ورقة جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي
دور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص
يقدمها / الأستاذ عبد النبي سلمان
نائب برلماني سابق
منذ أن دشنت البحرين حالة الانفتاح السياسي فيها،وبشكل خاص بعد أن تم التصديق الشعبي على ميثاق العمل الوطني في منتصف فبراير من العام 2000، كان من بين العديد من القضايا التي برزت للسطح مسألة تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والتي بدت وكأنها مجس لمدى مصداقية توجهات الإصلاح ذاتها، حيث بقيت ضاغطة بقوة ولا زالت حتى اللحظة، والتي ارتبطت عمليا بممارسات التمييز وعلى أكثر من صعيد، تلك الممارسات التي وجدت لها وبكل أسف أرضية خصبة حتى تزدهر ويتطاير شررها ملوثا سماء وحدتنا الوطنية التي ظلت على الدوام الحصن المنيع أمام كافة أشكال التشطير المجتمعي منذ عقود ما قبل الاستقلال وحتى الآن، حيث يراد لمجتمعنا الصغير المسالم المتحاب أن يجر نحوها عنوة، وقد تجلى ذلك من خلال الكثير من مظاهر الانقسام والتآمر والفرز الطائفي البغيض والتي ما انفكت تعمل على إشاعته والاستفادة من مخرجاته الرديئة قوى طائفية نفعية متسلقة، مستخدمة لأجل تحقيق مآربها الدنيئة تلك كافة أشكال التآمر عبر إذكاء أساليب الكراهية بين أفراد وفئات مجتمعنا واللعب بأوراق المذهبية والدين وحماية المجتمع من المؤامرات الخارجية والداخلية، متناسية أن لمجتمعنا ذاكرة وطنية حية لا يمكن أن تمحى أو تموت. ومما زاد من قوة عزيمتها للمضي في مخططاتها تلك نحو السعي لتفكيك تلاحم ووحدة مجتمعنا هو بكل تأكيد تراخي بل ومباركة العديد من الجهات الرسمية والأهلية ذات المصلحة في تحقيق ذلك الفرز البغيض، والتي بات عليها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة عن إشاعة تلك الحالة المرضِية المرهقة لمسيرتنا الحضارية، مما يستدعي منها أن تبادر نحو إصلاح ما خرَبته وهدمته بمباركتها تلك من ثوابت وطنية في قوام وحدتنا وتقدمنا الحضاري. وكما هو معلوم للجميع، فقد ارتبط تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص أساساً بمسألة الأمانة في تحقيق العديد من المواد والبنود الدستورية والكثير من القوانين المعمول بها، والتي يهمنا الإشارة هنا إلى بعضها، فها هي المادة (4) من الباب الثاني الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع من الدستور والتي تنص على أن “العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة”، فيما نصت الفقرة (ب) من المادة الدستورية رقم (16) من الباب نفسه على أن ” المواطنون سواء في تولي الوظائف العامة وفقا للشروط التي يقررها القانون”، في حين جاءت المادة (18) من باب الحقوق والواجبات لتؤكد في مضمونها هذا الحق الدستوري الواضح، حيث نصت على أن ” الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
علاوة على ذلك فإن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص ووقف كافة أشكال التمييز والسعي لتطبيق المساواة هي مبادئ أساسية لا يمكن الحديث عنها بعيدا عن الإصرار على التطبيق الأمين لمبدأ العدالة الاجتماعية الذي أكده الدستور في أكثر من مادة وبند، وأقّرته البحرين من خلال تعهداتها أمام الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية، فان الحاجة تستدعي الاستمرار في الدفاع عن هذا الحق الدستوري بكل قوة ووضوح بعيدا عن إثارة الحساسيات والنعرات المؤذية، والتي أكدت الممارسات على الأرض أن هناك من هم في الجانبين الرسمي والأهلي من لهم مصلحة في التعسف في أساليب وطرق إثارتها بعيدا عن الموضوعية وقريبا جدا من الطائفية والمذهبية وتقسيم المجتمع لحساب مصالح أنانية وأهواء ضيقة. كما أن تحقيق هذا الحق الدستوري يحتاج من قوى المجتمع الحية والغيورة على مصلحتنا الوطنية، إلى نضال مستمر ودءوب من قبل المعنيين بالشأنين الحقوقي والسياسي، ونعتقد أيضا أن سياسات الدولة كما هي مطبقة على الأرض تسير ومنذ عقود باتجاه تكريس التمييز وإلغاء مبدأ تكافؤ الفرص بمنهجية ووضوح وأحيانا من دون أدنى خجل، ولا نحتاج إلى كثير من الجهد لكي ندلل على ذلك، فمن خلال الممارسات اليومية التي تتمثل في تغييب مبدأ تكافؤ الفرص وتفعيل سياسات التمييز على الأرض بحق شرائح واسعة من المواطنين في الكثير من المواقع، ولعلنا هنا نستطيع أن نشير إلى كثرة المناشدات الأهلية الداعية إلى ضرورة التطبيق العادل لمبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف العامة والخاصة والتي تتحمل الدولة ممثلة في ديوان الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية والعسكرية مسؤولية استثنائية في تصحيح ذلك المسار والنهج المعوَج والذي يمكننا أن نقول عنه أنه لا ينتمي إلى البحرين بلد الانفتاح والتسامح والشيّم العربية الأصيلة، كما أن تلك الممارسات لا تنتمي إلى حضارة وإرث التعايش السلمي الذي كرّسته البحرين عبر قرون طويلة من تاريخها بين مكوناتها المجتمعية، عوضا عن أنها لا تنتمي لروح العصر ولا حتى إلى أبسط المبادئ الإنسانية ولا إلى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي هو دين الدولة كما جاء في الدستور .
كذلك فإن السعي لتسييس الكثير من القضايا والحقوق في مجتمعنا والتعاطي معها من زوايا أمنية بحتة وأحيانا طائفية، قد هيأ الأرضية لتبدو أكثر خصوبة باتجاه إنتاج واقع جديد لكنه مأزوم بكل تأكيد، فقد أحدثت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القسرية خاصة بعد حل المجلس الوطني سنة 1975 والتي تلتها مباشرة سيادة قانون وتدابير أمن الدولة وإلغاء أبسط مظاهر الدولة الدستورية لصالح ممارسات القمع والتنكيل والإقصاء والتهميش لفئات واسعة من المجتمع، قد أحدثت تغييرا جذريا في انعدام أبسط عوامل الثقة بين الدولة والمجتمع، حيث كانت الأمور جلها في قبضة الجهات الأمنية بكل ما اعتراها من فساد وإفساد وانقلاب وتآمر على الكثير من المسلمات الوطنية، والتي فرضت بدورها تعديات صارخة لضرب الوحدة الوطنية برمتها وكان ذلك طيلة ما يربو على الثلاثة عقود من الزمن، والتي جاءت نتيجة طبيعية لإهمال وعجز الدولة عن القيام بمسؤولياتها في العديد من الملفات المعيشية والاقتصادية والسياسية، مما خلق معه حالات متباينة من الغبن الاجتماعي لفئات وشرائح واسعة ربما وجدت نفسها بعيدة عن مراكز التأثير والقرار أو أنها استهدفت في مصالحها المباشرة وغير المباشرة لحساب فئات مجتمعية أخرى، وأحيانا استدعت الأمور سعي الدولة عنوة لخلق واستحداث فئات وشرائح محددة وبمواصفات معينة، حتى يصار إلى تكثيف الامتيازات والمصالح باتجاهها أو لأجلها، وكل ذلك على حساب الشرائح والفئات المجتمعية التي لم تجد إصغاءً مناسبا من الدولة، مما خلق معه مع الوقت تنافرا حادا بين تلك المكونات التقليدية منها والمستحدثة أو الدخيلة، كما يحدث مثلا مع الفئات حديثة التجنيس والتي تعطى من الفرص والامتيازات ما عجزت أن توفره الدولة لمواطنيها الأصليين من المشاريع الإسكانية والصحية والتعليمية، علاوة على ما خلقته تلك السياسات من ضغط على الموارد الشحيحة أصلاً، والتي بسببها تضررت فئات واسعة من المجتمع ليُفرز بذلك واقع مأزوم بالفعل، بات علاجه وتصحيح مساره أمراً ملحا نتيجة ما أفرزه من تشرذم في النسيج الاجتماعي وما استدعاه من عصبيات وفرز وتشظي وتلك مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، باعتبارها من خلق وعمل على تلك السياسات وشجعها وغذّاها عبر عقود من الأخطاء والممارسات التي لا تغتفر بحق البحرين أرضاً وشعباً.
وهنا تبرز أهمية الدعوة إلى دور مختلف لمؤسسات المجتمع المدني بكل تلاوينها وتوجهاتها بحيث يتماشى مع ما أستجد من تداعيات مؤلمة لمجتمعنا، حيث أن رفض تلك السياسات واعتراضها بكل الوسائل السلمية الممكنة بات يتطلب جهودا كبيرة ومسئولة لا تقبل التهاون أبداً، إلا أن ذلك لوحده ليس بكاف، بل أنه من الممكن جداً أن يؤتي بنتائج عكسية إذا لم يترافق معه الوعي الوطني المسئول والمسؤولية المجتمعية التي على الجمعيات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني أن تتحلى بها، وحتى لا يبقى دور بعض تلك المؤسسات كمن يصب الزيت على النار ليزيدها اشتعالا، فهذه المهمة تحتاج إلى أكثر من انتقاد توجهات الدولة تلك أو حتى مجرد المزايدة عليها، فهي تحتاج إلى رؤية ووعي وطني وقيادات تعرف أدوارها ومسؤولياتها وتتفهم حساسية وجسامة المهمة وآليات عملها وتكون قبل ذلك قادرة على قراءة واقعها بشكل متجرد، وأن تعمل ضمن مفهوم وطني أشمل يتجاوز الطوائف والملل والأحزاب والتيارات، وأعتقد أن البحرين وقوى المعارضة الرئيسية فيها تحديدا لا تنقصها أبداً تلك الرؤية أو تلك التوجهات، والتاريخ خير شاهد على ما نقول في هذا الاتجاه، كما أن الحاضر يعدنا بتجلياته على قدرة قوى المعارضة ومؤسسات مجتمعنا المدني مجتمعة أن تخلق بمزيد من الإصرار الكثير من الحلول وأن تفرض على من يتربصون بمسيرتنا الحضارية أن يُذعنوا إلى صوت الوطن الذي بات ينادي كل فرد وكل أسرة نحو مزيد من التلاحم واليقظة إلى ما يحاك ضد مصالحنا الوطنية.
وحتى تستطيع تلك القوى أن تلعب أدوارها بإيجابية أكثر، وتحديدا في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وإلغاء كافة مظاهر وممارسات التمييز، والاتجاه نحو تفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية، فان أساليب النضال السلمي التي جربتها العديد من شعوب العالم تبقى خيارا متاحاً، على أن تقرن بضرورة خلق وعي وطني أشمل يستند إلى رؤية وطنية أكثر رحابة واتساعا من الأفق الطائفي الذي وجدنا أنفسنا فيه بفعل تلك الممارسات المشينة السابقة الذكر لمختلف القوى الضالعة فيها، بحيث نستطيع كمجتمع أن نتجاوز ما هو قائم من تقسيم وتشرذم وتخريب لهويتنا ونسيجنا الوطني، عبر استحضار مبادرات وممارسات أكثر حضارية ووطنية، بحيث تكون قادرة على خلق حالة من الاستقرار والرغبة في العودة بالوطن إلى حالة الوئام المفتقدة، بدلا من الانحدار إلى فوضى مدّمرة لا سمح الله. فها هي النقابات العمالية باعتبارها وعاءاً جامعأً للعديد من شرائحنا وفئاتنا المجتمعية، والتي بإمكان جل مكوناتنا المجتمعية ذات العلاقة، بمختلف فئاتها وشرائحها أن تنصهر من خلالها على قاعدة المصالح المشتركة الجامعة للعمال والمستخدمين بكل ما يمثلونه من قوة ذات مغزى نحو تحقيق الأهداف المرجوة وبالتحديد بالنسبة لمبدأ تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة والمساواة المنتظرة في العيش الكريم وبلوغ وحدتنا الوطنية التي يجب أن لا تقبل القسمة أبداً، ولنا في تجربة العمل النقابي في السبعينات وما قبلها وإبان سنوات القمع ما يشفع لنا بالمراهنة على ذلك. كذلك هو الحال مع مختلف المؤسسات الشبابية والطلابية والنسائية من جمعيات وأندية ومراكز شبابية وجمعيات مهنية وحقوقية وغيرها، والتي عليها مسؤوليات استثنائية هي الأخرى لا تقل جسامة عن مسؤوليات الجهات الرسمية، تفوق بكثير ما تقوم به الآن من أنشطة وفعاليات، خاصة إذا علمنا أن تلك الشرائح تمثل السواد الأعظم من شعب البحرين، ولكن تبقى مهمة التأسيس لوعي وطني مختلف وإيجابي لدى تلك الشرائح، بحيث تصبح قادرة على استقطاب واستيعاب شرائح لا تحدها حدود الطائفة أو الحزب أو التيار أو المذهب أو العشيرة كما يراد لهكذا وضع أن يسود راهناً. تلك إذا ليست نظرة مثالية, وإنما هي مطلب وهاجس شعبي وضرورة نضالية علينا مجتمعين وفرادى أن ندلل على التوجه نحوها مهما كانت وعورة الطريق وحجم المعوقات القائمة أو المنتظرة، وصولا لتحقيق حلمنا للعيش في مجتمع أكثر تلاحما وعدالة، وإن كنا نعتقد أن تحقيق ذلك لن يتم إلا عبر مزيد من الصبر والعمل والإصرار والتدرج وتحمل المسؤولية أدبيا وتاريخيا من قبل الجميع دون استثناء. كما أن مسؤولية الدولة في الدفع نحو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وحرصها وسعيها للوصول إلى مجتمع يتسم بالعدالة، تبقى محورية بكل تأكيد، ليبقى توجهها عمليا نحو ذلك فيما بعد معيارا موضوعيا على جديتها في هذا الاتجاه. وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تسعى بإصرار نحو الدفع نحو تحقيق ذلك بأسرع وأسلم الطرق الممكنة، وأن لا تسمح للقوى الطائفية والطارئة أو الدخيلة أن تقود المجتمع نحو حافة الهاوية عبر ما تطرحه من توجهات تفتيت ومشاريع تجزيئية كما يحدث في الوقت الراهن، ذلك هو التحدي الأهم أمام مؤسسات مجتمعنا المدني لتبرهن على تطور وعيها وأساليب عملها ونضوج رؤاها في إشادة مجتمع أكثر تسامحا وعدالة وانسجاماً بين كافة مكوناته وشرائحه.
الورقة التي قدمت في مؤتمر المواطنة وتكافؤ الفرص الذي انعقد في 21 فبراير الجاري بفندق الدبلومات.
ورقة جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي… دور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص
نقد مفهوم التقدم كشرط لبلورة نقد تقدمي
كيف يمكن تطوير نقد تقدمي لأوضاعنا الاجتماعي والسياسية والثقافية والدينية، بينما مفهوم التقدم يعاني من أزمة عميقة؟ المسألة عملية قبل أن تكون نظرية. ذلك أن نقد أوضاعنا اليوم لا ينفتح على “مشروع” أو رؤية عامة جاذبة ومنشطة تجمع بين العلم والعدالة والتاريخ، أو بين المعرفة المتطورة ومصالح الأكثرية المحرومة وموافقة اتجاه التاريخ، على نحو ما كان يلبي مفهوم التقدم. لذلك تجدنا اليوم أما ننكفئ نحو أشكال سابقة من التقدمية (شيوعية، قومية عربية..) أو نمارس نقدا مفتتا لا ينضبط برؤية موحدة ولا مفعول تأسيسيا وتراكميا له..، هذا حين لا ننفض اليد من النقد تماما لمصلحة الامتثال للسلطة أو للدين أو للسوق (والتعارض بين الثلاثة ليس محتوما). لكن في الغالب حل مفهوم الهوية محل مفهوم التقدم، وغدا التطابق مع الذات قيمة عليا، بينما أخذ التقدم يلتبس بالاستلاب وبالخروج على “الثوابت”.
كان مفهوم التقدم تبهدل (تشوه شكله وتدنت سمعته) عالميا وعندنا، وأخذ يخرج من التداول منذ نحو جيل. أساسي في بهدلته في الغرب كوارث القرن العشرين، بما فيها حربان عالميتان قتلتا نحو 70 مليونا من الناس، وبما فيها الهولوكوست النازي (ومعلوم وزن مثقفين يهود في الثقافة العليا الغربية، وفي “التشريع” للعقل الغربي)، وبما فيها تحويل التقدم إلى إيديولوجية “تقدمية”، على يد الشيوعية السوفييتية وأشباهها، مع ما هو معلوم من أنها جمعت بين الطغيان والفشل الاقتصادي ومعاداة المعسكر الليبرالي الغربي (المهيمن الثقافي عالميا). بما فيها أيضا مشكلات البيئة وأثمان النمو الاقتصادي، وقد دخلت الاهتمام العام في سبعينات القرن العشرين، بدءا من الغرب. ثم إن تحولا في المناخات والحساسيات الفكرية في الغرب قبل نحو جيل سحب الثقة من “السرديات الكبرى”، ومنها التنوير والماركسية وفكرة التقدم ذاتها. وعلى هذا النحو ثبّت تحول الحساسيات تحولات واقعية كانت قلقة.
أما عندنا فقد كان التقدميون، من الصنف البعثي خاصة، مثالا غير محترم على العموم، جمع بين عنف يفوق ما مارسه “الرجعيين” قبلهم، ومع ثروات تزري بما كان تحصل لسابقيهم من “إقطاعيين” و”برجوازيين”، ومع فشل تام في تحقيق ما أعلنوه هم بالذات من أهداف قومية واجتماعية. هذا فضلا عن تأثرنا بالمناخ العالمي الذي التقت فيه معاداة الغرب للشيوعية مع فشل هذه الحقيقي.
كان مفهوم التقدم يدخل شيئا من النظام والنسقية على تفكير وعمل المثقفين والمناضلين العرب “من أجل عالم أفضل”، ويؤسس في كل مكان لمشروع مستقبلي منفتح على الكوني. فأيُّ عالم أفضل اليوم دون مفهوم يوحد العدالة والمعرفة والتاريخ؟ أحد وجوه مشكلاتنا السياسية والثقافية اليوم أن “الأفضل” بات بلا سند كوني وتاريخي. نحن مهددون في مثل هذا الحالة بأن يكون لكل منا أفضله. ثمة أفضل للإسلاميين ربما ينسب نفسه لنصوص مؤسسة وللأكثرية الدينية، وأفضل للعلمانيين والليبراليين ينسب نفسه للعلم والغرب المتقدم، وأفضل للشيوعيين ينسب نفسه للعدالة و”الجماهير الشعبية”..، لكن لا يبدو أن أحدا يثق أن المستقبل معه، أو أنه والتاريخ يسيران على درب واحد. الجمع بين الأفضل الأخلاقي والعلمي وبين المستقبل لم يعد متاحا.
لقد خسرنا مفهوما لا منافس له لشد أزر جهودنا الفكرية والسياسية المحتملة من أجل تغيير أوضاعنا. هذا شتت شمل عملنا وأضعف محصلته المحدودة أصلا.
لكن هل هناك أزمة أساسية فعلا في مفهوم التقدم ذاته على نحو ما ترى تيارات فكر ما بعد الحداثة الغربية؟ وهل يقتضي مفهوم التقدم حتما أسطورة التقدم، أي طوبى خلاصية تتحقق في نهاية تاريخ كوني ذي اتجاه واحد، لا يبالي بالمآسي الإنسانية، بل يقتضيها كوقود ضروري لسير “عجلة التاريخ”؟ ننحاز إلى فكرة أن مفهوم التقدم مفيد بقدر ما يكون أداة نقدية، وإن كنا غير مضطرين إلى التسليم بكون التقدم قانونا كونيا أو دستورا لتاريخ العالم على نحو ما ظهر في فلسفة هيغل. إن تصور التقدم كأداة نقدية هو ما يمكن أن يكون بديلا متماسكا عن جعله أسطورة عالمية متعالية على المجتمعات وتواريخها الواقعية، كما عن رده إلى بعد إجرائي محض، ربما يقاس بمتوسطات الدخول أو عدد السيارات أو ما شابه.
يبدو لنا التقدم مفهوما مفيدا لنقد شتى صنوف الانعزالية التاريخية والثقافية والسياسية، سواء اتخذت اسم القومية أو الأصالة الدينية أو الشيوعية. ومن ناحية أخرى ينطوي المفهوم من ذاكرته السابقة على انحياز إلى الضعفاء والمحرومين والمهمشين ضد أصحاب الثروة والسلطة والمؤسسات التي يقيمونها لحفظ سلطتهم وامتيازاتهم، وإن دون الإحالة إلى طوبى مساواتية ناجزة التصور. وبهذه الصفة هو مفيد أيضا لنقد القوى الدولية المسيطرة، وليس فقط لأصحاب السلطة والثروة في بلداننا. ثم إنه مفيد أيضا لنقد أو التحفظ على الأفكار والنظم الاجتماعية ذات الاستلهام الديني التي تميل إلى تجزئة وتفتيت العالم من جهة، وإلى فرض ما تراه صائبا بالقوة من جهة أخرى. ولعله بعد مناسب لنقد التشكلات الإيديولوجية والسياسية الحداثية السلطوية والمغلقة، مثل تنويعات شيوعية القرن العشرين، ومثل العلمانوية (العلمانية المطلقة) ومثل الليبرالية المطلقة أو الليبرالوية (أصولية السوق وعبادة الفرد والهوى الغربي). وربما أيضا لنقد تيارات ما بعد الحداثة نفسها التي تحمل بدورها تصورا مفتتا وتجزيئيا للعالم.
إن صح ما نقول فإن مفهوم التقدم يحتفظ بقيمة نقدية لكل ما هو مغلق وغير منصف، ويستبطن نزوعا عالميا، وإن كان لا يحيل إلى مشروع خلاصي ولا إلى نهاية ما للتاريخ. إننا نتوسله للاعتراض على تشكّلات سياسية واجتماعية وإيديولوجية قمعية ومغلقة، دون أن نحيل بالضرورة على بديل جاهز ونهائي.
هل هذا ممكن؟ مفهوم غير عالمي، مردود إلى أداة نقدية، لا يطل على طوبى انعتاق نهائي؟ يمكن أن نجادل كثيرا في ذلك. لكن لا نرى فرصة لإنقاذ مفهوم التقدم دون تحويله من أسطورة عالمية إلى أداة نقدية. ولا نرى بديلا عن المفهوم ذاته الذي تلتقي فيه مدركات الأخلاق والتاريخ والمعرفة والعالم.
الحوار المتمدن 24 فبراير 2009
سنغافورة حجةٌ لنا أم علينا؟
منذ فتح أبناء جيلي أعينهم على الحياة، وهم يسمعون الوعود بتحويل البحرين إلى “سنغافورة الخليج”.
كبرنا ورأينا رويداً رويداًً كيف تحوّلت بلدنا إلى بحرين أخرى، ولكنها لم تتحوّل حتماً إلى سنغافورة. هناك جوانب إيجابية كثيرة نفخر بها كبحرينيين، من القضاء على الأمية وتحسين المستوى الصحي والتوسع العمراني… والأهم روح الإخاء والتعايش والتسامح الذي ورثناه من الآباء.
الآن… وبعد ثلاثة عقود من الاستقلال، وثماني سنوات من الإصلاح، يجتمع مئة وخمسون من النخبة المثقفة، من تيارات فكرية وسياسية متنوعة، بينهم نواب ووزراء سابقون، ليناقشوا مبدأ «تكافؤ الفرص»، باعتباره الطريق الطبيعي نحو إعادة الاعتبار لقيم المواطنة الحقّة، بعيداً عن الاستزلام السياسي، والتمييز المذهبي والعرقي والمناطقي الذي أصبح آفةً ينخر في العظام ويأخذ البلد بعيداً عن بر الأمان.
المؤتمر ناقش ست أوراق عمل، مختلفة المشارب الفكرية، إلا أنها كانت تتفق جميعاً على تشخيص الداء، وتدعو لعلاجه قبل أن يفتك بالجسم ويسمّم البدن.
المؤتمر الذي قرع الجرس لم يحظ بتغطية التلفزيون الرسمي، والمتابعون من القرّاء اطلعوا على أوراق ومناقشات المؤتمر من خلال الصحف، التي تباينت في اهتمامها بإبرازه، بين من أفردت له صفحة أو أربع صفحات، ومن أبعدته إلى صفحة هامشية، أو اختزلته في خبرٍ صغيرٍ من عشرة أسطر.
آخر أوراق المؤتمر… عرضتها «جمعية الإخاء الوطني» بعنوان «المواطنة وتكافؤ الفرص… تجارب دولية ناجحة»، قدّمتها زهراء مرادي، التي استهلتها بكلمة لإبراهام لنكولن يقول فيها: «لا يجوز لأي شخص أن يطمح في أن يكون أكثر من مواطن، وألاّ يرضى على أي شخص أن يكون أقل من ذلك».
المواطنة تقوم على جملة من المبادئ، من أهمها العدالة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية)، والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص. والمواطن الذي يشعر بالتمييز والتهميش والقهر الديني يكون أمام خيارين: إما التبرم والرفض، وإما الانكفاء والكفر بالوطن. من هنا لا تتفق المواطنة مع الانغلاق على الفئة أو العشيرة أو الحزب أو الطائفة، بل تعني الانفتاح على كل الأطياف في الوطن.
وتستعرض الورقة ثلاث تجارب بشرية: انتخاب أوباما في أميركا، وحقوق المرأة في المغرب، وصناعة المواطنة في التجربة السنغافورية، وهي التجربة التي تستحق الوقوف عندها لأننا كنا مبشّرين باقتفاء أثرها منذ ثلاثة عقود، فارتفعت هي إلى القمة، بينما تقهقرنا إلى هذا القاع السحيق من التجاذب الطائفي والاحتقان السياسي الذي لا نعرف كيفية الخروج منه!
سنغافورة ظهرت كميناء صغير في القرن 19، وخضعت للاستعمار البريطاني حتى استقلت في 1957، واتحدت بعد عامين مع ماليزيا، لتعود وتنفصل عنها في 65، فعمرها لا يتجاوز نصف قرن، وتعدادها 4 ملايين، 80 في المئة منهم صينيون، والبقية مالايو وهنود وأعراق أخرى. ونجح بناة الدولة في تحويل هذا الميناء المنسي الصغير إلى مركز مالي عالمي، ومجتمع آمن مستقر، قوامه الإنسان الكريم. ونجح هذا المجتمع المتعدّد الأعراق والأديان والثقافات، في المحافظة على هويته الثقافية المتنوعة مع صناعة المواطنة الحقّة.
مفتاح التجربة تعزيز مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية وبناء الإنسان وتجديد مناهج التعليم باستمرار. وبذلك تفوقت في مؤشرات التنمية المستدامة والشفافية والتنافسية، فضلاً عن مؤشرات الإدارة الرشيدة الستة: المشاركة السياسية، المساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، سيادة القانون ومحاربة الفساد. كل ذلك اعتماداً على الاستثمار في العنصر البشري والثقة بالمواطن؛ واعتماد الكفاءة وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص عبر لجان نزيهة تخضع للمراقبة؛ وعدم فرض لغة أو ثقافة معينة على حساب أخرى في مجتمع تعدّدي؛ وإشراك الجميع في مسئولية حماية الوطن.
حتى سياسة التجنيس في سنغافورة قامت على المكاشفة والشفافية بشأن آلياته وشروطه، والكلّ يعرف عدد من يتم تجنيسهم سنوياً، ولا يفاجأون بزيادة ربع مليون نسمة خلال 3 سنوات، فتتعرّض البنية التحتية الصحية والتعليمية والإسكانية والخدمية لضغوط تنهك اقتصاد البلد وتهدّد مستقبل أجياله.
نجحت سنغافورة لأنها أقامت نظامها على احترام الإنسان وتكريم العلم وتوازن الحقوق والواجبات… بينما نواجه اليوم وضعاً متشظياً طائفياً، محتقناً سياسياً، تتآكل فيه الأحلام حتى أصبحنا نحنّ إلى رائحة التعايش والتوافق والتسامح والوئام… حتى تقلّص طموحنا لئلا نكون أقلّ من درجة مواطن في هذا الوطن!
الوسط 24 فبراير 2009
في سجال الميزانية
تابع يوميا السجال الدائر بين اللجنة المالية والاقتصادية بمجلس النواب وبين وزارة المالية حول المعلومات والأرقام الواردة في مشروع الميزانية ستجد رفض اللجنة للميزانية الجديدة يشير إلى عمق الخلاف بين الطرفين ليس حول دقة المعلومات فحسب ولكن حول توافرها بالأساس.
مشروع الميزانية العامة ومراقبة سيرورة المال العام وكيفية إنفاقه وبنوده المعلنة وغير المعلنة أهم عمل يضطلع به المجلس المنتخب, والمداولات والنقاش المستفيض حوله تفتح عيون المواطنين وتنير الرأي العام وتكرس الشفافية.
الميزانية المتنقلة بين الحكومة وبين المجلس اختلافا واتفاقا ومفاوضة ومساومة تشير أيضا إلى أن ثمة اختلاف بينّ بين اولويات النواب واولويات الحكومة, الحكومة تريد الأمن السياسي والعسكري وتمنحهما الاهتمام والنواب يريدون الأمن المعيشي والغذائي والتعليمي والصحي والسكني للمواطنين الذين منحوهم أصواتهم وثقتهم وأوصلوهم إلى قبة البرلمان.
اذا تحقق الاستقرار الاجتماعي وساد السلم الأهلي وجرى التوافق بين الحكومة وبين مواطنيها حول تمكين الدولة وانجاز مشروعها الحداثي الديموقراطي العصري ذي المرجعية الدستورية والقانونية القائم على العدالة والإنصاف وتوزيع الثروات ورفع شأن الشرائح الضعيفة وغير الممكنة, فمن الطبيعي أن يقل الاعتماد على وزارات الأمن والداخلية, المعادلة بسيطة ولا تحتاج إلى كثير التنظير, وان كنا نسعى إلى التطوير الحقيقي فالدول تتطور بموازنات الأبحاث ووزارات العلم والجامعات وإنماء الثقافة والحريات والحقوق والمعرفة وتمكين النساء.
ونحن دولة تسعى إلى زيادة نموها وتمكين اقتصادها وترسيخ العدالة في إنفاقها ورفع شأن مواطنيها وايلاء القطاع الخاص الاهتمام الأكبر وجعله محركا للنشاط الاقتصادي وجاذبا كما تقول الرؤية الاقتصادية 2030 فما احرانا اليوم باعتماد سياسات وممارسات ديموقراطية تنتهج الشفافية في إنفاق المال العام وتوظيفه التوظيف الأمثل وألاحكم والأكثر فائدة واستدامة.
الشعوب تتقدم بالديموقراطية والشفافية والعلم ومكافحة الفساد ونشر المعلومة وإرساء مبادئ التخطيط في تسيير حياتنا ومعاشنا , ومن أسف أن الحكومة تتحفظ على بعض المشاريع الحيوية المهمة التي تعين على التحول الديموقراطي الحقيقي الجاد وتعزيز النزاهة وإعادة قسمة المال والأرزاق بما يتفق ومبادئ العدالة والديموقراطية.
وتتمثل مطالب النواب في مطالب عامة ومكررة وأخرى آنية ومتعلقة بالوضع الاقتصادي الراهن والأزمة الراهنة التي تسعى جل الحكومات اليوم لضخ المزيد من المال لإنقاذ الوضع خشية تفاقمها وانسحابها على بقية القطاعات تجنبا للركود وتقلص فرص العمل انتشار الفقر والاضطرابات السياسية, زمن الديموقراطية هو زمن الأسئلة المستفيضة والإجابات الواضحة والمداخيل والمعلومات الشفيفية المفصح عنها, ان البنود السرية او المعتمة في اي موازنة مالية تزرع الشكوك وتنمي عدم الثقة, من حق المواطنين معرفة أين ذهبت وفورات السنوات الماضية النفطية , كما ان من حقهم الحصول على علاوات الغلاء والسكن والإيجار, كذلك زيادة الاعتمادات المخصصة للتربية والصحة ومشاريع البنية التحتية والخدمية التي ينتظرها المواطن.
ألأيام 24 فبراير 2009
المطالب المعيشية
لم تكن يوما مشكلات البحرين تنصب في الانتماءات الطائفية المتعددة لأبنائها، ولكن الضغط السياسي ونقص المشاركة السياسية أثر كثيراً في الحراك الاجتماعي، وزاد من ذلك تشويش العلاقات واهتزاز الثقة التي اتسعت دائرتها لأسباب عديدة من بينها عدم تحقق مطالب معيشية للمواطن، واتساع الفروقات الطبقية بسبب عدم توجيه مقدرات الدولة نحو تنمية متوازنة لتلبية احتياجات المواطنين في العيش بكرامة، ولتطوير البنية التحتية للأحياء السكنية، إذ أصبحت قضية السكن، مثلاً، في وقتنا الحالي مصدر قلق لمعظم الأسر البحرينية، وفي الوقت الذي تتكدس فيه عوائل كثيرة على بعضها البعض بانتظار وحدات سكنية وهي تشاهد من حولها مجمعات جميلة مخصصة ليست لهم.
لقد أدى الاستمرار في تغاضي الأسباب المعيشية لمشاكل البحرين الداخلية في رفع كفة فئة دون أخرى وهذا بالطبع لا يخدم الصالح العام، بل إنه إهدار للوقت وتبذير لأموال الدولة بحثاً عن حلول أمنية نعلم جميعا أن آثاراها مؤقتة في حال نجحت في تحقيق الأمن، لأن معالجة الجذور تتطلب النظر في سبل تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه تتطلب تحقيق مطالب معيشية عادلة.
واقع اليوم المعاش يفرض تقديم بعض التنازلات وتصحيح بعض الجوانب المعيشية من الدولة التي يمكنها أن تفعل ذلك من خلال تنفيذ بعض الوعود التي سمع عنها الناس كثيرا، لاسيما في جانب رفع مستوى المعيشة وتوفير وحدات سكنية لائقة وتحسين البنية التحتية، وتوسيع إمكانيات المدارس والمراكز الصحية، وتوفير حدائق وخدمات عامة والحد من الفساد وإهدار المال العام، وهذه كلها بالإمكان أن تعالج لنا قضايا مستعصية، بل إن تحقيقها يدفع باتجاه تهدئة الخطابات السياسية التي تنطلق من واقع مؤلم لفئات غير قليلة من الناس.
هذه الأمور تحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس بهدف تعزيز السلم الأهلي في البحرين والعيش تحت مظلة الوحدة الوطنية. بعض الأمور مازالت دون مستوى الطموح وكما يبدو من مؤشرات الساحة المحلية فإن السياسات الحالية قد تدفع باتجاه الافتقار لشريحة كبيرة من المجتمع (سنة وشيعة)، لا فرق بينهما، ومن يقول عكس هذا الكلام فإنما هو في واد آخر دون أن يرى مناطق البحرين المختلفة. إن المطالب المعيشية لجميع فئات الوطن – لو تحققت – فإنها تخفف من التوترالسياسي، وهو كلام قيل عنه الكثير وينتظر أن تلتفت إليه الدولة.
الوسط 24 فبراير 2009
عـــــلاوة الــغــــلاء…!
أجلّ مجلس النواب ، في جلسته اليوم 24/2/2009،مشروع قانون اعتماد الموازنة العامة للسنتين الماليتين 2009- 2010 ، إسبوعاً ، بناءً على طلب رئيس لجنة الشئون المالية والإقتصادية .
وجاء في جريدة البلاد البحرينية بعددها المرقّم 133 والصادر يوم الثلاثاء 24/2/2009، أن عدداً من الإقتصاديين وتجّار المواد الإستهلاكية البحرينيين ، المتحدثين في الندوة التي إستضافتها الجريدة ، أكّدوا : ” على أن الإنخفاض الحاصل في أسعار المواد الإستهلاكية ، وبالأخصّ الغذائية ، هو إنخفاض مؤقت وسرعان ما تعود إلى الإرتفاع لعدم زوال الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى إرتفاعها في مطلع العام الماضي 2008 و على رأسها إرتفاع نسبة الطلب أمام العرض والتغيرات المناخية …حيث كان هناك نقص في الحبوب والمواد الأولية التي تم بموجبها توجيه إستخدامها لصناعة الوقود الحيوي “.
وقال أحد المتحدثين : ” وكما إرتفعت الأسعار خلال 5 شهور بمعدل 200% وإنخفضت بعدها لأسباب غير منطقية وسوف تعود إلى معدلاتها خلال 4 شهور”.
وقال آخر : ” …أن سلة الغذاء التي تم الإحتساب على أساسها من قبل الجهات الرسمية غير واقعية بإعتبارأن المواد التي يصرف عليها المستهلك كثيراً لا زالت مرتفعة …يجب أن يكون هناك دور للدولة وقد أثبت هذا المبدأ صحته وأهميته في الغرب …ليس فقط الدعم ، بل ممارسة دورها الرقابي والمتابعة …”.
نرى مما تقدم ، ومن مجمل الإقتباسات المطوّلة المذكورة أعلاه ،ان آفة الغلاء ، التي كانت وما زالت ، تطحن المواطنين من ذوي الدخل المحدود ، من أبناء الطبقات الكادحة والوسطى، ستدور وتدور، وأن المظاهر الخادعة بإنخفاض نسبة التضخم ، من خلال هبوط أسعاربعض المواد الإستهلاكية ، سرعان ما ستزول بمعاودة إرتفاع أسعارتلك المواد مرة أخرى وفي القريب العاجل جداً.
ان علاوة الغلاء ، التي إتفقت عليها جميع كتل مجلس النواب ، ضرورية جداً لحفظ الحياة الكريمة للمواطنين بحدّها الأدنى ، ويجب عدم المساومة عليها أو التلكؤ في الطرح الجاد والمثابر ، للحصول على الموافقة الرسمية في هذا المجال ,وإدراجها حالاً في الموازنة العامة للسنتين الماليتين 2009 – 2010 . بعد أن أشبعت نقاشا ًو بحثاً مستفيضين .
إذا كانت الملفات العالقة الشائكة ، لم تجد لها حّلاً ، عن طريق مجلس النواب ،بسبب طبيعة تركيبته الطائفية وغير المتجانسة ، التي أدت إلى المناكفة والجدل غير المجدي ، نتيجة للإستقطاب والتجاذب الفئوي ، فإن الوصول للحصول على علاوة الغلاء ، هو محطّ إجماع شعبي عام متفق عليه ، بسب الحاجة الإقتصادية الماسّة لذلك .
المواطنون ، كل المواطنين ، بإنتظار الفرج النسبي ، وأن تتمخض المساعي النيابية عن موافقة رسمية على إعتماد علاوة الغلاء ، درءاً لزيادة الإحتقان ومنعاَ للإحباط ، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ِ.
إضــــــــــاءة
يـا نـاس أن الـجــوع كـافــرْ وعـلـى بـطـون الـعـوز جـائــرْ
والـفــقــــر أنـشــب نــابــه فــي عـيـشـــنــا بـعـد الأظـافــرْ
فـــتـعـاهـدوا طـلــــب الـحـــقـــوق وهـــزّ إغـفــاء الـضــمــائــــرْ
غــــدكـــم سـيــصـبــح أجــمــل الأيــــام فـالـمــطـلــوب حــاضـــرْ
تاريخ وراهن اليسار الإيراني (3)
سيلعب حزب مجاهدي الشعب شكلاً آخر من العدمية الدينية والدكتاتورية، فقد كان منافساً لدوداً لحزب الشعب (تودة)، ومزايداً على طريقه النضالي، فاعتمد طريق المغامرات والارهاب، وقد عزز دائماً قبضات الحكومات على الحياة السياسية الشمولية، سواء في زمن الشاه أم في الزمن التالي. لقد قدم خدمات ثمينة لقوى العسكر والمخابرات المتصاعدة المهيمنة على النظام الديني الشمولي فأعطاها الحجج لتوسيع الأجهزة العسكرية التي ما لبثت أن هيمنت على الحياة السياسية الإيرانية ذات الجذور المحدودة في الديمقراطية. كان النظام بحاجة إلى مثل هذا التنظيم لتبرير قمعه المتصاعد لقوى اليسار، وللخلط المتعمد بين اليسار السلمي واليسار الارهابي.
لقد كان الإقطاعُ الديني في التهامه الخيرات الاقتصادية من قبل العسكريين والموظفين الكبار، مرتعباً من قوى الشعب الثورية التي قامت بمأثرةٍ كبرى، ولهذا فإن قمعَهُ سوف يتسع لقوى اليسار والليبرالية، لمنع كشف حساب سرقاته وإنشاء دولته العسكرية الكبيرة. لقد حاول اليسارُ السلمي مداهنة النظام من دون جدوى، وقد حولها النظام إلى صراع الإيمان مع الكفر، لا صراع اللصوص مع التعرية الاجتماعية، هنا تأتي الجذورُ الخربة لليسار العدمي تجاه الدين لتسهم في عملية ذبح اليسار السلمي الذي رفع مثل هذه المومياوات القادمة من كهوف الإقطاع إلى مسرح التاريخ المعاصر لتتحول إلى دراكولات تلتهمُ الأخضرَ واليابسَ من لحم الناس. وكان خراب مجاهدي خلق أكبر فقد اعتمد على ما هو دموي في التاريخ، وحوله إلى سياسة، فرجوي هو إمام غيبي له مطلق الصلاحية في استصدار الأوامر بقتل البشر، فبدا ذلك كأنه ثنائية المجوس القديمة بين إله الخير وإله الشر، فالإلهان يتقاتلان وكل منهما يدمرُ الآخر، ولا مسرح ديمقراطيا يضعُ حداً لقراراتهما الرهيبة. وهذا من الممكن أن يكون مادة مهمة لصعود فاشية عسكرية تنقل مثل الإلهام الشيطاني لخارج الحدود. وهذه العقلية الثنائية، غير الجدلية، غير التركيبية، لا تقبل إلا بالنور أو بالظلام. إما نحن، وإما الدمار، إلا بالذات القومية الدينية المرفوعة كإله معبود وحيد، وزوال الأمم الأخرى والأفكار (الدخيلة). ومن هنا فإن الرئيس خاتمي حاول أن يلغي هذه الثنائيات المتضادة بشكل كلي، من داخل العقلية الدينية وباتجاه الانفتاح النسبي المحدود على الآخر، وعلى الأفكار الإنسانية. والغريب هنا أن نجد أن الأفكار الامامية حتى في العصور القديمة كانت هي السباقة للحوار والاستفادة من الأفكار الإنسانية، ولكن عملية تجميد الاثني عشرية من قبل الإقطاع الديني، كانت نتيجة الغزوات الرهيبة للأمم الأخرى داخل إيران من عرب ومغول وافغان، حتى تخلق الوحدة الحديدية للأمة الفارسية الصاعدة بين كل هذه الاقتحامات، لكن الطبقة البيروقراطية العسكرية الدينية المعاصرة وسعت مثل هذا الخوف ووظفته لمصالحها ولعدم وجود رقابة شعبية ولعدم حدوث انفصال من قبل الشعوب المحكومة من قبلها. ومن هنا كان سقوط القوتين المعارضتين الكبريين: تودة وخلق، ومن قبلهما الليبرالية، قد جعل الساحة خالية إلا من التوالد داخل النسيج الديني الشمولي ذاك. لقد أدى القمع الواسع واستخدام الفقراء المتعصبين ضد الحرية والتنوير وإنشاء أجهزة ومنظمات للرعاية ولدعم عائلات القتلى واستمرار استعمال المنظمات الدينية المتجذرة خلال قرون، إلى صعوبة نشوء معارضة جماهيرية، إلا من بعض الكتل المثقفة العاجزة عن إنشاء منابر فكرية علنية، ومن هنا نجد ان الشعب الإيراني هو أكثر الشعوب التي تنطق بشكل حر لكن من الخارج، فهناك «ما يزيد على خمسين محطة إذاعية وتلفاز متصلة بالمعارضة في المنفى وتبث برامجها بالفارسية«، (فرج سكروهي، مأزق المعارضة الإيرانية، موقع قنطرة حوار مع العالم الإسلامي). والمعارضات النخبوية كثيرة في إيران وخارجها، فلاتزال القوى اليسارية القديمة موجودة، واستعادت المعارضة الليبرالية بعض حضورها، وظهرت المعارضة الملكية، وتوجهت قوى كبيرة لمساندة الإصلاحيين داخل النظام لأهداف شتى. لكن تظل إيران – رغم التطور الصناعي الكبير فيها – أنها لم تقم بثورة ديمقراطية اجتماعية، أي أن مسائل حريات الفلاحين والنساء وتفكيك الهيمنة العتيقة على القرية والأسرة الأولية في كل تطور حديث نسبي لم تقم بها، فحشود القرويين الخانعين في ظلام العصور الوسطى لايزال يخيم على هؤلاء الفقراء المستغلين بضراوة، الذين يؤيدون كذلك الوعي الديني التقليدي الذي لا يفهمونه بعمق، بطبيعة عيشهم، وهم سيطروا على أحياء المدن الكبيرة، في حين ان النخب من الفئات الوسطى لا تمتلك لا الفهم الشرعي ولا الفهم النضالي العصري لإقامة علاقة بهؤلاء، مثلهم مثل عمال الصناعات البسطاء كذلك، ومادامت هناك إمكانيات للعيش فسوف يستمرون في سلبيتهم السياسية، لكن إمكانيات العيش هذه تتضاءل، وتضخم الأجهزة البيروقراطية والعسكرية يلتهم الموارد، والتناقض بين هذا الجمهور وتلك الأجهزة يزداد. إن نهج المغامرات السياسية والعسكرية يؤجج مثل هذه المعارضة الشعبية باتجاه الانفجار الفوضوي، في حين ان نهج التطور السلمي والحريات وتحجيم العسكرة يقوم بترتيب وضع بديل عقلاني متدرج يمنع إيران من الانزلاق لسيناريوهات المغامرين العسكريين التي يبدو حلم القنبلة النووية تتويجا لها، وربما هو كذلك لحظة الكابوس فيها. إن ذلك يتطلب من القوى الحديثة الديمقراطية فهم الإرث الإسلامي ونقد الإقطاع من خلاله، ومن خلال مواد الحياة العصرية وإمكانياتها الفكرية والتوجه لمهمات التحول الديمقراطي الأولية، أي تجميع القوى السياسية كافة لتحقيق مهمات مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، بما يغير حياة الملايين من الفلاحين، والنساء، والفقراء، فهؤلاء هم المخزن الرئيسي للإقطاع، وهم أداة تغييره كذلك، وبضرورة إعادة اكتشاف الإرث الديني للأئمة المناضلين ولسيرورة إيران المعقدة القومية، عبر التراكم وليس عبر القفزات والمغامرات.
صحيفة اخبار الخليج
24 فبراير 2009
«تدوين» الشباب ومُدوناتهم
يُلفت النظر أن واحدةً من دور النشر المصرية المرموقة والرصينة, هي دار الشروق, اختطت تقليداً بإصدار ما يكتبهُ الشبان المصريون في مدوناتهم الاليكترونية في كتب, ضمن سلسلة عنونتها بـ»مدونة الشروق». وقد تصفحتُ بعض هذه الكتب, لا بل أني اقتنيتُ أحدها وقرأتهُ كاملاً, وهو بعنوان:»أرز باللبن لشخصين», لمؤلفته رحاب بسام. على غلاف الكتاب وجدتُ العبارة التالية: «الطبعة الرابعة», وفي هذا ما يشير إلى أن مدونات الشباب, وقد أصبحتْ كتباً تحظى بإقبال عليها, يُشابه أو يزيد على الإقبال الذي تحظى به المدونات ذاتها, وهي لما تزل بعد في حيزها الاليكتروني, قبل أن تتحول إلى نسخ ورقية. كما هو حال مدونات الشباب, فإنها تتضمن خليطاً,أو فلنقل مزيجاً, من الأفكار والتأملات والتعليقات على مشاهد من الحياة, أو على كُتب قُرأت, أو أفلام شُوهدت, أو حتى أغاني سُمعت. وتظل اللغة ونباهة الالتقاط هما معيار الموهبة التي تميز مدونة عن أخرى, فليس كل المدونيين على نفس الدرجة من هذين الأمرين. ستحار في أي جنس أدبي تضع ما تحتويه المدونات الذكية العائدة لشبان أو شابات موهوبين, كما هو حال صاحبة «أرز باللبن لشخصين». أهي خواطر شبان مرهفي الإحساس يعبرون عما تختلج به أرواحهم؟ , لا إنها أكثر من ذلك. أهي قصص قصيرة أو قصيرة جداً مستوحاةٌ من معايشة الواقع وما تهفو به النفس؟ لن أقول أنها أقل من ذلك أو أكثر, بل سأكتفي بالقول أنها مختلفة, كأن طبيعة المدونة اقتضت لغةً أخرى فيها من التكثيف وأحيانا السخرية اللاذعة, هي غيرها التي يمكن أن نجدها في القصة القصيرة, أو حتى القصيرة جداً. أهي مقالات موجزة, مكثفة, لا ليست كذلك تماماً, حتى وإن بدا بعضها قريباً من روح وحبكة المقال. أهي يوميات من يُدونها أو تدونها؟ لعلها أقرب إلى ذلك فعلاً, لكنها أيضاً ليست من ذاك النوع من اليوميات الذي يرصد «الحواديت» التي يعيشها كتاب المدونات, إذا ما أخذنا من الكتاب الذي نحن بصدده نموذجاً. أنا أميل للاعتقاد أن جنساً جديدا من التعبير تنشأ إرهاصاته الآن, عماده ما ينشر على المدونات, قد نطلق عليه اسم التدوين, انطلاقا من كون من يكتبونه صاروا يعرفون بـ» المدونيين», وقد نُطلق عليه اسما آخر. لننتظر ونرى. هذا الأمر حفزني أكثر على العناية بمدونات الشباب في البحرين, والتي وجدت في بعضها, على الأقل, ما هو جدير بالتوقف عندها مطولاًن للتعرف على طبيعة الانشغالات الشبابية اليوم, من موضوعاً تتراوح بين السياسة والثقافة والخواطر الوجدانية وما إلى ذلك. وقد تمنيت على الإعلامي والمسرحي حسين العريبي رئيس جمعية الشبيبة البحرينية لو أن الجمعية نظمت حلقة بحث حول مدونات الشبان والشابات البحرينيين لتناولها من الأوجه المختلفة, فلعل مثل هذه الحلقة, حتى لو جاءت على شكل طاولة مستديرة للحوار, مكن أن تفتح لنا آفاق معرفة أوسع بهذا الشكل التعبيري الجديد, وعلى الإشكالات والقضايا التي يواجهها المدونون, ولعرفتنا على تجاربهم وخبراتهم, وقد وعد حسين بأن تجد هذه الأمنية الاهتمام من الجمعية. ونحن في الانتظار.
صحيفة الايام
24 فبراير 2009
إلى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم؟!
سيطرت حالة الانفعال والغضب أثناء الأسابيع الثلاثة التي شنتها الآلة العسكرية الوحشية على غزة «والتي أنتجت منها مشاهد هزت ضمير العالم» فهل كانت تلك الحالة الانفعالية الداخلية للإنسان والمتفجرة بشتى أشكال التعبير من الممكن أن تنبع بنفس الدرجة فيما لو كنا ننتمي لزمن الحرب العالمية الأولى والثانية «والتي أورثت خلفها خمسين مليون قتيل وأكثر من مائة مليون جريح ؟ اعتقد إن الإجابة ستكون بالنفي» إذ يحتاج الناس العاديين وغير العاديين إلى مؤثرات انفعالية تدفعهم وتشحنهم لذلك الغضب والانفعال «خاصة وان غياب الوعي يشكل عنصرا أساسيا لتهيئة تلك الحالة . من هنا برهنت الأداة الإعلامية المعاصرة كالقنوات الفضائية كقوة جديدة مهمة في تهيئة الرأي العام والهيمنة على مشاعره» وهي قادرة في أجواء من هذا النوع على صنع فكرة الألم والانفعال والتوريط والدفع في الاتجاه الذي ترغب وتحريك الانفعالات بالدرجة المطلوبة .
وبالنتيجة في كل الحالات أنها تصنع إنسان هذا العصر بالشكل الذي ترغبه انفعاليا هذا إذا ما عرفنا إن الإنسان العادي في الشارع مهيأ نفسيا لعملية الدفع واستخراج حالته الانفعالية المخزنة . ولولا تلك المشاهد «الصورية»لما كان بإمكان المذياع أن ينتج تلك القوة العنيفة من الاندفاع الغاضب . وإذا ما أدركنا إن الملايين العادية من الناس تحركها العفوية «والغريزة السياسية» المرتبطة بها تلك اللحظة فبدون المشهد لا تستثير تلك الصور غريزة الإنسان المعاصر الذي بات إلى حد كبير مرهون بالصورة طبقا للدراسات التي قالت لنا عن حجم سيطرة التلفاز على أطفالنا والساعات الطويلة التي يجلسون فيها أمامه .
ويبدو إن العقد الأخير من القرن المنصرم والعقدين أللاحقين من الألفية الثالثة وفرت للمجتمع تلك الأجهزة الرخيصة من أدوات الاتصال وساهمت في صنع وسائل الاستقبال ( الانتينا) التي وجدناها في العالم النامي تغطي بيوتا متراصة فقيرة من الصفيح تعيش على درجة عالية من الكفاف «غير أن تملكها لتلك الوسائل باتت ليست «معجزة أو مستحيلة وإنما ضرورية كالخبز». نتفق عن إن الثورة أو الموجة الثالثة للثورة للمعلوماتية» ولكن ما لن نوافق عليه قدرة تلك الثورة على حماية ذاتها من تناقضات الثورة . والسؤال الأهم لتلك الثورة المقنعة بكل أشكال اللعبة والتضليل لفن التسويق «ليس للسلعة وحدها – وهي مركز الهدف من هذه الثورة – بل وبصنع عالم متزايد من الفقراء والفقر تعبث بهم سلسلة من الأفكار المصنوعة في المختبرات السياسية العليا للذين تحولوا بحد ذاتهم أدوات منفذة رخيصة لأثرياء العالم الجدد «وإلا وجدوا أنفسهم في طابور العاطلين» فقد وفرت هذه الحقبة بدائل عنهم تنتظر دورها».
في ظل هذا التشكل العالمي الجديد للثقافة والإنسان «كيف يتم تدمير إنسانية الإنسان» ومن ضمنها شعوره وتضامنه مع حجم الألم العالمي والإنساني؟ والى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم من كل مشهد يغطي أرجاء العالم ؟ وكيف بإمكاننا أن نشوش وندمر مخيلتنا الإنسانية المفرطة بالحساسية حول كل ما هو إنساني وجميل ونبيل ؟ هل مطلوب منا أن نغض الطرف عن هؤلاء الذين باتوا بؤساء العالم ويموتون من الفقر والجوع وأن لا نتألم لأطفال وأبرياء يسقطون تحت القنابل أو لعالم ليس بالضرورة أن يدخل حربا. هل مطلوب من وعينا الإنساني أن يقفل غرفته ويعيش وحيدا في ظلام داكن ؟ وإذا ما أصبحت ثقافتك عالمية وإنسانيتك ليست محصورة بالجغرافيا «فكيف بإمكانك أن ترى الفجيعة الإنسانية – تتجاوز غزة» وليس الدين أو القومية وحدهما من يحرك مشاعرنا ؟ هل بإمكانك أن تنام بكل سهولة وقلقك الكوني صار مهتما بالبيئة التي ستتركها ملوثة كإرث لأحفادك فليس رصيدهم المصرفي وكل سبل العيش سيمنعهم يوما من زلزال وطوفان وحرائق «فعندما يغضب كوننا الخارجي لن يكون لديه قائمة من يختاره» ويصنف لحظتها العالم والناس وفق أجندة دينية وقومية وأممية «أنها اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان إنسانيته» ويجد نفسه مجبرا على الانجرار نحو التعاطف الإنساني.
ما صنع فكرة الصليب الأحمر خلال الحرب «هو أنها بحثت عن تلك الفكرة التي نناقشها وهو إلى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم؟ ربما تلك النافذة القصوى من الألم يدركها الآن من لديهم عائلات وأشخاص يعانون بقلب مكتوم حالة أعزاء باحتياجات خاصة. وإذا ما اهتم الناس بمشهد سياسي وإعلامي في حرب غزة» فان المخيلة الإنسانية تقتضينا بأن هناك حالة أعمق وأكثر ألما لكل أولئك الذين فقدوا أعزاء في المحنة وتحول الجرحى والمصابين بعاهات أبدية كمشهد يومي للألم الإنساني حتى وان انتهى لصوص الفساد من سرقة نصيبهم من مشاريع الإعمار في غزة.
صحيفة الايام
24 فبراير 2009
مؤتمر” تكافؤ الفرص”
شهد فندق الدبلومات وقائع مؤتمر «المواطنة وتكافؤ الفرص»، الذي نظمته السبت الماضي ست جمعيات سياسية (الوفاق، وعد، أمل، المنبر التقدمي، الإخاء والتجمع القومي).
المؤتمر قرع مرةً أخرى أحد الأجراس القديمة، لعلّ وعسى، فالسياسة الراهنة تأخذ البلد بعيداً عن بر الأمان.
هذه الجمعيات تمثل جزءًا كبيراً من الطيف السياسي الحقيقي النشط في الساحة، ومع تباين التوجهات الفكرية، إلا أن الهم الوطني الكبير يجمعها على أهداف عامة كبرى. وانعكس ذلك على الحضور المتنوع، من أقطاب وشخصيات، ضم نواباً وبلديين سابقين وحاليين، وناشطين سياسيين وحقوقيين، ومحامين واقتصاديين… إلى جانب وزراء سابقين… أمّا الحاليون فلم يحضر منهم أحدٌ، رغم توجيه دعوات رسمية لعددٍ من الوزراء. وهو ما يؤكد حال القطيعة التي تنتهجها الدولة مع المجتمع وقواه الحيّة، والذي كان أحد أسباب التأزيم والاحتقان.
العتب الآخر على وزارة الثقافة والإعلام، التي تلقت رسمياً دعوةً خاصةً ليقوم تلفزيون البحرين بتغطية مثل هذا الحدث الذي يحضره ما لا يقل عن مئة وخمسين من “المواطنين”، من مختلف الأطياف الفكرية والسياسية والدينية التي تشكّل ذلك القوس البحريني المتعدّد الألوان. وما حدث أن تلفزيوننا الوطني لم يرسل مندوباً ولا مصوّراً، وإنما حضر مندوب أحد الفضائيات العربية المجاورة للقيام بالتغطية بصورةٍ مهنيةٍ تماماً.
الإعلام الرسمي الذي يضيق عن استيعاب آراء مواطنيه، فشل مجدّداً في أن يكون معبّراً حقيقياً عن آمال وتطلعات المجتمع البحريني المتنّوع. هذا الإعلام الذي فشل في التعبير عن المواطن بصدق، أو يكون قناةً لتوصيل آراء الناس للمسئولين بحريةٍ ودون تطبيل… يلوم الناس عندما تخرج على الفضائيات الأخرى للتعبير عن آرائها.
وكما غابت الحكومة عن المؤتمر، غابت جمعيات ” الموالاة ” أيضاً، رغم توجيه الدعوات للمشاركة من أجل مناقشة مثل هذه القضية التي تهدّد حاضر ومستقبل البلد. ولم يكن غياب «الموالاة» مستغرباً، فقد سبق أن وقف هؤلاء ضد واحدةٍ من أكبر القضايا المحقّة في البرلمان، حين عارضوا إصدار قانون يجرّم «التمييز». وقد اتخذوا هذا الموقف رغم علمهم بواقع التمييز، ورغم مخالفة موقفهم للمبادئ الإسلامية الداعية للعدل والإنصاف والمساواة بين الناس.
المشاركون أغلبهم يعملون في وظائف جيدة حسب تقديري، فهم مكتفون اقتصادياً. ويمثّلون صفوةً مهمةً من طبقة المثقفين، دينيين وعلمانيين، جمعهم موقفٌ وطنيٌ يمليه عليهم ما يعيشونه من واقع سياسي وطائفي محتقن، وذلك بالدعوة إلى نشر ثقافة الحوار والتسامح والتعايش والشفافية واحترام الرأي الآخر، ورفض الاستبعاد والإقصاء. ومن المعيب حقاً أن تتخلّف جمعيات «دينية» ممثّلة بالبرلمان عن المشاركة في هذا المنتدى الوطني… ولكن قاتل الله المصلحيات. وهو دليلٌ آخر يؤكد كلامنا دائماً، من أن الخلافات بين البحرينيين سياسية، لها طابع اقتصادي اجتماعي، مهما حاول المتمصلحون و”اللّعّيبة” تحريفها إلى صراعات طائفية أو مذهبية.
المؤتمر في خطّه العريض، كان دعوةً لمشاركةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ واسعةٍ وعادلةٍ لكل أفراد وفئات المجتمع، شعاره “بالمواطنة الكاملة نقضي على التمييز ونحقق مبدأ تكافؤ الفرص». ومن المحزن حقاً، أن تجتمع النخبة في بلدٍ نال استقلاله منذ أربعة عقود، ودشّن مرحلة إصلاح منذ ثمانية أعوام، لتناقش إعادة الاعتبار إلى مبدأ «تكافؤ الفرص»، الذي أجهزت عليه سياسات الإقصاء والفرز الطائفي والاستزلام الجماعي.
الوسط 23 فبراير 2009