم والثوابت الوطنية، ونحن بحاجة إلى الاستماع إلى تجارب عربية ناجحة، وبحاجة إلى تعاضد بعضنا مع الآخر لكي نتجاوز الحواجز المصطنعة التي تأسست على أوهام لا تنتج سعادة لأحد سواء كان حاكماً أم محكوماً.
 
الوسط 7 مارس 2009

اقرأ المزيد

يوم المرأة العالمي


في الغد الثامن من مارس تحتفل المرأة البحرينية وسائر نساء العالم بيوم المرأة العالمي .. في هذه المناسبة التي تشهد تضامناً عالمياً لدعم نضالات المرأة من اجل مستقبل أكثر إشراقا يمتاز بالحقوق والمساواة مع الرجل نجد المرأة البحرينية بعد ان نالت حقوقها السياسية تفتقد إلى قانون يتفق مع حقوقها الشرعية والمدنية ونعني هنا بقانون الأحوال الشخصية الذي يضمن لها وللرجل وللأسرة البحرينية حياة يسودها الاستقرار. ان القضايا الشرعية المتراكمة في المحاكم البحرينية ومعاناة المرأة التي تزداد يوماً بعد يوم تثبت كم هي حاجتنا إلى مثل هذا القانون لإخراج المرأة والأسرة من دهاليز فتاوى الإقصاء ومرجعيات التهميش واجتهادات وأحكام لا توفر الاستقرار الأسري والاجتماعي. وأمام هذا الواقع المرير الذي تعيشه المرأة والأسرة جراء غياب هذا القانون فمن الصعب الحديث عن حقوق المرأة طالما حقوقها الشرعية في أمس الحاجة لقانون موحد لأحكام الأسرة يضع حدا لتدهور واستلاب هذه الحقوق بما ينسجم مع الشريعة الإسلامية ولذلك ان المرأة البحرينية التي لا تزال في نظر تلك الفتاوى والمرجعيات عورة ورمزاً للغاوية، في حاجة إلى تشريعات منصفة لوقف كافة أشكال التمييز والعنف والاضطهاد الواقع عليها.
في هذا السياق، يقول محمد محفوظ «ان نهوض المرأة في مجتمعاتنا العربية مرهون الى حد بعيد بتحرير مبادئ الدين وقيمه من اسر الجمود واليباس والقراءات التاريخية المنطلقة من عصور التخلف والانحطاط.. وذلك لأننا نرى ان الدين الإسلامي بقيمه الخالدة ومبادئه العليا قد أولى المرأة عناية خاصة وانزلها منزلة عليا في السلم الاجتماعي وحثها على ممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها بدون تمييز وتهميش .. ولكن عقلية الجمود وثقافة العصور والتخلف والانحطاط هما اللتان تمنعان المرأة باسم الدين من القيام بأدوارها الطبيعية والإنسانية وعليه كيف لمجتمعنا البحريني ان ينهض ويتقدم ما دامت حواجز وقيود العصور الوسطى تحاصر وتقيد الحريات والديمقراطية والكثير من الحقوق وفي مقدمتها حقوق المرأة وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بان نظام الوصاية المفروضة عليها وعلى المجتمع سيظل قائما ما لم نرسخ المساواة تشريعاً وثقافة وممارسة وهذا في الواقع مسؤولية مجتمعية وتحديداً مسؤولية الدولة وفكر الاستنارة ومنظمات المجتمع المدني الحديثة.
مرة أخرى، في هذه المناسبة العزيزة على المرأة والرجل الداعم لحقوقها ستبقى الأسئلة والهواجس قائمة طالما هناك من يمارس دوره الذكوري وثقافته الذكورية لاضطهاد المرأة!! ومن هنا واجبات البحرين تجاه المرأة البحرينية يستدعي الالتزام بالتوقيع على الاتفاقيات الدولية التي تنص على مناهضة التمييز ومكافحة كافة أشكال اضطهاد المرأة وبالتالي لا بد من التصديق على اتفاقية «اسيداو».
 ببساطة شديدة تطلعات المرأة البحرينية كثيرة وأول هذه التطلعات كيف لها ان تتحرر من تلك الموروثات القديمة التي تدعو المرأة بالعورة و”النعال” والتابع والعودة إلى عصور الكهوف.. كيف تتحرر من «سي السيد» الذي يكرس تبعية المرأة وسطوة الرجل وهنا كم من «سي السيد» قابع فينا كرجال نمارس دورنا الذكوري الذي تدعمه الكثير من التشريعات والمورثات.
واخيراً.. في هذه المناسبة تهانينا لنساء هذه الوطن ونساء كل الأوطان بهذا اليوم يوم المرأة العالمي، فتحية لنساء بلادي ولكل النساء في العالم.
 
الأيام 7 مارس 2009

اقرأ المزيد

الدولة والثورة في إيران بعد ثلاثين عاماً


 
لا يختلف اثنان على فرادة التجربة الإيرانية وغرابة نظامها السياسي.. عظمة ثورتها بالأمس وسمة دولتها اليوم! لكنهما لن يتفقا على وضوح مستقبلها وآفاقها القادمة في عالم مضطرب، تحاول فيه إيران أن تكون رقما إقليميا ودوليا صعبا، عصيا على الاختراق والترويض، كونها تقدم تجربة حكم’إسلامي’ مغلق، مشدود إلى الماضي في عصر يتّسم بالتنوع والانفتاح والتحولات الديمقراطية والتعددية السياسية!
فالمسافة بين دولة اليوم وثورة الأمس بعيدة بعد السماء عن الأرض.. بمعنى أن الثورة الإيرانية لم توفق في تحقيق الحرية لأبنائها وإن حققت الاستقلال الوطني وحرية القرار للدولة. لم تحقق الرخاء والازدهار المعيشي لسكانها وإن حققت التقدم التقني والقوة العسكرية للحكم. لم تحقق الانسجام الكامل، من خلال تنوع قومياتها وإثنياتها العديدة، وإن حققت الأمن للدولة المركزية. لم تحقق سياسة ‘حسن الجوار’ الكامل، مثل أن تتقدم بخطة تعاون لمنظومة اقتصادية شاملة لمجمل الدول الواقعة في مجالها الجغرافي الحيوي، وإن نجحت في اختراق المنظومة العربية واستقطاب مجموعة ما تعرف بدول ومنظمات الممانعة العربية/الإسلامية!  
لكن، لماذا أخذت مسيرة الثورة الإيرانية العظيمة منحى كهذا؟ ولماذا تأسست دولة أحادية تتخذ من الدين والمذهب الواحد عمادا واحدا أوحدا لنظامها في بلد اشتهر بالتناغم القومي والإثني والتنوع الثقافي والديني والمذهبي عبر تاريخه المديد؟ ألا تضعف هذه التركيبة مستقبل إيران في القادم من الأيام؟ ففي عالم اليوم من ألفيتنا الثالثة هذه لا مستقبل لبلدان وشعوب تختار أن تعيش في قوقعة الذات، المحصورة في مركب يجدف عكس التيار! قد يكون من المفيد أن نعيد إلى الأذهان الأحداث الجسام التي شهدتها إيران في خمسينات القرن الماضي.
فمن المعروف أنه بعد الانقلاب العسكري الدموي، الذي خطّطت له وكالة المخابرات المركزية الأميركية في سنة 1953 ضد نظام الدكتور محمد مصدق الوطني، قد جرى إعدام مجموعة من اليساريين المدنيين والعسكريين، بينما ظلت مجموعات قابعة في سراديب سجون الشاه أكثر من ربع قرن من الزمان(أخرجتهم الثورة لسنوات معدودة وتخلصت من جلّهم بعد ذلك). واستطاعت مجموعات عديدة أخرى أن تنفذ بجلدها والهرب إلى الخارج أو الاستقرار في الداخل والركون إلى الحياة الأسرية الروتينية ظاهريا، من بينها مجموعات من النشطاء خلدت إلى السرية والصمت ولكنها ظلت كالجمر تحت الرماد!. كل هؤلاء، الذين ظلوا نشطين سياسيين في الداخل والخارج، مشاركين- بشكل أو بآخر- في الثورة هذه، أضحوا هم أنفسهم أولى ضحايا عسفها.. حيث وصلت حملات التصفية الجسدية والروحية والنفسية إلى درجة لم تحدث من قبل، سقطت خلالها صفوف لا تنتهي من خيرة الكوادر العلمية والسياسية وحتى الفنية والأدبية، بل تم تصفية أفضل العسكريين الذين كانوا في سجون الشاه لعقود خلت أو حتى العسكريين المرموقين من الجيل اللاحق مثل الأدميرال البحري ‘بهرام أفضلي’، أحد أبطال تحرير ‘خرمشهر- لمحمرة’ من احتلال النظام العراقي البائد!
تطلق القوى اليسارية والليبرالية والدوائر الأكاديمية الجادة على الثورة الإيرانية اسم’ ثورة بهمن’ اقتداء بالشهر الحادي عشر في التقويم الإيراني، حين نجحت الثورة. بينما قوى’الإسلام السياسي’، التي صارت لها الغلبة والاستحواذ والاستفراد بالحكم في النهاية تصفها بـ’الثورة الإسلامية’. ولعله من الأمور التاريخية الملتبسة أن صفة ‘الإسلامية’ أو النظام’الإسلامي’ لم يكن مطروحا في البداية أصلا، حتى لدى رجال الدين الراديكاليين، الذين أبدوا تحفظهم حيال المشاركة المباشرة في الحكم. ورأوا أن دورهم لا يتعدى التكليف الشرعي والتوجيه المعنوي للنظام المأمول القادم. ولكن مآل الثورة ومسيرتها اللاحقة أخذت منحى آخر لم يكن في حسبان الجماهير الثائرة – في حينه – من جهة، ولا في حسابات المحترفين الثوريين من جهة أخرى. حيث أضحت الحريات الشخصية والسياسية، التي كانت قمة الأولويات على أجندة أهداف الثورة، أصبحت في خبر كان!. لذلك فعلى قدر ما كانت الثورة الإيرانية فريدة والمأمول منها كثير من الإنجازات لمواطنيها والكثير من المثال المحتذى به والأنموذج الأفضل لجيرانها، على قدر ما أصبحت النتائج عكس ذلك تماما، إلى درجة أن كثرة من الأكاديميين والسياسيين الإيرانيين والأجانب باتوا يصفون الثورة نفسها بأنها أضحت الثورة المغدورة والمخطوفة!
في البدء عندما كانت الناس خلف المتاريس في خضم الثورة بدا الشعار العام ‘ كلنا معا'(همهْ با همْ)، الذي أطلقه ‘الإمام الخميني’ من منفاه الباريسي، سيد الموقف. واستطاع أن يوحد كل القوى والجماعات السياسية لأسمى هدف ألا وهو إنهاء الملكية الاستبدادية وتشييد نظام جمهوري جديد يكفل الحريات جميعها. لكن ما إن انتصرت الثورة حتى بدأت الخلافات والصراعات تطفو على السطح، حيث استهلت مبكرا بين اليسار الديني المتمركس (مجاهدي خلق) أقوى التنظيمات اليسارية الدينية والشعبية جماهيرية والحزب الحاكم المتمثل في حزب الجمهورية الإسلامية، الذي تأسس بعد الثورة من أجنحة دينية عديدة، مستحوذا في النهاية على السلطة ومستفردا بالحكم، بعد أن جرى التخلص من المنافسين (شركاء الأمس) واحدا إثر آخر. ‘مجاهدي خلق’، ‘فدائيي خلق’ والليبراليين. وأخيرا آخر الضحايا، ‘حزب تودة’ الذي ظل لآخر يوم من نشاطه- شبه العلني- يراهن على ما سماه بـ ‘خط الأمام’ ولم يفقد الأمل في إمكانية عودة الحرارة إلى روح الثورة والعمل المشترك بين قوى الثورة، لمصلحة ‘المستضعفين’ وذلك لو نجحت المساعي المشتركة في استبعاد الأجنحة الدينية اليمينية المتزمتة من دائرة القرار! وقد دفع هذا الحزب العريق (أول حزب سياسي إيراني) ثمنا غاليا نتيجة ذلك الوهم، حيث خسر أفضل مثقفيه الألمعيين، العلماء والفلاسفة النظريين (المعروفين على مستوى العالم)..أمثال الفيلسوف الماركسي الكبير ‘إحسان طبري’ والكاتب النظري المعروف، الضليع بعلم الاقتصاد السياسي ‘جواد جوانشير’. وأحد ألمع قادة الحزب الاستراتيجيين ‘منوشهر بهزادي’، بجانب خريجي سجون الشاه من ربع قرن، العسكريين.. أمثال ‘الحجري’ و’ذو القدر’ وعشرات غيرهم من الكوادر القيادية ذوي العيار الثقيل. ولم يسلم من التصفية حتى كوادر الحركة النسوية مثل ‘كيتا عليشاهي’ وغيرهن العديدات.. إضافة إلى المئات، بل الألوف من أفضل الكوادر السياسية والعسكرية، صانعي ملحمة الثورة قبل ثلاثة عقود خلت!
 
الوقت 7 مارس 2009

اقرأ المزيد

أطباء في السوق السوداء


كان الله في عون وزير الصحة على كل تعقيدات هذه الوزارة الكبيرة والمتشعبة, بقدر ما ندعو ان يعين المرضى من بطش بعض الأطباء الاستشاريين الذين لا هم لهم إلا الدينار. لم أكن أهتم كثيرا لما ينشر عن وزارة الصحة وما يدعو له النائب محمد المزعل بخصوص الطب الخاص, حتى شاءت الأقدار ان أراجع أحد الأطباء الاستشاريين, وبالمناسبة أتوجه إليه بالشكر الجزيل على الجهود والاهتمام الذي أبداه خلال توعكي الصحي في الأسبوع الماضي, وأوضح ما يدور داخل هذا القطاع.

الفكرة من توجهات وزارة الصحة وكذلك النائب محمد المزعل هي الحد والقضاء على (السوق السوداء) التي دخل فيها بعض الأطباء الاستشاريين المستغلين (لأزمة أسرة السلمانية), والتي نأمل ان تحل بسرعة كبيرة, وان تولى أهمية كبرى من قبل الحكومة. فإذا كنت تعاني من مرض ما (أجارنا الله واياكم), واستلزم علاجك إجراء عملية فأنت تحتاج إلى أكثر من 7 أشهر حتى يصل بك الطابور لغرفة العمليات في السلمانية.
المريض يضطر إلى التوجه إلى الطب الخاص, لأن الطبيب الاستشاري يجري له العملية في اليوم الثاني بعد ان يدفع المريض إلى هذا المشفى 500 دينار مثلاً –بحسب نوع المرض والعملية-.

السوق السوداء تكمن في التالي: بعض الاستشاريين يستغلون صعوبة عيش المواطنين, فيأتي اللؤم هنا, عبر دعوة يوجهها الطبيب الاستشاري للمريض بأن يدفع له فقط 250 دينارا على ان يقوم الطبيب بإدخاله الى مستشفى السلمانية ليجري له العملية في اليوم المقبل, وطبعاً وزارة الصحة لا تستطيع ان ترفض فتح غرفة العمليات لأي استشاري يرى ان حالة هذا المريض تستدعي ان تجرى له عملية في هذا التوقيت. يدخل هذا المريض متجاوزاً طابور المرضى الذين لا يستطيعون ان يدخلوا بميزانيتهم التي لا تكفي لسداد رمقهم طوال الشهر, فيأتي هذه المرة استشاري ليثقل على ميزانيتهم, فتتعثر عمليات المرضى الفقراء دون حسيب أو رقيب.
وزارة الصحة الآن لها كل التقدير لمحاولة تنظيم هذا الطابور الصحي ان صح التعبير, ونجدد دعاءنا لهم في ان يوفقوا في محاربة كل الظواهر السيئة في هذه الوزارة, فأملنا بالوزير كبير.



الأيام 7 مارس 2009
 

اقرأ المزيد

أزمة اليسار


أزمة اليسار – (1)
 
تتردد كلمة أزمة اليسار وغياب اليسار في الكثير من المقالات، تعبيراً عن فقدان لقوى مهمة معبرة عن أغلبية الشعب. كان اليسار نتاج صيغ مستوردة وكان عالمياً يشتغل لإنتاج رأسماليات حكومية، أُضفيت عليها شعارات اشتراكية، والتحمت هذه الشعارات بالمطلق، أي رئيت وكأنها أبدية، مما جعلها نسخاً من الأديان. وقد كانت الأديان في بدايتها ثورات معبرة عن أغلبية الناس، وهي الخميرة الأساسية، التي تم دفنها في الأشكال العبادية المفارقة لتطور الناس وتقدمهم، وغدت الأديان معبرة عن الأقليات الاستغلالية فركزت في الأشكال كأدوات سيطرة على الجمهور. ولهذا حين حاول اليسار أن يعبر عن الأغلبية الشعبية كان يواصل سيرورة الأديان، في تلك الثورات، لكن اليسار في العالم العربي لم يتواصل مع تاريخه العربي، بل استورد يساريته من الخارج، وهي عملية ضرورية في جانب الأدوات النظرية التحليلية لأنها نتاج تطور العلوم التي هي خبرة بشرية عالمية، والتي كان ينبغي أن تتوجه لكشف تطور المجتمعات العربية، وهي غير ضرورية بل مضرة حين تغدو جلب قوالب وتركيبها على تطور الشرق المختلف عن الغرب.

في التجارب(الاشتراكية) التي تحولت إلى أديان حديثة، نجد العمل المهم الذي استغرق سنوات على تطوير حياة الأغلبية، لكن من خلال هيمنة حكومات مطلقة، وحينئذٍ يغدو الفكر(الاشتراكي) دينياً ويصبح شيئاً فشيئاً معبراً عن الأقلية الاستغلالية، لأن البيروقراطيات تنفصل عن الناس وتحول جزءاً مهماً من الفائض الاقتصادي لمصلحتها. فالوعي(الاشتراكي) هنا يكرس شمولية الشرق؛ وهي سلطة مطلقة أبدية، وادعاء بامتلاك الحقيقة والقضاء النهائي على الشرور، وتحويل الزعماء الموتى إلى مزارات ومعبودين، حتى يتم دفن الفكر النقدي العقلاني معهم. هذا الوعي الديني هو الذي هيمن على اليسار العربي، فتم نقل اشتراكية دينية بيروقراطية ذات نصوص شبيهة بالكتاب المقدس، الذي لا يمسه سوى المطهرين، وهي في ذات تنكر تراثها الديني، وليس الأشكال التقليدية فقط بل كذلك المضمون الثوري المتواري في بداياتها. لكنها تنزلق نحو الأشكال التقليدية، فالمقدس المحافظ موجود في لا وعيها في أكثر الأحيان، خاصة أن الكثير من مناضليها هم من الفقراء والعمال. فالأشكال التقليدية أكثر حضوراً في الحياة اليومية، كما أن الاشتراكية ليست عند الأغلبية سوى شعارات. بسبب المواجهات بين الرأسماليات الحكومية الشرقية التي تصورت نفسها نهاية للتاريخ، وبين الغرب، حدث انتصار للرأسماليات الغربية الأعرق وكذلك حدث تطور آخر في الرأسماليات الحكومية الشرقية، فكشفت عن وجهها الرأسمالي، وتجاوزت اختناقها التقني الإنتاجي، وقاربت الديمقراطية الغربية في جوانب شكلية. وبهذا فقد اليسار العربي سنده العالمي، واعتبر ذلك نتاج خيانة للاشتراكية أو لتغلغل الجواسيس، وغير هذا من السببيات المسقطة بشكل ذاتي، فأصيب بصدمة دينية، عُوضتْ في جوانب منها بالرجوع إلى الدين المحافظ، الدين كما صاغتهُ قوى الاستغلال، وكان الرجوع للمحافظة والأشكال العبادية والطقوس وغيرها من المظهريات، جزءاً من تدهور طويل في هذا الوعي (اليساري). وإذا كانت بعضُ القواعد انهارت وذابت في المظهريات الدينية الطافحة، فإن جزءاً من القيادات تمرس بالأشكال الانتهازية، والمصلحة الذاتية، والميوعة الفكرية، والتوجه مع الغالب أي مع الأطراف الدينية المحافظة بتنوع تياراتها وزئبقية مواقفها وتوجهها نحو الانضمام إلى قوى الاستغلال السائدة. إن الطبيعة الدينية في هذا اليسار تعتمد على قواعد شعبية لم تتجذر في المعرفة العلمية، فليست الأفكار اليسارية – كما يُفترض – شعارات وإنما نظرية متغلغلة في جميع العلوم خاصة الاجتماعية منها. وأغلبية العمال ليس لديها وقت للقراءة المعمقة إن لم يكن ليس لديها وقت للقراءة أصلاً، ولهذا هي تعيد سير آبائها الذين بعد أن ينتهوا من العمل يتوجهون للترفيه أو إلى دور العبادة يشحنون أدمغتم بالخطب المنبرية، ثم مع الأيام تضعف صلاتهم هناك بأعماق الدين وهنا بأعماق اليسار وجذوره التاريخية. وتصبح المظهريات العامة الدينية واليسارية بينهما مشتركة؛ البكاء على الشهداء، وعمليات الشحن الموسمية للرمزية المعبودة، وتسلل الطائفية عبر تنحية رموز وتعظيم رموز دينية، تنحية النساء عن التنظيم والقيادة، وغير هذا من الجوانب التي تغدو في الشباب أكثر بروزاً وهي التي لم تشهد النضال اليساري في عنفوانه. يساعد على ذلك نوعيات التنظيمات اليسارية خاصة التي صارت أندية وشللاً، وفقدت مضمونها الجوهري وهو الالتحام بالواقع والجمهور والصراع معهما، من أجل تحليل واقع الأغلبية وتطوير مساهمتها في التغيير. وإذا كانت لا تدرس الواقع، ولا تعتمد على القراءة والإنتاج المعرفي التحليلي للحياة، ولا على جهود أعضائها تقرأ الواقع وتصارعه، فإنها تغدو مذبذبة، انفعالية، عفوية، تتبع تيارات الواقع ولا تقودها. ولأن الواقع يتمثل في صراعات الطائفيين المسيطرة فإن حركة (اليسار) تصير بينها، استفادة منها، وميلاً إلى بعضها، ونقد أخرى، لأنها تكون قد انزلقت بينها وصارت جزءًا منها. صارت العفوية أساس عملها وهي التي تتيح نمو الانتهازية في صفوفها.


 
أزمة اليسار (2)


في إطار تحليله أزمة اليسار يقول أحد الكتاب العرب: (عندما انضم أبناء جيلي إلى معسكر الفكر الماركسي المتمثل أساسا بأحزابه الشيوعية، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضالية، والثقة التي لا تتزعزع بصحة نهجنا، وبأننا قادرون، رغم ضعفنا الواضح في مناطق ما من العالم، على تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً، بالانتصار على الأعداء الطبقيين والانضمام إلى العالم الحضاري المتنور، عالم العدالة الاجتماعية والحرية البعيد عن الاستغلال، ألا وهو العالم الاشتراكي. وكنا مؤمنين بنهجنا متعصبين له بشكل مطلق. ولكن اتضح فيما بعد أن ما كان يبدو قريب التحقيق أصبح مستحيلاً، وأقرب إلى معجزات السيد المسيح وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع، وبدأنا ننظر إلى القضايا الفكرية والاجتماعية بواقعية ومنطق مختلفين عن أساليب التلقين الحزبية التي واصلت (والمرعب أنها لم تتغير حتى اليوم) التمسك بنفس النهج والتصرف وكأن ما جرى في النظرية والتطبيق مجرد خطأ مطبعي سيجرى تجاوزه وتعود الثوابت الإيمانية إلى مكانها الطبيعي. فالحديث ليس عن نظرية أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي، إنما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل له حرمته الدينية. وكأن المعسكر الاشتراكي لم ينته، ونموذجه الاشتراكي هو النموذج الوحيد القادر على إنقاذ البشرية.. رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي، ومن انحرافات، وتجاوزات للفكر العظيم لمؤسس الماركسية- كارل ماركس، قزمت فلسفته وحولتها إلى ستالينية ضيقة الأفق مارست أبشع أشكال القهر والاستبداد ضد شعوب الاتحاد السوفيتي والمجموعة الخاضعة لها في اوروبا الشرقية). (حتى في إطار نقد الفكر اليساري وتجربته تتواصل عقلية الفكر الديني المحافظ، فمصطلحات مثل (عالم العدالة والحرية البعيد عن الاستغلال)، تعيدنا إلى ذلك الوعي فهي تصوير للمجتمع السوفيتي كمجتمع ديني، كجنة أرضية، انحرفت إلى النار بسبب شخص كافر هو ستالين، لم يمش على صراط الإمام الأكبر ماركس). (نبيل عودة، صحفي فلسطيني، الناصرة) وهناك جوانب في الفقرة السابقة المستشهد بها حقيقية، لكن الفقرة لم تقترب من فهم أساليب الإنتاج، وهي الفكرة الرئيسية لفهم الماركسية، فـ(عالم العدالة والحرية البعيد عن الاستغلال) كلامٌ خيالي، وهو كلام مقصود به القفز على التشكيلة الرأسمالية، وهو ما كان المطب الرئيسي لمنظومة ما يُسمى  (الماركسية – اللينينية) التي تمظهرت في مؤسسات الأحزاب الشيوعية، والتي اعتبرت هذه التشكيلة غير ضرورية، ويمكن القفز فوقها للذهاب إلى الاشتراكية مباشرة، وهي تعبر عن عقلية مغامرة غير علمية، لهذا كانت في العمق وعيا دينيا، وفي الظاهر إلحادا عدميا، يعتقد بإمكانية الطيران فوق السببيات الاقتصادية، وصناعة الواقع كما يهوى ويتحول إلى دين يسحق الأديان. لكنه كان يصنع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية، فليست المسألة مسألة (رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي)، بل الأمر أخطر وأكبر من ذلك، انها عملية صنع المنظومة الحكومية الشمولية تلك، أي الأمر يعود إلى تكوين دكتاتوري في العلاقات الاجتماعية والسياسية الشرقية الضاربة الجذور في الاستبداد. فاستيراد الروس للماركسية كان استيرادا بعقلية دكتاتورية تمظهرت بقوة في الحزب البلشفي، وكان المناشفة، المنادون بالديمقراطية أقرب للماركسية، وهكذا كان لينين صانعاً لهذه الدكتاتورية الرأسمالية الحكومية، منذ بداية تنظيم البلاشفة في الخلايا الأولى. ولهذا كانت الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية هي الممكن الوحيد لدى مثل هذه المؤسسات السياسية، وليس هذا ببعيد عن القوميين العرب والبعثيين والطائفيين الحاليين، فمهما كانت مصادر نقلهم للأفكار، فهم في النهاية يعملون لقيام رأسماليات حكومية دكتاتورية، فهذا له جذور في تاريخهم السابق لا يقومون سوى بقولبتها على الحاضر. لا يختلف في هذا لينين عن الخميني عن عبدالناصر عن هوشي منه عن كاسترو عن صدام الخ. وهي علاقات تجعل (اليساريين) يرون في الطائفيين اخوتهم في النضال. كان إنشاء قطاع عام أساسي في روسيا وتشجيع القطاعات الخاصة المنتجة وتطوير الريف وتحديثه بشكل تدريجي والسماح بتعدد الأحزاب والحريات العامة والانتخابات الحرة كان أفضل للتجربة الروسية، وهو ما صار وامضاً في السياسة الاقتصادية الجديدة في العشرينيات من القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي، التي لم يحولها لينين إلى منظومة مصرا على النظام الحكومي الدكتاتوري، فـنسفت هذه العناصر الديمقراطية مع تصاعد الدكتاتورية بشكل شامل. وإطاحة ستالين بأعضاء المكتب السياسي الآخرين وقتل أغلبهم ليست مسألة عبقرية شخصية، بل هي نتاج تصاعد البيروقراطية الحكومية وتصاعد الأجهزة السرية البوليسية والعسكرية التي وقعت خيوطها بين يديه. ثم عممت هذه التجربة على البلدان والأحزاب الأخرى باعتبارها اشتراكية، وقد هيجت هذه السياسة الصراعات الدولية الكبيرة وبررت صعود الفاشيات في أوروبا الغربية.


 
أزمة اليسار )3(

لم يقم اليسار العربي بنقد تجربته النضالية الدكتاتورية إلا بأشكال عمومية ومجردة ولم يدرسها بشكل نقدي من خلال تاريخه الخاص، لأسباب فكرية بدرجة خاصة فهو الماركسي لا يعي الماركسية، إلا باعتبارها قوالب شرقية استبدادية، وعبادة لقادة، وأبوية وطنية وعالمية.
هو جزء من جماعة تسودها الأبوية وغالبية عمالية تكره الرأسمالية بسبب عيشها في مصانع وشركات وتحن لإزالة الاستغلال، وهي تعاني ظروفها هذه ولا تستطيع أن تغير مهنها، ولا تدرس الثقافة السياسية كذلك، وبالتالي يكون لها وعي مناهض بشكل عفوي للرأسمالية، وتمضي غريزيا للشعارات الاشتراكية، من دون فهم عميق لها.
ومقاومة الاستغلال الرأسمالي وتحسين ظروف العمال وأجورهم أمور مهمة جوهرية، ولكن مسألة إقامة نظام سياسي اشتراكي شيء مختلف وغالباً ما لا يفهم حتى قادة العمال هذين الأمرين، نتيجة لذلك الوعي، خاصة في دول تعيش نظاما تقليديا، متخلفا، كما أن (الماركسية – اللينينية) التي تمتْ صناعتها في دول الرأسماليات الحكومية كرست مثل هذه الأمية الفكرية.
ولهذا فإن واقعاً معقداً كالذي نشهده حاليا لا تستطيع مثل هذه اللافتات الشعارية أن تحلله وتفهمه، وتتأخذ تجاهه موقفا نقديا يؤدي إلى تقدم حياة الغالبية من الجمهور.
لقد خلقت الطائفيات مثل هذه المواقف الملتبسة، وتؤدي العفويات السياسية والانتهازية والمعارضة الغريزية، أدوارها في تأييد الأحزاب اليسارية للطائفية الشيعية أكثر من الطائفية السنية، خاصة في بلدان المشرق ماعدا مصر وفلسطين والأردن، التي لها سمات مذهبية ودينية أخرى، فالكثير من قواعد الأحزاب اليسارية تأتي من العمال والفقراء، المشحونين بالدعاية الطائفية، ولا تتمكن مداركهم من فرزها وتحليلها، وحياتهم اليومية تجري بين هوائها، ولهذا يؤيدونها من دون إدراك لمخاطرها.
والسياسات الطائفية لجميع دول المشرق مرفوضة، ولكن الأخطر فيها حين ترتبط بمشروعات توسع، وعسكرة، وتقمع شعوبها في الداخل، ولهذا فإن عدم نقد مثل هذه السياسات في الأحزاب (اليسارية) هو بحد ذاته مبعث قلق كبير، ولعل أسبابه تكمن في مجاملة طائفتها، وأعضائها المنتمين إليها، وحينئذ تكون السياسة (اليسارية) قد وصلت إلى الكارثة.
كما أن الطائفيات السنية لا تخلو من سلبيات كبيرة كذلك، فالعسكرة وسياسة الأجهزة العسكرية والبوليسية وإرسال الرساميل للعيش في الخارج، وعدم المساواة في المناطق وبين المواطنين للدخل الوطني، هي وغيرها سلبيات يجب نقدها بقوة من قبل الأحزاب اليسارية، لكن في هذه الفترة الحالية تكون سياسة المحافظين الدكتاتوريين في إيران هي الأكثر خطورة على حياة المنطقة.
تحدث المجاملات والتغاضي عن ذلك البلد وتلك الطائفة فيقال ان ذلك لحساسية الموقف، وليس ذلك سوى للحفاظ على مظهر هش للتنظيم اليساري، الذي تقاعد مبكراً من اليسار، لكنه يخدع نفسه بمظهريات، وعبر أعضاء لا يقرأون، ولا يزاولون نشاطا سياسيا تحويليا للواقع.
بطبيعة الحال يمكن لمواجهة الجمهور المتخلف والمتعصب أن تجرى وسائل الإرشاد بطرائق حذرة، وعبر التمييز بين رموز التراث والأنظمة التي تتاجر فيها، لكن الحقائق يجب أن تقال، وأن تترسخ في وعي هذا الجمهور، فالتناقضات داخل الطوائف والأنظمة الشمولية تحتدم، وستكون لها في المستقبل مظاهر حادة تصل بالقوة حتى إلى عقول أكثر الناس تخلفاً عن متابعة الأحداث وفهم الواقع.
ولو كان اليسار ذا مواقف نقدية من الظواهر: السوفيتية والصينية والناصرية والبعثية واليمنية الجنوبية وغيرها، لكان قد طور عقلانيته، ولكان أكثر بقاء واتساعا، وقلل من كوارث الأنظمة والحركات الطائفية، ولكن ذلك لم يحصل، وهو لا يحصل الآن تجاه الأنظمة التي ورثت السابقين، مما يدل على ضعف تنامي تلك العناصر النقدية العقلانية، وهيمنة العفوية المؤيدة للدكتاتوريات الجديدة، ومجاملة المتخلفين، والاستفادة منهم لمصالح عابرة، بدلاً من تبصيرهم بوعورة الطريق، وعرض تجربتهم هم كيساريين بسلبياتها وإيجابياتها، فالجميعُ نتاجُ نسيجٍ واحد شرقي شمولي طائفي، لابد من التعاون لتغييره.


أخبار الخليج 7,6,5 مارس 2009
 

اقرأ المزيد

عــزيــــــز ما شـــاء الله …!

تمر في السابع من مارس ذكرى رحيل المناضل العمالي عزيز ما شاء الله  الذي مات قهرا في منفاه  في الدنمارك بعد أن أبعد عن البلاد و بعد أن تعرض للتعذيب الوحشي في واحدة من حملات الاعتقالات السوداء التي شملت  مناضلو جبهة التحرير البحرانية عام 86.

 وتخليدا لذكراه يؤكد  الشاعر عبدالصمد الليث في قصيدة رثاء بقاؤه عزيزا في قلوب رفاقه ومحبيه..
  
  
  


عــزيــــــز ما شـــاءالله …!
 

رفيــقُ النضــــال ِ.. غــريـــــبُ الديـــــــارْ
            (عــزيـــــــزٌ) يـلــحَّ بـفـعـــل ِالحـضــــورْ
فـمــــا زال فــــي خـــاطـــــري مــاثــــلا ً…
            بوجــــه تـبلـّــج فـي الليـــــل ِنــــــــــــــورْ
كغـيـــــثٍ هــمــى…
            بـفـــراتٍ طـمــــا…
            ويــومَ تـوقـَّــف غَــبَّ النـــــــزولْ…
            روى سبـخـــــة َ الارض ِعــــزفَ الهـطـــولْ
فجــادت ريـــاضٌ بعـطــــر ِ الــزهــــــــورْ

                  … … …


فحيــــــــن اخـتـلـفـنـا الـى المهــــرجـــانْ…
            ودارت رحــى فعــل ِ ذاك الــزمــــانْ…
وكـنــــا نحــاور احلامـنـــا…

يـبــــادر يـــــومــا ً وقـــــد زَمَّ نـظـارة ًعـــن هــــلالْ :
” دعــــــونـــــا نـغـــــادر أســمــاءنــــــا…
            ونجـفــو الأنــــا والـهـــوى المسـتــريـبْ ”
وخـــط ّ لـنـــــا رقـعــة ً مــــن شـغـــــافْ

وقــال: لنـبـحـرُ عـبــرَ الهـمــومْ…
            ونــركـبُ ظهـرَ النـفـوس ِ الكـبـارْ…
            ونـنحـا بـهـا شــاطـئ الامنـيـــــــاتْ

ودال الـــزمــان ُ.. ودار المكــــــانْ…
وصــار عـزيــزٌ طـريـدَ الهــــــوانْ…
يـلاحـقـه اللـيــلُ والارصـفــــــــــةْ
يَحِـــنّ فـيـأخــذهُ المرجــفـــــــــــون…
            ويـُـفــــردُ مـــن دارهِ إذ يـكـــــونْ

وفــي هــدأة ِالغــربـــة ِالمــــزدراة ْ…
رمـتـــه الفـجــاءة ُ سـهــمَ الـمـمــاة ْ…
تــوقـُّـف فـي القـلــبِ نـبـضُ الحياة ْ…
            فمــــدَّ لـنــا عــمـــــرَهُ للعــبـــــورْ

                 … … …

سيـبـقـــــى ( عــزيـــــزٌ ) عـزيـــزَ القـلـوبْ…
            وشجـــوَ النخيـل ِ ومـلءَ العـيـونْ…
            ومـدّ الخـليــج ِ وصــوتَ الطـيـــــورْ 
            
                     عبدالصمد الليث 
                     12/1/2003 

 

اقرأ المزيد

مبادرة المنبر أم مبادرة حسن النوايا؟


 مع تقديري لجهود جمعية المنبر التقدمي وجهود أمينها العام الدكتور حسن مدن, وحرصها للحوار وتخليص الوطن من حالة الاحتقان التي بدأت تهدد المكاسب الديمقراطية التي تحققت بفضل تضحيات وجهود وطنية كبرى منعت الوطن من الانزلاق نحو الهاوية. كلنا نذكر أحداث التسعينات بتفاصيلها الدقيقة, وفي كل لحظة نسمع او نشاهد أحداث عنف, تستحضر الى ذاكرتنا تلك الأيام بآلامها وأحزانها, فالتاريخ مازال عالقا في مخيلتنا ولم ننس!! المعارضة متمثلة في المنبر التقدمي, نجحت في حصد تأييد جل القوى السياسية لمبادرتها, وهو يحسب للعملية الديمقراطية, ولعل الذين ينقبون عن المثالب والنقائص يستخلصون العبرة من نجاح المنبر, وهو ان الحكومة لا تتحسس من المعارضة او تضيق منها, وأنه لولا اتساع هامش الحرية لما استطاع المنبر او غيرهم أن يمارسوا دورهم في المعارضة, فالإجماع في العمل الديمقراطي لم يكن أبدا علامة صحية, فالأصل هو الخلاف والتعارض في هذا الميدان.
إذا دعونا نتساءل: متى تتحسس الحكومة ويضيق صدرها من المعارضة؟ في حالة واحدة فقط, وهي عندما تضرب المعارضة بعرض الحائط كل أدوات العمل الديمقراطية والتي تكفل حرية التعبير, وتستخدم العنف لإرهاب المجتمع, لأن الحكومة ومن منطلق مسؤوليتها نحو المجتمع هي المسؤولة عن السلم الاجتماعي, وهي المسؤولة عن امن الفرد, بالتالي لزاما عليها حفظ الأمن بكل الوسائل, ولا يمكن تحت اي تسمية فلسفية تفسيرية غريبة لم تدرج ضمن منهج العمل الديمقراطي, ان يعتبر حرق مكب زبالة او تفجير محول كهرباء او الاعتداء على رجال الأمن, هو نوع من أنواع وسائل حرية التعبير العنيفة, لان في ذلك نعطي الحكومة العذر في استخدام عنف مضاد وأكبر لمواجهة هذه الفلسفة في حرية التعبير لحفظ امن المجتمع. كلنا ندرك ان العنف مرفوض عالميا كوسيلة للتعبير,‏ وكلنا ندرك ان العنف يولد عنفا مضادا من الحكومة تساوي في المقدار وتضاد في الاتجاه القوة التي يؤثر بها الجسم الثاني في الجسم الأول, ولكن ما لا ندركه هو ان أعمال العنف تلك, قد تجهض أي مشروع ديمقراطي وتجر الوطن الى متاهات مجهولة العواقب والنتائج, وسندفع جميعنا الثمن.
 ودعونا نتساءل من جديد: هل نحن بحاجة الى مبادرة للحوار؟ بالتأكيد نحن بحاجة الى حوار مستمر بين أطراف المعادلة -الحكومة والمعارضة- وهو أمر حتمي يدفع الى مزيد من النضج السياسي, وفي وضع التأزيم الحالي الذي يلف بالوطن, نحن بالفعل نحتاج الى مبادرة حوار وطنية, لكن قبل ذلك نحتاج الى نوايا ومبادرات تدفع نحو إنجاح المبادرة.. نحتاج إلى ترشيد الخطاب الديني والذي لا يدين العنف ويعطيه المشروعية, ونحتاج الى آلية تلزم القوى السياسية بمبادئ الحوار.. نحتاج الى ما هو اكبر من ذلك وهو, دعوة من طرف التأزيم والمحرض على عنف الشارع, الى تهدئة الشارع وعودة الأمور الي نصابها الطبيعي, فالحكومة كما نعلم علم اليقين أنها قدمت في السابق في اكثر من موقف مبادرات حسن النوايا, فأوقفت محاكمة عبدالهادي الخواجة وحسن مشيمع في 2007, وأفرجت عن 225 متهما متورطين في قضايا أمنية في يوليو 2008 وغيرها, وأصبح حكم الحكومة في حكم الشرع «لا يكلف الله نفسا الا وسعها» وباتت الأمور في مسؤولية طرف التأزيم كما قلنا, وعليه ان يقف أمام شعب البحرين والتاريخ ويعلنها صراحة: هو مع امن الوطن ومستقبله السياسي او العودة الى مربع الصفر؟؟
 
الأيام 6 مارس 2009
 

اقرأ المزيد

ثقافة الإنتاجية ..


وزير العمل د. مجيد العلوي أكد مؤخراً على أهمية خلق ثقافة جديدة تدفع نحو الإنتاجية قائمة على التعامل مع المهارات وتتكيف مع رؤية البحرين الاقتصادية حتى العام 2030 . الرؤية الاقتصادية المذكورة تقول : ” إن معدلات إنتاجية الاقتصاد الوطني في البحرين لا تواكب المنافسة العالمية , وأن المتوسط العالمي لزيادة الإنتاجية بلغ 21% خلال الخمس وعشرين سنة الماضية, في حين أن زيادة معدل الإنتاجية في البحرين بلغ 17% فقط ” . مجلس التنمية الاقتصادية يرى في ثنايا الرؤية الاقتصادية بأن الفترة الراهنة هي فترة حاسمة في تاريخ البحرين, وأن ازدهارها في المستقبل يتوقف على إحداث تغيير جذري على مستويات عديدة لمواكبة العالم المعاصر أهمها تعزيز الإنتاجية واكتساب المهارات , إلى جانب الابتكار وتحديث الاقتصاد . صندوق العمل ” تمكين ” أكد أنه يولي اهتمامه بإعداد الكفاءات الوطنية وزيادة الوعي بمفهوم الإنتاجية والارتقاء بالتدريب المهني لرفع إنتاجية العامل البحريني لتعزيز قدراته التنافسية في سوق العمل وجعله أكثر جاذبية في التوظيف. مؤسسة ” كونغرس بورد ” وهي منظمة للأبحاث والأعمال العالمية أعدت دراسة بالتعاون مع منظمة الخليج للاستثمار خلصت إلى أن نسبة أداء قوة العمل في البحرين تقدر بــ 1,5 % , وهو اداء وإن كان أفضل من غيره في اطار منظومة دول مجلس التعاون , إلا أنه يبقى أداء متواضعاً ومتدنياً مقارنة بمناطق أخرى في العالم .

 الحديث عن الإنتاجية لا ينبغي أن يمر دون التأكيد على أهمية إخضاع هذا الموضوع من جانب ذوي العلاقة والاختصاص للدرس والتحليل والمراجعة والمعالجة, وإن كنا نرى أن سلسلة المشاكل والمظاهر السلبية العديدة التي تغمر حياتنا الآن إنما هي مرتبطة بشكل أساسي بالإدارة, فمسؤوليتها لا يمكن إنكارها , واذا كان ثمة التفاته أو مقارنة بين ساعات العمل والإنتاج التي يمضيها الموظف في أي مكتب حكومي لدينا مع ما يحدث في المانيا أو اليابان أو في أي دولة من الدول المتقدمة, فحتماً سيكون علينا أن نلاحظ :

 • ليس هناك من يحول مكتبه إلى مجلس, أو يحضر حضوراً سلبياً دون إنتاج يذكر أو يغيب ليوّقع آخر بدلاً عنه, ولا أحد هناك يجيء بابنه او ابنته الى المكتب , أو يقرأ الصحف أو يعطل أعمال و مصالح الناس, ولا أحد هناك يتمارض أو يطالب بإجازات مرضية مفتعلة أو وهمية, ولا أحد هناك يتحدث في مكالمات هاتفية خاصة في أوقات العمل الرسمي أو يهرب من العمل ليتسكع في هذا المجمع أو ذاك, أو ليقوم بزيارات مجاملة هناك أو هناك. لا أحد هناك يتساهل في سلوكيات العمل, ويجعل التسامح في الخطأ هو الأساس , والجزاء هو الاستثناء , ولا تعطى مكافآت لمن لا يعمل , وليس هناك من يغرم بالاجتماعات بسبب وبغير سبب لغاية ولغير غاية , اللهم البهرجة وتضييع الوقت, ولا أحد هناك يفصّل له وللمقربين منه مهام رسمية خارجية غير مبررة تفوق عدد أيامها عدد أيام عملهم . وهناك يؤمنون باستحالة حل المشاكل عن طرق صناعها, ولا يصبح المسؤولون أنفسهم جزءاً من مشكلات المجتمع وعبئاً عليه وتتفاقم باستمرارهم , ويدركون أن حل المشاكل دون تغيير جذري في أطر تكوينها هو أيضاً مستحيل, وهناك يربطون بين الإنجاز والكفاءة, ويؤمنون بالنظم الإدارية وليس بالأشخاص , ولا يتركون أعنة الحياة والمستقبل للصدفة, ويعملون من منطلق أن المستقبل هو ما نصنعه اليوم . هناك لا يأتون إلا بمن يمتلك أعلى درجة من الكفاءة لمناصب الرئاسة وإدارة الحياة العامة , ولا يركزون السلطة في يد أصحاب هذه المناصب مهما كانت كفاءتهم ومهما علا مقامهم, ولا يحوّل هؤلاء مساعديهم إلى خدم وأتباع, وهناك لا يغفلون مساءلة ومحاسبة كل من يتولى عملاً عاماً اذا اخطأ أو قصّر في أداء واجباته, وهناك يعرف ويرى الناس ويلمسون خلفية الثروات والشهرة والنجاح, ويدركون أنها قائمة على الجهد والجد والتميز والكفاح وتوظيف قدرات وابداعات, ويتقبلون ثروة وشهرة ونجاح أي كان في أي موقع من مواقع العمل والإنتاج لأنها نتائج طبيعية لمعطيات مرئية ومعروفة في أغلب الأحيان تحظى بالتقدير والإكبار, وليس نتاج استغلال الوظائف والانتهازية وتعارض المصالح والفساد والغموض والأمور الملتوية غير الشريفة التي أحكمت وتحكمت في الخفاء وجاءت الثروة والشهرة كنتيجة لها.

 • هناك لا يشخصون العمل العام ولا يعيرون اهتماماً بموجات مدح الذات , لأنهم يدركون بأن أي إنجاز هو ثمرة عمل مشترك . هناك يقدسون الوقت ويؤمنون عميقاً بحتمية احترامه, واحترام المواعيد, ويؤمنون بأن عدم احترام الوقت والمواعيد هو شرخ في المصداقية والكفاءة, وهناك ينظرون إلى الوظائف باعتبارها لازمة للعمل والإنتاج وتقدم الأوطان, ولا يعتبرون الوظائف من حقوق المواطنة بمعزل عن قيمة العمل والإنتاج, وهناك لا تعامل مؤسسات الإنتاج وكأنها مؤسسات خيرية أنشئت لرعاية العاملين فيها . هناك يؤمنون بأن التقدم والتحضر والتمدن مسائل لا تحققها الأموال الطائلة, وإنما تحققها منظومة قيم لا يحق لأحد أن يتجاهلها أو يتجاوزها وتأتي في مقدمتها قيم الإنتاجية , والابتكار والتغيير واحترام الوقت والضبط والانتظام والانضباط والإتقان ومفردات علوم ادارة الجودة . تلك عندهم قيم التقدم والتي تحظى بالإجلال والتقديس والاحترام , بل وتؤسس الحياة كلها على تلك القيم وأطرها, والحق والمنطق والصواب والحكمة يفرض ألا نغفل دور التعليم القائم على الإبداع وتأصيل تلك القيم, ودور « الإدارة « التي تبقى عصب النجاح في كل مؤسسات المجتمعات المتقدمة , وأي إنجاز على أي صعيد مربوط بمستوى التعليم وبكفاءة الإدارة, فمن خلالهما يمكن أن نخلق كل اطارات النجاح والتقدم, كما يمكن بنفس القدر أن نخلق كل اطارات الفشل والعقم , ومن غير انتباه لذلك فإن واقعنا الراهن لن يزيدنا إلا إمعاناً في التأخر وعدم قدرة على تحريك الواقع..!
 
الأيام 6 مارس 2009

اقرأ المزيد