المنشور

دلالات دعوة المفكرين العالميين المناصرين للعرب

لظروف صحية وعائلية طارئة، وانشغالات خاصة متعددة، لم أتمكن من حضور المحاضرتين القيمتين اللتين القاهما المفكر اليهودي الامريكي المناصر لقضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، الدكتور نورمان فنكلستين واللتين نظمتهما قبل نحو اسبوعين «جمعية مناصرة فلسطين« حول القضية الفلسطينية والعدوان الاسرائيلي على غزة، حيث كانت الأولى في فندق الدبلومات، والثانية في مركز عيسى الثقافي.
ولكن بفضل السبق الصحفي الذي حققته «أخبار الخليج« التي انفردت بنشر تغطية موسعة شاملة لوقائع كلتا المحاضرتين اللتين قام بهما الزميل الأخ مكي حسن، فقد تمكنت من الاطلاع على الأقل على أهم ما طرح في كلتا المحاضرتين من نقاط، أو ما اثاره من نقاط وقضايا تتعلق بجذور القضية الفلسطينية وتطورات المراحل التاريخية التي مرت بها، منذ اغتصاب فلسطين عام 1948م حتى العدوان الاسرائيلي الصهيوني الأخير على أهل قطاع غزة المدنيين بأحدث اسلحة الابادة الامريكية الفتاكة، وهو العدوان الذي استمر ثلاثة اسابيع متواصلة في ظل تخاذل السلطة الفلسطينية في رام الله، فضلا عن تخاذل الانظمة العربية، ناهيك عن تواطؤ المجتمع الدولي الرسمي مع هذا العدوان.
ولا يفوتني مقدما في هذه المناسبة أن احيي بحرارة شديدة جمعية مناصرة فلسطين على هذا الاختيار النوعي الموفق، أي باستضافة شخصية مفكرة يهودية امريكية عالمية من طراز الضيف نورمان فنكلستين، وذلك لما ينطوي عليه هذا الاختيار من دلالات فائقة الاهمية، لعل من أهمها مد وتوطيد جسور العلاقة مع هذه النخبة العالمية المتميزة من المفكرين العالميين المناصرين للقضايا الوطنية والقومية في العالم العربي، والتي (النخبة) لطالما أهملناها، أو تجهلها كثرة من نخبتنا السياسية والثقافية، ولا تكاد تعلم عنها شيئا، في حين تناضل تلك النخبة، ومن بينها على وجه الخصوص المنتمية الى الديانة اليهودية من طراز محدثنا الضيف نورمان فنكلستين، والمفكر العالمي الشهير الذائع الصيت نعوم تشومسكي، بصمت ضد اسرائيل والصهيونية العالمية مدفوعة بمنطلقاتها المبدئية والفكرية الانسانية والاخلاقية.
وتأتي اهمية هذا النضال من كونه يتم في أهم معقل من معاقل الفكر واللوبي الصهيونيين في الغرب، وتحديدا في الولايات المتحدة، الدولة الرأسمالية الامبريالية الأولى في العالم، والحليف والداعم الاساسي والأول بلا حدود وبشتى وسائل الدعم العسكري والسياسي والمالي والاقتصادي والاعلامي لعدو العرب في المنطقة، الدولة العبرية الصهيونية العنصرية «اسرائيل«، وحيث في هذه الدولة الكبرى «امريكا« يملك النظام السياسي الامريكي، واللوبي الصهيوني، امبراطورية اعلامية جبارة، من صحافة وقنوات فضائية وشبكة انترنت عنكبوتية وغيرها من وسائل الاعلام الاخرى لتزييف وعي شرائح واسعة من عقول الامريكيين وتشويه حقائق الصراع العربي – الاسرائيلي مستغلين في ذلك البعد الجغرافي الشاسع بين الولايات المتحدة والعالم العربي، فضلا عن الجهل المطبق لأغلب تلك الشرائح والفئات من الامريكيين لتاريخ وجذور القضية الفلسطينية، والظلم التاريخي الذي وقع على الشعب العربي الفلسطيني الذي اغتصبت العصابات الصهيونية وطنه فلسطين، وقتلت وشردت الجزء الاعظم من هذا الشعب والذي مازال يكابد فصولا متعاقبة من المحن والمآسي على أيدي حكام هذه الدولة الصهيونية العنصرية التوسعية بدعم كبير وشامل من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، لا لشيء سوى لإصرار الشعب الفلسطيني على النضال والمقاومة المشروعة لاستعادة حقوقه المسلوبة المغتصبة في وطنه ووطن أجداده واجداد أجداده «فلسطين العربية«.
بهذا المعنى يمكننا ان نفهم وان نقيم عاليا دعوة واستضافة نماذج من هذه النخبة العالمية المفكرة الصديقة والمناصرة للقضايا العربية المصيرية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية، وهي النخبة التي تقوم بدور كبير استثنائي وبالغ الاهمية دوليا على جبهة الفكر والاعلام والثقافة ما يعجز عنه ليس جل نخبتنا السياسية الثقافية والمفكرة سواء في عالمنا العربي او في المهجر بالغرب فحسب، بل سائر السفارات الفلسطينية والعربية ومكاتب الجامعة العربية في الدول الغربية الكبرى.
ولا شك ان دور هذه النخبة يزداد عظمة ويتعمق مغزى ودلالات خاصة حينما ينحدر بعض من أبرز نماذجها من الديانة اليهودية، فليس أجمل وأبعد دلالة من فضح تهافت الفكر الصهيوني وتعرية وجهه العنصري ان يأتي ذلك على أيدي وألسنة نماذج وطنية وانسانية شريفة ومشرفة من المنتمين الى الديانة اليهودية نفسها.
وإذ نشكر مرة اخرى «أخبار الخليج« على هذا السبق الصحفي المهم المتميز بالانفراد بنشر تغطية موسعة شاملة للمحاضرتين القيمتين (أخبار الخليج عدد 28، 29 يناير 2009م)، وما بذله الزميل الأخ مكي حسن من جهد مشكور في اعداده للنشر ذلك ان السبق الصحفي لا يقتصر على الاخبار فقط، بل على مدى اهتمام وتقدير أي صحيفة للمحاضرات والفعاليات الفائقة الأهمية، وإذ نشكر ايضا ونثمن عاليا مرة أخرى جمعية مناصرة فلسطين على اختيارها الموفق باستضافة هذه الشخصية العالمية النصيرة لقضايانا، فاننا نأمل ان تكون بادرة هذه الجمعية قدوة لجميع مؤسسات مجتمعنا المدني والسياسي باستضافة مثل هذه النماذج العالمية.. ويا ليت يكون الضيف القادم المفكر العالمي الامريكي اليهودي نعوم تشومسكي.
كما استميح مقدما باسم شعبنا العربي البحريني وباسم كل نخبتنا وقوانا السياسية المناصرة لقضية شعبنا العربي الفلسطيني الحبيب الاعتذار لضيف البحرين المفكر فنكلستين على أي اساءة قد لمسها أو شعر بها خلال بعض النقاشات الساخنة في كلتا المحاضرتين وله كل الشكر وعظيم الامتنان.. والمعذرة له أيضا لعدم اغتنام هذه الفرصة لتكريمه على كل مواقفه المبدئية النضالية المشرفة.

صحيفة اخبار الخليج
10 فبراير 2009

اقرأ المزيد

أرض السواد: التقنيات الروائية

لا تختلف تقنيات رواية (أرض السواد) عن تقنيات مدن الملح، وهي تقومُ على ما تتيحه نظرة تسجيلية في عملية الصياغة الروائية.
فالراوي السارد المتواري يقدمُ الأحداثَ والشخوص الكثيرة المتشعبة التي تتوالد بشكل عفوي غالباً من خلال التاريخ.
إن الأحداثَ – الشخصيات الشديدة الارتباط، فلا توجد شخصيات خارج الأحداث، فهي إما مشاركة فيها وإما معلقة عليها، كما أنه لا توجد أحداث من دون شخصيات.
ليس ثمة مخطط لتجسيد رؤية للتاريخ، رؤية تنفذ في أعماقه، لأن الرؤية التسجيلية تقف عند حدود المرئي، وإذا كانت المواد التسجيلية الخاصة بمكان وزمان (مدن الملح) تتيح بعض ذلك، فإن زمان ومكان (أرض السواد) لا تتيح تقديم شخصيات معارضة محولة للواقع، رغم ان الشخصيات المعارضة والتحويلية تبقى عند مستوى الرمز والحالات الوامضة في (مدن الملح).
إن المنهج التسجيلي يقف عند المستوى السياسي للبنية الاجتماعية، وهو يأخذ ما هو رسمي ومسيطر فيه، لا يقدر أن يخترقه ليتوجه للمستويات الأخرى من البنية الاجتماعية، لأن ذلك يعتمدُ على منهجٍ فني آخر، يلغي التسجيلية ويستبدلها بعملية إعادة الخلق، التي تعتمد على التخييل والقراءة العلمية معاً.
وبما أن النظرة هي التسجيلية، فإن محاولة السارد لإدخال نظرة عصرية تحويلية للواقع تغدو غير ممكنة، فيبقى على مستويي العصر والمجتمع المرويّ عنهما.
فيحاول أن يغلغلَ نظرتـَهُ عبر عرضٍ موسعٍ كمياً للشخوص والأحداث، لكن التوسعَ الكمي يرهلُ الرواية، ويضيفُ لها لوحات وفصولاً من الممكن اختزالها، أو حذفها.
وإذا كانت الشخصياتُ التاريخية الحقيقية من المستحيل التحوير والإضافة إليها حسب النظرة التسجيلية، فإن الشخصيات غير التاريخية يمكن تشكيلها وبثها وتوزيعها في السرد الروائي الواسع، حتى لا يقتصر الأمر على ذوي النفوذ المسيطرين على التاريخ الرسمي المستمر.
وإذا كانت السيطرة لهذه الشخصيات الحقيقية العليا، فإن حراك الشخصيات المتخيلية غير الحقيقية الشعبية يغدو هامشياً كذلك رغم وفرة كلامها وثرثرتها وأعمالها وشخوصها التي يقترب بعضها من الصعود على مسرح التاريخ المقتصر على السادة.
سرد التاريخ روائياً بشكل تسجيلي يجعل من غير الممكن إعادة النظر في التاريخ المروي السائد، ولهذا فإن التقنيات تعتمد على العروض التجسيدية المباشرة:
(كان يمكن لداود باشا أن يعجل بدخول بغداد أو أن يتأخر، تبعاً لتقديرات عديدة. لكن ما كاد يعرف بخبر إصابة حمادي ونقله إلى القلعة، حتى تغيرت الأمور، ثم أخذت تتسارع)، ص54، ج.1
هذا سرد تقديمي عام، لا يضع الشخصية في بناء مشهدي محدد، لكنه يضعها في إطار عام متحول كذلك، وسرعان ما ينتقل بعده السارد إلى نتائج هذا السرد التقديمي:
(أما ما وقع في القلعة بعد ذلك، خاصة في الليلة التي وصل إليها سيد عليوي، فإن الناس يختلفون، ويصل الخلاف، بعض الأحيان، إلى درجة التناقض)، ص 54، ج.1
إن السارد هنا لا يقدم القصة الاقتحامية لبغداد بشكل كلي، بل يوزعها، ويجعلها متقطعة، ومثيرة، مستغلاً هنا تعدد الروايات، وهنا تنبثقُ أقوالٌ وحتى شخصيات جديدة ولن تستمر كذلك:
(مختار باب الشيخ، عبود الحاج قادر، وهو في الأحوال العادية، رجل متزن بسلوكه وكلامه، نقل عن بعض جنود القلعة، وقد غادرها إلى محلة باب الشيخ في اليوم الثالث لدخول داود باشا إلى بغداد، إن سعيد باشا تعرض لاطلاق النار، في محاولة لقتله، وإن حمادي هو الجاني)، ص55، ج.1
استغلال المرويات الشعبية، والمجيء بشخوص مفاجئين رواة ومعلقين، يتمان في إطار تسجيلي تختلط فيه الوقائع الحقيقية والشائعات لكن هنا فإن أقوال عبود الحاج مراد التي أثارت شيئاً من التشويق، لا قيمة لها مثل شخصيته التي ستذوب وكأنها لم تكن.
وهكذا فإن سلسلة من التعليقات ستضافُ إلى هذا السرد لواقعة واحدة هي قتل سعيد باشا الحاكم السابق لبغداد: (يقولُ رجالُ الغنام بانفعال..)، (وفي المحلات الأحرى..)، (حين تروى القصة بهذا الشكل. .)، (سكان محلة الميدان يؤكدون.)، (كان يتم تداول هذه الروايات …) إلى آخر هذه التعليقات.
ويتتبع الساردُ ذلك بحوارات مطولة في الشوارع والمقاهي حول تلك الحادثة. لكن تلك الحوارات لا تمثل سوى صدى عملية الاغتيال.
ولكنه في فصل سابق يقدم لنا الحدث وشخصية عليوي القاتل عبر مشهدية متصاعدة؛(ما كاد ينتصف الليل حتى وصل إلى القلعة. بدا لكل من رآه كأنه خائف ومُلاحق. أبلغ قائد القلعة أن لديه أخباراً هامة لا بد من إبلاغها إلى سعيد باشا)، ص35، ج.1
هنا نجد المشهدية السردية المتصاعدة، وهي المشهدية الموضوعية التي تجسد التاريخ أمامنا من دون تعليقات السارد المباشرة، وكثيراً ما يحفر فيها عبر الذكريات، بالعودة السردية للماضي.
التقديمات السردية العامة، والبُنى المشهدية المتصاعدة والمقطوعة بالعودة الزمنية للوراء، والحوارات العامية الواسعة، واستخدام المقتطفات التاريخية، المبثوثة بين فقرات السرد، والتنوع الهائل للشخوص، والجمع بين ما هو حقيقي ومتخيل، وبث الموروث العامي في ثنايا الحوار وخاصة استخدام كمية كبيرة من الأمثال والحكم، وتقطيع الفصول بما يتماشى مع حركة الزمن التاريخية الصاعدة، وتبدل الأمكنة التي تغدو مرتبطة بحركة الشخوص والأحداث والتي لا تتجاوز العراق الأوسط خاصة، مركز السلطة الجديدة، بينما الجنوب والشمال يظهران بشكل محدود بسبب الانتفاضات والدسائس.
وعموماً لا توجد تقنيات جديدة ملفتة في الرواية.
رغم ان ضخامة الرواية وتوسعها الهائل تشير إلى قدرة كبيرة من الروائي عبدالرحمن منيف على تصوير عصر ما، فإن مسائل الاختزال والتكثيف كانت ضرورية، لكنها تغدو غير ممكنة في منهج يتوجه للتصوير الفوتغرافي الموسع لعصر، لا للتصوير النموذجي، الذي تمثله الرواية الفنية، وهو ما فعلته الرواية العربية في أقطار أخرى.
وهذا في تصوري جزء من إشكالية الرواية في الخليج والجزيرة العربية المتأخرة في التطور، ولكن بوجود عبدالرحمن منيف في دول نضجت فيها الرواية فإنه حاول عرض التجربة البكر للمنطقة الخليجية – العراقية، بأدوات تعود لمستوى رواية تقليدية استنساخية للواقع، ولكن عبر الابهار والتوسع الكمي في هذا العرض.

صحيفة اخبار الخليج
10 فبراير 2009

اقرأ المزيد

لماذا ندعو للحوار؟

مبادرة المنبر التقدمي في الدعوة لإطلاق آلية حوار بين الدولة والمجتمع، وبلوغ توافقات حول المسائل الجوهرية موضوع الجدل، ليست، في طبيعتها وروحها، بأمر طارئ على «التقدمي»، المعروف بخطابه السياسي الرصين، وفي منعطفات سياسية أخرى مررنا بها خلال السنوات الأخيرة، كان «التقدمي» من دعاة مثل هذا الحوار. وليس هذا النهج، والحق يُقال، قصراً على المنبر التقدمي وحده، بل انه نهج قطاعات واسعة في المجتمع حريصة على أن تسود البلاد حالة الاستقرار والتوافق، وأن ننصرف، مجتمعين، للنهوض بأعباء ومهام التحول الديمقراطي الذي فيه خير ومصلحة هذا الوطن ومستقبل أبنائه وبناته، لأن التجربة المريرة لهذا الوطن خلال عقود برهنت أن لا طريق آخر، غير هذا الطريق، يمكن أن يأخذ بنا إلى بر الأمان. وتولد شعور جدي لدينا ولدى سوانا من القوى أن هناك خطابات متشنجة تسود الساحة، مُشبعة بروح التحريض والصدام، وكان لا بد من أن تقال كلمة عاقلة وسط هذا الجو، إن وجدت من يسمعها فسيكون لذلك مصلحة للجميع، وإن وُوجهت بآذان صماء، فحسبنا ساعتها أننا كنا متسقين مع أنفسنا ونهجنا في قول كلمة العقل في الوقت الذي يجب أن تقال فيه. ونحن في هذه الدعوة لا ننطلق من كوننا وسطاء بين فرقاء مختلفين، فنحن جزء رئيسي من المشهد السياسي في البلد، وقوة سياسية تملك برنامجاً ورؤية وموقفاً معروفاً ديدنه مصلحة الوطن والشعب، والحوار الذي نطالب به هو مكسب لنا كما هو مكسب لكل القوى الخيرة في هذا الوطن. لذا لم يكن في أذهاننا ولن يكون يوماً أن نقوم بدور وساطة، حتى يجري القول أن للوساطة شروطها، نحن أطلقنا دعوة موجهة للمجتمع والدولة انطلاقاً من قناعتنا الراسخة إن في الوطن قضايا جديرة بأن يجري الحوار حولها حواراً سياسياً، لأن الحلول الأمنية وحدها لا يمكن أن تُحل المشاكل. وفي ذلك فنحن ننطلق من التمسك بميثاق العمل الوطني روحاً ونصاً وبالثوابت الدستورية، ومما أكدنا عليه في مواقفنا السياسية حول ضرورة ترشيد الخطاب السياسي واحترام هيبة الدولة ورموزها، والعمل في إطار القانون، مع السعي لتطوير القوانين المعمول بها بوسائل النضال المشروعة. كما ننطلق من رفض كافة مظاهر العنف والعنف المضاد، ونبذ ممارسات الحرق أو التفجيرات والاعتداء على رجال الأمن، لكننا بالمقابل لا نقر الاستخدام المفرط للقوة، وأي مساس بكرامة الإنسان من تلك التي نفترض أنها قبرت مع إعلان القطيعة مع مرحلة قانون أمن الدولة وما تمثله من ذاكرة مفزعة في أذهان البحرينيين، الذين تنفسوا الصعداء بانطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك. قلت في تصريح صحافي سابق أن بدا في الظاهر أن الأمور غير مهيئة لأن تنجح مبادرتنا، فان ذلك يجب ألا يُثنينا عن المضي فيها والمثابرة في الدعوة إليها، فكل المهام بحاجة إلى تهيئة ما هو ضروري لها من مستلزمات، وهذا ما سنعمل عليه.
 
صحيفة الايام
10 فبراير 2009

اقرأ المزيد

برقية تعزية من جيرنيكا إلى غزة

عندما خلّد الفنان الاسباني بابلو بيكاسو بلدة صغيرة أو كما قيل أنها مجرد قرية باسكية هادئة دفعتها ظروف الحرب الأهلية والحكم الفاشي الاسباني إلى الدخول في مواجهة ومقاومة باسلة، غير أنها لم تكن قادرة على مصارعة السماء، تلك البلدة الصغيرة ربما لم يكن العالم يعرف أين موقعها على الخارطة في تلك الفترة ولا حتى الآن، ولكن الكارثة والمجزرة المهولة فتحت أذهان العالم كله على مدى وحشية النازية الألمانية، التي هرعت مسرعة إلى مساعدة حليفتها الفاشية الاسبانية في عهد فرانكو. فهل اهتز بيكاسو لتلك البلدة وكاد يبكي أم انه اختزن حزنه العميق ومشاعره وانفعالاته بقوة لكي يعكسها في تلك الخطوط البيضاء والألوان الرمادية، نعم لم تستحق اللوحة غير ذينك اللونين ولكنها أبرزت العنف والوحشية للغزاة إزاء أبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وهم يتطلعون بعيونهم لتلك الوحشية، فماذا فعل بيكاسو وهو يهز مشاعر العالم في تلك اللوحة لتصبح لوحة عالمية خالدة تطارد الضمير العالمي وهو يقف حائرا ومتسائلا، وفي ذات الوقت يكتم غضبه واحتجاجه على تلك المجزرة الكبرى؟ إنها صرخة الاستغاثة والاستجداء نحو سماء ووحشية لا ترحم لأم تحتضن وليدها.
من تستوقفه اللوحة أو يقف أمامها حائرا يشعر من أول لحظة بمدى الحزن والانفعال الداخلي والقوة والعنف النافر، ليس في ذلك الخنجر المغروس في عنق الحصان ولا في قلب الإنسان وهو يواجه عنفا متعددا، وفي قرون الثور المتوثب، ذلك الرمز الدائم للعنف والدم والموت في ثقافة اسبانيا، لتلك الأفواه المفتوحة وهي تصرخ بقوة في عالم محاط بالسوداوية والرماد، القادم من القنابل والقذائف والرصاص، بحيث لم ترحم أحدا في مشروع فاشي خفي لإبادة البلدة برمتها وإحالتها إلى ركام. كل الوجوه نحو السماء في نفق ارضي تنبعث منه الإضاءة الباهتة كحياة يومية، إذ يخاف الناس الخروج إلى الشارع، الجميع في اللوحة يصرخ ويبكي في لحظة الموت الأخيرة، ففي تلك الأيادي المفتوحة للسماء، الأيادي المستجدية بالاستغاثة المستحيلة في عالم الحرب والموت والوحشية. كل شيء لحظتها في اللوحة يبعث على اليأس والخوف والعنف والدم والقتل وكل رموز الوحشية. فماذا تبقى لنا من تلك الخطوط الكابية الكئيبة التي في عمقها تمنحنا سرا بقوتها الإنسانية حتى في لحظة أخيرة من وداع بلدة بكاملها من الخارطة. شيء واحد تركه لنا بيكاسو وظل مثار نقاش لدى النقاد الأسبان والعالميين وحاروا حوله. ما الذي كان يرمز إليه الفنان في تلك النافذة في زاوية اللوحة العليا من اليمين، بقعة يدخل منها الضوء في عالم معتم يختبئ متحاشيا الموت، إذ يبحث الجميع عن المخابئ اليائسة فلا شيء إلا التشبث بالبقاء في لحظة صراع بين الحياة والموت. الجميع وجد في تلك النافذة التعبير المتبقي عن الأمل المفتوح والضوء القادم من هناك، حتى وان عاشت جيرنيكا ساعات الرعب، فمن تحت الرماد والركام تولد الحياة. لم تكن غزة في أيامها السوداء بالأدخنة الفسفورية البيضاء إلا غيرنيكا عالمية معاصرة تنهض من قبرها المتوحش بعد عقود من نسيان العالم المأساة الاسبانية، وكأن الحياة تستعيد كوارثها ومآسيها دون توقف، تنتزعنا من سعادتنا العابرة، سعادتنا المتطلعة للسلام والطمأنينة والأمان. ولكن من أين يأتي ذلك الأمان وورثة القتل مازالوا أحياء يتناسلون من ثدي الموت لذة متناهية، حتى وان استغاث الأطفال والنساء والمدنيون الأبرياء بهم في لحظة عجزهم عن المواجهة، فليس العزل من السلاح قادرين على القتل ولكن كل ما يملكونه في تلك اللحظة هو استغاثة الغضب والنداء لسماء رمادية ولعالم ما زال ضميره حيا. ربما تبدو هذه اللحظة لمن لا يفهم عمق الحياة وأبعادها وشفافية الكون إن ريشة الفنان ليست مهمة كسيارة إسعاف ولا حتى إبرة طبيب أو قطعة خبز ولحاف، تبدو الإجابة بنعم من حيث اللحظة ولكن القيمة العظمى هي التي تجعلنا أحياء على قيد الحياة دائما، ففي رؤى الفنان للحياة ديمومة أطول وحية ابعد من لحظة الخبز والدواء، فما يبقى في الذاكرة حاضرا ولأجيال عديدة هو ذلك العمل الفني الخالد الذي يفضح الوحشية. اليوم ما أحوجنا إلى فنان «عبقري» يتجاوز كل خطوط تلك المساحة الرمادية ويبدع لنا لوحة جمالية تنفث صرخة الموت والكراهية التي يحملها دوما أعداء الحياة. ما فعله الطغاة والعنصريون والدمويون الجدد في غزة علينا أن نلاحقهم بكل الأسلحة، فقد ظل بيكاسو يلاحق فرانكو أينما كان بتلك اللوحة التي أيقظت ضمائر العالم وألهبت فيهم روح الاشمئزاز من عبثية العسكر والفاشية، التي تغتال الحياة بكل بساطة وجبن. كل ما فعله بيكاسو انه حمل لوحة جيرنيكا معه أينما ذهب، حتى وان باتت بلدة جيرنيكا رمادا وركاما. اليوم تبعث جيرنيكا بتعزية عظيمة لتوأمها العربي، لتلك المنطقة المنسية في شرق المتوسط، التي حرّكت مجزرتها كل العالم، وكل ما تبقى من تلك الوحشية هو استلهام الدرس التاريخي بكيفية ملاحقة مجرمي الحرب بشتى الطرق.

صحيفة الايام
10 فبراير 2009

اقرأ المزيد

العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج في عالم متغير

 

 


عندما يجري الحديث عن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج تستحضر الذاكرة ذلك الإرث الغني
في تاريخ التعاون الاقتصادي والتجاري بين الاتحاد السوفييتي السابق وعدد من الدول العربية
كمصر وسوريا
والعراق واليمن والجزائر وليبيا والصومال وغيرها،
خصوصا في الفترة منذ النصف الثاني من خمسينات وحتى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.


 
العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج في عالم متغير
ندوة في جمعية الاقتصاديين البحرينية
20 يناير 2009


يلقيها : عبد الجليل النعيمي

رئيس اللجنة الاقتصادية في المنبر الديمقراطي التقدمي، عضو جمعية الاقتصاديين البحرينية 
  
 


عندما يجري الحديث عن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج تستحضر الذاكرة ذلك الإرث الغني في تاريخ التعاون الاقتصادي والتجاري بين الاتحاد السوفييتي السابق وعدد من الدول العربية كمصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر وليبيا والصومال وغيرها، خصوصا في الفترة منذ النصف الثاني من خمسينات وحتى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي. وقد تجسد ذلك التعاون في مشاريع ضخمة أصبحت من معالم البناء الاقتصادي لهذه البلدان كالسدود ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وتعزيز القدرات الدفاعية والصناعة العسكرية وأبحاث الفضاء وبناء شبكات الطرق والجسور ومشاريع الزراعة وصيد الأسماك والصناعات الغذائية والخفيفة الأخرى والمستشفيات والجامعات وإعداد الكوادر الوطنية في مختلف التخصصات الاقتصادية والاجتماعية.

ومنذ ذلك الوقت تغيرت مياه كثيرة. فعلى تلك الضفة، تقلص الاتحاد السوفييتي إلى روسيا، وهنا، على العكس، اتسعت الرقعة الجغرافية لتشمل بلدان مجلس التعاون الخليجي التي لم يكن لها مكان في العلاقات السابقة مع الاتحاد السوفييتي والتي سنركز عليها في حديثنا اليوم.
الموقع الجيو اقتصادي والجيو سياسي لروسيا ضَعُفَ إلى حد كبير على إثر تفكك الاتحاد السوفييتي. قَلّت كثيرا مخارج روسيا على الطرق البحرية الدولية بعد أن حُرمت من أكثر من عشر موانئ موزعة على البلطيق وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان. تراجعت حدودها مع البلدان الأوربية إلى داخل عمق القارة شرقا. وأصبحت غلبة طابع اليابسة على موقعها وحدودها تملي ضرورة البحث عن مخارج جديدة إلى الأسواق العالمية وإنشاء موانئ جديدة على الخليج الفنلندي وفي شمال القسم الأوربي من روسيا وفي منطقة الأزوف – البحر الأسود. الظروف التي استجدت أصبحت تتطلب إيلاء اهتمام أكبر نحو تحسين طرق نقل البضائع المصدرة التي تطغى فيها مواد الطاقة والمحروقات، موارد الخامات الطبيعية الأخرى وكذلك المواد والمنتجات التحويلية وشبه المصنعة. وبعد أن كان الاتحاد السوفييتي إحدى الدولتين الأعظم بقيت روسيا دولة عظمى وذات شأن متزايد في الاقتصاد والسياسة والقدرة العسكرية الدولية. وبمساحتها التي تبلغ 17.1 مليون كلم2 تعتبر واحدة من أكبر بلدان العالم. وهي تزيد على مساحة الدول العربية مجتمعة (14.5 مليون كلم2)، ومساحة كل من الصين والولايات المتحدة وكندا والبرازيل،. وتمتد حدودها على طول 58.5 ألف كلم، ثلثاها بحرية، والبقية برية تحاذي 14 بلدا. وتنبسط روسيا على رقعة جغرافية هامة من منطقة أوروآسيا ( ¼ في أوروبا و¾ في آسيا). وهي قريبة من ثلاث مناطق جيوستراتيجية مضطربة عسكريا وسياسيا باستمرار : الشرق الأوسط، جنوب غرب آسيا والقوقاز.[1]
 
 


البلد

المساحة (مليون كلم2)

روسيا

17.1

العالم العربي

14.5

الصين

9.6

الولايات المتحدة الأميركية

9.4

كندا

10

البرازيل

8.5


 
 


الحدود مع

     كلم   

الحدود مع

كلم

النرويج

196

أوكرانيا

1270

فنلندا

1269

جورجيا

250

استونيا

438

أذربيجان

367

لاتفيا

250

كازاخستان

7200

لتوانيا

304

منغوليا

3005

بولندا

244

الصين

4300

بيلوروسيا

299

كوريا

17


 
ومن حيث عدد السكان (148 مليون نسمة) تعتبر روسيا السادسة عالميا، لكنها تقل عن نصف سكان البلدان العربية مجتمعة والبالغين 312.4 مليون نسمة.
وعلى أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق نشأ بين روسيا والجوار في البلطيق (أستونيا، لاتفيا ولتوانيا)، وما وراء القوقاز ( جورجيا، أذربيجان وأرمينيا )، ووسط آسيا (كازاخستان، أوزباكستان، قرقيزيا وتركمينيا)، وبيلوروسيا، أوكرانيا ومولدوفا تشكيل سياسي اقتصادي جديد ومفتوح الطابع عرف باسم رابطة الدول المستقلة.

بفضل ارتفاع عائدات النفط والغاز تمكنت روسيا من مراكمة ثالث أكبر احتياطي نقدي ذهبي بعد الصين واليابان.  وتحت تأثيرات الأزمة العالمية الراهنة انخفضت الاحتياطات الروسية من الذهب والعملات الصعبة إلى ما قيمته 562.8 مليار$ في أواخر سبتمبر الماضي. ثم انخفضت بعد أقل من أسبوع من ذلك بمقدار 16.7 مليار$ [2]. واستمر هبوطها لتصل في 12 ديسمبر العام الماض إلى 435.4 مليار$ [3]. ويحدث ذلك لعدة أسباب أهمها انخفاض أسعار النفط وخروج بعض رؤوس الأموال من روسيا ومحاولة الحكومة دعم عملة الروبل الآخذة في الهبوط، إضافة إلى سعي الحكومة للإبقاء على مستويات دعم الخدمات الاجتماعية وللتخفيف من حدة ردود الأفعال الشعبية على الأزمة  [4]. لقد استوعبت الإدارة الروسية الحالية الدرس جيدا، حيث أن فترات انخفاض أسعار النفط في الثمانينات والتسعينات هيأت الظروف لسقوط إدارتين في الكرملين – ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.
 
البلدان صاحبة أكبر احتياطات ذهبية نقدية
في نهاية يوليو 2008 [5]


البلد

الاحتياطيات  ($)

الصين

1.75 ترليون

اليابان

1.01 ترليون

روسيا

588.3 مليار


 
وروسيا الآن في أول طريقها للشعور بوطأة الركود الاقتصادي. وقد هبط معدل النمو الاقتصادي الذي بلغ 8% في بداية عام 2008 لتدخل في تباطؤ فعلي. وفي نوفمبر الماضي سجلت الميزانية الروسية أول عجز نتيجة انخفاض أسعار النفط وتراجع الإنتاج الصناعي. وفي ذات الوقت خفضت وكالة S&P التصنيف السيادي لروسيا لأول مرة خلال العشر سنوات الأخيرة.
ومع ذلك تحتفظ روسيا بمكان فوق الوسط بين دول مجموعة العشرين من حيث الناتج المحلي الإجمالي الذي بـ 3.7 مرات مثيله في السعودية- الدولة الند له في إنتاج النفط. واستطاعت روسيا أن تنخفض باستمرار نسبة الدين إلى الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 42.1 إلى 14.2% في الفترة ما بين 2002 و 2005.
  
الناتج الإجمالي المحلي لعدد من دول مجموعة G20  للعام 2006  [6]
 



البلد


الناتج المحلي الإجمالي

(ترليون $)


البلد


الناتج المحلي الإجمالي

(ترليون $)

الولايات المتحدة

13.48

فرنسا

2.05

الصين

6.99

البرازيل

1.86

اليابان

4.5

إيطاليا

1.79

الهند

2.98

المكسيك

1.35

ألمانيا

2.81

كندا

1.27        

بريطانيا

2.14

كوريا الجنوبية

1.2

روسيا

2.09

السعودية

0.565


 
 
 
الدين الحكومي الروسي / الناتج المحلي الإجمالي (%) [7]


السنة

2002

2003

2004

2005

%

42.1

31.6

23.2

14.2


  
الشبه  بين الاقتصاد الروسي والخليجي

من خلال ميزان إنتاج واستهلاك النفط والغاز تتبين نقاط قوة وضعف هذه القوة العظمى وأوجه الشبه والاختلاف مع الاقتصاد الخليجي. في عام 2005 بلغت حصة روسيا من الإنتاج العالمي من النفط والغاز حوالي 12.4% و 26.4% على التوالي[8]. حصة بلدان الخليج 22,8 % و 7,1 % على التوالي، وهي أقل من حصتها في الاحتياطي العالمي الثابت. ومن المتوقع أن تصعد الطاقة الإنتاجية لدول الخليج بنسبة 72 % حتى عام 2030[9].

الاقتصاد الروسي يستهلك ثلثي المستخرج من النفط والغاز محليا. وتستهلك روسيا من الغاز سنويا ما يزيد على استهلاك اليابان، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا وإيطاليا مجتمعة، رغم أن حجم الناتج الإجمالي المحلي لهذه البلدان الخمس يفوق مثيله الروسي 13 ضعفا[10]. وفي الوقت نفسه فإن الإصلاحات التي أدخلها الرئيس بوتين تداركت ما أحدثته “إصلاحات” سنوات التسعينات فأدت إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات النمو الاقتصادي ما يعني مزيدا من الاستهلاك الداخلي وتراجع في إمكانيات تصدير مواد الطاقة. تصدر روسيا النفط والغاز عن طريق الأنابيب بمعدل 2.9 مليون ب/ي و0.57 مليار م3/ي. وإذا ما احتسبنا أن احتياطات الغاز في منطقة الخليج تفوق الاحتياطات الروسية بأكثر من 80%، ويتوقع أن ينمو إنتاج الغاز الطبيعي الخليجي بنحو 200% حتى عام 2030، ليمثل نحو 46 % من الزيادة المتوقعة في العرض العالمي للغاز الطبيعي، فإنه يمكن التنبؤ بتطور عاصف لسوق الغاز المضغوط قياسا بالذي يضخ عبر الأنابيب. وهو منذ اليوم يشكل 30.4% من تجارة الغاز الدولية، تستحوذ بلدان الخليج على 24% منها[11].

بسبب طفرات أسعار النفط ارتفعت الزيادة في عائدات الصادرات النفطية لجميع الدول المصدرة للنفط بين 8 إلى  12% من الناتج الإجمالي المحلي[12]. لكن لهذا العامل أثره المتعاكس على اقتصاد كل من روسيا ودول الخليج. فرغم تزايد حصة الصادرات النفطية في إجمالي الصادرات الروسية من حيث القيمة، إلا أنها لا تبتعد عن النصف كثيرا ( 51.2%، 52.4%، 54.2%، 54.7% و 61.1% للأعوام من 2001 إلى 2005 على التوالي)[13]، وهي استغلت طفرات الأسعار في إعادة تمويل قطاعات النفط والغاز والطاقة والمجمع الصناعي العسكري والفضاء وتعزيز القاعدة العلمية التقنية في البلاد.  أما دول الخليج فعلى العكس، ازداد الاعتماد على الاستيراد بشكل ملحوظ، حيث ارتفع في السعودية من 38% إلى 95% من قيمة عائدات صادرات النفط والغاز بين عامي 1981 و2005[14]. وهكذا أصبحنا نشهد في بلدان الخليج معظم علائم “المرض الهولندي” : ارتفاع أسعار صادرات المواد الخام وزيادة تدفق العائدات النقدية، زيادة في إحلال السلع المستوردة على حساب المنتجة محليا، ضعف القدرة التنافسية للاقتصاد. على أن أحد علائم المرض الهولندي وهو ارتفاع قيمة العملة المحلية لم يحدث (فيما عدا الكويت بين عامي 2003- بداية 2008)، وذلك لارتباط هذه العملات بالدولار الأميركي.
ورغم أن روسيا قد رفعت إنتاجها النفطي إلى 9.236 مليون ب/ي في يونية 2006، بزيادة حوالي 46 ألف برميل على الإنتاج السعودي في إشارة إلى أنها الدولة الرائدة في ضمان أمن الطاقة عالميا، حيث تستطيع رفع الإنتاج إلى 9.9 مليون ب/ي عام 2007 [15]، إلا أن النفط الروسي صنف ( URALS) المستخرج من مناطق بشكيريا وتتارستان الإسلاميتين عالي الكبريت ولا يزال بعيدا عن مواصفات (BRENT)[16]. كما أن تكلفة استخراج برميل النفط في روسيا تبلغ 15 دولارا، بينما لا تزيد عن 5 دولارات في السعودية ودولة الإمارات[17]. وعليه فإن السعودية تستطيع أن تتحمل هبوطا دراميا لسعر النفط الذي يشكل كارثة للاقتصاد الروسي ( سعر الأساس المعتمد للنفط صنف ” URALS ” هو 27 د/ب لعام 2005[18].

المقارنات أعلاه تبين أنه رغم كون روسيا ومجلس التعاون الخليجي منتجين ومصدرين للغاز ولاعبين رئيسيين في سوقهما الدولية، إلا أنهما ليسا متنافسين متضادين، ولن يحل أحدهما محل الآخر في السوق. وللطرفين مصالح حيوية مشتركة في الحفاظ على أسعار النفط والغاز من التدهور في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية والتعامل مع هاتين الثروتين الناضبتين على المدى البعيد. وقد دفعت المصالح المشتركة بكل من روسيا والسعودية لإبرام اتفاقية تعاون في مجال النفط والغاز بينهما لمدة خمس سنوات أثناء زيارة الملك عبد الله، ولي عهد السعودية آنذاك، إلى موسكو عام 2003 بهدف التنسيق في الأسواق العالمية لصالح استقرار إمدادات النفط والحفاظ على أسعار النفط العادلة. وفي الآونة الأخيرة أصبحت فكرة انضمام روسيا لأوبك مطروحة على جدول الأعمال بقوة رغم اختلاف المواقف حولها في داخل روسيا. كما أن التنسيق بين روسيا وقطر وإيران والجزائر ودول أخرى جعل فكرة منظمة للغاز شبيهة بأوبك تتلمس طريقها إلى التحقق.

لا يمكن وصف العلاقات الاقتصادية التجارية بين روسيا والعالم العربي بالمتطورة. فمع أن الحجم المطلق للصادرات الروسية إلى العالم العربي بين عامي 2002 و 2005 قد تضاعف تقريبا من حوالي 2.453 مليار إلى 4.201 مليار دولار، إلا أن ثقلها النسبي في إجمالي الصادرات الروسية قد تراجع من 2.29% إلى 1.72% لنفس العامين. ومع أن الصادرات العربية إلى روسيا قد تضاعفت أكثر من 3 مرات بين هذين العامين ( من 143 مليون إلى 429 مليون دولار)، إلا أنها متدنية جدا من حيث أرقامها المطلقة أو ثقلها النسبي في إجمالي الواردات الروسية (من 0.2% إلى 0.31% لذات الفترة)[19]. لكن حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي سجل في عام 2006 ارتفاعا، إذ بلغ قرابة 6 مليار دولار. وقد ارتفع حجم التبادل مع الإمارات من 820 مليار دولار عام 2006 ليصل إلى أكثر من مليار دولار عام 2007[20]. ووصل حجم الاستثمارات الإماراتية قيد التطوير في روسيا إلى 18 مليار دولار عام 2007 [21].

الاستثمارات الروسية في الإمارات سجلت خللا فاضحا لصالح العقارات والتجارة والفندقة والسياحة والشحن ما انعكس سلبا على المستثمرين مع الأزمة الحالية. فرغم أن المستثمرين الروس سجلوا نسبة 8% فقط من إجمالي ملاك العقارات الأجانب، إلا أن الروس ومواطني بلدان الاتحاد السوفييتي السابق شكلوا 70% من الذين اشتروا العقارات الفاخرة [22]. أغراهم في ذلك أن معدل الربح في هذا القطاع بلغ 25-30% في دبي مقارنة بـ 25% في روسيا و 15% في أوروبا [23].


عوائق على طريق التعاون

يصطدم التعاون التجاري الاقتصادي الروسي الخليجي بعوامل معوقة كثيرة، موضوعية وذاتية. من أهم هذه العوامل النفوذ المتعمق والمزمن للدول الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة التي تعتبر الخليج منطقة مصالح حيوية تمس أمنها القومي، قلة الخبرة في التعامل بين الطرفين والاختلاف في أساليب وطرق الممارسات الاقتصادية، غياب أو ضعف المؤسسات التمويلية لمختلف أوجه التعاون، نشاط اللوبي الصهيوني الذي أصبح متنفذا في روسيا خلال الفترة الانتقالية حتى عهد الرئيس بوتين، والذي يملك تنظيما شبكيا عالي الدقة ويعرف جيدا آليات تعطيل أي مشروع روسي – خليجي أو عربي مشترك أو يضع أي مشروع عربي في روسيا في خانة الإرهاب أو غسيل الأموال. كما أن الحاجز اللغوي لا يزال يشكل عائقا جديا أمام التفاهم أثناء الاتصالات والاجتماعات والمؤتمرات وإتمام الصفقات. ولا تزال مواصفات البضائع من حيث الجودة والتصميم تضعف القدرة التنافسية لبعض السلع الروسية. ويقلل ارتفاع تكاليف الإنتاج والمناولة والشحن والنقل والتأمين، من أرباح المؤسسات. أضف إلى ذلك الحذر الشديد من قبل بلدان الخليج على خلفية انعدام الثقة بين الجانبين كبقايا الماضي. ومن أهم العوامل المعوقة بقايا عدم الاستقرار الذي شهده الاقتصاد الروسي فيما بين النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي حتى السنوات الأولى من العقد الحالي والتي خلفت شبكة معقدة من المعاملات البيروقراطية والوساطات وقضاء لا يشكل ضمانة وطيدة.

في مواجهة هذه الظواهر الأخيرة تتمتع المؤسسات الاقتصادية الغربية بحماية دولها، حيث تمتلك حكوماتها والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية ما يسمى بنظام “الخط الساخن” مع الرئاسة الروسية لحل المشاكل الاقتصادية والمنازعات في إطار حماية الاستثمارات الأجنبية. أما الدول الخليجية فلا تمتلك هذا “الخط الساخن” مع مؤسسة الرئاسة في حين تتعرض لتعقيد أشد وتمييز في المعاملات.

على أن كل تلك العوائق يمكن أن تتراجع أمام عاملين إيجابيين قويين : أولا، توافر الإرادة السياسية لدى القيادات الروسية والخليجية على السواء. وكما شهدنا في السنوات الأخيرة فإن قرارا سياسيا من قبل السعودية أو الإمارات أو قطر أو البحرين يمكن أن يطلق المجال للتعاون في مجالات النفط والغاز والطاقة، بما في ذلك النووية، والصناعة العسكرية. وثانيا، أن هذه المجالات بالذات تشكل العمود الفقري في الحياة الاقتصادية والقدرات الدفاعية للجانبين الروسي والخليجي وبمثابة القاطرة للتعاون الاقتصادي في كل المجالات الأخرى. وأي نشاط اقتصادي مرتبط بهذه المجالات يمكن أن يحظى بدعم وضمانات من قبل الدولة هنا وهناك.

ويبدو أن القرار السياسي بهذا الصدد أصبح ناضجا، وذلك ما يوحي به وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في ختام زيارة الرئيس بوتين الجوابية للسعودية : ” لا ترى المملكة أية عوائق على طريق التعاون مع روسيا في كل المجالات، بما في ذلك مجالات الأسلحة والطاقة النووية”. وأصبحت الإمارات، التي وقعت اتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي والفني مع روسيا منذ زمن مبكر في 2 يناير 1990، تتقدم دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بحجم العلاقات التجارية مع روسيا والتي ازدادت في السنوات الأربع الأخيرة بنحو مرتين ونصف[24]. وقد وقعت مذكرة تفاهم بين وكالة الفضاء الفيدرالية الروسية والمنظمة الإماراتية للعلوم والتكنولوجيات المتقدمة حول التعاون في مجال استخدام الفضاء للأغراض السلمية. ويتجه البلدان إلى الوصول لمنع الازدواج الضريبي، كما تسعى روسيا إلى اتفاق مماثل مع كافة دول التعاون.

في مجال النفط والغاز

يمكن اليوم الحديث عن نتائج ملموسة. فقد فازت شركة لوك أويل أوفرسيز عام 2004 بمناقصة للتنقيب والأعمال اللاحقة لمجمع (آ) لمكامن الغاز في صحراء الربع بالاشتراك مع شركة أرامكو. وأصبحت شركة ستروي ترانس غاز الروسية الكبرى تملك الحق في العمل في السوق السعودية للنفط والغاز. وهناك حوالي عشر شركات روسية أخرى عاملة في مجال صناعة النفط والغاز والأعمال الهندسية تعمل على توطيد مواقعها في السعودية[25].وتم التوقيع على مذكرة تفاهم حول التعاون بين قطر للبترول وشركة ‘’لوك أويل’’ الروسية القابضة.

إمكانيات التعاون المصرفي وسوق المال

بما أن المال هو الشريان الحيوي للمشاريع الاستراتيجية بين الحكومات أو الأصغر بين رجال الأعمال، فقد نشطت روسيا ودول الخليج في هذا الاتجاه. وبعد تسوية مسألة الديون السابقة بين روسيا وكل من الكويت والإمارات عن طريق صادرات تقنيات عسكرية وغير عسكرية، طرح عدد من المبادرات لتأسيس صندوق استثماري للتبادل التجاري المشترك برأسمال 500 مليون دولار لتشجيع الاستثمار بين روسيا والسعودية. ودعا المنتدى السابع لمجلس الأعمال العربي الروسي (البحرين، مايو 2007) إلى تأسيس مصرف عربي روسي مشترك أبدت البحرين رغبتها لاستضافته. كما أعلن الرغبة لإنشاء مصرف روسي في البحرين أثناء زيارة ملك البحرين لموسكو في ديسمبر الماضي. وفي الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة يمثل أمام روسيا وبلدان التعاون الخليجي على السواء السؤال الهام : أين يمكن الاستثمار؟ لفترة طويلة ظلت الأسواق الغربية أو ما كان يطلق عليها بالأسواق الناشئة أسواقا جاذبة. لكن، وكما بينت تجربة نصف العام الأخير فإن مشاكل كبرى أخذت تظهر هناك وأصبح أمر العائد أو بقاء وتسييل الاستثمارات غير مضمون. ومفهوم في ظروف اليوم أن كثيرا من البلدان كالصين وروسيا تفكر في أن تساعد نفسها بنفسها، وتستثمر مواردها المالية المتراكمة في عام 2008 في داخل بلدانها لدعم اقتصادها الوطني. وهكذا يجب أن تفعل دول الخليج. لكنه، وبعد وقت قد يكون قريبا، وبعد أن ينجلي غبار الوضع الحالي، وتسوية بعض المشاكل الداخلية، سميثل سؤال : أين يمكن استثمار المال. ما يطلق عليها بالأسواق الناشئة ستبدأ بالتماثل للشفاء أسرع من الأسواق الغربية وتصبح أكثر جاذبية للاستثمار. ولذلك فإن البنية التحتية للبورصات التي تم إنشاؤها في روسيا وبلدان الخليج مطلوبة الآن وفي المستقبل بشكل أكبر. ويبدو أن روسيا تحث الخطى الآن لإنجاز تلك الخطة من الإجراءات التي كان قد تم إعدادها قبل الأزمة. أي، خطة إنشاء مركز مالي عالمي. وسيعني ذلك استعدادا لاستقبال موجة الاستثمارات الجديدة.
وبعد التجربة المريرة التي خاضها الاقتصاد العالمي مع الدولار باعتباره عملة احتياط عالمية فقد بدأت روسيا تعد لتحرير وتعويم عملة الروبل استعدادا لتحولها إلى عملة احتياط عالمية. والخطوة القادمة المهمة على هذا الطريق، والتي صدرت التعليمات بشأنها، هي إبرام عقود إمدادات المواد الخام والمعدات والسلع والخدمات بالعملة الروسية. الخطوة الأخرى هي وجود أسواق سائلة وخصوصا نقدية وائتمانية معبر عنها بالروبل. لكن هذه الخطوة لا تزال تنتظر الكثير من العمل. فلحد الآن لا أسواق الدين الحكومي ولا سوق دين الشركات ولا سوق النقد لا تسمح بتحقيق معاملات بأحجام كبيرة.

إن أمام دول الخليج، وهي على طريق إعلان الوحدة النقدية، فرصة مواكبة ودراسة التحولات الروسية على الصعيدين النقدي وأسواق المال لتقرير ما ستفعله في عالم سريع التغير. كذلك أمام روسيا فرص الاستفادة من نظم الخليج المصرفية المتطورة، بما في ذلك معهد البحرين للدراسات المصرفية وتجربة البحرين مع المصارف الإسلامية التي تنوي روسيا التوجه نحوها أيضا.

التعاون العسكري

منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، حيث كان يفغيني بريماكوف وزيرا للخارجية عادت الروح إلى التعاون العسكري مع البلدان العربية. وفيما بين عامي 1997 – 2000 أصبحت حصة روسيا من صادرات السلاح إلى بلدان الشرق والأوسط وشمال أفريقيا تعادل الثلث، وبلغت قيمتها 20 مليار دولار. واستطاعت روسيا أن تدخل سوق السلاح الخليجي منذ وقت مبكر من التسعينات. في الفترة ما بين 1992 – 1996 زودت الإمارات بـ 350 مقاتلة مشاة من طراز ب م ب – 3، و 76 أخرى للكويت. وقد رأى خبراء أجانب أن الخيار وقع عليها بسبب مواصفاتها التقنية – التكتيكية العالية التطور وسعرها المنخفض ( 800 ألف $ للواحدة)[26].
وتوطدت مواقع الروس في سوق السعودية التي صنفت على أنها أكبر مستورد للسلاح عام 2007 ( 10.6 مليار$). تم تزويد السعودية بحوامات كا – 226 بقيمة 25 مليون $، وتجري المباحثات لبيعها 150 دبابة طراز ت – 90 بقيمة مليار$ ، وكذلك ب م ب -3. وتبدي اهتماما بالصواريخ المضادة للطائرات طراز ز ر ك س- 300 و س- 400 “تريؤمف”. ويعمل السعوديون الآن بمساعدة الخبراء الروس على إيجاد نظام تكاملي واحد بين طائرات “ألماز”، “صواريخ “تريؤمف” وصواريخ “باتريوت” الأميركية[27].
 
الطريق البحري من قزوين إلى الخليج

صيف عام 2007 أقر مجلس الأمن القومي الروسي خطة دعم مشروع شق قناة في إيران تربط بين بحر قزوين والخليج. وكانت الولايات المتحدة عام 1962 في زمن الشاه. لأول مرة في تاريخ الاقتصاد العالمي سيؤمن هذا الشريان لروسيا وعدد من الدول طريقا مباشرا، هو الأقصر، إلى مياه الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي دون المرور بقناة السويس، وكذلك مضائق البحر الأسود وبحر إيجه، حيث تشدد تركيا من جانب واحد أنظمتها على عبور الناقلات. هذه القناة التي سيستغرق شقها أربعة أعوام ستخلق أيضا طلبا من الجانب الإيراني وغيره على التكنولوجيات الروسية في مجال النقل المائي لسنوات قادمة. البلدان التي أبدت اهتمامها آنذاك بهذا المشروع المسمى “شمال – جنوب” أربعة: روسيا، إيران، عمان والهند. لكن هذا المشروع يجب أن يعني لجميع البلدان الخليجية الكثير. وحسب بعض التقديرات فإن حركة الشحن على خط أوربا – قزوين – الخليج – المحيط الهندي وبالعكس ازدادت بين عامي 2006 – 2008  بمقدار الثلث عما كانت عليه في 1998- [28]1999.
 
العوامل الجيوسياسية

كما أن للعوامل غير الاقتصادية، الجيوسياسية، أثرها المسرع على التعاون الاقتصادي والتجاري. فبعد أن استعادت روسيا عافيتها الاقتصادية أخذت تتعامل مع العالم باستراتيجات جديدة وواضحة ترفض عالم القطب الأميركي الواحد. وطبيعي أن يرى الروس، كما الأميركيون والدول الكبرى الأخرى، أن منطقة الخليج هي الأكثر حساسية في مسألة توازن المصالح الدولية. وبدورها تدرك السعودية ودول خليجية أخرى أهمية إحداث شيئ من توازن المصالح الذي يتيح لها قدرة المناورة في علاقاتها الدولية. ولهذا جاءت زيارات بوتين لكل من السعودبة وقطر والإمارات في جولتي فبراير وسبتمبر 2007 وزيارة ملك البحرين لموسكو في ديسمبر 2008 وعقد المنتدى الاقتصادي البحريني في موسكو على هامش تلك الزيارة، وكذلك وتبادل إقامة المعارض والمؤتمرات الاقتصادية بين روسيا ومنطقة الخليج كمعرض “أرابيا – إكسبو” الذي أقيم في موسكو في 22 – 24 أكتوبر الماضي إضافة إلى الاتفاقات السابقة .

وفي هذا الصدد أشار جاك سابير، الاقتصادي البارز والخبير بالشؤون السوفييتية والروسية ورئيس مركز باريس للعلوم الاجتماعية أنه “بدأت تظهر ميول لدى البعض في المؤسسة السياسية السعودية للخروج من تحت عباءة النفوذ الأميركي”[29]، وأن هناك حاجة لدى الروس لاختبار ما إذا كانت تلك “مساع للقيام بلعبة خاصة ما مستقلة عن الولايات المتحدة” أم “أن ذلك نتاج قرار سياسي جدي وموزون”[30].

أثر العامل الديني

إذا كان العامل الديني معطلا في العلاقات السوفييتية والروسية – السعودية في السابق، خصوصا أثناء مناهضة السعودية للوجود السوفييتي في أفغانستان، ثم مناصرتها الإسلاميين الشيشان، فإنه يلعب الآن دورا إيجابيا هاما في تعزيز هذه العلاقات[31]. فلقد تغير الوضع جذريا في أفغانستان. وبالنسبة للقضية الشيشانية أكد الملك عبد الله أثناء زيارته لموسكو عام 2003  أنها مسألة داخلية، “وأن حلها يجب أن يقوم “على أساس القوانين الروسية”[32].

أطر ومجالات التعاون الاقتصادي الممكنة

على خلفية تلك الاستراتيجيات السياسية بدأ منذ العقد الأخير في القرن الماضي ينشط التعاون بين وروسيا ودول الخليج في إطاري القطاع الخاص وقطاع الدولة. بينت التجربة، على مثال دبي الذي أوردناه أعلاه، أن تعاون ممثلي القطاع الخاص بين الطرفين غير قادر على تعزيز القدرات الاقتصادية للدول بسبب المجالات التي انصبت إليها رؤوس الأموال، وخصوصا العقار. غير أن التعاون القائم على أساس الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة الروسية من جانب وحكومات بلدان مجلس التعاون من الجانب الآخر هي التي تعطي الضمانة لتعاون اقتصادي وفني عسكري ذو أفق استراتيجي ينعكس على واقع ومستقبل قدرات بلداننا. فالحديث يجري عن قطاعات ومشاريع ضخمة ذات آفاق استراتيجية، مثل : [33] 

-      تكرير النفط، إنتاج معدات للصناعات البتروكيماوية، وضمان أمن منشآت النفط والغاز،
-      المصارف والاسثمارات،
-      التكنولوجيات المتقدمة، بما في ذلك المعلوماتية،
-      غزو الفضاء،
-      الطاقة الذرية، الطاقة الشمسية، طاقة الرياح وإمدادات الطاقة،
-      صناعة الطيران وبناء الآلات والصناعات الإلكترونية،
-      التنقيب الجيولوجي، واستكشاف باطن الأرض من الفضاء،
-      تحلية مياه البحر، خزانات المياه، إمدادات المياه،
-      مد خطوط السكك الحديد،
-      تنظيف قاع الناقلات،
-      إعادة تصنيع مخلفات النفط،
-      البناء والتشييد.
 
 ومهما قيل من مآخذ في هذا الصدد فإن القطاع الخاص لا يستطيع أن يلعب دورا قياديا في تعاون اقتصادي بهذه الأبعاد الجدية. أكثر من ذلك فالواضح أنه بعد الأزمة العالمية الحالية ستكون الأسرع في الخروج منها هي البلدان التي تنهج طريق رأسمالية الدولة “state capitalism.”  مثل الصين، روسيا والهند، وكذلك كوريا الجنوبية، تايوان وسنغافورة في استمرار تنمية اقتصادها[34]. 
 
 
 
 

المصادر

[1] http://www.bestreferat.ru/referat-84267.html , 12.03.2007
 

[2]  وكالة أنباء نوفوستي، 9 أكتوبر 2008

[3]  مصرف روسيا المركزي، 12 دبسمبر 2008

[4] The Wall Street Journal, 19.12.2008

[5]  ”روسيسكايا غازييتا”، 25.07.2008 ، موسكو

[6] Source : IMF, 2007 values. Gross domestic product adjusted for purchasing power parity (PPP) – an identical basket of goods costs the same in each country.

[7] Kudrin’s Lectures, 2006. О денежно-кредитной политике в современных условиях

[8] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006
 

[9]  Goldman Sachs, october 2007

[10] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006  

[11]Goldman Sachs, october 2007

[12]  جامعة الدولة، مدرسة الاقتصاد العليا، موسكو،  http://new.hse.ru

[13]  نفس المصدر

[14] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006   

[15]  الشرق الأوسط، 15 فبراير 2007

[16]  أنظر في ذلك : عبد الجليل النعيمي، صحيفة الوقت البحرينية، 30.10.2006

[17]  صحيفة كمرسانت – فلاست الروسية، 03.07.2006

[18]  المذكرة التفسيرية لميزانية روسيا الاتحادية، المادة  96 – 1.

[19]  الأرقام مستقاة من “الكتاب السنوي، اتجاهات التجارة الدولية، 2006” و كتيب : “المنتدى السابع لاجتماع مجلس الأعمال العربي  الروسي، مملكة البحرين، 21 – 22 مايو 2007، ص ص 7و9. 

[20] جريدة الرياض السعودية اليومية، 7 مايو 2008

[21]  نفس المصدر.

[22] http://www.russarabbc.ru/rusarab/detail.php?ID=1306

[23] http://www.russarabbc.ru/rusarab/detail.php?ID=1306
 

[24] http://ar.rian.ru/policy/arab/20070905/76879982.html  

[25]  المصدر رقم 18

[26] http://www.iimes.ru/rus/stat/2009/11-01-09.htm

[27] http://www.iimes.ru/rus/stat/2009/11-01-09.htm

[28]  ”الأعمال في روسيا”، ملحق “روسيسكايا غازييتا”، 22 أغسطس 2007

[29]  مقابلة أجرها راديو فرنسا الدولي RFI  مع جاك سابير، 15 فبراير 2007 

[30]  المصدر السابق

[31]  أنظر http://www.islam.ru/pressclub/analitika/saronat/

[32]  نفس المصدر

[33] ( أنظر في ذلك : مععهد الشرق الأوسط، موسكو ، http://www.iimes.ru/rus/stat/2008/02-12-08b.htm )

[34] Global Trends 2025:.A Transformed World, National Intelligence Council November 2008, p. vii
اقرأ المزيد

الشـــهيد



قصيدة أخرى للشاعر عبدالحميد القائد ألقيت في الحفل الفني المشترك ” من أجل غزة ” الذي أقامته كل من جمعيتا العمل الوطني الديمقراطي والمنبر الديمقراطي التقدمي مساء الجمعة 23 يناير 2009 وشاركت فيه مجموعة متميزة من الفنانين البحرينيين   والتي تفاعل معها الحضور بالاستحسان والتصفيق.




 







 



الشـــــهيد 






 

    (1) 

أيتها الجثة العطرة
أيها الميتُ الحي
أيها الحي الميتْ
لا شيءَ بيدي
غيرُ قبلةٍ خجولةْ
اطبعْـهَا نجمةً على شموخِ جبهتِكْ
كي تستيقظْ
استيقظْ منتصراً على دمِـكَ
دمـُكَ  هزمَ الموتْ
دمُـكَ قهرَ الخوفْ
كلُّ المدائنِ خائنةٌ
كلُّ المدائنِ مستباحةٌ
انهضْ
لا قبرَ لكْ
لا أرضْ لكْ
كلُّ القبورِ لَفَـظَـتْـكَ
فابحثْ لكَ عن قبرٍ
أو أُغرزْ أظافِـرَكَ في الإسفلتِْ
لتحفرَ لحدَكَ
وحدُكَ 
              
   (2)      
  
احملْ جثتَـكَ الآنَ
احملْـهَا على كِتفِـكَ الدامي
أُغْرزها في قلبي
أُغْرزها في عيني
كي أصحوْ
كي نصحو نحن الأفاقين 
  
  (3)
     
هنا ينامْ
هنا ينامُ وحدَهُ
يعانِـقُ الترابَ
أو فَـلْـنَـقُـلْ يراقصُ الأرضَ
مثلَ عاشقٍ
هنا ينامُ في هدوءْ 
ليس جثةً
إنَّهُ وردةٌ على جِبَاهِكُمْ
نجمةٌ على صُدُورِكُمْ
كي تنتصروا
في غدٍ تنتصروا

  

اقرأ المزيد

مقاطع فلسطينية

قصيدة للشاعر عبدالحميد القائد ألقيت في الحفل الفني المشترك ” من أجل غزة ” الذي أقامته كل من جمعيتا العمل الوطني الديمقراطي والمنبر الديمقراطي التقدمي مساء الجمعة 23 يناير 2009 وشاركت فيه مجموعة متميزة من الفنانين البحرينيين  والتي تفاعل معها الحضور بالاستحسان والتصفيق.
 
 

 


مقاطع فلسطينية





(1)



فلٌ وسينٌ وطينْ
فلسطينْ
مزقوا نصفَيْكِ وسموْكِ طينْ
فانهضْ يا حرفَ السينْ
أمطرْ حُباً
أمطرْ موتاً 
أمطرْ حِمماً تقبرُ حلمَ النازيينْ
واحفظْ اسمَكَ
فلاً وسيفاً وطينْ 
  
   
(2) 
 
فلسطين
يا جمرتَـنَا المؤودةَ في القلبْ
يا لهباً يتلظى في اللحدْ
يا عرساً ينتظرُ موعدَهُ
موعدُهُ آتٍ … آتٍ
يُبعثُ في الغدْ
فانهضْ يا حرفَ السينْ
انهضْ سيفاً لا يلوى
انهضْ جُرحاً  في القلبْ
في كلِّ المُدنِ الخائنةِ
فلسطين اشتعلي قنبلةً
في حَلْـكَةِ ليلِـنَا العربي
فلٌ وسيفٌ وطينْ


 


 

اقرأ المزيد

مبادرة المنبر التقدمي

في 26 – 27 يناير/ كانون الثاني الماضي عقدت اللجنة المركزية للمنبر الديمقراطي التقدمي في البحرين دورتها الـ 16 لدراسة الوضع في البلاد وإطلاق التحضيرات لمؤتمر المنبر العام الخامس الذي سيعقد في أبريل/ نيسان المقبل. ولأن المؤتمر سيعقد قريبا فإن مختلف هيئاته ستعكف على إعداد أجزاء الوثائق المهمة التي ستعكس وجهة نظر المنبر حول أوضاع البلاد ومساهمته برؤيته لسبل الخروج من هذه الأوضاع.
غير أن الأمور بلغت حدودا تجعل من الانتظار خيارا سياسيا غير رشيد. ولهذا جاء بيان اللجنة المركزية عن نتائج أعمالها أكثر إسهابا وتركيزا من المعتاد على عدد من القضايا المهمة. ومن بين مجمل القضايا التي تضمنها احتلت مركز الثقل دعوة المنبر إلى «مبادرة وطنية شاملة لمنع تدهور الأوضاع أكثر فأكثر[1]». وقد اكتسبت في الصحافة تسميات عدة كمبادرة «حلحلة» الأوضاع و«مبادرة المنبر».. إلخ. لكنها ظلت تشغل بال الصحافة المحلية والرأي العام في البحرين طيلة الأسبوع الماضي وحتى مساء البارحة، حيث الندوة المهمة باشتراك حسن مدن، الأمين العام للمنبر ومنصور الجمري، رئيس تحرير صحيفة ‘الوسط’ البحرينية والشيخ صلاح الجودر. أن تفعل ما هو مطلوب بالضبط، رغم أن أحدا لم يطلب منك ذلك، تلك هي المبادرة التي قال عنها الحكماء إنها تحويل الطاقة الكامنة داخليا إلى طاقة عمل هادفة. أما المبادر فهو من يطلق المبادرة منطلقا من ظروف الحاضر بعين ترمي نحو المستقبل. ولهذه الأسباب فإن لكلمة «مبادرة» و«مبادر» رنين خاص يشد الآذان في اللحظات الأولى ويشغل العقول لفترات أطول.
الكثيرون تحدثوا عن المبادرة إيجابا. وقليلون إما تحفظوا أو انتقدوها انتقادا لاذعا، ومهما اختلفت الآراء فإن ما أثارته من اهتمام يعني حاجة السياسيين والناس عامة إلى المضمون الأساسي الذي تتحدث عنه المبادرة : «الحوار البناء».
لنبدأ بالنقد الشديد اللهجة. «عن أي حوار تتحدثون؟» احتجت زميلتنا الكاتبة القديرة سوسن الشاعر في مقال لها بهذا العنوان[2]. بالتأكيد ليس عن الحوار الذي ذهبت إليه الكاتبة في فهمها للمبادرة. بل على العكس وبدقة متناهية. ولنضع نقاطا أكثر على الحروف. إن أهم المثالب التي شابت العملية الديمقراطية هي أن غالبية الحوارات التي سبقت إقرار ميثاق العمل الوطني، وتلك التي أعقبته لم تكن حوارات وطنية عامة للأسف، حتى وإن اكتسبت بعض هذا المضمون. كانت بين طرفين رئيسيين – الدولة ورموز من المعارضة الدينية. وبصراحة كانت بين طرفين لم يمتلكا الطبيعة الديمقراطية، ولا يحسنا استخدام أدواتها. طرفان أرادا الانتقال من علاقة القوة بينهما إلى حالة أفضل: علاقة القانون. هذه العلاقة الأخيرة هي التي ناضلت وضحت من أجلها القوى الوطنية الديمقراطية عشرات السنين. لكنها أسقطت من «الحوار الوطني». ومع ذلك فهي باركت العملية الديمقراطية وعملت على تطويرها بحماس أكثر مما لدى الطرفين «المتحاورين». أما هل يمكن أن يسير حوار واتفاقات في موازاة القانون؟ نعم، بلا حرج، يمكن ذلك. وهو معمول به في أكثر بلدان الديمقراطية عراقة. لا لتجاوز القانون، بل لتدارك ما لم يعالجه القانون بشكل شاف بعد. عادة المجتمعات وحاجات المجتمعات تتطور بأسرع مما يتطور التشريع، ويكون على القانون اللحاق بها. ومن هنا تعمل في تلك البلدان آليات الاتفاق الاجتماعي إلى جانب آليات القانون مع الاحتفاظ بسيادة القانون بالطبع. المسألة هي أن مثل هذا الحوار يجب أن يدور بين جميع أطراف المعادلة السياسية ويخرج بما يخلق حالة توافقية بين الجميع، شريطة ألا تستثني أحدا، بينما تستثني القوة كشكل من أشكال «الحوار». على صعيد الممارسة العملية كانت الحوارات بشكلها الخاطئ الذي أشرنا إليه تسير حتى العام الماضي داخل البحرين وخارجها بين الطرفين. ولا عجب أنه لم، ولن يمكن الوصول إلى حلول سليمة أو حتى ضمان مراعاة طرفي الحوار للاتفاقات التي يتم التوصل إليها بينهما «من دون شهود». عندما طرح المنبر دعوته للمبادرة الوطنية انطلق من أن قوى التيار الوطني الديمقراطي تستطيع أن تلعب دورا أكثر فاعلية من غيرها في إنضاج ظروف الحوار وتحقيق نتائجه المرجوة ما أمكن. وهذا ليس من باب الاعتداد بالذات بقدر ما هو إيمان بهذا الدور كواجب، ونظرا لثقة الآخرين بجدواه. وقد عبر الشيخ صلاح الجودر عن هذه الثقة عندما قال «إننا نعاني من مشكلة في عدم وجود قناة تتولى الدعوة إلى الحوار، والوضع الحالي يؤكد الحاجة إلى مثل هذه المبادرات لفتح القنوات.. نحن بحاجة لجهة وسط غير منحازة لوضع الملفات الموجودة في الساحة وإعادة دراستها[3]». وإلى حد ما كان رأي ممثل جمعية الوفاق الإسلامية السيد هادي الموسوي: «لا إشكال لدينا في أن نقف مع مثل هذه المبادرة التي دعت إليها جمعية المنبر التقدمي[4]». وكذلك شدد الشيخ محمد علي المحفوظ الأمين العام لجمعية العمل الإسلامي: «.. المطلوب أن نسعى للتواصل مع بعضنا بعضاً، ووقف التعامل بلغة الطرشان أو أية لغة أخرى، فبدلاً من تشغيل ماكنة القوة والقوة المضادة والحوارات المتناثرة من هناك، فمن الممكن أن نجتمع لنتناقش بشأنها (أي مبادرة المنبر التقدمي)..[5]». ليست مبادرة «التقدمي» سوى الخطوة الأولى نحو حوار وطني شامل من أجل العبور الآمن للتحديات التي تواجهها بلادنا اليوم. وواعيا هذا الأمر أكد حسن مدن، الأمين العام للمنبر على «أنه حتى لو بدت الظروف غير مؤاتية ظاهرياً للبدء في خطوات عملية، فيجب العمل على تهيئة ذلك، إذ لابد لأي خطوة على الأرض أن تسبقها تهيئة ظروفها[6]». ويبقى الأمل أن تستجيب الدولة لهذه المبادرة، باعتبارها، كما أكد مدن «طرفا رئيسيا، والحوار يجب أن يكون بين الأطراف المختلفة[7]».

[1] بيان الدورة ,16 ل. م. للمنبر الديمقراطي التقدمي – البحرين، 26 – 72 يناير/ كانون الثاني .2009
[2] «الوطن» البحرينية، 5 فبراير/ شباط .2009
[3] ، [4] صحيفة «البلاد»، 3 فبراير/ شباط .2009
[5]، [6]، [7] صحيفة «الوسط» البحرينية، 6 فبراير/ شباط .2009

صحيفة الوقت
9 فبراير 2009

اقرأ المزيد

الأديانُ أكبرُ من الأنظمة

تقوم الأنظمة دائماً بتمثيل عنيف ومستبد للأديان، تقول إنها الوحيدة الممثلة للديانة، وماعداها هرطقات أو انحرافات.
هي محاولاتٌ عنيفة عاطفية، وفكرية، ومتشنجة أو عقلانية مدعية، أوتعصبية قاتلة، أو إلحادية مضادة ساحقة، وغير هذا من المحاولات لتمثل الأديان أو نفيها.
لكن الأديان أكبر من الأنظمة.
والمسألة تعود لسر بسيط هو أن مؤسسي الأديان كانوا أصحاب تضحية، ودمجوا تضحياتهم في الرموز الدينية.
ومن الجهة المعاكسة كان مشيدو الأنظمة قوى استغلال وقهر للأغلبية من السكان.
فكان مشيدو الأنظمة يسحبون الأديان لتلائم أسرة أنظمتهم، فإذا زادت الأديانُ قطعوا أطرافها وإذا تقلصت سحبوها بأدوات الجر الثقيلة من مثقفين وجلادين.
والغريب هو أن الأديان تغلبت في حضورها على الأنظمة الفكرية الحديثة المنتجة في الغرب.
وقد قامت تلك الأديان الناشئة في الأزمان القديمة على أبطال فرديين كبار، رهنوا أنفسهم لتضحية جسيمة، وطرحوا نموذجاً للعلاقات الاجتماعية يتجاوز عصرهم، وفيه بذرة مهمة للتعاون الإنساني الكبير مثل قول الانجيل والقرآن معاً إن الأرضَ يورثها الله للفقراء والعبيد، وهو قول يتفق مع البيان الشيوعي يا عمال العالم اتحدوا!
الأنبياء والأئمة والمجاهدون والمضحون على مر العصور قاوموا في أزمنتهم قوى الاستغلال، فكان هذا هو الخالد الباقي في الأفكار والأديان، وهي أقوالٌ عامة تصلح لكل زمان ومكان، ومع هذا فهي مجردة، غير محددة بخطط تناسب كل العصور، رغم أن الرسالات الدينية في زمنها حددتْ الموقفَ السياسي الدقيق في عصورها.
ومهما تضاربت الأقوالُ في المسيح ومهما كثرت الروايات والمذاهب وتعددت الاجتهادات، فإن القصة تقومُ على رجلٍ مضح، قال بعضهم انه صُلب لأنه ابن الإله، وقال آخرون إنه إنسان وصُلب، وقال آخرون إنه لم يُصلبْ لأن الله نجاه، وقال آخرون وآخرون كثيراً من الروايات.
لكنهم اتفقوا جميعاً بأنه إنسانٌ مضح، لم يقل أحد إنه مزور أو كاذب، أو استغلالي، وأنشأ شركة ليلتهم أموال المودعين، أو أنشأ دولة جعل أموالها في جيبه.
أخذت الناس على مر العصور تضحيته الرمزية، لكن التابعين له والمؤسسين الدول باسمه، لم يصلوا إلى نموذج تضحيته، والصليبُ دليلُ المعاناة، فالشوك والجراح والوقوف المقيد على الخشب الصلد، ليس سوى أمثولة للمعاناة في اقصى حالاتها، ليس سوى رمز للتضحية، فدع عنك المماحكة في حقيقتها، فما هي سوى صورة للإنسان المعذب في كل العصور، والضحية والرمز القائد للذوبان والامتثال لقوى البطش.
فهذه الصورة للصليب الكنائسي المعاصر ثبت علمياً انها غير دقيقة، ولا تتطابق مع نماذج الصلبان التي يتم الإعدام عليها في ذلك العصر وبمقاييس الخشب ونسبه وبأجسام المصلوبين عليه!
ولكن ليس المهم الحيثيات الصغيرة الملموسة، ولا الخيالات الشعبية، المصاحبة لظاهرات خطيرة مثل هذه لا تتكرر سوى في قرون.
وهي قرونٌ فاصلة بين عهود وعهود، فيها نهضة وتحولات لم تكن من قبل.
بل المهم هو المضمون العميق المجسد في كائن بشري يرفض خيارات المتع والسعادة الشخصية والجهل والسير وراء قطعان الذل ليطرح شيئاً آخر فيه ثورة خطيرة في العلاقات الاجتماعية، وفيه إزالة للإمبراطورية الرومانية وأنظمتها المتعسفة التي تقهر عشرات الملايين من الناس.
وكلما زادت الأنظمة استغلالاً وبشاعة في تمثلها للرموز الدينية زادت تلك الرموز من توهجها وتحديها لمن يتمثلها!
الأنظمة والجماعات الدينية السائدة تطرح الرموز الدينية المضحية وهي غير قادرة على التضحية بل على جمع الأموال من الناس وتراكمها للمتع!
وهذا يُحدث شروخاً عميقة مثلما أن المعلم يعلم الفضيلة ثم يعتدي على تلامذته!
من يتصدى لتعليم نماذج التضحية يُرى للجمهور وهو يحول بيته أو قصره إلى مخزن هائل للسلع، وهو يضع الحراس لحمايتها والكلاب لتتشم أي متسلل إليها،، ويحول الميزانية لصالحه ولصالح جماعته، ثم يمضي لمراكز العبادة ليحرق البخور ويلعن اللصوص والملحدين بالعقيدة والمفسرين الخطرين لها، والناسخين لفحواها!
وقد وجدت الأنظمة الغربية أن إبعاد الكنيسة عن السياسة هو أمر جيد، لكن تم ذلك للسيطرة على أراضي الكنيسة التي كانت أكبر الأملاك الزراعية، ومن أجل أن تكون مجالاً لاستثمار الحكام الجدد وأصحاب رؤوس الأموال، لكن الدين يجب أن يظل في صيغه العبادية، المحددة من قبل الكنائس لكي تنتشر الفضيلة!
لم يستطع الحكام الغربيون وطبقاتهم المالكة أن يكونوا في مستوى رموز الديانة التضحوية، والغيبية، والأمثولة المطلوبة لتواريخ البشر الراهنة والمستقبلية، وهم يعمقون الاستثمار الرأسمالي الواسع النطاق في بلدانهم وفي الكرة الأرضية قاطبة.
الاستغلال الرأسمالي هو تطور وكوارث ومشكلات، وهو تقدمٌ مصحوب بالألم وبالنجاح وبقوى التصحيح المتابعة للأخطاء، وهو يماثل على نحو ما رمز المصلوب، المرتفع والنموذج، لكن الرأسمالية تعجز عن المطابقة مع رمز المصلوب المضحي بكل شيء، ولهذا فإيديولوجيات الرأسمالية الحديثة تزول وتستمر الديانة.
كذلك فإن الديانة ذات حضور شعبي، وفي عمقها رمز اشتراكي يقول بضرورة زوال الاستغلال والملكية الخاصة لوسائل إنتاج الحياة والبقاء، وان البشر يجب أن يتساووا ويعيشوا سعداء، ولكن ذلك يتطلب تطور قوى الاستغلال حيناً وقوى النضال ضد الاستغلال حيناً آخر وأبداً.

صحيفة اخبار الخليج
9 فبراير 2009

اقرأ المزيد

في حماقة المرجعية البديلة

بدعوتها إلى تشكيل مرجعية سياسية جديدة للفلسطينيين بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية ترتكب حركة «حماس» خطأ سياسياً فادحاً، يضاف إلى سجل تقديراتها السياسية الخاطئة، ومن بينها الطريقة التي تعاطت بها مع العدوان الصهيوني الهمجي الأخير على غزة. لقد قطع الفلسطينيون درباً طويلاً شاقاً، لكي يعترف العالم بمرجعية سياسية لهم، هي منظمة التحرير التي تعاملت معها حكومات العالم والمنظمات الدولية، بما فيها هيئة الأمم المتحدة بصفتها ممثلا شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وقدم الفلسطينيون الكثير من الدماء والدموع والتضحيات والعمل السياسي والدبلوماسي الدؤوب لكي يذهب الراحل ياسر عرفات إلى الجمعية العمومية لهذه الهيئة، ويُلقي فيها خطابه الذي ذاع صيته في العالم من خلال العبارة الشهيرة: «أتيتكم حاملاً البندقية في يد وغصن الزيتون الأخضر في يدي الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي». لا نعلم إذا كانت حماس ومن يناصرها من تنظيمات وقوى، فلسطينية وعربية، تدرك أنها بدعوتها لإيجاد مرجعية بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ترتد على واحد من أهم مكتسبات الشعب الفلسطيني السياسية ذات الأهمية التاريخية، وتقدم خدمة مجانية لإسرائيل التي ستكون المستفيد الأكبر من تعدد المرجعيات الفلسطينية وتشظية القرار الفلسطيني إلى مجموعة قرارات، وتكريس وقائع ميدانية على الأرض تسمح لها بالتهرب من الضغوط الدولية عليها تحت ذريعة: مع مَن مِن الفلسطينيين نتفاهم أو نتفاوض، طالما كانت هناك أكثر من مرجعية. ومن المحزن ألا يقف الأمر عند حدود الدعوة إلى إيجاد مرجعية ثانية إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما يبلغ حد اعتبار حركة حماس وحدها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، على نحو ما يطالب به «الإخوان المسلمون» في الأردن اليوم. وهو أمر لم تدعيه لنفسها حتى حركة فتح عندما كانت في كامل جماهيريتها وقوتها ونفوذها، حين حرصت على إدماج أكثر التنظيمات الفلسطينية اختلافاً معها في إطار منظمة التحرير، التي لم تكن تمثل «فتح» وحدها، مع ما لهذه الأخيرة من سطوة ونفوذ في المنظمة. الدعوة إلى مرجعية ثانية، أو بديلة، هي خطوة تصعيدية خطرة في اتجاه تعميق الانقسام الفلسطيني، بل انه سيجعل من الأمر أعلى من مجرد انقسام حول السلطة ليشمل مجموع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وهو تصعيد يأتي على النقيض تماماً من المنطق الداعي لاستخلاص الدروس المُرة من العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني في غزة الذي شنته آلة الحرب الصهيونية، منطق العمل على وحدة الصف الوطني الفلسطيني في إطار مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية، التي، رغم كل الأخطاء والتجاوزات، تظل الإطار الذي يضم غالبية الفضائل الفلسطينية. وليس أمراً غير ذي مغزى أن الدعوة لقيادة بديلة لمنظمة التحرير ترافقت مع تصريح المبعوث الأمريكي الجديد جورج ميتشيل إلى الاتصال مع العنوان الصحيح والى عدم تجاهل المقاومة، في إشارة واضحة إلى استبدال التمثيل الرسمي الفلسطيني. والمقاومة حق شرعي لكل شعب احتلت أرضه وسُلبت حقوقه، فما بالنا بالشعب الفلسطيني الذي يعاني منذ أكثر من ستة عقود من الاحتلال والعدوان والحصار والتشريد، فمن حقه استخدام كافة أشكال النضال، بما فيها النضال المسلح، لكن المقاومة، بكافة أشكالها، بما فيها المقاومة المدنية والسلمية، ليست حكراً على حماس، وإنما هي تراث ورهان لكل الفلسطينيين الحق فيه.
 
صحيفة الايام
9 فبراير 2009

اقرأ المزيد