لو أننا نظرنا إلى الواقع الثقافي العربي بشيء من المعاينة والتمحيص والتفكر في سبيل النهوض به وانتشاله من الموقع الدوني الذي هو فيه اليوم، لوجدنا انه لا مكانة لما يمكن أن ندعوه بسلطة الثقافة، لا في وسائل الإعلام ولا في وسائل التعليم. رغم انه بوسعنا تعداد مجموعة من مظاهر الإنتاج الثقافي والفني، ألا انه لا يمكن الحديث عن وجود جبهة ثقافية نقدية نظرية إبداعية ذات سلطة فاعلة مؤثرة لا على المستوى الوطني في كل بلد عربي ولا على المستوى القومي العام في مواجهة ثقافة السلطة العربية السائدة كما قال الأستاذ محمود أمين العالم ذات مرة. في هذا السياق علينا أن نفرق بين نمطين أو نموذجين من المثقفين، الأول هو نموذج المثقف المهني أو المتخصص، والثاني هو المثقف بالمعنى الشامل للثقافة، أي ذاك المُدرك للشرط الاجتماعي والمهموم بالشأن العام والحريص على التغيير والتجديد، مع ملاحظة حاجتنا الملحة إلى هذا النوع من المثقفين في مواجهة غلبة وهيمنة النمط الأول، لأن اللحظة العربية الراهنة تقتضي إيجاد إطار عربي شامل، على شكل جبهة تجمع هؤلاء المثقفين. لا يمكننا إغفال حقيقة أن المشهد الثقافي العربي الراهن مشهد مأزوم، لأنه يجمع في داخله النقائض بحكم تعدد الأزمنة التي تتعايش في هذا المشهد، من زمن النهضة إلى زمن الانترنت، كأن هذا المشهد لا ينتقل من قرن إلى آخر، ومن عصر ماضٍ إلى عصر جديد في صيغة التتالي أو التعاقب كما يفترض منطق الأمور، وإنما يتنقل بين هذه الأزمنة جميعا على مستوى التزامن الآني. وفي إحدى أوراقه البحثية أعطى الدكتور جابر عصفور أمثلة عدة على تعايش التناقض: اتساع نطاق التعليم، بما فيه التعليم العالي يترافق مع تدني مستوى البحث العلمي وتضاؤل الحرية الأكاديمية، اتساع وتعدد أجهزة الإعلام، خاصة المرئية منها، يترافقان مع اتساع مساحة المسكوت عنه بالقياس إلى المنطوق به، ادعاء المثقفين العرب بالديمقراطية يترافق مع توسلهم لأساليب قمعية في علاقتهم مع الرأي الآخر، الدعوة إلى تعدد المراكز الثقافية العربية وإعادة صوغ العلاقة بين المركز والأطراف، تترافق مع الميل المتزايد لبسط هيمنة مركز معين على الآخرين، فضلا عن أن دعاة هذا المركز أو ذاك لا يقيمون وزناً لفكرة التعددية داخل هذا المركز نفسه. الثقافة هي اللحمة التي تشد أجزاء المشهد العربي الراهن بعضها بعضاً، وعلينا تصور مقدار الخراب الذي آل إليه واقعنا العربي حين نُمعن النظر في الظواهر أعلاه والتي يبعث تشخيصها على التأمل على الأقل، علنا نرى حجم المخاطر التي تتهدد ما يمكن أن نعده سد الدفاع الأخير في مواجهة واقع آيل إلى المزيد من التردي.
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008
من النهضة إلى الإنترنت
لا تحيوا ذكرى ” الهيئة ” فقط
لم تكن الأحداث الطائفية التي جرت في الخمسينات هي الوحيدة التي دفعت أعضاء الباكر والشملان والسيد كمال الدين وغيرهم من أعضاء هيئة الاتحاد الوطني الى الاجتماع في مأتم بن خميس لتشكيل الهيئة، بل كانت النوايا الصادقة في الحفاظ على البحرين من أي فتنة أو شر طائفي هي الأساس لإنجاح دور وطني لتلك القادة. أعطى قادة الهيئة نموذجاً رائعاً في التعايش والتواد والعمل من أجل المواطن اياً كان معتقده، يقفون جنباً الى جنب في كل الفعاليات التي قررتها الهيئة للدفاع عن الحقوق، وأكثر الصور المعبرة هي تلك التي تظهر عبدالعزيز الشملان يخطب في الجماهير ويقف أمامه عبدعلي العليوات وغيرهم من قادة الهيئة متوحدين على المطلب، ويلتف خلفهم المواطنون لأنهم شعروا بان من يخطب لم يكن مزايداً ولا محرضاً من اجل التحريض فقط، كما هو حال بعض السياسيين الان، ينادون برفع الأصوات والافعال وأبناؤهم خارج البحرين للدراسة، مؤمن مستقبلهم، وأبناء الفقراء في فوهة المدفع. اكثر ما نحتاجه اليوم ان نعيش فكراً وعقلاً وروحاً ووجداناً مع قادة الهيئة، لا ننظر الى العصبيات المزيفة، ولا الخلافات المصطنعة، ولا الزعامات الطائفية التي يتناحر قادتها من اجل الحفاظ على الزعامة والكرسي، بعيداً عما يمكن ان يحقق للناس طموحهم، المهم عندهم هي الذات والحزب، اما الناس فليحترقوا. نحتاج ان نعيد النظر في التاريخ ونستفيد منه، ونقيم أخطاءه، لا ان نعيد الذكرى بالاحتفال فقط، حتى لا يعاب علينا باننا تناسينا التاريخ وتجاهلناه. إحياء التاريخ هو إعادة إسقاط المراحل الايجابية على واقعنا المعاصر، ففي ظل الاستقطاب الطائفي الذي يلعب به بعض الساسة انجر بقصد او بغير قصد بعض من نحترمهم ونقدر مواقفهم الوطنية، وفنعلن خوفنا عليهم من الوقوع في الفخ. إحياء ذكرى الهيئة الوطنية يحتاج الى الانفتاح الكامل على تاريخ ومراحل الهيئة، والتوقف أمام ما تعانيه الحركة السياسية حالياً من تسعير طائفي، والأجدى من ذلك، هو المحاولة في زرع الروح الأخوية التي كان يتحلى بها أعضاء وقادة الهيئة.
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008
قمم التعاون الخليجية… السهل الممتنع!! (١-٢)
دأب وزراء المالية والاقتصاد والخارجية في دول مجلس اللتعاون الخليج في مثل هذه الفترة من كل عام ومنذ قيام المجلس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، على تكثيف جلساتهم التحضيرية التي عادة ما تسبق انعقاد القممم الخليجية، وصولا الى قمة مسقط التي ستنعقد هذا العام في الفترة بين ٩٢ ـ ٠٣ ديسمبر الجاري، والتي تسعقد وسط حديث لا يتوقف باستمرار وفي مثل هذه الفترات من كل عام حول اهمية القمة التي يجري التحضير لها، والتي كثيرا ما تلازمها مقوللة مكرورة لا يبدو ان هناك رغبة من قبل اللمعنيين بالتوقف ولو قليلا لتأملل مغزى تكرارها، ومفادها »ان القمة الخليجية تنعقد هذا العام وسط تحولات اقليمية ودولية غاية في الخطورة..« ٠٠١وكأن تلك المقولة اصبحت لازمة لابد منها.
فها هي اجتماعات الدورة التحضيرية الوزارية لقمة مسقط القاددمة تجرى على قدم وساق، ومن المعروف انه لا تصدر عاددة عن تلك الاجتماعات التحضيرية اية بيانات، انما توصيات ترفع في نهاية المطاف الى القمة التي تدرجها على جدول اعمالها ليتم تداولها من قبل القادة خلال فترة انعقاد القمة. على ان الملاحظ باستمرار على تلك الاجتماعات التحضيرية وكذلك على جدولل اعمال القمم باختلاف ظروف وفترات انعقاددها، انها كثيرا ما تتحدث عن ذات القضايا والمواضيع التي تشبعت اذان شارعنا الخليجي بها حتى ملت وسئمت تكرارها من دون توقف، خاصة ان الجميع يعلم ان الكثير من تلك القرارات الصادرة عن قممنا الخلجية وعلى مددى ما يربو من ثلاثة عقودد تظل بعد استصدارها محل حوارات لا تنتهي هي الاخرى بين المختصين والمعنيين بشـأنها، وتعقد لها النددوات والمؤتمرات دون ان يلمس الشارع الخليجي ياة انعكاسات ملموسة لها، مما يشيع معه حالات من الاحباط العام والياس لدى الناس في امكانية حصول تغيير حقيقي بالنسبة لاوضاعهم الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية، حيث تبقى تلك القرارات الخليجية المشتركة محل غبطة وفرح واحتفاء بها لفترة زمنية محدودة جدا تلي انتهاء جلسات تلك القمم، الا انها سرعان ما تبدو وكأنها شيئا من السهل الممتنع. فهي قرارات جرى اتخاذها وباجماع في الغاللب بين الدول الست، الا انها كثيرا ما تتوه بين زحمة البيروقراطيات الحكومية واهمال دوائرها الرسمية وبين عدم جديدة البعض في تنفيذها، ليتجه كل طرف خليجي بعدد ان ينفض السامر كما يقال لللتركيز على الشأن الفردي المحي الصرف، بدلا من مسائل التعاون المشترك، والذي هو عنوان مجلس التعاون الاهم فها هي قمة مسقط على وشك الانعقاد ويجري التحضير لاجتماعاتها، والعالم بالفعل يمر هذه المرة باسوأ ازمة مالية واقتصادية شهدها منذ الشعرينات من القرن الماضي، ومع ذلك لا زال حديبث دولنا حولل قضايا، بالرغم من كونها اساسية، الا اننا يفترض بحكم عمر التجربة التي هي على مشارف انتهاء عقدها الثالث، وبالنظر الى ما اسلناه من حبر وعرق ووقت وجهود واموال واجتماعات لجان وخبر اء ووزراء وقمم، ان نكون قد حققنا الكثير في العديد من الملفات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحتى نطمئنن نحن الشعوب الخليجية الى انتفاءء المقوللة الشهيرة المعروفة عن اجتماعات قممنا الخليجية اسوة بالعربية ايضا، والتي مفادها ان افضل ما تم تحقيقه على الارض هو التنسيق في الملفات الامنية دون سواها! وبنظرة سريعة لطبيعة الملفات التي يجري التحضير لرفعها للدورة التاسعة والعشرين لمجلس التعاون الخليجي هذا العام، وكما جاءت على لسان امين عام المجلس عبدالرحمن العطية هي ملفات مثل ازالة العقبات التي تعترض مسيرة التعاون ومشروع الربط المائي بين دول المجلس ، وبالمناسبة لا ندري حتى الللحظة اين وصل ملف الربط الكهربائي؟!، كذلك يجري الحديث حولل ملف مشروع السكة الحديد بين دول اللمجلس والذي اشبع بحثا، حتى انه يتراءى للنا كالسراب الذي لا نستطيع بلوغة، وملف حول مرئيات الهيئة الاستشارية الخليجية حول لالتضخم وارتفاع الاسعار – يجدر القول ان كل التقارير الاقتصادية الخليجية والعاللمية بدأت منذ فترة بحالحديث حولل تراجع مستويات الاسعار عاللميا ومحليا بالنسبة للسلع الاستهلاكية الاساسية، ونحن لا نزل نستعد لمناقشة تلك القضية!! فأين الديناميكية المفترضة في آليات عمل المجلس اذا؟ وملف آخر حول مسار التعاون مع الجمهورية اليمنية، وملف حولل المفاوضات مع الدول والمجموعات الاقتصادية، واعتقد ان المعني هنا بالتحديد هو ملف اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي، يجدر القول هنا ان العاللم بدأ بالتفكير في اشكال مختفة من التعاون التجاري بين دولله، حيث يجري التفكير ببدائل انجع كبديل التكامل الاقتصادي بين المجموعات والدول.. الذي رصيدنا منه ضئيل على اية حال فقد استغرقنا في ملف اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي قرابة الخمسة عشرة عاما، دون ان تفكر دولنا في فتح مسارات تعاون اخرى بديل مع دول مجموعة اسيان على سبيل اللمثالل او غيرها من التكتلات الاقتصادية الاخرى، على الاقل من زاوية ممارسة مزيد من الضغط على الاتحاد الاوروبي واستثمارا للوقت الذي ضاع منا حتى اللان معهم دون ان نخرج بنتيجة نكحل بها عيون دولنا واقتصاداتنا الخليجية…. «يتبع»
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008
قراءة مواطن للرؤية الاقتصادية (٣ ـ ٤)
بعد مناقشتنا في الحلقة الثانية مقولة « لا يمثل البحريني الاختيار الأمثل للقطاع الخاص» وعرضناها كحلقة مفرغة بالإمكان تجاوزها متى ما تم سد تلك الثغرة والحجج والانتقال برؤية الرأسمال المحلي إلى مرحلة الرأسمالية الإنتاجية والصناعية ، فليس الأجر المتدني يمنحك إنتاجية عالية حتى وان تذرعنا بالمهارات ، بعد أن تمكنا مهنيا توفير تلك المهارات الناقصة في سوق العمل.
الحجج قابلة للمناقشة ولكل معضلة حلول ومخارج ، بشرط أن يقبل الجميع تسويتها بشكل مرض وعادل في عالم ينبغي أن نعرف طبيعته الرأسمالية وأي نظام سياسي نحن فيه ومدى إمكانية تحقيق الأهداف ، في مرحلتها ونضوج تلك المرحلة في تقبل كل نوع من المطالب والأهداف . أطراف المعادلة في الصراع هنا ثلاثة الحكومة والقطاع الخاص والمواطنون ، وهم هدف الرؤية ومرتكزها الحيوي . وتعرضت الوثيقة باعتراف واضح إن هذه العلاقة بين أطراف متناقضة تشكل خلالا ، وينبغي معالجته لكي نضمن استدامة الازدهار والتنمية لاقتصادنا ، وعلينا باستمرار البحث عن علاجات ناجعة لتخطى الإشكاليات المحتملة والممكنة كما خبرتها الساحة السياسية البحرينية .
وإذا ما تم تخطي الإشكاليات السياسية ، فإن البحث عن بدائل وخيارات اقتصادية لتنويع مصادر دخلنا تصبح أكثر من ضرورة حياتية واقتصادية لتلك التحولات في عصر العولمة، هذا التنويع ونمذجة الاقتصاديات المتنوعة في نظام سياسي واحد يفتح أسئلة مصيرية تحتاج إلى وقفة شجاعة ، خاصة وان الرؤية بالعمق ، تطرح مشروعا يركز على مستقبل مرحلة ما بعد النفط ، فهذه الرؤية تؤسس لمقدمات تلك المرحلة القادمة ولجيل ولد مع الميثاق وسوف يترعرع مع الرؤية ، وهو المعني بتلقي مهارات جديدة لاقتصاد متنوع وعال الكفاءة قادر على المنافسة الدولية في سوق عمل عالمي مفتوح الأبواب . فهل بإمكان اقتصاد ريعي يعتمد على دخل النفط قادر على الحياة والاستمرارية أم انه بات يدرك أن تلك الطاقة عرضة للنضوب وعرضة للتبديل لأسباب لسنا بصددها حاليا ، ولكن المؤشرات العالمية جميعها تؤكد بحث المجتمع الإنساني عن بدائل طاقة نظيفة ، والبحوث والدراسات جارية ومتواصلة في هذا المجال ، وقد قطعت شوطا من التقدم ، وسيكون جيل الرؤية أول من سيحصد ثمارها ، فليس من المستغرب خلال عقدين ، أن تتحرك السيارات ببطاريات كهربائية في شوارعنا ! وان على القطاع الخاص أن يلعب دورا فعالا ومحفزا في العملية الإنتاجية دون خوف وتردد . يبدو أن الرؤية بمنحها القطاع الخاص وتوسيع رقعة الطبقة الوسطى الحالية والقادمة ، أمر حميد ، ولكن هذا العطاء الممنوح أو القسري بفعل واقع السوق ودورة الاقتصاد العالمي المتقلب ، هل يجعلنا نتكلم بكل مصداقية إن لهذا القطاع أسئلته ومخاوفه وحقوقه ، سواء كان القطاع الخاص أجنبيا أو محليا ، غير أن المحلي مصدر نقاشنا هنا ، هو أحقية تدخله الضروري في شراكة سياسية متكاملة ، في كل العملية المجتمعية ، بحيث نجده فاعلا في الحياة السياسية بشكل ايجابي ، بل ونجده في مجلسنا النيابي بقوته ونوابه كتيار مؤثر في صنع التشريعات والقرارات ، فالمسألة ليست فقط توفير مناخ صحي وقانوني للاستثمارات الأجنبية للقطاع الخاص ، وإنما بجعل قطاعنا الخاص أساسيا في عملية الحراك الاجتماعي والسياسي ، بدلا من هامشيته ومخاوفه التي غرزت في وجدانه خلال العقود الأربعة الأخيرة فظل متفرجا ومترددا يؤثر السلامة وبعيدا عن الصدام ، ولكي ننقله بسلام في تلك السكة يحتاج إلى تطمينات مستمرة لدخوله في اللعبة الاقتصادية ، التي ما زال يخشى دخولها بالكامل وبقوة .
وبما أن الحديث في هذه الحلقة تصب مناقشتها في القطاع الخاص وتنوع مصادر الدخل غير النفطي ، فان المبادرة والابتكار كما تقول الوثيقة مهمة ، ولن يستطيع صنع الإبداع والابتكار جهاز بيروقراطي تقليدي في بنية الحكومة ، فعادة الرأسمال الخاص هو من يطلق حوافز العمل الإبداعي أكثر من غيره ، فإلى جانب فكرة تطوير منابع الاقتصاديات الصناعية والمعرفية ذات التقنية العالية بقيمته المضافة ، سيكون على عاتقه مهمات تطوير مجال اقتصاد الخدمات المالية والسياحية ، فهل نترك له حرية أوسع مما هو سائد أم نجد أفكارا متشددة تقف في كل لحظة عرضة للتطوير والتقدم والازدهار الاقتصادي تحت حجج حماية مجتمعنا وواقعنا وبيئتنا المحافظة من الانحراف وغيرها من التصنيفات والمعايير الأخلاقية .
فلا يمكن للقطاع السياحي والفندقي أن يزدهر تحت مظلة ذهنية متشددة، وهذا لا يعني أننا نناقش مسائل مبتذلة ، فلا يمكن أن ينجح مشروع سياحي وفندقي بدون الرفاهية فالسياحة والفندقة « صناعة حضارية بطبيعتها » تعتمد على تلك الجوانب فليس غرف الفنادق الراقية لرجال أعمال عابرين والسلام وحسب ، فهناك أنشطة ترفيهية يحتاجها النزيل والساكن ، في بلد يقدم له كل مستلزمات الراحة والرفاهية . وإذا ما وجد القطاع الخاص الفندقي والسياحي كل يوم منغصات وتدمير سمعة البحرين بمواقف متهورة ودون مسؤوليات ، فكل ذلك لا بد وان يتم تسويته بكل وضوح قانونيا ومهنيا لكي يجد القطاع الخاص والمستثمر الأجنبي طريقه للمملكة ، لتطويرها خدماتيا بحيث تصبح سلسلة دول مجلس التعاون متكاملة بمرافقها الخدماتية ، فمشروع قطاع الحركة السياحية سيكون متكاملا أيضا كاقتصاد جديد للمنطقة .
لا يوجد اخطر على الاستقرار الأمني والسياسي من غياب الوضوح والتوافق الاجتماعي وتحديد المسؤوليات والواجبات والحقوق ، فالرؤية قلقة حيال تلك الحالة الملتبسة والتحديات القائمة ، رغم تقديمها أقصى ما يمكن من مؤشرات ايجابية للمواطن والوطن والازدهار المعيشي لانتشال البحرين من وضعها المتراجع ، مع العلم أن لدى البحرين طاقتها ومقوماتها للنهوض والقدرة على ان يكون لها موضع في الخارطة العالمية .
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008
وزارة الداخلية وقرار القضاء
في ظل الدورات الكثيرة التي نفذتها وزارة الداخلية لمنتسبيها بشأن أهمية حقوق الإنسان، وإدانة نحو 23 منتسباً لها بجرائم تمس حقوق المتهمين – كما قالت الوزارة، وفي ظل توجه الدولة نحو تحسين صورتها أمام الرأي العام الدولي وتأكيد احترامها لكل الاتفاقات والمعاهدات الدولية الكفيلة بحق كرامة بني البشر، مازالت الوزارة تمارس دوراً أقل ما يوصف بأنه غريب في تصرفاتها مع متهمي حرق الجيب في كرزكان.
شهر كامل مضى على قرار رئيس المحكمة الكبرى الجنائية برئاسة القاضي الشيخ محمد بن علي آل خليفة الذي أمر في جلسة 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وزارة الداخلية بنقل متهمي كرزكان من سجون إدارة التحقيقات الجنائية (العدلية) إلى توقيفٍ آخر، دون أية خطوة فعلية يمكن أن تحسب للوزارة المعنية بتنفيذ القانون واحترام السلطة القضائية.
ما الذي جعل هيئة الدفاع عن المتهمين تنسحب مؤخراً عن الترافع في القضية، أليس سوء المعاملة التي يتعرض لها المتهمون والذين هم أبرياء حتى تثبت إدانتهم من قبل القضاء، هيئة الدفاع نقلت إلى المحكمة شكوى المتهمين من سوء المعاملة التي يتعرض لها المتهمون في التوقيف.
نعم، يمكننا أن نقول بعد تعمد وزارة الداخلية في عدم تنفيذ قرار المحكمة بنقل المتهمين إلى سجن آخر إن إدعاءات المتهمين وأهاليهم وهيئة الدفاع عنهم تبدو صحيحة بشأن سوء المعاملة والتعذيب، وحتى ما قاله المتهمون في قاعة المحكمة من «أن السجانين يقومون بأمور منها تصوير المتهم عندما يذهب لقضاء حاجة في دورة المياه».
لا أستغرب أن تقوم وزارة الداخلية بالرد على هذا المقال بنفي ما جاء فيه من سوء معاملة وتعذيب جملةً وتفصيلاً، وتكرار مقولة الأجهزة الرسمية ضمن ردودهم المعلبة دائماً أنه كان حري بكاتب المقال تحرّي الدقة والأمانة في النقل قبل «الافتراء» على جهة رسمية مناط بها تنفيذ القانون وحماية المواطنين، ولكن كل ما أطلبه هو تفسير من وزارة الأمن بشأن عدم التزامها بقرار المحكمة ونقل المتهمين من توقيف «العدلية» إلى توقيف آخر، وخصوصاً أن هذا التوقيف مُعَد فقط لفترات التحقيق مع المتهمين الذي ينتهي مع رفع القضية إلى القضاء.
من العيب جداً أن نكون في دولة ديمقراطية وحضارية متمدنة لا تستجيب فيها جهة رسمية ذات سيادة لأمر السلطة القضائية، إذ إن هذه الحادثة تُعَدُّ من الأمور المستغربة والتي تعكس مدى تداخل السلطات وعدم تنفيذ قرارات القضاء.
عدم تنفيذ أمر القضاء أمر معيب في حق السلطة القضائية التي صمتت عن لوم وزارة الداخلية وإجبارها على تنفيذ قرارها، كما أنه كسر لهيبة القضاء.
الوسط 6 ديسمبر 2008
تحديات حقوق الإنسان في الدول العربية
حقوق الإنسان في اغلب الدول العربية عرضة لاعتداءات عنيفة ليست مخالفة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فحسب وإنما لكل القيم الإنسانية ولاشك أن هذه الاعتداءات المدانة في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية الفعلية فاقمت الصراع بين الشعوب والمنظمات الحقوقية وبين الأنظمة العربية وبالتالي كيف لهذه الدول ان تتطور سياسياً وكيف لها ان تخطو خطوات تنموية ناجحة طالما نهجها السياسي وتشريعاتها القانونية والدستورية تقف حائلا دون تحقيق الديمقراطية، وما ينطبق على هذه الدول ينطبق أيضا على بعض الأحزاب السياسية العربية التي تفتقد إلى ابسط قواعد الديمقراطية بمعنى ان هذه الأحزاب لا تحترم الرأي الآخر ولا تؤمن بالتعددية السياسية في المجتمع ولعل الأحزاب الدينية ابرز مثال على ذلك وحول هذه الأزمة أزمة حقوق الإنسان التي تختلف شدتها بين دولة وأخرى لا تزال المنتديات الحقوقية والمؤتمرات تنعقد هنا وهناك ولا تزال الهيئات الحقوقية ومراكز حقوق الإنسان تكشف لنا تدهور هذه الحقوق وتفاقم الهوة بين الشعوب وحقوقها وكذلك، الأساليب القمعية في ظل قوانين الطوارئ ومحاكم أمن الدولة.
مؤتمر القاهرة الذي انعقد مؤخراً بمناسبة مرور 60 عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان احد هذه اللقاءات الهامة التي سلطت وبواقعية الضوء على هذه الأزمة المزمنة ومن هنا فان ابرز القضايا في هذا المؤتمر هي قضية المواطنة وحقوق الإنسان والتعارض بين المساواة الشكلية او القانونية للإفراد وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية وكذلك التعارض بين عالمية الحقوق وخصوصية او نسبية الحقوق المتعلقة بالتقاليد والحضارات والثقافات المختلفة.
باختصار ما يفهم من ذلك ان إشكالية حقوق الإنسان في البلاد العربية إشكالية مرتبطة برؤى واجتهادات وسياسات ومرجعيات دينية لا تزال تؤمن وتعتقد ان حقوق الإنسان كأولوية ترجع الى الخصوصية لا العالمية!!
ومن هنا تأتي اهمية هذه الاحتفالية التي انعقدت تحت شعار حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق.
ان أهم القراءات والرؤى التي استطاعت ان تشخص هذه الأزمة او هذه المسألة رؤية د. علي ليله الذي كانت استنتاجاته على قدر كبير من الواقعية وخصوصاً عندما أشار الى ” ان الفكر العلماني في المنطقة ذو طبيعة إنسانية بالأساس ولا ينبغي تجاهل السياق التاريخي له ويجب ان تحكمنا المرجعية الثقافية بجانب المرجعية الأخلاقية وان الإسلاميين المعتدلين يرون ضرورة الموازنة بين التراث العربي والإسلامي فيما يخص حقوق الإنسان، فيما يرفض الإسلاميون السلفيون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على اعتبار انه يتعارض مع الدين “.
ولهذا تجد الخلاف بين منظمات حقوق الإنسان العربية قائماً او بالأحرى لا يهدأ ويفيد »هيثم المناع « بان حقوق الإنسان بالنسبة لهذه المنظمات الإقليمية تواجه إشكالية العالمية والخصوصية والإشكالية الأخرى هي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية حيث يدور جدل حاد بين التيار الإسلامي من ناحية والتيار العلماني من ناحية أخرى في إطار الحركة العربية لحقوق الإنسان حول مجموعة من القضايا التي تتعلق بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ومن ضمنها قوانين الأحوال الشخصية.
وكما قلنا ما لم تشهد هذه الدول إصلاحات سياسية وتغيرات جوهرية على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان فان تلك الاعتداءات المخالفة للحقوق والقيم ستظل قائمة رغم كل الادعاءات بالديمقراطية!!
الأيام 6 ديسمبر 2008
خطورة التوسع الاستهلاكي
حول الصعود التاريخي لأسعار النفط بلدان مجلس التعاون إلى ورش إعمار وبناء لا تكل ولا تمل حركة الرافعات فيها ليلاً ونهاراً. وألقت هذه الحركة بظلالها على خريطة الاستثمارات وتوزيعاتها القطاعية، حيث استأثر قطاع الإنشاء والتعمير بحصة الأسد من الاستثمارات المنفقة على المشاريع الاقتصادية والبنيوية في العام الماضي وهي 70%، ومن ضمنها مجمعات التسوق الضخمة التي تحاكي المجمعات التجارية الراقية في البلدان الغربية وبلدان جنوب شرق آسيا . ولكنها تحاكي أكثر معدل النمو السنوي للإنفاق الاستهلاكي في بلدان مجلس التعاون المقدر بما يتراوح بين 10% و20% على مدى السنوات الخمس المقبلة، حسب بعض التوقعات.
ومن الطبيعي أن تغري وتجتذب هذه الطفرة لمجمعات التسوق في بلدان مجلس التعاون سلسلة الشركات ذات الماركات العالمية المعروفة.
واتخذ كثير من مجمعات البيع بالتجزئة الجديدة صيغة ال ” فرانتشايز” العقدية بين أصحاب مشاريع المجمعات (المستثمرين الخليجيين) وأصحاب الماركات العالمية لتجارة التجزئة .
وكما جرت العادة الاستثمارية في دول مجلس التعاون، أدى الطلب المتزايد على أسواق السلع التي تتيحها هذه المجمعات التجارية إلى تكالب المستثمرين عليها، بحيث يُخشى أن يؤدي ذلك إلى حدوث “تخمة” في عرض هذه الأسواق، ناهيك عن المنافسة غير المتكافئة التي تضع فيها المؤسسات الوطنية النظيرة .
ولعل هذا ما يدعو المعنيين والمتتبعين للشأن الاقتصادي الخليجي للتحذير من مغبة ظاهرة فيض الطاقة في المجمعات التجارية الجديدة والأخرى قيد التشييد، وينصحون المستثمرين الخليجيين بأخذ العظة من تجربة الصين في هذا المضمار، حيث لم يواكب الطفرة العمرانية لمجمعات التسوق الكبرى في أواخر تسعينات القرن الماضي، نمو مواز في الإنفاق الاستهلاكي كما كان متوقعاً، ما أدى إلى ترك كثير من هذه المجمعات خالية من المتسوقين .
ولكن لا يبدو أن هذا الكلام (التحذير) يسري على دول مجلس التعاون، حتى الآن على الأقل. فالطلب الفعال والإنفاق الاستهلاكي ما زالا في أوج حيويتهما وديناميتهما، والشره الاستهلاكي (غير المعقلن في كثير من الأحيان) لازال في اندفاعه الأهوج. حتى موجة التضخم وارتفاع الأسعار لم تردع المستهلكين الخليجيين عن الإقلاع عن هوسهم الاستهلاكي .
ولذا قد يكون من المناسب دراسة إمكانية فرض ضريبة قيمة مضافة ( VAT) أو ضريبة مبيعات على سلة منتخبة من السلع الاستهلاكية لاستعادة التوازن الاقتصادي/الاجتماعي المرتبك.
وهذه الخطوة من شأنها تفعيل أداة السياسة المالية كآلية إدارة اقتصادية كلية بالغة الأهمية، وترشيد وعقلنة الاستهلاك الخاص، وتقليل فاتورة الواردات (بما يعزز الميزان التجاري وميزان المدفوعات ترتيباً) وتقليل كمية الفاقد من الفضلات والنفايات التي يعتبر التخلص منها وإعادة تدويرها كلفة إنتاجية واقتصادية ومشكلة حقيقية في دول مجلس التعاون التي تأتي نسبة القمامة بالنسبة للفرد فيها من بين أعلى النسب في العالم .
الخليج 3 ديسمبر 2008
دلالات تقرير الرقابة المالية البحرينية
على الرغم مما قيل وسيقال عن تقرير الرقابة المالية البحرينية لهذا العام من انتقاد ومأخذ يمكن ان يؤخذ عليه من قبل قوى المعارضة الشرعية البحرينية، فإنه يبقى مع ذلك، حتى في حدود الهامش الذي يتحرك فيه، من أفضل التقارير الرسمية الحكومية لمملكة البحرين مقاربة للشفافية والموضوعية النسبية، وهو من الجوانب الايجابية التي مازالت تحسب لمشروع عاهل البحرين الإصلاحي لاستمرار هذا التقرير بالمنهجية نفسها التي سار عليه للعام الخامس على التوالي ولنشره في وسائل الأعلام المحلية بما فيه من ايجابيات وسلبيات، مهما كانت خطورتها من دون حذف أو مصادرة، وذلك مقارنة بالتقارير الموغلة في الوردية كتقارير حقوق الإنسان على سبيل المثال لا الحصر .
ويكتسب تقرير هذا العام أهمية خاصة، كونه يصدر متزامناً تماماً مع ما يخيم على المنطقة من شبح الأزمات الاقتصادية والمعيشية المطردة الاحتدام، بما في ذلك استمرار تدفق موجات الغلاء الفاحش، فضلاً عن شبح عدوى أزمات الأسواق المالية العالمية وفي مقدمتها السوق الامريكية .
كما يكتسب التقرير أهميته وبما تضمنه من شفافية ومصارحة في عدد من جوانبه كونه يأتي متزامناً تماماً مع تدشين الملك مشروع “رؤية البحرين الاقتصادية حتى العام 2030” .
وإذا كان كل ذلك يحسب لتقرير الرقابة المالية فيما يتعلق بجوانبه الموضوعية في المصارحة والشفافية في كشف أوجه السلبيات والأخطاء في المؤسسات الرسمية، فإن التقرير وبعد مرور خمس سنوات على انتظام صدوره، بحاجة إلى قيام القائمين عليه بعملية رصد سنوي تتضمن نتائجها التقرير ذاته، بحيث يحدد فيه بوضوح وشفافية ومصارحة كاملة الجهات التي قامت فعلا بالتعاون مع معدي التقرير بتصحيح اوضاعها وأخطائها، ولا سيما الخطيرة منها، والجهات التي لم تتعاون مع معدي التقرير، وبخاصة تلك التي تكرر ذات الأخطاء والانحرافات .
ولا شك ان السلطتين التشريعية والقضائية فضلا عن الصحافة، لكل منها دور في تحليل ومتابعة التقرير والدفع باتجاه تطويره، والقيام بأعمال الرقابة التشريعية والمحاسبة القضائية للمتسببين في أوجه السلبيات والأخطاء المتكررة دونما تصحيح أو التزام جاد بتوصيات وقرارات التقرير نفسه، فضلاً عن توصيات وقرارات البرلمان بغرفتيه .
وما لم يتم تحقيق كل ذلك، فإنه لا معنى أبداً للصرف على إعداد تقرير سنوي مصيره خزائن وأدراج أرشيفات المؤسسات الحكومية . وهذا ما نخشاه حقاً في ضوء تجربة صدور 4 تقارير سابقة .
الخليج 30 نوفمبر 2008
ثقافات لا ثقافة واحدة
ثمة فيلم سينمائي، ليس جديداً هو فيلم: «باريس، تكساس» للمخرج فيم فندرز. المخرج ألماني، التمويل أمريكي، والتوزيع أيضاً تتولاه شركة أمريكية، لكن الفيلم يقدم رؤية أوروبية حول موضوع أمريكي.
ثمة ازدواجية أو ربما تناقض في الأمر يكمنان في صناعة الفيلم: استثماره وأرباحه من ناحية، وفكرته من ناحية أخرى. فيلم بإنتاج أمريكي وتسويق أمريكي ولكنه يطرح فكرة تتصل بإبراز الهوية الثقافية المستقلة إزاء الهيمنة الثقافية الأمريكية: أمريكا تُسوق أوروبا داخل أوروبا. هذا مثلٌ ساقه أحد المشاركين في ورشة «الثقافة والعولمة والنظام العالمي» الصادرة في كتاب، ليبرز الآلية المعقدة للعلاقة بين ما هو وطني أو محلي وما هو عالمي أو معولم، أو بتعبير بعض الدارسين: المحلية المعولمة. ثمة أمثلة أخرى في هذا السياق: في مسابقة الأوسكار في سنة ليست بعيدة منحت جائزة لهيئة السينما القومية الكندية في ذات الوقت الذي كانت فيه اتفاقات التجارة الأمريكية-الكندية تهدد عمليا بالقضاء على ما تبقى ما خصوصية للثقافة الكندية. في أواخر عام 1989 عرضت الحكومة الفرنسية ورقة توضح موقفها من المعضلة ذاتها. وزير الثقافة آنذاك جاك لانج استجاب لحقيقة أن ثلثي دخل تذاكر السينما في فرنسا يذهب للأفلام الأمريكية، ورغم أنه وطوال تاريخ السينما الفرنسية كانت توجد قيود حكومية بل وحصص لاستيراد الأفلام الأجنبية بهدف رئيسي وربما يكون وحيداً: الحد من نفوذ الأفلام الأمريكية داخل فرنسا، فإن تلك القيود كانت موجهة فقط لعدد الأفلام المعروضة، وبالتالي فإنها كانت قاصرة عن معالجة الإقبال الكبير على الأفلام الأمريكية من خلال الأشرطة واسطوانات العرض الممغنطة، مما جعل المسئولون الفرنسيون عن الثقافة وكذلك الساسة يفكرون في إيجاد وسائل أشد فاعلية لتحقيق ما يصفونه بـ «إنقاذ السينما الفرنسية». وإذا كان الحديث هنا يدور عن بلد راسخ الثقافة والتقاليد الفنية مثل فرنسا، فكيف سيكون فيه الحال في ثقافات بلدان أخرى فقيرة وتعاني من التهميش؟
روى لي صديق درس في بلغاريا طرفة يتداولها البلغار فيما بينهم حين يتشاورون حول الذهاب للسينما، إذ يسألون: هل هو فيلم أمريكي أو فيلم سيئ؟ بدل أن يصيغوا السؤال: هل هو فيلم جيد أم سيئ؟ أي أن الجودة السينمائية في أذهان الشباب هناك مقترنة بما إذا كان الفيلم أمريكيا أولاً؟! ثمة مثال أخير: موسيقي ياباني شهير كتب مرة مقالاً في صحيفة أمريكية بارزة فحواه أنه داخل أمريكا لا أحد يشتري منتجات الثقافة الأجنبية، غير الأمريكية، فيما يشتري اليابانيون طوال الوقت الموسيقى الأمريكية. لا تتضمن مثل هذه الآراء بالضرورة موقفاً سلبياً من المنتوج الثقافي الأمريكي، وإنما تنبه إلى ذلك الخلل الكبير في عملية التبادل الثقافي على النطاق الكوني لمصلحة ثقافة واحدة، مما يعني طمس التعدد والتنوع في الإبداعات الإنسانية في مجالات الأدب والفن والموسيقى والسينما.
أمـل قليل ألـم كثيـر
في القرن التاسع عشر أرسل محمد علي باشا الشيخ رفاعة الطهطاوي في بعثة علمية إلى فرنسا للتعرف إلى مكامن القوة في الحضارة الغربية وسبل النهل منها والإفادة من نجاحاتها وايجابياتها، وسجل الرجل خلاصاته في ما بعد في كتابٍ مهم.
الكتاب هو ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي يُعد أكثر بكثير من مجرد كتاب عن أدب الرحلة، حتى لو اندرج في التصنيف الاجناسي في سياق كهذا. انه خطاب ثقافي فكري يحلل إرهاصات فكر النهضة وتعثراته وارتباكاته أيضا.
ومن أسف أن الدعوة الجريئة التي أطلقها الطهطاوي في حينه للانفتاح على الآخر والتعلم منه والأخذ من تجربته، تُجابه اليوم بتصدٍ مهووس بفكرة الانغلاق على الذات والتحصن في قوقعة الأنا، في خلط غريب بين بناء الهوية من حيث هي شرط حضاري وثقافي وبين “أوهام” الهوية التي إذا ما استمرت في استشرائها، فإنها تقذف بنا بعيدا عن استحقاقات العصر.
رد تحديات الهيمنة على أنواعها، وخاصة الهيمنة الثقافية، لا يكون بالانعزال عن العصر، بل بأن نزج بأنفسنا في أتونه سبيلا للرد من داخل شروط هذا العصر وبسياقاته التي لا مفر منها.
في حوار أجراه المرحوم غالي شكري مع الدكتور طه حسين قبل وفاته بقليل، قال عميد الأدب العربي: ” يُخيل إليّ أن ما كافحنا من أجله مازال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم. إنني في آخر أيامي ألملم أوراقي وسأمضي قريباً..أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل”.
ما الذي جعل رجلاً مثل طه حسين، كان داعية مثابراً للنهضة، يقول هذا القول، وهو على أهبة مفارقة الحياة؟ ما الذي جعله يتحدث عن ” قليل من الأمل” و” كثير من الألم “، وأن يعهد بمهمة الكفاح من أجل ما كافح في سبيله إلى الجيل الذي يليه والأجيال القادمة أيضا، وهل يتضمن ذلك اعترافا بأن هذا المشروع نفسه قد مني برمته بالإخفاق والانكسار وحتى الهزيمة.
ومن يعقد مقارنة بين الفترة التي قال فيها طه حسين هذا الكلام وبين الحال اليوم سيجد أن الأمور ساعتها كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، وأن بلاء الجيل السابق في سبيل النهضة والتنوير كان أفضل بما لا يقاس من أدائنا الراهن.