روى عبدالملك بن عمر الليثي في احد المجالس عن اضطرابات العهد الأموي وفتنه فقال: رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما بالكوفة في دار الإمارة بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار الثقفي، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير رضي الله عنهما، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبدالملك بن مروان!!
حركة الرؤوس وتناوبها في العرض تطورت فيما بعد وما عادت في عصر الدولة العباسية تحمل على الرماح كما في العهد الأموي!! بل استخدمت لحفظها صناديق خشبية صغيرة مزخرفة بأجمل الزخارف ويحملها فارسان!! وتنقل تلك الصناديق إلى مجالس الخلفاء ثم تفتح في مجالسهم ووصل التطور بعد ذلك إلى تسجيل لحظات القتل بأفلام الفيديو وعرضها فيما بعد لإثبات ما قام به القاتل لينال جائزة ولي النعمة!!
رواية (رأس الحسين) للروائي البحريني عبدالله خليفة نهلت من هذا التاريخ الدامي برؤية عصرية (حداثية) لما يحدث في أيامنا الحالية وقد كتب الروائي روايته مستفيدا من القالب السردي والحواري الذي يتيحه فن الرواية، وكذلك اللغة السينمائية،لتغطية أحداث امتدت لأربعين يوما بواحدة وأربعين لوحة سردية، هي كل ما تضمنته الرواية من سرود، وإذا استثنينا اللوحة الأولى التي تبدأ بذبح الشهيد بسيف الشمر بن ذي جوشن أحد قواد عبدالله بن زياد الذي انتدب من خليفة الأمويين يزيد لمحاربة الحسين عليه السلام، فيكون لكل ليلة من ليالي حمل الرأس إلى دمشق ومعها سبايا العلويين حتى اختفاء الرأس الشريف، لوحة أدبية سردية لكل يوم من أنفس ما قرأت في أدب الرواية العربية الحديثة!!
وأعجب كيف تمر رواية كهذه من دون اهتمام نقدي مهم، ويبدو لي أن هذا كان لسببين الأول أن الكاتب من إحدى دول الخليج التي ينظر إليها على أنها لا تنجب مبدعين، وأنها مكان لتصدير النفط فقط!! والسبب الثاني أن الموضوع الذي بنى عليه الكاتب روايته موضوع خطير، وقد كان ظاهرة سياسية واجتماعية لتحول النظام العربي من حكم الشورى إلى حكم بني أمية الوراثي، الذي لا يزال حتى هذا اليوم مدعاة للجدل والاختلاف بالرغم من مضي أكثر من ثلاثة عشر قرنا على ذلك التحول السياسي وما تبعه من إراقة دماء المسلمين وتشرذمهم وتحولات اجتماعية في بقعة واسعة من الأرض انتشرت فوقها الدعوة الإسلامية.
لقد كان من بين السبايا الذين حملوا في قافلة لم تمر في تاريخ العرب أحزن من مرورها على قلوب من رأوها تمر بهم من أهل القرى والمداشر التي مرت بها القافلة: رباب زوجة الحسين الشهيد عليه السلام وأخته السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام وما تبقى من أبناء الإمام الحسين: زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، وما تبقى من أطفال ونساء شهداء العلويين في كربلاء في يوم العاشر من محرم عام 63 هجرية ليعرضوا على خليفة الأمويين يزيد بن معاوية، لإثبات قتل الثائرين بالدليل القاطع وللحصول على جائزة الخليفة الأموي..
تتناول الرواية هذه الحقبة الدامية من التأريخ الإسلامي، وهي فترة تحول لنظام كامل استمر من هجرة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وحتى نهاية العصر الراشدي باستشهاد آخر الخلفاء الراشدين على بن أبي طالب كرم الله وجهه واستتباب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان والي دمشق الذي أنشق على الخليفة الشرعي، وتولى الخلافة بعد تنازل سبط علي بن أبي طالب الحسن رضى الله عنهما عن الخلافة لغريم أبيه حقنا لدماء المسلمين.
الرواية تبدو لنا كعمل فني له شروطه الموضوعية الداخلية المتعلقة بالشكل الذي تبنى عليه وكذلك على الآليات التي عمل عليها الكاتب ليقول لنا شيئا عما يحدث في عمله سلبا أو إيجابا موافقة لما يحدث أو رفضا، وتشعر بكل ذلك من لغة الخطاب الروائي وحمولاته وطرائقه في طرح أرائه، وتشعر به من توتر الحوار بين الشخصيات، والمنلوجات التي تدور في داخل كل عنصر داخل العمل الروائي، ومن خلال عين الكاميرا التي تنتقل بك من مشهد إلى آخر لتوضيح أمر ما أو لمواصلة السرد الحكائي من خلال لغة وصفية متقنة تجسد لك ما يحدث، ومقربة لك وسائل اتخاذ القرار مع أو ضد ما يحدث ومن بعيد ومن دون تدخل مباشر في ما يحدث.
ويبدو أن صعوبات جمة رافقت الكاتب في عمله الروائي المهم منها أنها تنهل من الموروث التاريخي الذي يعود بالقارئ إلى الوراء لأكثر من ثلاثة عشر قرنا وعلى الكاتب أن لا يجعل القارئ يتأثر بالتاريخي ليهيمن عليه تماما بل يشرك الفعل الروائي في التأثير حتى يبقى العمل إلى النهاية عملا فنيا وليس عملا تسجيليا يحكي وقائع التأريخ المعروفة. لكن الروائي وفق تماما في جهده الكبير وأعطانا رواية حقيقية تنهل من وعاء التاريخ الضخم وتصهر فيه الأفكار المعاصرة عن الظلم والتضحية ودور الكلمة المقاتلة في دحض الباطل وكشف زيفه.
شخصيات كالمهرج والشمر بن ذي جوشن ومعاوية الثاني بن يزيد ولي عهد يزيد وهند زوجة يزيد التي لم تحتمل ما فعل الأمويون بالحسين الشهيد وأهله ومن استشهد معه فأقدمت على الانتحار بإلقاء نفسها من فوق أعلى جدار في قصر الخلافة، وذلك الكشف الأدبي لدواخل شخصية يزيد بن معاوية التي تتذبذب بين حسيتها كشخصية تميل للحياة بمباهجها ملغية دورها الآخر المطلوب منها كخليفة للمسلمين ودوره المفروض كولي لأمورهم وبين منافسة بقية كبار الأمويين الذين ينتظرون فرصة سانحة لتجريده من ولاية أمر المسلمين لفخذ آخر من بني أمية،وكان أمله أن يختفي إلى الأبد ما حدث للحسين عليه السلام ويطويه التاريخ بسرعة ولا يذكره أحد!! يقول عن ذلك يزيد في ص169: لابد أن يحدث كل شيء بلا ضجة.. وتختفي السيرة وينقطع القص، لا بد أن ينهي حدث الحسين هذا إلى الأبد.. يطويه من ذاكرة الأجيال، يختفي وكأنه لم يكن، الروايات يختفين واحدة بعد واحدة، ومشاهد الموت والقتل والعطش تتوارى من ذاكرة البشر!!) ولكن لا يختفي شيء وهذه الرواية تحكي مجددا ما دار في ذلك العهد البعيد، يقول الحاجب لسيده يزيد بن معاوية عن الشمر قاتل الحسين عليه السلام:
– سيدي ذلك الشمر العراقي لا يزال يعود كل يوم يطلب مالا وجهه في المدينة يثير كل الذكريات الكريهة، إنه شبه مخبول وصار يثرثر في المجالس ويروي بطولاته.
يأمره يزيد:
– اضربوه وأرجعوه إلى العراق، ليتوار هذا الشمر هناك في احد البيوت..!!!
أما حمزة الذي كان مهرجا في اللوحة الأولى من الرواية ليزيد وذهب في الحملة التي وجهت لحرب الحسين عليه السلام فقد عاد برجل واحدة من المعركة وقد تحول إلى راو لفجيعة ذبح الحسين وأبنائه وإخوته رضي الله عنهم جميعا، وقد صار كما تصفه اللوحة 40 في الرواية :حمزة يعمل ستارة وشموعا وظلالا ويحرك عليها خيالات يزعم أنها يزيد والشمر والحسين ويقوم بإثارة الناس، وقد أمسكه الحراس ووضعوه في الحبس..
الصراع التراجيدي الذي يشعر به ابنه معاوية الثاني وولي عهده يجعله يحاول اغتيال أبيه انتقاما للحسين عليه السلام ولكنه لا ينجح فيسجنه الأب في أكثر سجون دمشق أذى ووحشة!!
رواية (رأس الحسين) عمل روائي مهم، كتب بلغة شفافة وتمكن واضح في فهم آليات الرواية الحديثة وصهر الروائي كل ما له علاقة بالحادثة التاريخية في متنه السردي واستطاع كاتبه عبدالله خليفة أن يجعلنا نقتنع أننا نقرأ حوادث معاصرة تحدث كل يوم وكما يحدث في الرواية رأس الحسين حين تحدث الرأس المقطوعة عما ينبغي أن تكون حياة الناس وما ينبغي لهم أن يفعلوا ليقفوا في وجوه الظالمين كما أنها حدثتنا بلغة معاصرة وفن راق عما يحدث اليوم وما ينبغي فعله، في عالمنا الحالي المترامي لثائرين ورجال رفضوا الظلم ولم يرضوا بما قسمه لهم زمنهم الأغبر من نوائب ورزايا وفضلوا الشهادة على العيش الذليل!! ولهذه الأسباب وغيرها يمكن الإجابة عن سؤال ملح: لماذا لم يرحب برواية رأس الحسين لعبد الله خليفة كما يجب؟!!
* رأس الحسين رواية/ 174صفحة من القطع المتوسط/ منشورات الاختلاف -الجزائر- .2007
faissalhassan@hotmail.com
أخبار الخليج 19 فبراير 2009