المنشور

إيران.. إلى أين؟ (1)


سوف يجري في شهر يوينو القادم انتخاب رئيس جمهورية إيران. ويسعى الرئيس أحمدي نجاد لتجديد مدة رئاسته في معارضة ستكون قوية ضد الإصلاحيين.
أخذ يبرز خلال السنوات الماضية جناحان في السلطة الإيرانية هما جناح الإصلاحيين وجناح المتشددين المحافظين الذين يطلقون على أنفسهم (الثوريين) أو (الأصوليين)، ولا يبرز أساساهما الاجتماعيان، نتيجة تعقد وغموض أجهزة الدولة وتداخلاتها مع الطبقات الثرية الحاكمة والمتحكمة في توزيع الدخول الأساسية.
وكلا التيارين ينتمي إلى الطبقة التي تولت السلطة بعد الإطاحة بالشاه، وورثت امتيازاتها وإداراتها، وأوقفت نمو الفئات المتوسطة الحرة ذات العلاقة مع الغرب والمنفتحة، وجاءَ رجالُ الدين بفئات أخرى، أغلبها من القرى بوعيهم المذهبي التقليدي الذين حددوا مسار التطور.
أي إننا أمام هيمنة طبقة تعود جذورها للقرى والمدن الصغيرة بتقاليدها المحافظة.

عبرت هذه الطبقة بكل مستوياتها عن السيطرة على مفاتيح التحول من الإقطاع للرأسمالية، فهي لا تريد التطابق مع الرأسمالية الغربية بمعاييرها، وتحاول أن توجدَ معاييرَ أخرى تقول إنها من الإسلام، وهي معاييرُ معيشتها في هذه القرى على مدى القرون السابقة، ومن دون انفتاح ومن دون ديمقراطية وتقدم.
أي أنها تريد القيام بما قام به الاتحاد السوفيتي والصين وفيتنام وغيرها من دول الشرق عبر نهوض معين لا يستورد صيغ الغرب في التحول، ولكن بخلاف تلك الدول (الاشتراكية) التي تعايشت مع الحداثة بقوة، فإن العقيدة المحافظة هنا هي عقيدة مذهبية دينية، تريد أن تصنع نظاما رأسماليا حكوميا شموليا نهضويا عبر أسس دينية صارمة.

هذا الجمع بين العقيدة والنظام الرأسمالي الحكومي، هو أمرٌ صعب، خاصة من خلال قيادة القرية، بسبب ان العقيدة تنتمي لزمنٍ معينٍ هو زمنُ المذهب حين تم تشكيله في إيران بين القرنين التاسع والسابع عشر الميلاديين، وهي فترة طويلة قامت فيها القومية الفارسية بقيادة الأمراء والملوك بتفصيل مبادئ الاثني عشرية الإسلامية المستوردة من العراق لتلائم نموها السياسي الفارسي الخاص، وهي فترة محافظة جامدة، بعكس الفترة الحالية بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، حيث ضخامة التطورات التي تتطلب من قادة المذهب الفقهيين والسياسيين سرعة وعمق الاجتهاد.
فيتم اقتطاع عبارات من الإسلام لتركيبها في هذا التحول السريع الصعب من قيادة ريفية تحاول الهيمنة على المدينة السريعة.
وحين انقسمتْ السلطة الإيرانية بين سلطة المرشد وسلطة الرئيس والبرلمان، أي بين سلطة العقيدة المحروسة والمسيطرة على النظام السياسي، وبين المتاح لهذه الدولة الدينية أن تسير عليه في تسيير شؤون المواطنين والعلاقات التحديثية مع العالم وجدت نفسها أمام تناقض كبير وهائل.
فقد عبرتُ السلطة الجديدة عن سيطرة الماضي على الحاضر، وسيطرة النصوص الدينية على عفوية الحياة وتطوراتها النابعة من زمانها.

وإذا كانت سلطة المرشد قد عبرتْ عن سيطرة القرية، فإن البرلمان في طهران حاول أن يعبر عن سلطة المدينة المقيدة في الفضاء الإقطاعي.
وقد أقامت الطبقة الغنية ذات الجذور الإقطاعية الفارسية مطابقة بين عيشها ومبادئ الاثني عشرية كما تصورَ ذلك في خيالٍ ايديويولجي خاص بها، ولكن مبادئ الأئمة الاثني عشرية المضحين الشهداء في سيرهم لم تكن كذلك، فقد قامت على عدم وجود سلطة مركزية متضخمة فوق الجمهور، تكون متسلطة، وعدم وجود الحواجز الاجتماعية بين الإمام والمحكومين، وعلى عدم تحول الدولة إلى المالك الأكبر للمال العام، سيراً على آيات القرآن، التي نصت بعدم وجود دولة للأغنياء بين المسلمين، كما تقول سورٌ عديدة بعد القضاء على الجبروت المالي اليهودي والمكي ومنها سورة الحشر:
“ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ من أهل القرى فللهِ وللرسولِ ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”، (جملٌ من آية 7 سورة الحشر).

ومن هنا كان الإمام علي عليه السلام ينفضُ بيتَ المال دائماً موزعاً إياه على المحتاجين، ولم تكن هناك فرق المخبرين والجلادين والشرطة، وفيما بعد قامت دولُ الأسر والدكتاتوريات التي تسمت باسم الإسلام بحجز هذا المال عن التوزيع بحجج كثيرة وأغرقت جماعاتها التابعة به.
ولهذا فقد موهتْ الدولُ الإيرانية خلال حقبة الإقطاع ذلك مثل غيرها من الدول الإقطاعية العربية الإسلامية، هذا التباينَ الجذري بينها وبين الحقبة الرسولية – الصحابية – الإمامية، بتغييبِ هذا المضمون، وماثلت سرقاتها وعنفها واستغلالها بتلك الحقب. وكان التركيزُ في الأشكالِ محاولة لإخفاءِ طابع التناقض بينها وبين الجذور الكفاحية للإسلام.

لهذا ركزتْ جمهورية إيران الإسلامية في أشكالِ العبادةِ بشكلٍ رهيب وعزلت الأحكام الفقهية الجزئية عن طابع الدولة الإسلامي العام الكلي الديمقراطي الإنساني ذاك وهي تسبحُ بذهبِ النفط الغزير، تمويهاً على البسطاء الذين لا يعرفون الإسلام إلا كعبادات، وأججتهُ كسيطرةٍ شمولية عليهم، من أجل مشروعات سياسية تقوم بها والبسطاء مأسورون بتلك الأفكار العامة المؤدلجة لمصلحة الطبقة الحاكمة، غارقون في العبادات وقشور المعاملات مع نسيان الجوهري مثلهم مثل بقية المسلمين، غير أن تركيب ذلك على أجنحة دولة عسكرية كبيرة لها طموحات توسعية يفاقم الخطر كثيراً.
 
أخبار الخليج 19 فبراير 2009

اقرأ المزيد

العراق على طريق التعافي


( المالكي.. من الثورة إلى الدولة)

على عكس رجالات الدولة في إيران، والأخص رموز الحرس القديم والتيار المحافظ الذين يمسكون بزمام السلطة في طهران الآن ومازالوا يثبتون بامتياز عجزهم عن التكيف مع استحقاقات الدولة بصورة واقعية تضمن مصالحها ومصالح الشعب الإيراني في آن واحد على قاعدة “فن الممكن” وبعيدا عن التطرف، وهو العجز الذي استمر منذ 30 سنة على تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن واحدة من أبرز نتائج انتخابات المحافظات الأخيرة في العراق إنما تعكس مستوى الخبرة والنضج الذي تمكن رئيس الوزراء وزعيم حزب الدعوة الديني نوري المالكي، والذي كان مقربا من طهران، من اجتيازه خلال فترة وجيزة من وجوده في السلطة في ظل ظروف تاريخية استثنائية بالغة الدقة والتعقيد تمر بها بلاده، وهي ظروف لا تقارن البتة من حيث تفرد دقتها وتعقيدها بالظروف التي وصل في ظلها الإسلاميون او ما يعرفون بـ “الملالي” إلى السلطة في إيران غداة انتصار الثورة الإسلامية في مثل هذا الشهر قبل ثلاثة عقود.

ولعل أبرز مظاهر هذه الظروف الدقيقة المعقدة التي مازال في ظلها يترأس المالكي حكومة بلاده تتمثل في الاحتلال الأمريكي الجاثم على ربوع الرافدين، ومظاهر العنف والاقتتال الطائفي التي تسبب في تفجيرها الاحتلال نفسه منذ غزوه العراق وتمكنه من إسقاط النظام السابق.
وليست تجربة نوري المالكي في قيادة الحكومة وتمكنه خلالها في التحول والبروز من رجل ثورة وزعيم حزب ديني معارض للنظام السابق الى رجل دولة محنك وواقعي قادر على التوفيق والتكيف بين مبادئه ومثله الثورية المجردة وبين مستلزمات واستحقاقات ممارسته للسياسة في تضاريس الواقع المعقد بما يضمن مصالح الدولة والمجتمع بكل فئاته هي فقط واحدة من أهم وابرز النتائج التي تمخضت عنها انتخابات المحافظات الأخيرة، هو الذي خاضت قائمته تلك الانتخابات تحت شعار بسيط جذاب “دولة القانون” في بلد مازالت كوارث الفوضى الداخلية الناجمة عن وجود الاحتلال وإسقاط مقومات الدولة العراقية الحديثة تجتاحه، لا بل ان واحدة من النتائج الأهم إنما تتمثل في تغير مزاج الناخب العراقي وما قطعه من نضج سياسي خلال السنوات القليلة الماضية من تعاقب حكم الأحزاب الدينية ذات الهوية الطائفية، ومن صراعات بين هذه الأحزاب وميليشياتها الدموية على تقاسم مناطق النفوذ وعلى مقدرات الناس ومصالحها وحرياتها الشخصية في المحافظات.

وهكذا فقد كانت نتائج الانتخابات الأخيرة بمثابة مؤشر حقيقي على سأم الناس وضجرها من تسلط الأحزاب الدينية، ولاسيما في المحافظات الجنوبية، على شئونها الخاصة وتدخلها الفظ في أصغر حرياتها الشخصية العامة، تماما على غرار ما كانت تفعله “إمارة طالبان” الإسلامية وجماعات القاعدة في أفغانستان. ذلك بأن المواطن العراقي البسيط أيقن من تجربته المريرة في ظل تسلط وإرهاب الميليشيات الحزبية، وعلى الأخص ميليشيا جماعة الصدر المعروفة بـ “جيش المهدي” بأنه لم يجن من تلك الأحزاب سوى الأمرين في ظل شعارات هذه الميليشيات ضد الاحتلال، فهو واقع بين مطرقة الاحتلال وسندان تلك الميليشيات التي لم تعجز عن حمايته وتوفير الأمن والاستقرار له فحسب، بل كانت سببا مباشرا في مفاقمة زعزعة استقراره وأمنه، ناهيك عن عجزها عن توفير أبسط مستلزمات الحياة المعيشية الكريمة له في ظل غياب وتغييب دور الدولة من جراء هيمنة تلك الأحزاب الدينية على مقدرات ذلك المواطن البسيط.

وهكذا تمكنت قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي من إحراز الموقع المتقدم في النتائج الأولية للانتخابات في معظم محافظات الوسط والجنوب، وتمكن المالكي من اجتذاب الناخب، كما ذكرنا، من خلال شعار “دولة القانون” ووعده بتعميق وتوسيع عملية “المصالحة الوطنية” جنبا إلى جنب مع تعميق وتوسيع المشاركة السياسية بما يمهد الأرضية لاستعادة العراق كامل عافيته السياسية ووحدته الوطنية، بعد تمكنه من إجبار قوات الاحتلال على الانسحاب الكامل من أراضي الوطن.

وثمة درس آخر مستفاد لا يقل أهمية عن النتائج المستفادة المتقدم ذكرها، ويتمثل في الموقف المحايد والنزيه الذي وقفته مرجعية السيد علي السيستاني في النجف وذلك بالنأي بنفسه عن بازار وماراثون الصراعات والمنافسات الحزبية الدينية، حتى بالرغم من محاولات هذه الأحزاب الدؤوب لاستغلال شعبيته الكاسحة في أوساط الجماهير البسيطة لإثبات تمتعها بمساندته لها. وهو درس لعمري كم هو بليغ ومهم وجدير بالاقتداء من قبل قوى الإسلام السياسي الشيعي البحريني، وعلى الأخص كبرى جمعياتها التي لطالما زجت مرجعيتها الدينية وما تتمتع به من شعبية لتوظيفها في الدعاية الانتخابية البحتة ليس ضد حلفائها من الجمعيات الوطنية فحسب، بل ضد منافسيها من الجمعيات الوطنية غير المتحالفة معها وضد منافسيها حتى من جمعيات الإسلام السياسي الشيعي الأخرى، وذلك تحت شعار: “القائمة الايمانية” في الانتخابات النيابية وبصكوك دعم بعض المشايخ في اول انتخابات بلدية بعد الميثاق.

وأخيرا، فإن واحدا من الدروس والمؤشرات الأخرى المستفادة من انتخابات المحافظات العراقية يتمثل في ان القوى الوطنية والعلمانية والليبرالية بدأت تستعيد وتكتسب شيئا من ثقة الناخب الذي مل وسئم من التناحرات والاصطفافات الطائفية الحادة، وأدرك ما تخفيه هذه الأحزاب الطائفية خلف شعاراتها من تكالب على السلطة والمصالح والزعامة باسم الدين وباسم الطائفة على حساب مصالحه كمواطن مقهور، ولعل فوز قائمة الشخصية القومية العلمانية المعروفة يوسف الحبوبي في واحد من اكبر معاقل قوى الإسلام الشيعي بكربلاء لخير مؤشر ودليل على انهيار ثقة الناخبين بقدرة القوى الطائفية والدينية على تمثيل حقوقهم ومصالحهم بأمانة وتجرد.



أخبار الخليج 19 فبراير 2009

اقرأ المزيد

دعوة الحوار والمبادرة اللاصفرية


الدعوة المبادرة التي أطلقتها جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي الأسبوع الماضي تحمل في طياتها كثيراً من الدلالات التي ينبغي إنصافها والوقوف عندها مليا شعبا وحكومة، أفرادا ومؤسسات، فالمبادرة في حقيقتها دعوة صادقة عاقلة، تلتزم بالروح الوطنية وتسعى من أجلها. ومما عزز هذه الدعوة هو تبني صحيفة «الوسط» ورئيس تحريرها منصور الجمري لها.

ومن هنا نستطيع أن نحدد دلالات دعوة الحوار في النقاط التالية:

   – إن عقلاء وحكماء هذا الوطن يسعون جادين لإزالة كل التوترات والاحتقانات الأمنية والسياسية
     عبر الحوار الهادف الجدي، وإن صرختهم هذه لهي دليل على حكمتهم.

   – إن ثمة أصوات لا همّ لها إلا تحقيق مصالحها وإثارة الغوغاء، تسعى جاهدة لتعكير صفو البلاد
     وتشويه هذه  الدعوة وحرفها عن وجهتها التي وجهت إليها.

   – إن هناك عدم توافق واضح بين الدولة والشعب، وربما تصل إلى حد عدم الثقة بين الطرفين؛
     ما يعني أن الآذان صماء وكل ينعق في خرابة، ولا حل إلا في الحوار.

  – اللافت أن الحكومة إلى الآن لم تبد أي رد فعل تجاه هذه الدعوة وكأنها لا تعنيها.

  – إن الحكومة لا تملك حلا سوى الحل الأمني، فهي تريد فرض هيبتها عن طريق القوة والقوة فقط.

  – إن من دعا إلى الحوار يدرك تماماً أن كل طرف لابد أن تحفظ هيبته، أي بأن تكون المباراة بين
    الطرفين لا صفرية؛ بمعنى أن لا خاسر بينهما.

المطلوب الآن من جميع المخلصين لهذا الوطن أن يلتفوا حول هذه الدعوة، وأن تتحول إلى مبادرة تحمل أجندة وبرامج طويلة المدى لتكون مرنة وقابلة للاستمرار، وأن يدرك الجميع أن هذه الدعوة ليس فيها استثناء إلا من اتخذ لنفسه سبيلا آخر، فلا يمكن أن تتحول الساحة بين حين وآخر إلى بؤرة توتر، ونقطة ساخنة بين الشعب والحكومة، وكلنا يدرك مصير هذه السخونة والتوتر. ولا ننسى أن هذه الدعوة موجهة بالدرجة الأساس إلى الحكومة التي بيدها السلطة، وبيدها المبادرة بأخذ زمام الأمور إلى ما فيه صلاح الوطن والمواطن وهو شعارها، وهي جديرة بحمله، فمن هنا يمكننا أن نعيش أجمل الأيام التي لم نعشها بعد.
 
الوسط 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

ذرائع عملية القلب المفتوح


سواء كانت المنبر الديمقراطي، أو غيرها من الجمعيات أو الفعاليات السياسية، كانت صاحبة المبادرة في أهمية إجراء حوار وطني، فإن هذه الدعوة بحد ذاتها كانت بمثابة تعليق الجرس في رقبة الوضع البحريني الراهن الذي بدأ بالفعل يغصّ بنفسه وبتفاعلاته التي أدت إلى انحشار الكربون في مجاريه، وإصابته بتصلب الشرايين الوطنية، نتيجة تصلب المواقف التي باتت تطوح بها «الصقور» في أكثر من هيئة وتجمع وجمعية.
فالناظر إلى حال حراكنا الوطني في السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً بعدما انفك التحالف الرباعي الذي كان رافضاً للتعاطي مع السلطة التشريعية والانتخابات البرلمانية؛ سيجد أن الفرق بات واضحاً جداً في انعكاسه على الشارع. فلقد كانت المعارضة الذاهبة إلى الاعتدال هي من يقود شريحة واسعة من الرأي العام المحلي، وكان في مقدورها – مع كثير من الجهد وبعض الإخفاقات أيضاً – أن تلجم الحركات المتطرفة المثيرة للفوضى والأفعال العقيمة في الشارع. ولكن ما إنْ دخلت هذه القوى التجربة البرلمانية لترى إلى أي مدى يمكنها التأثير في الطرح العام، وكيف سيكون الوضع في الداخل بعدما رأت كيف كان في الخارج؛ حتى تسيّد الصقور برامج المعارضة، وتراجعت الثقة في الذين كانوا معارضين من ذي قبل بشكل أكثر صراحة من الآن في ظن كثير من الناس.
لقد قادتنا الأزمات والمشكلات والخطابات المتوترة والموتورة أحياناً من جانب، والحلول العقيمة إضافة إلى النهايات المسدودة والتعامي والتصامم عن المشكلات، واعتبار أن كل مطلب هو مقدمة لمشكلة، بدلاً من القول إن كل مشكلة تم السكوت عنها تأتي بمطالب، وتنتهي بيأس، واليأس لا حدّ متوقعاً لكيفية تمثله.. هذان الموقفان المتناقضان منذ عشرات السنين قد آن لهما الانتهاء، وآن للحكومة أن تأتي إلى طاولة الحوار من دون مواقف مسبقة، وللمعارضة أن تتقاطر إلى الطاولة نفسها من غير تشنجات وتصيّد، وذلك من أجل إجراء عملية «القلب المفتوح» لتسييل ما علق في الشرايين من «كوليسترول» السنوات الماضية التي لم يجرِ فيها أبداً التعاطي المباشر ما بين الطرفين حتى يتم تنظيف الملفات أولاً بأول بدل أن تنتفخ إلى هذا الحد الذي لا يُعلم من أن يمكن أن يبدأ الحوار وتبدأ المعالجة.
ونحن لانزال في ذكريات ميثاق العمل الوطني من خلال دورته الثامنة، نستعيد كثيراً من الذكريات التي طافت بتلك الفترة، فلا نتذكر حواراً وطنياً شاملاً وجاداً وذاهباً إلى ما هو أبعد من طرح «ورقة» أو مداخلة أو مجاملة. ربما لا يعلق في الذاكرة إلا لقاءات متفرقة، وأنواع من التجمعات التي يقول كلٌّ قولته، ويعبر عما في نفسه، ويحمل هموم جماعته السياسية أو المذهبية أو المناطقية، وجلس ماسحاً العرق المتصبب عن جبينه، ملتفتاً لأصحابه يسألهم إنْ أحسن الطرح أم لا، ولكن لم نشهد برامج عمل جادة وحقيقية، وتتحول من النظرية إلى التطبيق الجاد المتواصل والممنهج، في سبيل تقديم الملفات واحداً تلو الآخر، والسعي من أجل بسط سيادة الروح الوطنية العامة التي يقف عندها الجميع من دون خلاف في أسسها العامة، ومن دون جدال عليها.
لن يكون من الصعب اليوم أن تلتقي الجمعيات السياسية الفاعلة والأقل فاعلية في حوار وطني، والأمل أن تستجيب الحكومة أيضاً إلى هذا الحوار، فهي جزء أصيل من هذا الوطني، وركن متين من أركان التفاعل الوطني مع مجمل القضايا، بلا إلزام ولا تقريع ولا محاسبات ولا تهويل ولا تخوين ولا تعميم ولا أجندات خفية وأخرى علنية ولا مجاملات ولا رفع عتب ولا وضع العصي في العجلات ولا تعالي ولا صبغ للوجوه ولا تسويد لها ولا عقد الماضي ولا توجسات الراهن ولا يأس من المستقبل ولا عيون حمراء ولا هراوات غليظة ولا بيانات جاهزة.. فالذهاب إلى الحوار الوطني من دون الحكومة سيكون ناقصاً، والذهاب مع الحكومة بملفات يحملها الطرفان جاهزة لرفعها فوق أسنة الحوار ومتى ما انعطفت الطرق وتعقدت المواقف، سيكون حواراً فاشلاً، وردود فعله سترسم في الشارع مباشرة، استمراراً لما كان في السابق.
عملية القلب المفتوح تحتاج – إلى جانب الشجاعة – كثيراً من النوايا الصادقة، والاعتراف بأننا جميعاً (في المعارضة الوطنية والجمعيات السياسية والسلطة التنفيذية) نعبر ممراً يضيق بنا كلما تقدمنا خطوة إلى الأمام زمنياً، ونعترف بأنا قد بلغنا مرحلة عدم القدرة على المرور جميعاً كتفاً بكتف في هذا الممر، وهذا ما يؤدي إلى انتهاج سياسة «نفسي نفسي» التي يتقدم فيها من له قوة وصوت أعلى على الآخرين من دون الأخذ في الحسبان الشراكة الوطنية، وهذا ما سيجعل الوطن يتراجع قبالة الحسابات الفئوية.
 
الوقت 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

لكي تنجح مبادرة «التقدمي»


 يسألنا الكثير من أصدقائنا ومن المهتمين والمتابعين للشأن العام عن مدى تفاؤلنا في حظوظ مبادرة المنبر التقدمي لإطلاق حوار وطني في النجاح, ومثل هذا السؤال وُجه لي كذلك في المؤتمر الصحافي الذي أعلنا فيه المبادرة. ولا أعني هنا طبعا أصحاب الآراء التي تتطير من مجرد سماع كلمة حوار, وتنظر إليها على أنها رجس من عمل الشيطان, لأن هؤلاء لا يطيبُ لهم العيش إلا في الجو المشحون, وإنما أعني أولئك الذي يرغبون في أعماقهم أن تنجح هذه المبادرة, ولكنهم لا يخفون تشاؤمهم من إمكانية ذلك, حكماً من الانطباع الذي يمكن أن يصلوا إليه من ظاهر الأشياء.

في حديثٍ سابق قلت إن مبادرة من هذا النوع في حاجة إلى تهيئة الظروف الملائمة لإنجاحها, وهذا ما يدأب عليه المنبر التقدمي الآن, من خلال اتصالاته مع مختلف القوى والشخصيات والمؤسسات ذات الصلة بموضوع المبادرة. وقد حدث تطور ايجابي باتفاق الجمعيات الست على دعمها لهذه المبادرة, باعتبارها الصيغة المقبولة, في إطارها العام بإعلان المبادئ, وبآلية التنفيذ اللذين تقترحهما, لتكون قاعدة حوار وطني خلاق بين الدولة والمجتمع, يهدف في نهاية المطاف إلى إشاعة مناخ الثقة في العلاقة بين الطرفين, ونزع عوامل الاحتقان السياسي والأمني, والتمسك بروح ونصوص ميثاق العمل الوطني الذي نقل البلاد من حال إلى حال.

ونحن بطبيعة الحوار لا نتوجه بهذه المبادرة إلى المعارضة وحدها, وإنما إلى مكونات المجتمع البحريني جميعها, وهذا حرصنا على إظهاره عند إطلاق دعوتنا للحوار وعند صوغنا لمبادئ المبادرة, ونحن على يقين من أن الروح التي صيغت بها هذه البنود تستجيب لتطلعات ومواقف الغالبية الساحقة من فئات المجتمع البحريني.

للمبادرة, في تقديرنا, حظوظ طيبة في النجاح, ولكن من أجل بلوغ ذلك يجب تأمين شروط هذا النجاح, وفي مقدمتها تحقيق التفاف حولها من قبل كل المخلصين والحريصين على مصلحة الوطن, بصرف النظر عن مواقعهم ومواقفهم وقناعاتهم السياسية, وفي تقديرنا أن مثل هذا الالتفاف سيخلق رأياً عاماً مُحبذا للحوار, بما يفتح آفاقاً جديدة لتطور العمل السياسي للبلاد في اتجاه تعزيز الشراكة الناضجة بين الدولة والمجتمع, وإضفاء الطابع المتحضر على العلاقة بينهما, من المواقع المختلفة, بحيث يُحفظ للدولة مهابتها ومكانتها وللمعارضة حقها في أن تعارض وتحتج وتنتقد بالوسائل القانونية, مع مواصلة النضال من أجل أن تكون هذه الوسائل تستجيب للمعايير المرعية في عالم اليوم بضمان حرية التعبير والتنظيم الحزبي والنقابي.. الخ. لدينا في هذا الوطن من التجارب المُرة خلال عقود ما يكفي من العظات والعبر, التي يجب أن تحمل الجميع على إدراك أن طريق الحوار وحده, الذي خبرنا أوجهه عند انطلاقة المشروع الإصلاحي لجلالة الملك, هو الطريق الذي يأخذ ببلدنا وشعبنا إلى بر الأمان. وهذا ما نعول عليه, ولسنا في هذا التعويل وحيدين.
 
الأيام 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

الطرح الوهمي المتطرف


لم يكن مستغرباً أن تصل الأوضاع الحالية إلى ما وصلت إليه من تأزيم في العلاقات بين أطراف فاعلة في الدولة والمجتمع بسبب تحشيد «إيديولوجي» اعتمد الأوهام أساساً لتحليل طبيعة الوضع والعلاقات في البحرين. وهذا التحليل المعتمد على الأوهام لا يوجد لدى بعض فئات المعارضة فحسب، وإنما أيضاً
-ومع بالغ الأسف- يوجد لدى فئات محسوبة على السلطة، وهي تطرح تحليلات مركبة تركيباً قسرياً على الواقع البحريني.
الخطورة في البحرين لا يمكن أن تنبع من شعب أصيل، ولا يمكن -مهما حاول البعض أن يغير التاريخ- أن يلصق الشبهات مستغلاً أي تحولات أو أحداث إقليمية هنا أو هناك. نعم لدينا مشكلات داخلية، وإذا أردنا معالجتها داخلياً فإن الطريق سهل، شريطة أن ننفتح على إمكانات الوصول لبعضنا بعضاً، بدلاً من تشييد جدران الوهم السميكة، أو تكثير قضبان السجون، أو تحشيد الكتابات المتطرفة التي تحاول ربط مجريات الأوضاع الداخلية بما يدور حالياً على المستوى الإقليمي أو العالمي.
الطرح المتطرف قد «يستحلي» لمن يمارسه حالياً وقد يواصل عليه، ولكنه لن يستطيع الاستمرار في تبسيط الأمور عبر تلوين الناس بأوهام اصطنعتها إيديولوجيات مرعوبة. إننا في بلد صغير وشعبه الأصلي ينتمي إلى جذور معروفة لا تحتاج إلى شهادات من أحد، وهذا الشعب يتكون من فئات عدة، تفاهمت وتعايشت وتنوعت وأعطت البحرين بُعدها الحضاري، وأي مساس بأية فئة من فئات الشعب يعتبر مساساً مباشراً بحضارة البحرين الممتدة من دلمون حتى الآن. إن من الأفضل أن نسعى لكبح جماح أصحاب الخطاب المتطرف من الاتجاهات المحسوبة على المعارضة وتلك المحسوبة على السلطة والتي كثّرت من خطابها الوهمي مؤخراً بصورة أكبر من ذي قبل.
ليس هناك مشروع لتغيير هوية البحرين، والذين حافظوا على عروبة البحرين وعلى نظامها معروفون في وثائق التاريخ وفي وثائق الأمم المتحدة ومحفورة أسماؤهم في الأحداث التي عايشناها في البحرين. ولذلك فإن أية محاولة من أي طرف لتلبيس أهل البحرين بشيء ليس منهم في شيء، إنما يبذرون لأنفسهم ثماراً خاسرة مقدماً، ولعلهم لا يلتفتون الآن لأنهم يطربون لبعض ما يقولون. إن شعب البحرين لديه تجربة ثابتة على الأرض، والتجربة خير برهان. أما التحليلات النظرية القائمة على تركيب الأوهام فهي ليست مجربة.
 
الوسط 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

وماذا بعــد؟


تسعى الجهود المخلصة في البحرين إلى اللحاق بركب العصر الذي يكفل التطور الاقتصادي والعدل الاجتماعي، ومثل هذا الموضوع مدار بحث، وقد تطرق إليه منتدى التنمية الخليجي الذي عقد في البحرين مابين 12 و13 فبراير/ شباط الجاري. ومن تلك الأوراق طرحت انتقادات مباشرة للنموذج الخليجي في ضخ أموال النفط في تشييد مدن مسيجة وبنايات شاهقة تبعد المجتمع عنها وتجتذب طبقة محددة إليها وهي منفصلة عن المجتمع، والأموال بالتالي تتدفق من دون أن تتحرك العملية التنموية، وهذا يعني أن عامل الاستقرار الاجتماعي يتأثر بسبب انتقاص قيمة الإنسان، إذ يبقى النمو محصوراً في زاوية ضيقة تمتلك الامتياز دون الغير، بينما مشاركة باقي الأطراف في المجتمع غير محتسبة إلا إذا كان ذلك ضمن نتيجة حسابات أخرى.

لذلك نرى أن هناك هروباً من حل المشكلات الحقيقية والسعي لاختلاق قضايا تبعدنا عن السعي إلى حل مشكلاتنا العالقة عبر وسائل إنسانية تذهب إلى الجذور. مشكلاتنا لا يمكن تخميدها عبر التأجيج أو الهروب أو التغطرس أو التمترس خلف كل ما يمزق وحدة الوطن، بل إن هذا سيزيدها تعقيداً، وشريط الأحداث في كل مرحلة يعيد نفسه كما هو التاريخ الذي يقول الكثير والكثير؛ لكن ما من أحد يسمع أو يقرأ، فهناك من القصص والتجارب والعِبر التي تفيد كل الأطراف.

من الضروري أن نعترف ببعضنا بعضاً، وبحقوق المواطن، وباحترام القانون المطبق على الجميع من دون استثناء، وأن نعترف بدولة المساواة والمؤسسات، لأن عدم الاعتراف بالآخر معناه المعاداة والتمييز، وبالتالي فإن حال الاستقرار يظل غائباً تماماً كما هي الحقوق، ويستمر بذلك مسلسل تتكرر مشاهده في كل مرحلة من دون علاج حقيقي للمشكلة.

البحرين التي كانت الرائدة في يوم من الأيام، يمكنها أن تستعيد ريادتها بسرعة، لأن لديها مجتمع حيوي تماسك خلف هوية واحدة، ولا داعي لأن نخشى أية استثارات من أي طرف كان.
إن ما نحتاج إليه هو أن نلتفت إلى قضايانا التي لم تكن وليدة اللحظة بقدر ما هي نتاج ترسبات تاريخية وممارسات طويلة الأمد، أدخلت مفاهيم تميز هذا البحريني عن ذاك بل إن هناك اتجاهات عنصرية يتم رعايتها وتشجيعها على مسمع ومرأى الجميع. ومع أن هذه الأساليب استخدمت وفشلت، إلا أن هناك من يعوّل عليها الآن وكأنها ستخدمه في شيء، وهؤلاء لم يسألوا أنفسهم «وماذا بعد؟».

تتكرر المصطلحات والمسميات كما تتكرر الأحداث حتى تبدو البحرين وكأنها خاوية من الكفاءات والمفكرين والمبدعين.
تبقى البحرين في النهاية كما هي، وهي قادرة بأهلها أن تصنع مجتمعاً عصرياً، بدلاً من محاولة شل إرادته وتمزيقه، بل وخنقه وتغييب المعرفة النافعة .
 
الوسط 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

دعوة التقدمي.. هل هناك من يسمع؟!


بالفعل كم نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نستمع لبعضنا بعضا بل أن نطيل الإصغاء بحب, توخياً لمزيد من الفهم المشترك بين مكونات مجتمعنا البحريني المسالم وصاحب التاريخ النضالي المرصع بالتضحيات الجسام من أجل غد أفضل لأجيالنا القادمة, التي أضحت في زحمة التنافر الحاد الدائرة في مجتمعنا تحملنا مسؤولية الحفاظ على ما تحقق وأنجز بعرق ومكابدة أبناء شعبنا جميعا. وفي ظل عودة تطاير الشرر إلى أجواء بلادنا, بعد أن توَهمنا أننا قد تجاوزنا ذلك إلى غير رجعة طيلة السنوات الثمان الأخيرة, وهي عمر تجربة الانفتاح السياسي التي دشنها شعبنا تحت قيادة جلالة ملك البلاد حفظه الله. وفي ظل حالة الخوف من عودة أجواء أمن الدولة ومصادرة الحريات, كم نحن بحاجة إلى أن تسود لغة العقل والموضوعية والوئام وإعادة التلاحم الوطني الذي بتنا نفتقدها بشكل كبير كل يوم وكل حين, جراء ما يمور به مجتمعنا البحريني من ارتدادات وحالات خصومة وتشنج وانفلات, نعلم أنها ليست إيجابية على الإطلاق, لكنها يجب أن تفهم على أنها إفرازات ممكنة الحدوث في أي مجتمع يمر بتحولات تاريخية على طريق تحقيق دولة المؤسسات والقانون, خاصة وهو ينتقل من مراحل صراع اجتماعي مريرة وأجواء من عدم الثقة, إلى حيث إعادة الاعتبار تدريجيا على الأقل لمجمل الثوابت والقيم السوية التي ترنو لها كل المجتمعات الحية على طريق تقدمها الحضاري المنشود, وانطلاقا من هذا الفهم يمكن؛ بل يجب التعاطي معها من قبل الجميع حكومة ومعارضة ومعنيين بالشأن العام, وبحسب مسؤولياتهم التضامنية في بناء وإشادة مجتمع أكثر تلاحما, وله بالفعل رسالة إنسانية وحضارية تنبع في الأساس من تقاليده وتجارب شعبه بحلوِها ومرٍها.
من هنا فقد جاءت الدعوة الصادقة التي أعلنها المنبر التقدمي بصفته امتدادا أمينا لتاريخ نضالي حافل بالتضحيات والإسهام الوطني نحو تحقيق طموحات هذا الشعب وأمانيه في العيش بكرامة وحرية وعدالة والتي هي ليست جهود وساطة كما حاول البعض أن يقول لنا ذلك, والتي نجزم أنها ممكنة التحقق واقعا, إذا ما استوعب الجميع مسؤولياتهم الوطنية بعيدا عن كل مضامين وخطاب التسعير المذهبي والأيديولوجي والحزبي والطائفي والقبلي, الذي تريد له بعض القوى الطارئة والدخيلة والمهيمنة والمتطفلة أن يسود عبر خطاب متخلف لا ينتمي لهذا الوطن وتاريخه, حيث يرمي لإعاقة أي نهج للإصلاح والتقدم لوطن يستحق منا كل الحرص والمثابرة لإشادة بنائه, الذي يجب أن يكون مزيجا من كل ذلك التنوع الخلاق بين كافة مكوناته الاجتماعية والسياسية المتعددة.
كل ذلك الزخم التاريخي الذي رمت إليه مبادرة التقدمي الوطنية, يجب أن لا يُضيَع في زحمة التكالب على المصالح الآنية والطارئة التي تنشدها انتهازية تلك القوى, التي لم تعرف الوطن يوما إلا من خلال مصالحها الضيقة ضيق أفقها, فهي لم تقرأ بأمانة أبداً تاريخه المضيء, وبات عليها أن تتعلم من تجارب شعوب وأمم أخرى كيف أضاعت تلك الانتهازية المفرطة وذلك النهج الموغل في الجهل والانعزالية والنهم والرغبات الجشعة, وتلك النزوات المغامرة والمكابرة والمتعالية أوطانا وشعوبا بأكملها, حيث يصعب بعدها العودة إلى مسار الوطن المنشود وجادة الطريق المؤدي نحو التقدم والازدهار.
تلك كانت فحوى توجه التقدمي بالدعوة لمبادرة وطنية شاملة لمنع تدهور الأوضاع أكثر فأكثر, والتي أبانت خطوطها العامة ما لا يمكن الاختلاف حوله وخلق آلية حوار وطني تكون كفيلة بحلحلة الملفات العالقة بين مؤسسة الحكم وكافة القوى السياسية دون استثناء أو إقصاء, سواء لتلك القوى الممثلة في البرلمان أو غير الممثلة فيه حاليا, وذلك بغرض خلق تفاهمات مشتركة بين الجميع, حيث يجب أن لا يلزمها الإطار التقليدي الممثل بالجمعيات السياسية والحكومة فقط, بل أيضا تستقطب حولها تلك الشخصيات والرموز الوطنية التي تمتلك من المصداقية وقوة التأثير والإخلاص, ما يشفع لها أن تكون أمينة في الدفع بنهج العمل السياسي السلمي غير المتشنج والسوي الذي تكون غايته الوطن وشعبه, بعيدا حتى عن حسابات السياسة ونزوات بعض الساسة, وتلك ليست بدعة أبداً. فتجربة صياغة ميثاق العمل الوطني الذي دشنت معه البحرين تاريخا جديدا يحق لها أن تفاخر به لا زالت ماثلة أمامنا ونعتبرها وساما على صدورنا جميعا, نحن الذين تعاهدنا على التشارك في قيادة سفينة الوطن إلى حيث تبحر الآن رغم ما يعترضها من صعوبات ومعوقات, والتي علينا أن نفهمها بصبر ونضج وسعة أفق ضمن سياقها التاريخي والموضوعي, تلك التجربة التي بإمكاننا أن نبني عليها بأمانة ومسؤولية, دون خوف أو وجل من أي طرف كان, طالما كان القاسم المشترك هو الوطن ومستقبله, فبقدر إسهامنا في عملية البناء والشراكة الحقيقية المقرونة بدوافع الطموح في بناء مجتمع محصن قدر الإمكان ضد نوازع الفرقة والتباعد والخصومة, ويعرف كيف يتعاطى مع قضاياه بلغة وممارسات حضارية وآليات عمل قادرة على الاستجابة بصدق لمقتضيات عملية الصراع الاجتماعي فيه, إبعادا لأي غبن أو فرز أو تباعد غير محمود بين جميع مكوناته, بحيث يصبح ممكنًا بعد ذلك التقليل من مخاوف المرجفين وشكوك المتشككين وريبة المرتابين.
وانطلاقا من هذا الفهم المتسامي فوق الأهواء والمصالح الضيقة, جاء التجاوب والاحتفاء الشعبي والإعلامي اللافت الذي حظيت به ولازالت مبادرة المنبر التقدمي بالدعوة لمبادرة وطنية شاملة تستطيع أن تلملم ما بعثرته حالات الخصومة والفرقة والتباعد, والتي أملتها شروط قوى وجهات لا تضمر خيرا لهذا الوطن وأهله, جاءت لتعبر عن هواجس القلق التي بدأت إرهاصاته تلامس عقول وضمائر كل الغيورين على مستقبل هذا الوطن, وهي لذلك حَرية بأن تلقى تجاوبا رسميا وشعبيا ونخبويا أكبر, بدلا من الصمت وعدم الاكتراث وحتى التسقيط أحيانا من قبل البعض, بحيث يصبح الجميع أمام مسئولياته دون نكوص أو تهَرب أو تخندق عند حدود المصالح والطوائف والمواقع والعشائر على حساب الوطن ومصالحه العليا, التي كم اقسمنا مراراً وتكراراً على صيانتها, إبعادا لهذا الوطن عن ما ينتابه من منغصات وقلاقل نعلم أنه لن تحلها تلك الاثارات غير المسؤولة أو المناكفات المرتجلة وغير الناضجة, فهذا الوطن سيبقى لنا جميعا فلنحتضنه برفق ومحبة, وأولى بمن هم في مواقع القرار والمسئولية ورجاحة العقل أن يبرهنوا على عدم العودة به مجددا بعد أن تجاوزنا معا حواجز الخوف والقهر والتشظي, التي لا يريد عاقل أن نعود إليها أو أن نجر إلى تخومها… تلك كانت مضامين دعوة التقدمي التاريخية للحوار ووقف تدهور أوضاعنا الداخلية, في وقت عزت فيه الدعوات الصادقة وتعالت فيه نزوات الطارئين المرضى ونزق المتآمرين الذين استهواهم حرق الأخضر واليابس على أرض وطننا … فهل هناك من يسمع ؟!

 
الأيام 18 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

مبادرة وطنية واحـدة


أطلقت جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي الأحد الماضي مبادرتها رسمياً بشأن حلحلة الوضع السياسي والأمني.  الأمين العام للجمعية أعلن عن لقاء مرتقب مع رئيسي الشورى والنواب لتسليمهما نص المبادرة، ودعوتهما لدعمها، وهي خطوةٌ في الاتجاه الصحيح، فالكل مسئول عما يجري، وعليه أن يتحمل مسئوليته الوطنية بدل الفرجة ونفض اليد. كما أعلن عن جهدٍ سيبذل لإيصال المبادرة إلى بعض الجهات في الدولة، بعد أن شاع أن خطوط الاتصال مقطوعة منذ زمن غير قصير.

أما بخصوص الطرف الآخر من المجتمع، فقد أعلن عن مواصلة الاتصالات مع الجمعيات السياسية بمختلف أطيافها، «لإطلاعها على المبادرة وإشراكها في تفعليها». وهو جانبٌ فيه تقصير وضعفٌ للأسف الشديد، فحين عقدت ندوة «الوسط» بشأن المبادرة قبل أسبوعين، اتضح أنه لم تكن هناك أية اتصالات على الأرض، والحديث اليوم لايزال عن «إطلاع الجمعيات المعنية»، والأسوأ أن يغنّي كلٌ على ليلاه، ويتوهم أنه قادرٌ على العمل بمفرده، كأن الوضع يحتمل مزيداً من المماطلة والتسويف، أو يسمح لتسجيل بعض النقاط هنا وهناك.

المفترض أن يدرك الجميع أن المبادرة يجب أن تكون وطنيةً مشتركةً، ومعبّرةً عن أوسع دائرة من الطيف السياسي، خصوصاً أن هناك أخطاراً باتت تلوح في الأفق، لا تنذر فقط بتطويق العمل السياسي، بل وتمتد لحرية التعبير وملاحقة أية مواقع مجتمعية أو دينية أو شبابية، يصدر عنها أي نقد سياسي. وتقليص هامش الحريات العامة يغري بمزيدٍ من التقليص، والخشية أن تكون هناك قطاعات مدنية أخرى على قائمة الاستهداف، بما فيها مؤسسات العمل الخيري تحت ستار ما يسمى مكافحة الإرهاب.

عناصر المبادرة معقولة ومتوازنة إلى حد كبير، ومن المؤكد أنها ستلقى تأييد الغالبية من الناس، فهي تدعو القوى السياسية والاجتماعية إلى احترام النظام السياسي، ونبذ كل مظاهر العنف من حرق وتفجير، وتأكيد سلمية العمل السياسي. وفي المقابل تطالب الدولة بضمان فتح حوار مع قوى المجتمع، وإطلاق سراح الموقوفين، وإغلاق الملفات الأمنية الجديدة ووضع نهاية لوسائل التعذيب ضد المعتقلين التي عادت من النافذة بعد أن طُردت من الباب مع بدء فترة الإصلاح.

“المنبر” تحدّث عن آليات لتفعيل مبادرة الحوار الوطني، تفرض التزاماً متبادلاً بين القوى السياسية والدولة، انطلاقاً مما نصت عليه المادة (1) من الدستور، وترشيد الخطاب السياسي واحترام هيبة الدولة ورموزها، وسلمية العمل السياسي، والالتزام بالأطر القانونية، مع استمرار المطالبة بتطويرها، لتنص على مزيد من الحريات لترتقي للمعايير الدولية، وإيقاف حملات التشكيك في الولاء الوطني للبحرينيين.

وفي هذا المجال لم يعد الأمر مقتصراً على القوى المتمصلحة من حال القطيعة وتدمير جسور الثقة، بل برزت هناك أقلامٌ مسعورةٌ لم تتورع من طرح دعوات تنضح بالعنصرية وعدم القبول أصلاً بوجود «الآخر»، وهو مؤشر خطير تشهده البحرين ربما لأول مرة في تاريخها، في استنبات لئيم للفكر العنصري الشوفيني وثقافة الابارتهايد، في بلدٍ يفتخر بتاريخه القائم على التعددية المذهبية والتسامح الديني والانفتاح الفكري.

المبادرة ليست ترفاً فكرياً، وإنما حاجةٌ ماسةٌ لحلحلة أوضاع متشنجة، تخفي تحتها مشكلات لا يريد البعض الاعتراف بوجودها، وملفات لا يرغب البعض الاقتراب منها، بدءًا بالنواحي المعيشية للمواطن، وانتهاءً بتكريس مبدأ المواطنة المتكافئة في الحقوق والواجبات.
 
الوسط 17 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

هل نحن ذاهبون إلى نفق مظلم؟


تساءلت في مقالي السابق وفي ظل حالة من الاحتقان الشديد التي وصلنا إليها قائلا ‘’إلى أين نحن ذاهبون؟’’ وهو سؤال أصبح يردده الكثير من المواطنين، نتيجة حالة التصعيد التي يشهدها الوطن على جميع الصعد، حالة تنذرنا بأننا ذاهبون إلى المجهول.

يبدو أن حالة من القلق الشديد تسود بين الناس، وأن حالة من التشاؤم تلبسنا جميعاً، كل ذلك يوحي لنا بأننا ذاهبون إلى نفق مظلم.
إن أكثر ما يُقلق هو تحويل الملفات السياسية إلى ملفات أمنية، نتيجتها حسب اعتقادنا هو الذهاب إلى المجهول على جميع الصعد وفي مقدمتها الصعيد السياسي والصعيد الأمني، فالتصعيد الأمني من بعض أطراف المعارضة ومن طرف السلطة سيؤدي بنا لا محالة إلى المزيد من التصعيد الأمني ولن يؤدي ذلك إلى هدوء؛ فإن تصورت السلطة أن المعالجات الأمنية هي التي ستؤدي إلى مزيد من الأمن، فإنها ستكون واهمة وأن العكس هو الصحيح، والتجارب التي مر بها الوطن على مدار عقود من الزمن هي خير دليل على ذلك، كما أن التصعيد الأمني سيؤدي كذلك لا محالة إلى مزيد من التأزيم السياسي، وهكذا سنكون في حلقة مقفلة يصعب الخروج منها. نرى أن السلطة ليست هي المسؤول الوحيد عن تحويل الملفات السياسية إلى ملفات أمنية، بل تشاركها بعض الأطراف والبعض من الشباب بوعي منها أو من دون وعي المسؤولية عن ذلك. قد لا يقبل البعض هذا القول ويريد أن يحمل السلطة المسؤولية بمفردها، ولكن بالتأكيد أن بعض الممارسات وبعض الخطابات تعمل هي كذلك في اتجاه تحويل الملفات السياسية إلى ملفات أمنية.

إن عجز قوى المعارضة طوال السنوات الثمان الماضية عن المسك بالملفات بشكل صحيح عبر خلق تضامن وطني جامع، تستطيع من خلاله استخدام جميع أدوات الضغط السلمية البعيدة عن أعمال العنف، هو في جانب منه يساهم في خلق أرضية خصبة لمن يريد للوطن أن يستمر في حالة من الاحتقان والتأزم. أين نحن من حوارات المعارضة مع بعضها البعض التي يمكن لها أن تنتج برنامجاً وطنياً موحداً، بدلاً من تصوير الحالة وكأن طائفة بعينها هي المظلومة من دون غيرها، وأنها وحدها من يتصدى للمطالبة بالحقوق؟

إن المعارضة إذا لم تعِ حقيقة نجاح السلطة في جر العمل الوطني إلى المستنقعات الطائفية، عبر إنتاج حالة توحي أن من يعارض سياسات السلطة هي طائفة بعينها، يساهم في ذلك قوى سياسية ارتضت لنفسها تكويناً طائفياً خلق حالة من التجاذب الطائفي، فإن بعض أطراف المعارضة تكون قد سهلت مهمة تحويل نضالات شعبنا إلى المستنقعات الطائفية التي لن تنتج نجاحات في خلق تضامن وطني شامل يضغط باتجاه تحقيق المطالب المحقة.

مع التثمين الشديد للمبادرة الوطنية التي أطلقها المنبر الديمقراطي التقدمي نحو إجراء حوار وطني في محاولة لنزع الفتيل درءاً للمخاطر التي تهددنا جميعاً وتجعلنا نسير نحو نفق مظلم لا نعلم إلى أين يقودنا، نأمل ألا تقتصر هذه المبادرة التي تستحق كل دعم وتأييد على الأزمة الحالية وتداعياتها التي نتجت عن اعتقالات تمت ونية السلطة عن إجراء محاكمات وفقاً لتهم أعلنت. نأمل أن تكون بنود هذه المبادرة واضحة وجريئة ومعلنة سواء تجاه السلطة أو تجاه بعضنا البعض، فلا يحق لطرف بعينه الخروج بانحراف كبير عن إرادة المجموع، فمع حاجتنا إلى مبادرة توقف وتحد من حالة الاحتقان الراهنة، إلا أننا بحاجة إلى مبادرة وطنية طويلة الأمد تمنع تكرار ما هو جارٍ الآن، مبادرة تبني لعلاقات وطنية جادة قادرة على تحقيق الحد الأدنى لتطلعات الناس المحقة.

عودة إلى حالة الاحتقان الراهنة، فمع اختلافنا مع بعض الخطابات للوجوه البارزة من بين المعتقلين، إلا أن الماضي البعيد والماضي القريب والواقع الحالي يجعلنا نتساءل: هل طوت وزارة الداخلية حقبة الماضي الأمني الأليم إلى الأبد وأجرت المصالحة اللازمة التي تبني الثقة والاطمئنان؟ هل انتهت أساليب التعذيب تماماً لدى أجهزة التحقيق؟ إن ما نشعر به مع اختلافنا مع الكثير، مع الممارسات التي تتم في الشارع ممن يقوم بالاحتجاج، فإن التعذيب ونزع الاعترافات قسراً يبدو أنه لايزال أسلوباً معتمداً، كما أن أسلوب التضخيم للأحداث التي تتم ‘’مع اختلافنا مع من يقوم بها ورفضنا لها’’، وكذلك المغالاة في التهم الموجهة وتصوير الوضع وكأن المتهمين قاب قوسين أو أدنى من قلب نظام الحكم واستلام السلطة، كل ذلك يؤدي إلى مزيد من الاحتقانات، كما أن أسلوب التطنيش الذي تتبعه السلطة تجاه مطالبات الناس التي هي في أغلبها مطالبات محقة ومشروعة، وإصرارها على السير في ملفات مرسومة ترمي من خلالها إلى تحقيق أهداف نعتقد أنها مضادة للمصلحة الوطنية، هو ما يؤدي إلى انعدام الثقة، في ظل رفض السلطة لإجراء حوارات صادقة.

عندما نقول ذلك عن السلطة، هذا لا يعني تحميلها المسؤولية منفردة، بل هناك الكثير مما تتحمله القوى السياسية من مسؤولية، فهي تعاني من حالة عجز عن إجراء حوارات جادة وصادقة فيما بينها في الوقت الذي تطالب فيه السلطة بإجراء حوارات معها! القوى السياسية تتعامل بردات فعل مع الأحداث أكثر مما تتعامل بفعل منظم عبر برنامج مرسوم يقود الناس بعقلانية، بدلاً من حالة الانفلات التي قد تؤدي بالبعض من الشباب إلى القيام بأعمال غير مجدية.

نأمل أن نعود إلى حالة التفاؤل التي عشناها أيام التصويت على الميثاق الوطني قبل ثماني سنوات مضت كنا نتمنى أن نعيش فيها الأيام الجميلة التي وعدنا بها.
المأمول من قوى المعارضة عبر مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي أن تدخل في مصارحة مع نفسها من دون مجاملة وبعقل مفتوح والخروج برؤية عقلانية موحدة تذهب بها للسلطة وتضعها أمام مسؤولياتها.
المأمول من جلالة الملك حمد وهو قادر بكل تأكيد أن يعيدنا إلى روح ميثاق العمل الوطني، عبر نزع فتيل الأزمة الحالية أولاً، ومن ثم إعادة النظر في الكثير من السياسات التي تنتج المزيد من الأزمات.
 
الوقت 17 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد