إذا ما كانت هنالك من تربة تنعش ظاهرة العنف والإرهاب، فانه لا توجد أفضل من القمع والحرب فهما وحدهما توفران كل عناصر تلك الظاهرة. وعلى مدار سنوات طويلة عكف الباحثين والدارسين، على دراسة تلك الظاهرة فوجدوا إن الحرب لها خصوصية وسمات وعوامل مؤثرة تجعل من ظاهرتي العنف والإرهاب تظل كامنة حتى بعد هدوء جبهة القتال وعودة حاملي السلاح إلى مجرى حياتهم العادية وأثناء الهدوء السلمي للمجتمع غير أنها في ظل حمية الحرب ترتفع الأصوات المنادية بالعنف والإرهاب» في اتجاهات عدة قد تكون الأهداف الأقرب لها الأنظمة الحاكمة.
لكون دعاة ومنظمات الإرهاب وجماعات العنف لا تجد فرصة لها في التنفيس والتعبير عن حالتها الانفعالية وهيجانها وطوفانها الغاضب، فتكون الأهداف السياسية الداخلية اقرب من جبهات القتال البعيدة للعدو الخارجي لكونها أصعب من أن تعكس رغباتها وتطلعاتها الوطنية والقومية والدينية.
باعتبار إن الحرب نتاج للصراعات بين الدول حين ذاك، ولكن التجارب قد برهنت أيضا على إن من يدخل جبهة المواجهة ليس الدول وحدها وإنما قوى الحركات المعارضة السياسية في تلك اللحظة ، فتلتقي تلك الحركات والجماعات الإرهابية مع أهداف وغضب الشارع السياسي.
فتود لو أنها تكون «بطل» تلك اللحظة والمشهد السياسي الواسع في فضاء حرب طاحنة تشحن كل المجتمع والشارع . وكلما طال أمد الحرب وامتدت أثاره من جبهات المواجهة، فان المناخ العام يظل يغلي في اتجاه فرز تلك المجموعات الإرهابية وأصواتها المعبرة عنها، سواء كانت نابعة من الجماهير المشحونة بالغضب، أو تلك الجماعات المثقفة كشرائح تمثل أفكارا واتجاهات أكثر وعيا بما ترغب، فتجد نفسها في تلك اللحظة مستعدة للدخول في المغامرة السياسية لكونها أولا جماعات سياسية ـ أيا كان لونها الفكري – لديها مشروعا تم خنقه من خلال القمع السياسي والملاحقات والاعتقالات، حتى باتت خامدة ومتراجعة وكامنة حذرة، ولكنها في الوقت ذاته تنتظر فرصتها في إعادة اعتبارها السياسي داخل الشارع الذي فقدت فيه حضورها النشط وصارت منحسرة ومرتدة نحو الوراء بدلا من صعودها الدائم والمستمر، وثانيا لكونها جماعات سياسية متجذرة بإمكانها أن تفرز حلقات متماسكة سبق وان كان لها اصواتا أكثر تطرفا داخل تلك الجماعات فتنحى مجموعات منشقة من هذه التنظيمات نحو العنف والإرهاب، ولكنها في ظروف معينة تجد نفسها في لحظات غير مواتية وصعبة، ولكن انفعالات ومناخ الحرب وظروفها واستنهاض عاطفة الشارع السياسي المنفلت، قد يؤججها وتتغذى منه، فيوفر لها ظرف الحرب فرصتها في تنفيذ مشاريعها المؤجلة، بل وتحقيق برنامجها وفكرها الذي أصيب بعطب وانشقاقات بين مجموعات متصارعة بين تياري العنف والنضال السياسي أو التشدد والاعتدال لعملية سياسية معقدة وطويلة.
وكل ما تفعله وتفرزه ظروف الحرب لدى تلك الجماعات من قدرات هو استلهام عاطفة الجماهير العفوية، والمزايدة عليها وجرها نحو أهداف خفية تنحى بها نحو المغامرة الخطرة. لهذا تصبح تلك الشحنات الانفعالية المنفلتة سياسيا وقودا ليس للظرف القائم بين تلك الجماعات وإنما كذلك فرصة لظروف وأجال ابعد بعض الشيء، فإذا ما هدأ الشارع وعاد إلى حياته اليومية، فان تلك الجماعات تواصل مشروعها مستمدة من العاطفة المحبطة التي وجدت نفسها بعد الحرب مهزومة، أو مخفقة في عدم انجاز مشروعها الممكن والمتوقع، فعلى المدى القصير المحتمل، تتم فيه الاستعدادات الخفية لتلك الجماعات بإعداد خطط الاغتيالات والتفجيرات والقيام بكل أنواع العمليات الإرهابية، بهدف إعلان حضورها كجزء من مشروع ممتد، بدت تربته الخصبة أكثر استعدادا لخوض تجربة العنف والإرهاب، ولن تكون الأهداف البعيدة المنتقاة لتلك الجماعات إلا الشخصيات السياسية المميزة والمشاريع الاقتصادية التي تمتلكها القوى المعادية لفكرها، وترى فيها خصما مميزا للتخريب والتفجيرات.
من تابع الأصوات الغاضبة من جبهة الشارع في فترة القصف والتدمير البربري لإسرائيل على غزة، يرى مدى التعبيرات السياسية المشحونة بالعنف والانتقام، والذي بلغ أقصى ما يمكن، وقد تجاوز الناس العاديين في مطالبهم التدميرية حدودا لا معقولة ، حيث خرج من بين تلك الأصوات مثقفين تظاهروا أيام السلم والهدوء السلمي عن كونهم معادين لخطاب العنف والإرهاب، ولكنهم في مناخ الحرب خرجوا من ملابسهم الحريرية وكشفوا عن حقيقتهم الداخلية وأقنعتهم، فعادوا للخطاب الفعلي لذواتهم، معلنين عن الاتجاه الحقيقي لفكرهم التدميري، دون أن يعلنوا بوضوح عن أنهم يترجمون تلك الدعوة لمجتمعات مفتوحة سياسيا .
صحيفة الايام
1 فبراير 2009