التوافق المقصود بهذا العنوان هو ليس جبهة التوافق العراقية , التي تمثل اكبرمكوّن سني في البرلمان العراقي,بل هو المبدأ الذي اعتمده الدستور العراقي الجديد , لكي يحول دون انفراد مكوّن سياسي او ديني او طائفي اوعرقي بشؤون الحكم في العراق, في الفترة الانتقالية , التي يعيشها الآن , والى أمد غير محدد , ليمكن بعد هذا الامد تطبيق المبدأ السائد في الدول الديمقراطية العريقة , مبدأ حكم الأغلبية التي تفوز في الانتخابات, بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية او المذهبية او العرقية او السياسية في ظل النظام الاتحادي (الفيديرالي) الديمقراطي ,الذي اقره الدستور.
فقد جرى سن هذا المبدأ في قانون إدارة الدولة الانتقالي قبل الاستفتاء على الدستور في العام 2005, وانتقل الى الدستور , الذي قبلته غالبية الشعب العراقي في الاستفتاء العام الذي جرى في الخامس عشر من شهر /اكتوبر/2005.
وساعد اعتماد هذا المبدأ ,اي التوافق , على تجاوز الكثير من الاشكاليات السياسية وحل عدد من العقد السياسية التي واجهت مسيرة العملية السياسية حتى الآن , والتي جرى حلـّها عن طريق التنازلات المتبادلة بين الكتل البرلمانية , لتمشية واقرار عدد من القوانين التي كانت موضع خلاف بين الكتل المذكورة .
غير ان هذا المبدأ الضروري في الفترة الانتقالية التي يعيشها العراق الآن يتطلب مرونة عالية من جميع اطراف العملية السياسية , والارتفاع الى مستوى المسؤولية الوطنية العليا وتغليبها على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة . وهو امر يفتقده المراقب السياسي في احيان ليست قليلة . فها قد مضى نحو شهرين منذ جرى إجبار رئيس مجلس النواب العراقي الدكتور المشهداني على الاستقالة من رئاسة هيئة رئاسة المجلس بسبب من تعامله غير المقبول مع النواب . الامر الذي حمل غالبية كبيرة على طلب إقالته . ومن ثم جرت تسوية الامر بتقديم استقالته, وإحالته على التقاعد . ولم يستطع البرلمان حتى كتابة هذه السطور من انتخاب رئيس جديد للبرلمان . وجرى تحديد يوم غد , الاربعاء الثامن عشر من هذا الشهر لحل المسألة المستعصية , مسألة انتخاب خلف للمشهداني ,التي سنعود اليها بعد استطراد صغير لا يخلو من علاقة بالموضوع الذي نحن فيه .
(صرح الدكتور فؤاد معصوم رئيس كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي لجريدة الشرق الاوسط تصريحاً نشرته في التاسع من كانون الثاني/ينايرالماضي جاء فيه (ان التحالف الكردستاني وحزب الدعوة والمجلس الاعلى الاسلامي اتفقوا على إقالة وتنحية السيد محمود المشهداني رئيس البرلمان الفيدرالي, بسبب تفوهه بكلام مسيء ضد اعضاء البرلمان لاكثر من مرة , مقابل منحه راتباً شهرياً قدره اربعون الف دولار , اي ما يعادل خمسين مليون دينار عراقي , مع النثرية واحتفاظه بمئتين من افراد حمايته ) . انتهى تصريح الدكتور معصوم . ولا نعرف مقدار ما يـُدفع للنثرية وللمئتين من افراد الحماية. ولعلم القارىء الكريم ان راتب المشهداني الشهري , وحده , يفوق رواتب الرؤساء الامريكيين بوش الاب وكلنتون والرؤساء الفرنسي والالماني والصيني والياباني, ناهيك عن رواتب الرؤساء التركي والفيتنامي والبوليفي وغيرهم من رؤساء الدول. الامر الذي يثيرمشاعر الالم والمرارة , بل والغضب المشروع من قبل ابناء الشعب , على مجلس النواب الذي وافق على هذه التسويةالشائنة).
مسألة الانتخاب هذه استعصت , حتى الآن , ويؤمل حلها يوم غد .وسبب الاستعصاء هو ضرورة التوافق على الرئيس الجديد ليس فقط بين الكتل المختلفة مذهبياً , بل وداخل كل كتلة من الكتل . فمن المعروف ان المشهداني كان ينتمي الى مجموعة داخل كتلة التوافق العراقية يترأسها النائب خلف العليان , كانت قد خرجت من التوافق قبل استقالة المشهداني . وهي تطالب الآن بأن يكون الرئيس الجديد منها. والحزب الاسلامي الذي يترأسه الدكتور طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية ,الذي- اي الحزب- يشكل اكبر مكوّن في ما تبقى من كتلة جبهة التوافق في البرلمان, يصر على ترشيح احد اعضائه لرئاسة البرلمان . الامر الذي يلقى معارضة من داخل اعضاء في المكون السني في البرلمان وخارج هذا المكون . ولذا يشك الكثير من المراقبين في ان يـُفلح البرلمان غداً في حل هذه المعضلة الناجمة عن التطبيق السيء لمبدأ التوافق الذي يتذرع به كل طرف لفرض مايريد . وضحية هذه الخلافات قانون الميزانية للعام 2009 رغم اننا تجاوزنا منتصف الشهر الثاني من العام , الذي يرى البعض ان مناقشته وإقراره يتطلب انتخاب رئيس جديد للبرلمان قبل ذلك , علماً ان القضاء افتى بجوازمناقشة القانون وإقراره في جلسة يترأسها نائب رئيس المجلس .
ان قانون الميزانية كان يـُفترض ان يـُقر قبل بداية العام الجديد ,لكي تعرف كل وزارة من الوزارات وحكومة اقليم كردستان وكل محافظة من المحافظات ما تتمتع به من اموال لتمشية عمل الدوائر التابعة لها والمشاريع التي يمكن ان تقوم بها . لا ان يظل الامر معلقاً لأن مجلس النواب لم يحسم من سيترأس جلساته . نعود لنقول ان مبدأ التوافق ضرورة في المرحلة الحالية من العملية السياسية… ولكن!
الأيام 17 فبراير 2009
التوافق ضرورة .. ولكن
حـوار مع الدولــة
جمعية المنبر التقدمي كانت اسبق من خبراء نادي مدريد وتوصياتهم التي جاء على رأسها إقامة حوار منتظم ومستدام ومؤسس على الثقة بين مختلف الأطياف المجتمعية والقوى السياسية وبين الدولة, مستلهمة روح الميثاق الوطني الذي نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثامنة لتدشينه وواجدة في التأزم الأمني والسياسي الذي نعيشه هذه الأيام دافعا قويا للبدء فيه.
الحوار الذي تدعو إليه المنبر اشمل وأكثر معرفة ودراية وتفصيلا بالحالة البحرينية الراهنة ومستجداتها وماضيها وحاضرها, رغم ذلك لا يستهان بتوصيات نادي مدريد, فهؤلاء الخبراء الذين يرصدون تجارب الدول الحديثة العهد بالتحول الديموقراطي يمتلكون خبرة وتجربة جديرة بالاعتبار, وكانوا قد أقاموا عددا من الجلسات الحرة المستفيضة في البحرين على مدى عامين مع مجموعة كبيرة من نشطاء المجتمع المدني والسياسيين والإعلاميين والرسميين وخرجوا بنتائج دعت إلى أهمية إيجاد البيئة السياسية المرنة التي لا يتوقف فيها الحوار والإصلاح عبر إجراء المزيد من التعديلات على القوانين والتشريعات التي تحكم الحياة السياسية وإزالة القيود التي تعيق الديموقراطية, كحرية التعبير وقانون التجمعات وتعزيز استقلالية القضاء ودعم المجتمع المدني ومؤسساته ومساعدته على تعزيز قدراته.
والواقع ان جميع التوصيات على اختلاف مسمياتها يصعب تفعيلها بغير الحوار الذي أكدت على أهمية ان يكون منتظما ومستداما, وهو مطلب حيوي ومهم سواء في الديموقراطيات الناشئة او العريقة المتجذرة, وتزداد أهميته حين تتأزم الأوضاع, والملف السياسي في البحرين هو الملف الأهم ويجدر ان يظل متحركا وحيا وجاريا كالنهر المتدفق وليس كالبركة الراكدة .
ان الحوار الشفيف الحقيقي والجاد والراغب في مواصلة مسيرة الإصلاح هو الأقدر على تنمية الديموقرطية واغنائها, اما السؤال عن كيفية إجراء هذا الحوار وتوقيته والعناصر المشاركة فيه والأهداف التي يراد تحقيقها من خلاله فأمور تفصيلية غير ذات أهمية اذا خلصت النيات وتوافقت الإرادة الرسمية مع الشعبية حول جدواه لحلحلة الملفات الشائكة. ان توصيات وفد مدريد التي وضعها أمس أمام جلالة الملك قد ثمنت عاليا تجربة الإصلاح السياسي التي خطتها البحرين منذ ثمان سنوات ولغاية اليوم, وهو في حد ذاته عامل محفز ومشجع للبحرين كي تمضي قدما في مسارها ليس لاكتساب السمعة الدولية فحسب, ولكن لتمكين الديموقراطية في الداخل والوصول الى صيغ سياسية تفاهمية مشتركة ومرضية بين المجتمع والدولة. وكنت قد شاركت في احد حوارات مدريد قبل عامين حول إصلاح قوانين النشر وحرية التعبير ودور الإعلام الحر غير المقيد في النهوض بالإصلاح, وفي تعزيز الديموقراطية, واستمعنا منهم بالمقابل الى تجارب وعثرات مرت بها دولهم وعرفتها مجتمعاتهم, فطريق الديموقراطية طويل ومليء بالصعاب والأشواك واكبر أمراضه الجمود والتكلس وانعدام الحوار
الأيام 17 فبراير 2009
مأسسة الحوار المستدام
” نادي مدري ” الذي يسعى إلى تعزيز النظم الديمقراطية الانتقالية وصل إلى البحرين، والتقى أمس جلالة الملك وكلاًّ من نائب رئيس الوزراء الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، ورئيس مجلس الشورى علي صالح الصالح، ورئيس مجلس النواب خليفة الظهراني.
هذا الوفد رفيع المستوى ضم رئيس وزراء لاتفيا السابق فالديس بركافس، ورئيس الوزراء السابق للبوسنة والهرسك زلاتكو أغومجيا، ورئيس وزراء فرنسا السابق ليونيل جوسبان، وقدم تقريراً تضمن توصياته التي توصل اليها بشأن تحسين البيئة السياسية البحرينية بحسب ما تمَّ التوافق عليه في عدة اجتماعات عقدت في المنامة خلال العامين الماضيين، وتمثلت التوصيات بعدة بنود رئيسية، منها «ضرورة مأسسة الحوار المنتظم والمستدام بغرض بناء الثقة بين مختلف الأطراف وأصحاب المصلحة»، وتأكيد أن «التغيير لا يأتي بالمراسيم وإنما بالحوار الذي يؤدي إلى تماسك مجتمعي مستدام». كما أوصى نادي مدريد بتعديل حزمة القوانين المقيدة للحريات العامة في البحرين، وضرورة أن ” تقدم الدولة الدعم الدائم والمنتظم إلى الجمعيات السياسية لتنمية قدراتها حتى تقوم بالدور المطلوب في تطوير العملية السياسية، والتزام الجمعيات السياسية بالقانون المعمول به، والعمل بأجندتها الوطنية ورفض كل أشكال الطائفية”.
نادي مدريد عقد مؤتمره الصحافي (أمس) في اليوم نفسه الذي عقدت جمعية المنبر التقدمي مؤتمرها الصحافي لتفعيل مبادرتها لتنشط الحوار بين مختلف الأطراف الفاعلة بهدف إخراج الوطن من الاحتقان الأمني والسياسي الذي قد يتفاقم إذا ترك من دون معالجة متأنية وعاقلة، وهذا ما أشار إليه الأمين العام لجمعية المنبر التقدمي حسن مدن الذي أكد بدعوته الحاجة إلى «مأسسة الحوار»، وهو الاتجاه ذاته الذي تحدث فيه وفد ” نادي مدريد “.
مــدن قال إن جمعية المنبر تسعى إلى تفعيل المبادرة عبر ” التزامات متبادلة ” بين القوى السياسية والاجتماعية من جهة، والدولة من جهة أخرى، إلى جانب «تحركات ومساعٍ واسعة ستقوم بها الجمعية مع المجلس الوطني بجناحيه لتفعيل المبادرة» وكان رئيسا النواب والوطني قد سمعا توصيات «نادي مدريد» في هذا المجال، والأمل أن يباشرا في تحريك المياه الراكدة وتجسير العلاقة بين مختلف الأطراف، فالوطن – كل الوطن – هو الذي يربح من تنقية الأجواء ومأسسة الحوار بشكل مستدام، ليس بهدف تحقيق قضية جزئية هنا أو هناك، وإنما بهدف رص الصفوف نحو ما ينفع الجميع.
إن لدينا مبادئ ميثاق العمل الوطني التي صوت عليها الشعب وتصلح لأن تكون منطلقاً لتفعيل الحوار الوطني المستدام بشكل جاد وبعيد عن الأهواء أو الأحقاد أو التحريض وبث الكراهية ضد النظام أو ضد أي فئة من المجتمع… فجميعنا في قارب واحد وعلينا أن نسعى إلى حماية هذا القارب من الإخلال بتوازنه أو إغراقه بمشكلات لا أول لها ولا آخر.
الوسط 16 فبراير 2009
مبادرة «التقدمــي»
نشأ تفاعل ايجابي, سياسي وإعلامي, مع المبادرة التي أطلقها المنبر التقدمي منذ أكثر من أسبوعين, وأعلن في مؤتمر صحفي أمس الأول عن إطارها التفصيلي الذي جاء على شكل إعلان مبادئ بالتزامات متبادلة بين القوى السياسية والمجتمعية من جهة والدولة من جهة أخرى, فضلاً عن آلية لتفعيل المبادرة.
وطبيعي أن تتوجه عيون وقلوب العقلاء من القوم نحو هذا الخطاب الذي يدعو إليه المنبر التقدمي, بديلاً لمناخ التشنج والتصعيد المتبادل, لأن الهدف في نهاية المطاف هو تأمين أقصى ما يمكن من استقرار سياسي وأمني في البلاد, ليجري الانصراف نحو مهام البناء الديمقراطي, مع ما يترتب على ذلك من استحقاقات متبادلة على الدولة وعلى مختلف القوى السياسية الناشطة.
نحن ننطلق من أن ثقافة سياسية جديدة نشأت في البلاد بعد ميثاق العمل الوطني لها مفرداتها الجديدة وآلياتها التي لم تكن قائمة قبل ذلك, وكان ينبغي البناء على ذلك ليس فقط من أجل الحفاظ عليه ومنع أي شكل من أشكال التراجع أو الارتداد عما تحقق من مكتسبات, وإنما أيضاً السعي لتطويرها وتعزيزها. لم تسر الأمور دائما في هذا المجرى المنشود, وقد تحدثنا عن ذلك كثيرا في الفترة الأخيرة وعبرنا عنه في ديباجة مبادرتنا, ونحن ندعو لاستثمار التحول الذي حدث في موقف القوى السياسية التي قاطعت انتخابات 2002, وفي مقدمتها جمعية الوفاق, في اتجاه إشاعة مناخ من الثقة, لن يتحقق إلا عبر السعي لحل أمور كثيرة ما زالت معلقة, وبحاجة إلى حل, بدل توظيف الأغلبية النيابية في المجلس المنتخب لإعاقة نجاح أي ملف طرحته الوفاق وسواها من القوى السياسية غير الممثلة في المجلس.
جوهر المطالبات بالإصلاح السياسي سيظل ثابتاً بطبيعة الحال, لكن أشكال هذه المطالبات هي ما يجب أن تتغير تبعاً لتغير الظروف, وهذا ما تصر بعض القوى الناشطة على تجاهله, فهي تريد أن تدير الأمور في الشارع كما لو كنا في التسعينات أو الثمانينات, وهي لا ترى في التحولات التي جرت في البلاد, بما فيها مقادير الحريات المتاحة, بما فيها النشاط السياسي, تحت مظلة القانون, إلا محاولة لتمييع النضال واحتوائه, وفي ذلك فإنها تستخف بكل ما تحقق, كثمرة للنضال الطويل الذي خاضه شعبنا بمختلف تياراته وقدم في سبيله التضحيات.
مثل هذا التفكير, إذا قابلته المعالجات الأمنية من قبل الدولة, سيدفع إلى دوامات من التوتير لن تنتهي, وبتقديرنا انه ليس في مصلحة الحركة الوطنية أن يجري الدفع بالبلد نحو هذه الخيارات, لأن عواقبها سترتد على الجميع. مبادرتنا هي دعوة إلى التمسك بروح ميثاق العمل الوطني ونصوصه, والى العودة للجو المتفائل الذي ساد البحرين بانطلاقة المشروع الإصلاحي, وتغليب منطق الحوار, وهو منطق يقود, إذا ما نحن اتبعناه, إلى بلوغ توافقات وتسويات, ما أمس حاجة الوطن إليها.
الأيام 17 فبراير 2009
لا توجد أنظمة فكرية
لم توجد أنظمة بوذية ولا مسيحية ولا إسلامية ولا اشتراكية وشيوعية.
وخاصة في زمننا الراهن فإن كل الدول تتجه إلى أشكال من الرأسمالية، أي أن المصالح الخاصة، وسيطرة كبار الأغنياء، هي ملامح العصر الحديث خاصة.
كان في الأديان محاولة لتجنب بعض الأنظمة التي كانت ضرورية، بمعنى أنها كانت حتمية وجزءا من الضرورات الموضوعية للتطور، مثلما حاولت المسيحية أن تكون بديلاً عن العبودية بتكوين مجتمع أبوي.
ومثلما كان حال الإسلام بمحاولة التخفيف من العبودية وتجنب سبيل الإقطاع، من دون أن يحدث ذلك، وأسباب هذا تعود كذلك للظروف الموضوعية، لجذور التاريخ، وسيطرة الدول والأسر على الملكيات العامة.
وكان الطريق الاشتراكي في الشرق هو سيطرة الدول الشمولية على الاقتصاد ليتضح في النهاية بعد ضباب كثيف من الدعاية بروز الرأسماليات الحكومية المتنفذة وطبقاتها السفلى من المافيا.
مثلها مثل الطريق القومي العربي للاشتراكية أو للوحدة والحرية والاشتراكية، ومثلها مثل الطريق الإسلامي، كلها دعوات شمولية استبدادية للسيطرة على الجمهور الفقير خاصة واستخدامه في عمليات سياسية لكي تصعد عائلات خاصة وقيادات سياسية متحكمة.
إن الضحية هو الجمهور الذي ينزلق في صراعات مموهة بلافتات وشعارات وهو الذي يخسر خاصة في عمليات سياسية تتسم بالعنف.
كان الطريق الصحيح للجمهور في العصر الحديث هو أن يتمسك بمصالحه المباشرة، بتأسيس نقاباته وجماعاته التعاونية ودعم العمليات الديمقراطية والتصويت للمرشحين الأقرب إلى مصالحه، والذين يخدمون رزقه وحريته.
لا توجد دولة العائلة والقبيلة والحزب والوطن الواحد والأسرة الواحدة، ودولة المقاومة، ودولة التحرير، توجد دول كبار الأغنياء المسيطرين في كل الدول!
القوى الاجتماعية تعملُ لمصالحها كلٌ في مستواه، وكلُ سمكةٍ لها بحرها الخاص، والطبقات الشعبية الفقيرة المعوزة المحتاجة لكل بنت وولد، ولكل قرش، ما أكثر ما خـُدعت عبر المذهب والدين والقومية والاشتراكية!
كان يطلب منها دائماً التضحيات من مختلف الأنواع، وهي تضحي، ولكن الطالبين يتوجهون لمصالحهم الخاصة، والارتفاع في سلم العيش، ويرسلون أبناءهم لأحسن الجامعات، في حين أن أولاد الفقراء يذهبون للمحارق القومية والدينية!
هذه الأفكار تعلمتها الجماهير العربية في السنوات الأخيرة، ولم تعد تعبأ بالشعارات والمظاهرات، رغم تعاطفها مع المظلومين والمقموعين وضحايا الحروب والاضطهاد، فأي رد على عدوان يأتي بالعمل، وزعماء الدول لا يريدون التضحيات، بل يحملها بعضُهم لبعض المناطق ولبعض المبتلين بقيادات التعصب والرعونة.
لم تمت مشاعر الجمهور القومية والإنسانية والدينية، لكن كذبة الشعارات ومشروعات الأنظمة للمزيد من الاحتفاظ بالسلطات والمتاجرة بالشعارات الدينية والقومية، لم تعد تخدع إلا بعض الشباب قليلي التجرية والمتحمسين من دون تبصر.
لكن الجمهور بدأ يدرك ما هو العمل النقابي، وما هي الإضرابات العقلانية المفيدة، وما هي أهمية المشاركة في الحفاظ على البيئة والصراع ضد التلوث والاستغلال والتسلط على الملكية العامة، فالناس تريد نتائج مباشرة على ظروفها.
والذين يقولون إن صناديق الانتخاب والاقتراع ليس لها فائدة فالجمهور يتبع قياداته، وهذا صحيح ويمكن أن يدوم لسنوات، لكن الجمهور يتعلم مبادئ الديمقراطية التي أخذت عدة قرون في الغرب وبعض الشرق الآن، وهو بلا كوادر موضوعية أمينة تعلمه ما هو الصح وما هو الخطأ، ليست عنده قيادات تذهب لمجالسه وأزقته والشركات التي يعمل فيها لتقول له ما هي فائدة صوته الواحد لقضية تطور عياله!
نفس القوى المهيمنة طوال التاريخ لا تزال تحكم التاريخ، تجند الناس والأميين من أجل مصالحها، تطلق شعارات عامة دينية وقومية غامضة مجردة، لكي تؤجج العاطفة وتعمي العقل، لكي تظل الكراسي لأصحاب الكراسي!
يقولون له إننا نعمل من أجل (النظام الإسلامي)، وهو لا يعرف ما هو النظام الإسلامي، فقد عاش على الشعارات المؤججة لهذا الهدف الغامض، وهو لا يعرف أنهم يقصدون صعودهم السياسي من خلال صوته، فهم المعبرون عن فئات وسطى غنية، ولا يعرفون ما هي ظروف المصنع الصعبة التي يعيش فيها هو، وضنك العيش في منزله المؤجر أو المُباع بأثمان عالية أكثر من قيمته بثلاث أو أربع مرات من قبل (شركة) الإسكان الحكومية أو من الشركات الخاصة، ولم يعانوا في شقق الازدحام والفقر والملابس المعصورة الرطبة على البلكونات، وماذا يعني تدفق العمالة المهاجرة على أجوره وضعف فرص أولاده وبناته، وتكمل الأجهزة الحكومية من جهة أخرى هذا الغموض السياسي، بأن تصبح مطالب الفقراء في عالم الغيب، تذوبها الماكينة المفتتة للمطالب إلى ذرات، ويبتلعها النسيانُ وتـُلغى بدعوى الميزانية والأزمة المالية التي أثرت على الدخل الوطني، كما تقول في خطاب، في حين انها تقول في خطاب آخر إن الاقتصاد الوطني راسخ ومتين!
الإنسان الفقير ينتقل من المؤسسة الدينية ويسمع كلاماً حماسياً ويعتقد ان ذلك سوف يجري في السياسة والبرلمان، وأن هؤلاء أصحاب ذمة، وأنه سوف يعود لبيته فيراه قد تغير، وأن فرصاً جيدة لتعليم ابنائه سوف تظهر، وسوف يصبحون مهندسين وتقنيين، لكنه بعد فترة يجدهم في الشوارع عاطلين، أو متسكعين أو فوضويين!
ولهذا يحتاج الإنسان الفقير غير المعبر سياسياً إلى أناس يعملون من أجل مصلحته، ولهذا عليه أن يحاسب نائبه، ويحضر ندواته، ويسمع ما يقول ولماذا عجز عن تحسين معاشه وظروفه، وأن يبحث عن نائب أفضل في المرة القادمة ويراقبه كذلك، وأن يشارك في النقابات من أجل تغيير أجوره، ويسأل هذه النقابات الصامتة عن هذا السكوت المريب لتغيير أجوره، ويحاسبها ويطالب بتغيير مثل هذه الإدارات العاجزة ولا يهمه اللافتات التي ترفعها بل يهمه ما تقوم به عملياً، أما شيخ الدين فهو لفهم مذهبه وحسن تطبيقه والمشاركة في العبادات العامة.
إذا كان النواب أو رؤساء النقابات والبلديات والجمعيات التعاونية لا ينفذون عمليات تغيير وضعه، وهم الذين تصدوا له، فيجب أن يغيرهم، وأن يرتقي هو نفسه للمشاركة والحضور والمتابعة.
فلنضع جانباً الشعارات العامة والكلام عن القومية والدين والإنسانية في القضايا المعيشية المباشرة، وفي العمل السياسي المتوجه للبرلمان والنقابات، فالكلام الدعائي لا يغني ولا يسمن الأطفال، بل نريد أفعالاً.
أخبار الخليج 17 فبراير 2009
طائر الرخ الفلسطيني يبحث عن عشه
يعرف الجميع لماذا لم يأت ابومازن لاجتماع الدوحة، وما الذي فعله خالد مشعل في ذلك المؤتمر، مستفيدا من تراجيدية الناس الذين يقصفون تحت حموة القذائف الفسفورية ليلا ونهارا وتتجول في محاور عدة الدبابات الإسرائيلية، فتختفي المقاومة نهارا فلا نجد فعاليتها وصوتها وعندما يهبط الظلام تبدأ أصوات القسام تعلن عن أرقامها كيفما تشاء.
وبما ان مؤتمر الدوحة كان مجرد مؤتمرا للمصافحة أكثر منه للمصالحة، ولمحاولة التخفيف من توتر قوتين داخل الأراضي الفلسطينية لم تكن لحظتها أكثر من حالة سلبية فهربت من الواقع بالتصريحات حول ضرورة وحدة الشعب الفلسطيني والوحدة الوطنية، ومثل تلك الشعارات في لحظة دك قطاع غزة بوابل الموت رحب به الجميع، لعل تلك المفردات تزيح هموم الواقع السياسي والعسكري المزري. ولكن للأسف طار الرخ الفلسطيني من الدوحة إلى الكويت، إذ لم تنفع برودة المصافحات القطرية في مؤتمر الكويت؛ إذ لم يتفق الجميع حول بياناتها أيضا. ولكن من بإمكانه أن لا يدعو لوقف إطلاق النار والتهدئة وفك الحصار وفتح المعابر والقبول بفكرة الجلوس مع إسرائيل، فلا يمكن أن تحل قضية صراع بغياب احد طرفيه في التفاوض.
ومن هنا يبدأ مأزق جناح الرخ الفلسطيني المكسور وهي حماس، إذ لا تعترف إسرائيل والعالم الغربي إلا بالسلطة الفلسطينية، ولهذا بدأ جناح الرخ الفتحاوي أكثر تمددا في الفضاء السياسي العربي والعالمي رسميا، فيما راح جناح الرخ الفلسطيني الآخر يراهن على الشارع وحده كما كان أيام القصف والحرب، ولكن للمرحلة السياسية متطلباتها مثلما للمرحلة النضالية والعسكرية متطلباتها، فكيف يتم التفاوض في حالة التهدئة داخل البيت الفلسطيني وهناك رؤية من حماس بعدم الاعتراف بالمنظمة والعكس، فبدأ اللحن على عزف مشروع «الكيان الجديد!!» وهو لحن سبق وان طرح في الساحة الفلسطينية، ولكن الظروف حينها لم تختل في توازناتها، بينما تتوهم حماس أن بعد تلك الأحداث الأليمة لقطاع غزة أنها خرجت من الحرب بجناحها قويا، وبإمكانها التحليق حيثما تشاء للتشاور في الآلية والشروط الجديدة، فهي تعتقد أن فتح بدأت اضعف أثناء الحرب وستكون نتائجها اضعف بعدها، ولهذا وجدت حماس فرصتها في إعادة طرح مشروعها القديم؛ إذ من خلال هذا الكيان المنتظر بإمكانها إجبار العالم وإسرائيل على الجلوس معها، إذ مع انصهار المعادن وولادة معدن جديد يختفي ذلك الشبح السابق من تهمة الإرهاب ولعدم إمكانية تنصل الأطراف الأخرى بإزاحة حماس من لعبة التفاوض المتعددة الألوان، فهناك لقاءات عربية خارج حضورها، فهي ليست مدعوة دائما إليها باعتبارها ليست الجهة الرسمية المعبرة عن الشعب الفلسطيني كمنظمة التحرير. فماذا تفعل حماس بذلك المأزق السياسي، إذ لا تكفي الحرب الإعلامية والسياسية ضد ابومازن مثلما لم تجد رعدة وانفعالات ابومازن من ازالة حقيقة واقع على الأرض ولا يمكن تجاوز حقوقه وحضوره بين قاعدة فلسطينية اسمها الشعب الفلسطيني.
لهذا وقع الجناحان في مأزقهما جناح حماس الذي رفض رسميا ـ دعك من طنطنة الدعوات لحضور مؤتمر هنا ومؤتمر هناك ـ إذ تبقى المنظمة وحدها المعبر الرسمي. بينما ظلت المنظمة داخليا لا يمكنها تخطي حقيقة شعبها وتوازن قوى جديد عكسته الانتخابات ونتائجها. لهذا يجد كل طرف جناحه الذي يطير به للعالم محاولا التأكيد على تعميق حقه في التغيير مهما تعددت صيغة الجمل السياسية المتلونة «فالبروسترويكا» الفلسطينية تخشاها منظمة التحرير بل ولا تحبها طهران ودول أخرى ولكنها تتحمس للدعوة لها عندما تتحمس لهدم المعبد الفلسطيني. لقد وجدنا كيف أزبد وأرعد ابومازن في وجه حماس عندما اقتربت من القرابين المقدسة، لمجرد أن قبس حماس الحارق وصل إلى ذلك المعبد، ولكن هل يجوز أن تزايد حماس بلغة طهران لهدم بيتها الفلسطيني لمجرد ان جناحها نما وسمح لها بالطيران بعيدا؟، بل وساعدها على أن تفهم أن الوقت قد حان لاستبدال المنظمة بتاريخها ودورها وتمثيلها بكيان جديد الهدف منه الاستحواذ على المنظمة بطريقة التفافية ويجعل كل العواصم مفتوحة أمامها للحديث بحرية وقوة بما فيها منصة الأمم المتحدة والدول الكبرى. وإذا اعتمدت حماس على قراءة فترة ضرب قطاع غزة وتضامن العالم مع شعبها ضد الحرب وبربريته، وقياس ترمومتر الشارع، على انه بوابة الدخول بسهولة لتحقيق ما تريد، تكون حماس متوهمة بسهولة النفاذ من بوابة السياسة ولعبتها الأعقد من القذائف، فالحرب ليست إلا في خدمة السياسة وأداة من أدواتها.
هاهو الرخ الفلسطيني يطير من القاهرة الى عواصم متعددة بجناحه الوحيد، ويبقى الجناح الآخر يحلق بين دمشق والدوحة وطهران، ثم يعودان معا إلى حضن القاهرة، التي لا خيار عربي بدونها مهما حاول الآخرون تأليب الشارع ضدها. فالعش الفلسطيني بيته هناك قبل أن يكون في غزة ورام الله، فالسياسة فن الواقع والممكن.
الأيام 17 فبراير 2009
من صنعها يُفككها!
أوروبا تتوحد, ومحل الكيانات – الدول ينشأ اتحاد يأخذ شيئاً فشيئاً من سيادة تلك الدول في اتجاه بلورة هوية أوروبية مشتركة – أما عالمنا العربي الإسلامي فيزداد تفككاً, وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه, فعلينا توقع انبثاق كيانات جديدة أصغر فأصغر.
يدفعنا ذلك إلى مشارف الاستنتاج, فنقول إن الدولة – الأمة في أوروبا قد استوت إلى مرحلة النضج, التي لا تجعلها خائفة من الاندماج في كيانٍ أوسع, يُثريها وتثريه. أما الدولة الوطنية, أو القطرية إن شئنا, في عالمنا العربي – الإسلامي فقد شارفت مرحلة إفلاسها التام, قبل أن تنجز مهمتها, في بناء كيانات حديثة, قوية ومتطورة. نواة تمزق هذه الكيانات وانحلالها إلى عشائر وقبائل ومذاهب كامنة في بنيتها الهشة من الأساس. الحدود التي رسمت الدول والكيانات القائمة هي صنيعة المنتصرين في الحرب العالمية الأولى الذين قسموا بلدان هذه المنطقة بشكلٍ اعتباطي, يوائم توزيع الغنائم فيما بينهم, وما اتفاقية سايكس – بيكو إلا التعبير الأبلغ عن هذا «الترسيم» الاعتباطي.
هل نذهب أكثر في هذا الاستنتاج, لنقول إن الغرب, خاصة بريطانيا وفرنسا وهما يتقاسمان مناطق النفوذ في منطقتنا كانتا «تقيمان» كيانات وجدت لتتفكك بعد حين, لا لتبقى. إنه افتراض ينطوي على وجاهة, إذا ما عاينا هذا الهجين الغريب الذي تشكلت منه هذه الكيانات. وفاقم من ذلك أن من حكموها لم يتوفروا على برامج واضحة لبناء دول حديثة, تمتلك أسباب القوة والمنعة, وتحقق لشعوبها ما هي في حاجة إليه من عيشٍ كريم وحياة حرة, فلا هي أمنت لقمة العيش ولا فضاء الديمقراطية, مما جعل من هذه المجتمعات على حافات الانفجار الذي ظل مؤجلاً حتى حانت لحظته. في كلماتٍ أخرى, أضاعت هذه الحكومات فرصة أن تصهر الهجين الذي منه تشكلت هذه الكيانات في دولٍ للمؤسسات والقانون, قائمة على الحقوق والواجبات المتكافئة لمواطنيها, وتتخطى عناصر ما قبل الدولة, في اتجاه بناء الدولة.
يبقى السؤال الأصعب عن حدود مسؤولية التدخلات الخارجية في دفع الأمور نحو هذا المآل, وكما في حال «اصطناع» كيانات كثيرة في المنطقة, فإن تفكيك هذه الكيانات إلى وحدات أصغر, لا يبدو أنه يجري بعيداً عن تأثير فعل فاعل خارجي مشابه.
الأيام 16 فبراير 2009
الثورة الإيرانية بعد ثلاثين عاماً وقبل الانتخابات المقبلة
يوم 11 فبراير/ شباط احتفل أنصار الثورة الإسلامية في إيران وخارجها بذكرى انتصارها الثلاثين. عظمة هذه الثورة ليس في إطاحة آخر شاهنشاه في الإمبراطورية الفارسية، بل وفي إنهاء نظام الحكم الفردي الذي استمر 25 قرنا. كما قدمت للعالم نموذجا لاستخدام العامل الإسلامي في أهداف سياسية محلية وعالمية. وبذلك سجلت الثورة أحد أعظم أحداث القرن العشرين.
نهاية السبعينات بلغ السخط الشعبي على الشاه أوجه. وقد ضمت الحركة الشعبية طيفا واسعا من الشيوعيين وممثلي الليبرالية البرجوازية والبازار والمجموعات الدينية ومجاهدي خلق وفدائيي إيران والإسلاميين الراديكاليين. ومن بين هذه القوى تمتع الاتجاه الذي قاده آية الله الخميني بسيطرة أيديولوجية ومالية وقدرات دعائية عبر شبكة المؤسسات الدينية التي فقدت أجهزة السافاك السيطرة عليها. وقد أهّلته تلك الإمكانات لأن يصبح زعيم المعارضة المتنوعة بلا منازع.
وما أن انتصرت الثورة بدأت تأكل أبناءها. لقد استخدم نظام الملالي اللجان الثورية الإسلامية الموجودة سابقا وفيالق حراس الثورة الإسلامية التي شكلت فيما بعد، وحزب الله وبقايا السافاك للقيام بعمليات قمع واسعة ضد الرأي الآخر، بمن في ذلك رجال الدين. وقد شكل إعلان الخميني في 14 يونيو/ حزيران 1980 بداية ‘الثورة الثقافية الإسلامية’ نقطة انطلاق موجات القمع. فتحت غطائها جرت ملاحقة كل من لا يحمل فكر ملالي الحكم. وفي السنوات الخمس الأولى فقط قدر عدد الذين أعدموا بأربعين ألف شخص. ولا يوجد حصر لأعداد الذين اعتقلوا. ببساطة لخص المدعي العام للثورة آنذاك حسين موسوي تبريزي في خطاب بالراديو طريقة التعامل ‘لا ينبغي إرسال المتظاهرين المسلحين إلى السجون ليناموا ويأكلوا لأشهر. يجب محاكماتهم وإعدامهم فورا. هذا هو قانون الإسلام، من يقاوم الثورة الإسلامية ويخالف الإمام يجب أن يموت. إذا قبض عليه يقتل، إذا وجد جريحا يجب أن تزاد جراحه حتى يموت’. وقد ترافق ذلك مع سياسة ‘أسلمة’ كل مناحي الحياة، ما أدى إلى هجرة أكثر من مليوني إيراني. وبهذا استتب الأمر منذ النصف الأول من الثمانينات للحكم الإسلامي، وأصبحت الجمهورية الإسلامية التي أعلنت رسميا في الأول من أبريل/ نيسان العام 1979م حقيقة سياسية واقعة.
مع ذلك، وبخلاف البلدان الإسلامية الأخرى تعتبر الثورة الإسلامية في إيران أول محاولة في التاريخ للجمع بين الحكم الإسلامي والمؤسسات الديمقراطية العامة. وفي تاريخها اجتازت الثورة اختبارات عسكرية، سياسية، اقتصادية واجتماعية كان أصعبها الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وحصدت مئات الآلاف. ورغم مآسيها وحدت صفوف الحرب الإيرانيين لصد المعتدي. وقد مكّن الطابع التعبوي الذي امتاز به الاقتصاد الإسلامي الثوري (الاقتصاد التوحيدي) من تفادي الانهيار الاقتصادي، لكنه بدا عاجزا عن إخراج البلاد من أزمة ما بعد الحرب.
تطلب الوضع مقاربات جديدة. الرئيس رفسنجاني الذي حكم بين 1989 و1997م قرر القطع مع الاقتصاد التوحيدي وبادر بإصلاحات سوقية أفسحت الطريق أمام القطاع الخاص وسمحت بالخروج من أزمة ما بعد الحرب. وقد عزز الرئيس محمد خاتمي الذي خلفه بعد انتخابات 1997 ذات النهج.
وفي 16 عاما من حكم هذين القياديين البارزين، ورغم كل التناقضات والتراجعات والإخفاقات أصبحت إيران من الرياديين في منطقة الشرق الأوسط. وطبيعي أن عائدات النفط والغاز التي تضاعفت 4 مرات بين العامين 1998 و2005م ساعدت في ذلك كثيرا. وفي الحياة الداخلية لوحظ زيادة النشاط الاقتصادي والاستثمارات والتوسع في مجال الديمقراطية. وفي السياسة الخارجية استطاع خاتمي بالذات اختراق الحصار والانفتاح على العالم. وقد حسن ذلك كثيرا من صورة النظام الإيراني أمام الرأي العام العالمي. وكان من الطبيعي أن يشكل ذلك عاملا مهما لدخول إيران في العمليات السياسية الاقتصادية العالمية وتعزيز الاقتصاد الإيراني.
إلا أن لتلك النجاحات ثمنها على الثورة الإيرانية. في خضمها اختمرت عوامل هز أركان الخمينية التي جاء الملالي لترسيخها وحمايتها أصلا. وسواء أراد مهندسو الإصلاحات أم لا، فإنهم موضوعيا ابتعدوا بالبلاد والمجتمع عن الخط العام للخميني. ولم يكن بوسع غالبية الروحانيين السماح بمضي الأمور بما يهدد مصائرهم. كان عليهم بعث النظام الخميني من جديد. والأهم هو تغيير النهج الذي سار عليه رافسنجاني وخاتمي واستمرار الإمساك بزمام الأمور. وهكذا جاء المحافظون بمحمد أحمدي نجاد ليضع نهجا بديلا بإطلاق الآلة الثورية الإسلامية بأقصى طاقتها.
في الأربع سنوات الماضية أعاد نجاد الوضع ربع قرن إلى الوراء من أجل العودة للخمينية. ولم يكن ذلك ممكنا من دون إزالة كل علائم الليبرالية، خصوصا في المجال الأيديولوجي. فشددت الرقابة الإسلامية على كل مناحي الحياة. وتم التراجع عن كل بدايات الدمقرطة، وازداد القمع ضد الرأي الآخر. لكن التحولات الارتجاعية الداخلية استدعت تحولات مماثلة في السياسة الخارجية. من جديد قفزت إلى مقدمة الاهتمامات مسألة ‘تصدير الثورة الإسلامية’ التي أعلنت منذ البدء كأحد أهم مبادئ سياستها الخارجية.
وقد عكس خطاب الرئيس نجاد في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2008 أثناء تكريم متطوعين إيرانيين هذا النهج حين قال ‘كانت الثورة الإسلامية حركة ليست بحدود إيران فقط. حركة ليست من أجل إقامة نظام جديد فقط، بل ومن أجل تجسيد الوعد الإلهي. حركة مؤسسة ومقررة بالنسبة للإنسانية كلها’. وفي خطاب آخر بمناسبة عودة الخميني من منفاه ‘رغم أن الثورة الإسلامية حدثت في إيران، لكنها لن تظل في حدودها’ .1
ومن جديد تتزايد وتترافق في عهد نجاد نزعة تصدير الثورة بنزعة الأطماع التوسعية. الأولى وجدت تعبيراتها في عدد من البلدان العربية، والثانية في استمرار احتلال الجزر الإماراتية وفي تكرار ادعاءات إيران بأن البحرين جزء لا يتجزأ من أراضيها.
لقد جرى تطور الثورة الإسلامية في 30 عاما بشكل حلزوني. وفي مجراه عادت إيران في عهد نجاد إلى المنابع، بينما بلغت مستويات راقية من التطور التكنولوجي الذي وضع أساسه الرئيس خاتمي في الأصل. إن هذا التناقض الصارخ بين التراجع على صعيد السياستين الداخلية والخارجية والتقدم التكنولوجي الإيراني يبرز أعراضا خطرة للغاية ليس على البلدان المهددة بتصدير الثورة وبالتوسع، بل وعلى إيران نفسها إذا استمر نهج الرئيس الحالي. ولعله -مدركا أن هذا النهج قد يضع الثورة الإيرانية على مشارف نهايتها التاريخية- بارك مرشد الثورة الإيرانية آية الله خامنئي ترشيح خاتمي لخوض معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة من أجل إطلاق دورة جديدة من التطور الحلزوني للثورة الإسلامية في إيران.
الوقت 16 فبراير 2009
الأزمة المرشحة للتفاعل!
مع أنّ الاستجواب المقرر أن يوجهه نواب «الحركة الدستورية الإسلامية – حدس» إلى رئيس مجلس الوزراء هو العنوان المثير واللافت والمسيطر على واجهة الأحداث السياسية، اتصالاً مع ما يمكن أن يترتب على هذا الاستجواب الموعود من تداعيات تتصل بكيفية التعامل معه من حيث صعود رئيس الحكومة المنصة أو ترجيح عدم صعوده، وما إذا كانت جلسة مناقشة الاستجواب ستكون سرية أم علنية، واحتمالات الدفع بالأوضاع نحو حلّ مجلس الأمة، وما يمكن أن يتعرض له المشهد السياسي بعد ذلك من تغيرات مستحقة أو ستفرضها الظروف… إلا أنّني أظن أنّ هناك عنواناً آخر للأزمة السياسية مرشح لأن يتفاعل ويبرز على السطح، وذلك ربما قبل تقديم استجواب«حدس» الذي لما تنقض بعد أسابيعه الستة!
ولعلّ العنوان المرشح للأزمة المقبلة هو مشروع قانون تعزيز الاستقرار المالي في الدولة، الذي تقدمت به الحكومة… وذلك من مدخلين محتملين…المدخل الأول لتفاعله كأزمة سياسية يتمثّل في توجّه عدد لا بأس به من النواب لربط إقرار هذا المشروع الحكومي بتمرير الاقتراح بقانون المثير للجدل في شأن شراء مديونيات المواطنين… وها نحن نلاحظ المواقف والاصطفافات النيابية تتشكّل مبكراً مع هذا الاقتراح النيابي أو ضده… وها هي الندوات الجماهيرية تُقام لحشد أوسع تأييد له… وذلك مقابل موقف حكومي مناهض لمثل هذا الاقتراح بقانون ورافض للربط بينه وبين إقرار مشروع قانون تعزيز الاستقرار المالي في الدولة… وهذا كله مرشح لأن يفرض نفسه كعنوان للأزمة السياسية وأن يبرز في واجهة الأحداث.
أما المدخل الآخر لعنوان الأزمة السياسية المرشحة للتفاعل بالارتباط مع مشروع القانون الحكومي لتعزيز الاستقرار المالي فيتمثّل في موقف «كتلة العمل الشعبي» المعارض بشدة لهذا المشروع بقانون، حيث ترفضه من حيث المبدأ وتعدّه مشروعاً معيباً وبالغ السوء… إلا أنّ عدم قدرة الكتلة لكونها أقلية على حشد غالبية نيابية معارضة مبدئياً لإقرار هذا المشروع الحكومي، يدفعها إلى التصدي له عبر تفعيل أدوات المساءلة الدستورية، التي سبق أن لوّحت بتفعيل أداة الاستجواب لمنع تمرير مثل هذا المشروع بقانون وذلك قبل أن يتم تقديمه في بيان سابق لها أصدرته في 11 يناير الماضي عندما أعلنت أنها بروح الحزم والعزم التي سبق أن تصدّت فيها لمشروع المصفاة الرابعة وصفقة«الداو» ستتصدى أيضاً للمقترحات الداعية لاستخدام المال العام لصالح بعض أصحاب المصالح والنفوذ تحت أي عنوان لتبديد الأموال العامة وهدرها في سداد ديون داخلية وخارجية مستحقة على شركات خاصة… كما سبق لـ«كتلة العمل الشعبي» أن كررت مثل هذا التلويح باستجواب رئيس مجلس الوزراء لمنع تمرير مثل هذا المشروع بقانون في مداخلة شهيرة لرئيس مجلس الأمة السابق النائب أحمد السعدون خلال اجتماع للجنة الشؤون المالية والاقتصادية في مجلس الأمة المنعقد يوم 25 يناير الماضي… والآن وبعد أن تمّ تقديم هذا المشروع بقانون وأصبح قاب قوسين أو أدنى من إقراره، وبعد أن اتضحت أمام «كتلة العمل الشعبي» عيوبه وسلبياته ومخاطره، وفق ما كشفته مصادرها المقربة، فإنّ تنفيذها لتلويحها بالاستجواب أصبح أمراً قائماً، بل من المتوقع أن يتم خلال فترة قصيرة جداً، وذلك قبل تمرير مشروع هذا القانون الخطير؛ وفرضه كأمر واقع.
وليس أمامنا سوى أن نترقب ما سيشهده الأسبوعان المقبلان من تطورات قد تسبق الاستجواب الموعود من”حدس”!
عالم اليوم 16 فبراير 2009
54 عاماً على تأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية: تيارٌ وُجـد ليبقى
تمرُ اليوم الخامس عشر من فبراير/ شباط الذكرى الرابعة والخمسون لتأسيس جبهة التحري الوطني البحرانية، أول تنظيم طليعي للعمال والكادحين في البحرين، مسلح بالفكر الاشتراكي العلمي، ومُفعم بحب الوطن والإخلاص لشعبه.
وقد تربت، على مدار خمسة عقود ونيف أجيال من المناضلين في صفوف جبهة التحرير الوطني، واليوم في وريثها الفكري والسياسي والتنظيمي، المنبر الديمقراطي التقدمي، على المبادئ التقدمية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الشعب والنضال في سبيل تحقيق تطلعاته في الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والحياة الحرة الكريمة، وضمان الاستقلال الوطني للبلاد، ورفض أشكال الوصاية الخارجية والوجود العسكري الأجنبي، ومن أجل حقوق المرأة وإشاعة ثقافة التسامح والتنوير والحداثة في المجتمع، ونبذ التخلف والجهل والتعصب.
وقد أرست جبهة التحرير تقاليد راسخة في العمل السياسي في البحرين، وأسست تياراً سياسياً وفكرياً واجتماعياً فاعلاً ينظر إليه والى دوره بتقدير واحترام واسعين في المجتمع، وقدم هذا التيار العديد من الرموز والشخصيات الوطنية ذات المكانة البارزة في المجتمع، كما تنتسب إليه الكثير من الكفاءات في المجالات المهنية والأكاديمية وفي الحياة الثقافية والاجتماعية في البحرين، فضلاً عن دور الجبهة في التأهيل الأكاديمي للمئات من أبناء وبنات البحرين في جامعات الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية سابقاً، حيث يتبوأ الكثير من هؤلاء مواقع مرموقة في حياة البحرين.
كما أن التيار الذي أسسته جبهة التحرير، ويجد إطاره التنظيمي اليوم في المنبر التقدمي، أدى ويؤدي دورا كبيرا في التعريف بالبحرين وقضاياها الوطنية والديمقراطية في صفوف قوى حركة التحرر الوطني العربية وفي الحركة الديمقراطية واليسارية في العالم.
وقدمت جبهة التحرير في ظروف النضال السري الصعبة الكثير من التضحيات الغالية حيث أفنى المئات من مناضليها، ومن أجيال مختلفة، زهرات شبابهم في السجون والمعتقلات والمنافي. ومن أجل قضية الوطن استشهد حسن نظام وسعيد العويناتي والدكتور هاشم العلوي، كما رحل في صقيع المنفى بعيدا عن الوطن كل من القائدين العماليين علي مدان وعزيز ماشالله.
إن التيار الذي أسسته جبهة التحرير وُجد ليبقى، وهو سيستمر حاضراً في مستقبل البحرين وأجيالها القادم، كما كان حاضراً في الماضي وفي الحاضر.
خاص بالتقدمي