المنشور

في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان


إن يوم العاشر من شهر ديسمبر.. هو يوم مضيء في صفحات التاريخ.. بحسب ما يظل محفورا في ضمير الشعوب.. وماثلا في وجدان جميع طالبي الحرية والكرامة الإنسانية على وجه البسيطة.. إنه اليوم العالمي في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يمثل الركيزة الأساسية في مناصرة المضطهدين والمسودين والمعذبين والمسحوقين، بتحرير أياديهم وفك أقدامهم المقيدة بالسلاسل والأغلال.. بقدر ما يخضع شرائح الأسياد الطبقية، ومن فيها المستبدون الأوليجاركية، إلى مجهر المساءلة الشعبية وإلى منظار المحاكمة الجماهيرية، من خلال الأقلام الحرة والكلمة الشجاعة، وعبر البيانات الوطنية المبدئية، والندوات والمؤتمرات التاريخية..
تمر الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدقت عليه “هيئة الأمم المتحدة” في العاشر من ديسمبر عام 1948. هذه الذكرى المقدسة.. تحتفل بها الشعوب المناضلة بمعارضتها الوطنية، ومختلف أحزابها التقدمية والديمقراطية والماركسية.. مثلما تحتفي بمفاهيمها منظمات حقوق الانسان المحلية والعربية والعالمية، وفي مقدمتها “هيئة الأمم المتحدة”.. وبحسب ما جاء هذا الإعلان العالمي تجسيدا للثورة الفرنسية عام 1789م.. وانعكاسا للمبادئ الأممية الثورية، التي أرسى دعائمها الفيلسوف والسياسي والاقتصادي المناضل “كارل ماركس” خلال أصول الفلسفة الماركسية.. فان هذا الإعلان بيومه العالمي جاء ليكشف فضائح الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا، التي هي أساس البلاء ومحور الكارثة في اقتلاع شعب فلسطين من أرضه، وتشريده من وطنه.. حينما نسجت أقذر المؤامرات ضد شعب فلسطين مع شتات ومافيا الصهيونية.. منذ وعد وزير خارجيتها “آرثر بلفور” المشئوم عام 1917م، مرورا بالانتداب البريطاني المذموم عام 1924م، وتتويجا بالنكبة عام 1948م عن إعلان إقامة دويلة الكيان الصهيوني في ليلة 15 مايو عام 1948م، وما تمخض عن ترسيخ تداعيات النكبة من التشريد والتهجير والاستيطان والتهويد والتمثيل بشعب فلسطين أبشع تمثيل بأحدث الأسلحة الأمريكية.. هي الأخرى في ظل إدارة “جورج بوش” المجرمة، قد غزت العراق، واحتلت أراضيه، وانتهكت حضارته، وجزأته إلى كانتونات وأشاعت فيه الفوضى والفتنة والطائفية والمذهبية.. ونهبت خيراته، وسرقت مقدرات الشعب العراقي.
لعل القول يبقى صحيحا هو حينما اخترقت الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا وأمريكا سيادة الدول والشعوب العربية خاصة وشعوب دول العالم الثالث عامة.. فإن أنظمة دول العالم الثالث، قد لا تختلف سياساتها الاستبدادية عن سياسات الدول الغربية الاستعمارية والكولونيالية.. طالما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أماط اللثام عما تنتهكه هذه الحكومات بحق شعوبها لما تعانيه من أبشع القهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي، ومكابدتها من تكميم الأفواه بمصادرة حرياتها السياسية، ومعاناتها من شد الأحزمة على البطون في ظل غياب العدالة الاجتماعية.. ناهيك عن محاولة هذه الحكومات الاوتوقراطية كسر أقلام المعارضين والمثقفين والرموز الوطنية، وقمع كلمتهم، خلال الملاحقات والمساءلات الأمنية والبوليسية أحيانا.. والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات في أحايين كثيرة.. في ظل أنظمة دكتاتورية فقدت ماء الوجه، وداست على الكرامة، وأهانت الهوية، واستمرأت الحماية الأجنبية واعتمدت الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الدول الغربية، وصادرت حريات التعددية، وهمشت الدستور، وأهانت العقد الاجتماعي، وغازلت تنظيمات قوى تيار الإسلام السياسي، بإقامة الصفقات والاتفاقيات المتبادلة المصالح، ما بين التيارات الإسلامية والسلطات التنفيذية، بتحالفهما في مواجهة قوى التيارات التقدمية والديمقراطية.. ومثلما تسعى تنظيمات التيارات الإسلامية إلى إقامة الدولة الإسلامية القائمة على النص والحاكمية والمراجع الدينية.
إن العديد من قيادات وحكام الأنظمة العربية، قد حثت الخطى إلى مراجعة وتعديل الدستور بما يسمح بتمديد فترة رئاستها لفترة ثالثة وولاية رابعة، بل مدى الحياة.. بقدر ما سعى هذا الرئيس أو ذاك الرئيس الآخر إلى إعداد أبنائهم لخلافتهم، بتوريث الحكم والاستئثار بكرسي السلطة.. ولكن في نهاية المطاف لا يسعنا سوى القول إن يوم العاشر من شهر ديسمبر، يمثل عزاء لطبقات المضطهدين والمعذبين في الأرض.. بحسب ما تجسد الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، علامات مضيئة، يستنهض من معينها طالبو الحرية في كل مكان إرادتهم وعزائمهم وصمودهم.. فسلام لحاملي لواء الحرية والوطنية والمبادئ الأممية، وراية الكرامة الإنسانية.. وهنيئا للشعوب المناضلة التي دأبت بنضالاتها وأبدعت بتضحياتها على انتزاع حقوقها وحرياتها والذود عن كرامتها.. وطوبى لشهداء الوطن وشهداء القلم وشهداء المبادئ الأممية والإنسانية.. مثلما دونت أسماؤهم في سجل الخالدين، التي تتألق في سماء المجد خلال هذا اليوم العالمي العاشر من ديسمبر من كل عام.



أخبار الخليج 12 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

عبدالله الغذامي والنهضة (1)

تعتبر مسيرة الحداثة في المملكة العربية السعودية ملحمة كبيرة ، فذلك البلد الفقير، المفتت، القابع في زاوية العالم، في الصحراء القاحلة ، يقفز فجأة إلى مقدمة صفوف الدول النامية، ويغدو بلداً مركزياً في المنطقة.
فلابد في هذه العاصفة الحضارية من أن يتقلب الوعي بين نصوصية شديدة إلى انبهار شديد بالحضارة الغربية، فكل الماضي العريق البسيط لا يسعفهُ في تأويل هذه الصيغ المركبة للتقدم، ويغدو النقل أسهل شيء، وسواء عبر النقل الأشد نصوصية من الماضي، أم بالنقل المنبهر بالغرب وإيجاد تطبيقات منه على واقع مختلف.
ولدينا في الجزيرة العربية والخليج ظروف معقدة وأبنية ثقافية غير مدروسة، فأغلب ما يوجد هو نقد أدبي أو تحليلات فكرية ربما كانت عميقة ولكنها لا تدرس تجربة الخليج كتجربة ذات بـُنى اجتماعية خصوصية، تحتاج من الوعي الفكري إلى الغوص فيها واستبصار مساراتها، وقد ركز الأستاذ عبدالله الغذامي في النقد الثقافي العربي عموماً، ولم يخص منطقة الخليج والجزيرة إلا بكتابين، سنبحث فيهما عن رؤيته لتطور المنطقة وكيفية نهضتها.
في كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية)، يأخذنا الباحث عبدالله محمد الغذامي إلى رؤيته لعملية الانتقال المعقدة، فهو منبهرٌ بمصطلح (الحداثة) يرددهُ طوالَ صفحات الكتاب، معرفاً إياها بأنها (التجديد الواعي)، ويقول إن له ريادة في صنع هذه الحداثة بشكلها الفكري الصاعق، مما ترتب عليها معارك فكرية واجتماعية حادة.
فقد وُوجهت هذه (الحداثة) بعنف، فيقول:
(إذاً نحن أمام محافظة تعبرُ عن نفسها بطرق عديدة فتقول بضرورة النموذج التقليدي وتربطهُ بالدين والوطنية والأصالة، وتقول بالحداثة الشكلية اللافكرية وتربط الحداثة والفكر الحداثي باليهودية وتخون أصحابها، ولقد خوننا المليباري مثلما خوننا البازعي، وكلاهما صوت نسقي يعبرُ عن الثقافة المحافظة كل بطريقته..)، (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية)، عبدالله محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي سنة 2004، ص 8).
هنا تحديد للذات الجالبة للحداثة، وتحديد للخصوم، والمعسكران واضحان، فثمة معسكر للتحديث ومعسكر للمحافظة، ويستخدمُ المعسكرُ المحافظ مصطلحات محددة مثل: الدين، والوطنية، والأصالة، ولكن معسكر الحداثة الذي يمثله الغذامي هنا، يعيد اتهامات الفريق الآخر الذي يتهم فريق الحداثة بالحداثة (الشكلية اللافكرية) وهو اتهام يحتاج إلى بحث طويل.
فالغذامي حسب هذا الكتاب يقومُ بدحضه، معبراً عن كون حداثيته وطنية، فهو يقيّمُ بشكلٍ إيجابي تطور المملكة العربية السعودية في مسارها التاريخي من (حيث تأسيس الهجَر وتوطين البادية بوصف ذلك خطوة رمزية للتحول من النسق القبلي إلى نسق مدني مأمول مفترض)، و(تأسيس نظام للإدارة تحول معه تقاليد الحياة من الشفاهية إلى الكتابية، ويتأسس نظام للعمل تحكمه قيم العمل والإنتاج كما هو مفترض)، و(إنشاء علاقات مع الدول الأخرى، بما فيها دول أجنبية لها صورة المعادي تاريخياً..)، (السابق، ص 42).
أي أن رؤية التحديث الغذامية لا تنكر جذورها الوطنية، وتسعى نحو مزيد من التقدم، وتعود الأسس السابقة لعموميات سياسية فهي خطوط عريضة لكيفية نمو اتجاه الدولة، ولكنها لا تتعلق بتطور الوعي في هذه الدولة، أي ما هو موقف (الحداثة) من الإرث الديني ومن التطورين السياسي والاجتماعي؟ وهذا جانب سيغدو حجر الزاوية في الصراع الفكري المعروض حسب حيثيات الكتاب.
إن ثمة هوة هنا بين تأييد مسار الدولة وتغييب إرثها المعتمد كأساس للمجتمع وعدم قراءة صراعاتها الاجتماعية والسياسية. وهذه الهوة لا تــُبحث، والمسكوت عنه هنا ذو قيمة بالغة، إن لم يكن هو الذي يحمل مشكلات الصدام وعدم الفهم المتبادل بين المحافظين والحداثيين.
يعرض الغذامي الصراع بالشكل التالي:
(على أن الصفة الجذرية في الثقافات المحافظة والتقليدية هي في تغليب السكون وإيثاره، والسكون يعطي راحة واستقرارا وتسليماً فطرياً)، (السابق، ص 30).
في حين ان الحداثة بما أنها حركة اجتماعية (هي اضطراب غير طبيعي، وسيكون مضاداً للسكون النسقي). (ونحن لو تمعنا تاريخنا الثقافي (العربي كله) لتبين لنا بسهولة أن الوازع السكوني هو الغالب على نظام رؤياتنا للحياة وللزمن) .
تعبرُ هذه المصطلحات عن القاموس التحديثي الغذامي، فثمة سكون وحركة، وهذا ينطبق على موسيقى الشعر كما يقول، وينطبق على الحياة الاجتماعية، ففيها سكونٌ يرفضُ أن يغادرَ ذاته، وفيها حركة تأتي على غير النظام الطبيعي السائد السائر طوال الزمن.
يتحول تاريخ المجتمعات هنا إلى تجريد: سكون/ حركة، وهذا التجريدُ عامٌ ينطبقُ على الطبيعة وينطبقُ على الأصوات، كما ينطبق على تاريخ الثقافة والتاريخ الاجتماعي سواءً بسواء، من دون أن نعرف عبر هذا التعريف إن للحركة مستويات مختلفة، فحركة موسيقى الشعر هي غير الحركة الاجتماعية، فالحركة الاجتماعية أكثر تعقيداً، ولها قوانين تنتمي إلى مستوى آخر، هو قوانين الأبنية الاجتماعية.
لكن توجه حداثة الغذامي تساير عملية التحول التحديثية الموضوعية الجارية في المملكة: (وليس من السهل أن تنتقل إلى مجتمع سياسي وإداري موحد تحت بناء الدولة، وهذا يتطلب وعياً بمفهوم (الدولة) وشروط بنائها) ولكن مسار الدولة لم يكن بالشكل التحديثي المطلوب، (وكانت التمردات هي الديدن العام للحياة، وعمل الحاكم الأول والدائم قمع التمرد، وضبط الطاعة، وجباية الأموال، ولا شيء غير ذلك)، (وهذا ليس نظام دولة ولا نظام حياة، (السابق، ص 41).
لكن الباحث يتوقف عند هذه العموميات من التحليل حيث لا يدخل في تحليل طبيعة الدولة وكيفية تطور المدن وكيف تم توزيع الثروة، وهذا أمرٌ يدخل في اختياراته العامة النقدية كذلك.
ولديه أن الحداثة أفكار عامة لا ترتبط بتكوينات الفئات الوسطى وبحث نموها، ولهذا حين يأتي لشخصية ثقافية كما في كتابه (الخطيئة والتكفير) فإنه يدرسه كتكوين ثقافي ويسقط عليه مقولات من ذاته، وليس من تطور الشخصية وصراعاتها الحقيقية، كما سنرى لاحقاً.
ولو قرأنا مقولتي السكون والحركة اجتماعياً، فلابد من تحليل الجماعات التي تسكن وتجمد التطور الاجتماعي، وسببياتها في ذلك، وهل تتحرك للتغيير وما اسباب ذلك؟ ولماذا تعادي التغيير إذا كان ذلك كذلك؟
إن مقولتي الحركة والسكون تغدوان مجردتين وهي طبيعة تجريدية إسقاطية لمنهج الباحث.
إن الذي يفسر الحراك هو تطور المناطق والقوى الاجتماعية المختلفة وارتباطها بأساليب عيش جديدة ومدى تغييرها لوعي الماضي المعرقل لتطورها.

صحيفة اخبار الخليج
11 ديسمبر 2008 
 

عبدالله الغذامي والنهضة (2) 
 
إن محور كتاب الأستاذ عبدالله الغذامي (الخطيئة والتكفير) يتوجه لتحليل شخصية ثقافية سعودية مركزية، وكانت الفكرة تخامرهُ أثناء دراسته، لكنه لم يجد (القالب) إلا بعد تقصٍ خاص، فكانت هناك شخصية ثقافية مهمة في تاريخ المملكة خلال القرن العشرين هي شخصية (محمد حسن عواد)، يقول عنها كاتب سعودي آخر:
(ولا نزعم أن العوادَ قد نجح في تطبيقاته لما نظـّرَ لهُ لكن صفة التجريب هي التي تميزهُ عن غيرهِ، من أبناءِ جيله، وتنزلهُ اليوم منزلة الرمز الشامخ في تاريخ الأدب السعودي في تفتح عقله، وفي رؤيته الطليعية وإخلاصه لآرائه ومبادئه)، (مؤثرات الإقناع عند محمد حسن عواد، عبدالله حامد المعيقل، مجلة علامات، يونيو 2004)، وإضافة لدوره الأدبي فهو ذو دور اجتماعي مساند للنساء والحركة الاجتماعية عامة، ويقول دارسٌ آخر في العدد نفسه إن قصائد عواد كانت تطلقُ شررَ جذوة التجديد، (راجع نهار التجربة لأحمد بن صالح الطامي).
وأمام شاعر وكاتب مشتعل بجذوة التجديد وله ممارسة مستمرة في الجدل مع الواقع فإن الناقد الغذامي تكون خياراته البحثية مختلفة، فيقول:
(وكنتُ أبحثُ عن شخصيةٍ تتمثل فيها مقولاتي النقدية وكان خياري الأول هو العواد، غير أن فحصي لأعمال العواد لم يكن يشجعني على المضي، إذ لم أجدها تستجيب لتعقيدات التأويل النصوصي لضعف في عمقها يجعل دلالاتها سطحية ولا تحتاج إلى لعبة التأويل. ولذا فكرتُ في شحاتة كبديل محتمل، وحينما بدأتُ البحث فيه وجدتني أكتشف قيمة أدبية / ثقافية مجهولة فعلاً. وصار كتابي عنه، (حكاية الحداثة، ص 60).
يقول إنه كان يبحث عن شخصية تتمثل فيها مقولات (ه)، لكننا حين نتفحص كتاب (الخطيئة والتكفير) نجد أن هناك مقولات جاهزة مستوردة لديه وبه جموحٌ عاطفيٌ شديد لكي يطبقها، ويتضحُ ذلك من ضخامة المقدمة المفترضة التي يسردُ فيها آراءَ المدارس الحداثية الشكلانية والألسنية فهي تمتد لثلث الكتاب من ص 9 حتى .135
سوف نقرأ بعضَ الفقراتِ والجملِ التي تحددُ منهجَهُ بشكلٍ عام، يقول:
(والأسلوبية تركزُ على اللغةِ لذاتها لا لما تحملهُ من دلالات، لأن هذه من الممكن إبلاغها بطرقٍ كثيرة غير طرق اللغة الأدبية). (والشاعر ليس شاعراً لما فكر فيه أو أحسه ولكنه شاعر لما يقوله من شعر. ليس خلاق أفكار بل كلمات، فعبقريته تكمن كلها في إبداعه اللغوي…).
إن هذه اللغة تقيمُ تناقضاتٍ غيرِ جدليةٍ لا تقبل التركيب، فاللغة ضد الدلالة، والشعرُ ضد الفكر، والأفكار ضد الكلمات، وهذه المتضادات المنهجية ستتجسد في البناء النقدي.
يقول كذلك:
(وخير وسيلة للنظر في حركة النص الأدبي، وسبل تحرره هي الانطلاق من مصدره اللغوي، حيث كان مقولة لغوية أُسقطت في إطار نظام الاتصال اللفظي البشري، كما يشخصها رومان ياكوبسون في (نظرية الاتصال) وعناصرها الستة، التي تغطي جميع وظائف اللغة، بما فيها الوظيفة الأدبية)، (الخطيئة والتكفير، المركز الثقافي العربي، طبعة 2006، ص 10).
وبعد ذلك يعدد ما يقوله رومان ياكوبسون في نظرية الاتصال حيث يتم الاعتماد على (السياق) وهو سياق يتم فيه إنشاء مادة القول، ثم هناك (الشفرة ) وهي الخصوصية الأسلوبية لنص(الرسالة)، ثم هناك (وسيلة الاتصال)، وهناك (مرسل) و(مرسل إليه).
ويختمُ ذلك قائلاً:
(وكل قول يحدث إنما يدور في هذه المدارات الستة مهما كان نوع ذلك القول السابق)، (ص 11).
وبطبيعة الحال فإن (خير وسيلة هي الانطلاق من مصدر…) النص الأدبي، لكن ليس لتحرره، بل لغناه، ولكشف أعماقه، فالنصُ لا يتحرر بالقراءة ولا يُشطب من حركية الواقع، بل تـُكتشف قدرته على قراءة الحرية في الحياة وبذا يغتني ويغني القراء.
إن الستة العناصر السابقة الذكر تذوب في لغة الحماسة بل جميع النظريات التي احتشدت بكثافة كبيرة في الصفحات الكثيرة السابقة، وتظهرُ فجأة ستة عناصر أخرى تغدو هي السرير المعد لتشريح النموذج:
(ذكرنا في الفصل الأول أن نموذجنا الدلالي لأدب حمزة شحاتة يقومُ على ثنائية (الخطيئة – التكفير) ويرتكز على ستة عناصر لكلِ عنصر دلالة نفسية وفنية واسعة الأبعاد. وهذه العناصر هي :
1- آدم ) الرجل/ البطل) البراءة
2 – حواء (المرأة / الوسيلة) الإغراء
 3 – الفردوس (المثال / الحلم)
4 – الأرض (الانحدار/ العقاب )
5 – التفاحة (الإغراء / الخطيئة)
6 – ابليس ( العدو / الشر)، (السابق، ص 134 – 135).

حدثت هنا نقلة كبيرة من السياق الأدبي اللغوي إلى السياق الحكائي، فكان يُفترض قراءة السياق الشعري لأدب الحجاز في الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فهذه اللحظة التاريخية النهضوية هي التي شكلتْ السياقَ الشعري، وجاءت كتابة حمزة شحاتة وحسن عواد وغيرهما من الأدباء المجددين وقتذاك لتضيف فيه وتغنيه بنوعية أخرى، بحيث نصل إلى اكتشاف (شفرة) حمزة شحاتة المقصود بالتحليل، وندرس بقية العناصر.
لكن الباحث لم يحول آراء نورمان ياكوبسون في نظرية الاتصال إلى نظرة نقدية مطبقة، بل وجدنا عناصر الحكاية الدينية توضع لتنزع حمزة من السياق الواقعي، وتدخلهُ في السياق الفنتازي، فيغدو حمزة شحاتة هو رمزية آدم، الذي نزل للأرض، وكانت خطيئتهُ الوثوق بالمرأة، فكفـّر عن نفسه بالطلاق والعزلة وحرق كتاباته الخ.
لكن الكاتب لا يستطيع أن يخلق مقاربة بين آدم في القصة الدينية وشحاتة، وهو مضطرب حائر فيما ينشئه من كتابة، فيقول:
(إن هذا الشخص رجل لا يهمنا أبداً، وهو مجرد فرد من البشر عاش في زمن معين وفي بقعة محددة، وينتهي كنهاية أي مخلوق آخر ويصير أمره لبارئه)، ( السابق، ص 135).
إن هذه الجملة تحاول أن تقول لنا إن الباحث سوف يقوم بالتغاضي الكلي عن سيرة الشخصية المحلــلة، من أجل أن يتسق مع بعض مقولاته السابقة حول (النص) الذي يمتلك بنيته المستقلة كليا، لكن لا يحدث التوجه لدراسة هذه البنية بل لتنهمر علينا سيرة حياة الرجل الراحل بكل تفاصيلها، فهناك شهادات من ابنة النموذج، وهناك تفاصيل نشأته وتعلمه ونشاطاته ورحيله للقاهرة وعزلته الخ.
حين (يجرد) الباحثُ قصة النشأة الإنسانية إلى آدم وحواء والجنة والسقوط الخ، فهو يقيمُ بنية تجريدية غيبية، يرمزُ لها بشخوصٍ وحكاية، تتشكلُ كلها في التجريد الغيبي، وتنقطعُ صلاتها بجذور نشأتها، أي جذور تلك الحكاية، بأصولها في الزمن القديم، من حيث تكون عناصر بنائها القصصي في التوراة والانجيل وفي السرد البابلي الأقدم، فلا نعرف الجذور المرتبطة بالانقطاع عن بنية مجتمع قديم ودخولها في بنية مجتمع وسيط، وكذلك لا نعرف سياق هذه الحكاية في المنظور الإسلامي ودلالاتها، بل يتم أخذها لدى الباحث في صياغةِ عناصرها المجردة: آدم، وحواء، وابليس، والسقوط الخ.
فلكلُ سياق من تلك السياقات السابقة شروطه، وحين يتم قضم كل تلك الجذور، ومن ثم توضع على سرير شحاتة النموذج النهضوي السعودي، فهي هنا تقوم كذلك بقطع تكون بنية نص شحاتة، فإذا كان التجريد لآدم – حواء، هو بداية لشخص الذكر والأنثى في كل مجتمع، فالذكر والأنثى في الحجاز في تلك العقود التي تكون فيها حمزة وتزوج لهما سياقهما الخاص، لكن الباحث راح يأخذ ذلك المجرد ويركبهُ بالقوة على نموذجه.
أخبار الخليج 12 ديسمبر 2008
في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
إن يوم العاشر من شهر ديسمبر.. هو يوم مضيء في صفحات التاريخ.. بحسب ما يظل محفورا في ضمير الشعوب.. وماثلا في وجدان جميع طالبي الحرية والكرامة الإنسانية على وجه البسيطة.. إنه اليوم العالمي في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يمثل الركيزة الأساسية في مناصرة المضطهدين والمسودين والمعذبين والمسحوقين، بتحرير أياديهم وفك أقدامهم المقيدة بالسلاسل والأغلال.. بقدر ما يخضع شرائح الأسياد الطبقية، ومن فيها المستبدون الأوليجاركية، إلى مجهر المساءلة الشعبية وإلى منظار المحاكمة الجماهيرية، من خلال الأقلام الحرة والكلمة الشجاعة، وعبر البيانات الوطنية المبدئية، والندوات والمؤتمرات التاريخية..
تمر الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدقت عليه “هيئة الأمم المتحدة” في العاشر من ديسمبر عام 1948. هذه الذكرى المقدسة.. تحتفل بها الشعوب المناضلة بمعارضتها الوطنية، ومختلف أحزابها التقدمية والديمقراطية والماركسية.. مثلما تحتفي بمفاهيمها منظمات حقوق الانسان المحلية والعربية والعالمية، وفي مقدمتها “هيئة الأمم المتحدة”.. وبحسب ما جاء هذا الإعلان العالمي تجسيدا للثورة الفرنسية عام 1789م.. وانعكاسا للمبادئ الأممية الثورية، التي أرسى دعائمها الفيلسوف والسياسي والاقتصادي المناضل “كارل ماركس” خلال أصول الفلسفة الماركسية.. فان هذا الإعلان بيومه العالمي جاء ليكشف فضائح الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا، التي هي أساس البلاء ومحور الكارثة في اقتلاع شعب فلسطين من أرضه، وتشريده من وطنه.. حينما نسجت أقذر المؤامرات ضد شعب فلسطين مع شتات ومافيا الصهيونية.. منذ وعد وزير خارجيتها “آرثر بلفور” المشئوم عام 1917م، مرورا بالانتداب البريطاني المذموم عام 1924م، وتتويجا بالنكبة عام 1948م عن إعلان إقامة دويلة الكيان الصهيوني في ليلة 15 مايو عام 1948م، وما تمخض عن ترسيخ تداعيات النكبة من التشريد والتهجير والاستيطان والتهويد والتمثيل بشعب فلسطين أبشع تمثيل بأحدث الأسلحة الأمريكية.. هي الأخرى في ظل إدارة “جورج بوش” المجرمة، قد غزت العراق، واحتلت أراضيه، وانتهكت حضارته، وجزأته إلى كانتونات وأشاعت فيه الفوضى والفتنة والطائفية والمذهبية.. ونهبت خيراته، وسرقت مقدرات الشعب العراقي.
لعل القول يبقى صحيحا هو حينما اخترقت الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا وأمريكا سيادة الدول والشعوب العربية خاصة وشعوب دول العالم الثالث عامة.. فإن أنظمة دول العالم الثالث، قد لا تختلف سياساتها الاستبدادية عن سياسات الدول الغربية الاستعمارية والكولونيالية.. طالما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أماط اللثام عما تنتهكه هذه الحكومات بحق شعوبها لما تعانيه من أبشع القهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي، ومكابدتها من تكميم الأفواه بمصادرة حرياتها السياسية، ومعاناتها من شد الأحزمة على البطون في ظل غياب العدالة الاجتماعية.. ناهيك عن محاولة هذه الحكومات الاوتوقراطية كسر أقلام المعارضين والمثقفين والرموز الوطنية، وقمع كلمتهم، خلال الملاحقات والمساءلات الأمنية والبوليسية أحيانا.. والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات في أحايين كثيرة.. في ظل أنظمة دكتاتورية فقدت ماء الوجه، وداست على الكرامة، وأهانت الهوية، واستمرأت الحماية الأجنبية واعتمدت الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الدول الغربية، وصادرت حريات التعددية، وهمشت الدستور، وأهانت العقد الاجتماعي، وغازلت تنظيمات قوى تيار الإسلام السياسي، بإقامة الصفقات والاتفاقيات المتبادلة المصالح، ما بين التيارات الإسلامية والسلطات التنفيذية، بتحالفهما في مواجهة قوى التيارات التقدمية والديمقراطية.. ومثلما تسعى تنظيمات التيارات الإسلامية إلى إقامة الدولة الإسلامية القائمة على النص والحاكمية والمراجع الدينية.
إن العديد من قيادات وحكام الأنظمة العربية، قد حثت الخطى إلى مراجعة وتعديل الدستور بما يسمح بتمديد فترة رئاستها لفترة ثالثة وولاية رابعة، بل مدى الحياة.. بقدر ما سعى هذا الرئيس أو ذاك الرئيس الآخر إلى إعداد أبنائهم لخلافتهم، بتوريث الحكم والاستئثار بكرسي السلطة.. ولكن في نهاية المطاف لا يسعنا سوى القول إن يوم العاشر من شهر ديسمبر، يمثل عزاء لطبقات المضطهدين والمعذبين في الأرض.. بحسب ما تجسد الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، علامات مضيئة، يستنهض من معينها طالبو الحرية في كل مكان إرادتهم وعزائمهم وصمودهم.. فسلام لحاملي لواء الحرية والوطنية والمبادئ الأممية، وراية الكرامة الإنسانية.. وهنيئا للشعوب المناضلة التي دأبت بنضالاتها وأبدعت بتضحياتها على انتزاع حقوقها وحرياتها والذود عن كرامتها.. وطوبى لشهداء الوطن وشهداء القلم وشهداء المبادئ الأممية والإنسانية.. مثلما دونت أسماؤهم في سجل الخالدين، التي تتألق في سماء المجد خلال هذا اليوم العالمي العاشر من ديسمبر من كل عام.
 
أخبار الخليج 12 ديسمبر 2008
 

اقرأ المزيد

الحاج مدبولي‮: ‬صانع المثقفين

لا‮ ‬يمكن تصور ميدان طلعت حرب في‮ ‬قلب القاهرة من دون المكتبة الشهيرة التي‮ ‬تحمل اسمه،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن لزائرٍ‮ ‬لـ‮ “‬وسط البلد‮”‬يملك درجةً‮ ‬من الفضول تجاه الكتب أن‮ ‬يغفل عن‮ “‬إطلالة‮”‬،‮ ‬حتى لو كانت سريعة،‮ ‬على تلك المكتبة العريقة‮.‬ بجلبابه الشعبي‮ ‬البسيط وسترته التقليدية،‮ ‬كان‮ ‬يبدو رجلاً‮ ‬عادياً،‮ ‬وربما أمياً‮ ‬أيضاً،‮ ‬قذفته الأقاليم البعيدة إلى القاهرة،‮ ‬كما تقذف بمئات الآلاف من بسطائها،‮ ‬كي‮ ‬يتدبروا أمر معيشتهم في‮ ‬العاصمة‮. ‬ لم‮ ‬يكن الحاج مدبولي‮ ‬مُثقفاً،‮ ‬فهو لم‮ ‬ينل إلا القليل من التعليم،‮ ‬بل لعله لم‮ ‬ينل منه شيئاً‮ ‬على الإطلاق،‮ ‬لكن‮ ‬يُمكن أن نصفه بأنه صانع المثقفين،‮ ‬بمقدار ما كان العديد من هؤلاء المثقفين نتاج الكتب التي‮ ‬كان‮ ‬يطبعها ويُوزعها،‮ ‬فهو لم‮ ‬يكن مجرد ناشر وإنما كان دليل المثقفين إلى الكتب التي‮ ‬تُكوّن معارفهم وتصقل مواهبهم‮.‬ الروائي‮ ‬الكبير بهاء طاهر قال عنه‮: “‬بالرغم من ثقافته المحدودة،‮ ‬فإن وعيه كان‮ ‬يحسده عليه الحاصلون على الدكتوراه‮”.‬ ‮”‬حرفة‮” ‬الكتب التي‮ ‬أتقنها جعلته خبيراً‮ ‬في‮ ‬قراءة المزاج الثقافي‮ ‬السائد،‮ ‬كان‮ ‬يعرف قراءه من سيمائهم‮. ‬يقرأ في‮ ‬عيونهم هواهم الفكري‮ ‬والسياسي،‮ ‬فيمسك بأيديهم نحو‮ ‬غرفٍ‮ ‬خلفية هي‮ ‬مخابئ الكتب المحظورة التي‮ ‬يحرص على ألا تكون في‮ ‬فاترينة العرض في‮ ‬المكتبة،‮ ‬ولا في‮ ‬رفوفها الظاهرة‮.‬ هناك كان‮ ‬يدهشهم بمعرفته بما تحتويه تلك الكتب،‮ ‬وعلى طريقة همس المحكوم وراء ظهر الحاكم،‮ ‬كما‮ ‬يقول جيمس سكوت،‮ ‬كان بوسع الحاج مدبولي‮ ‬أن‮ ‬يقدم فكرةً‮ ‬وافيةً‮ ‬عما‮ ‬يتوقع أن تكون الكتب التي‮ ‬يقترحها عليهم تحتويه‮.‬ يعتبر‮ “‬لحاج‮” ‬نفسه ناصرياً،‮ ‬بل جندياً‮ ‬من جنود عبدالناصر،‮ ‬ويجاهر بعدم محبته للرئيس أنور السادات‮. ‬لذا فإن داره أصبحت في‮ ‬سبعينات القرن الماضي‮ ‬مركزاً‮ ‬لمعارضة السادات،‮ ‬فوزع ونشر أشعار أحمد فؤاد نجم وكل الكتب التي‮ ‬كتبها المثقفون المصريون الذين هجروا مصر،‮ ‬ونتيجة ذلك رفعت عليه دعاوى في‮ ‬المحاكم،‮ ‬لكن ذلك لم‮ ‬يفت من عزيمته ولم‮ ‬يُغير هواه‮.‬ ورغم أن مكتبته عرفت بأنها دار نشر الكتب التقدمية وترجمات الفلسفات الغربية،‮ ‬وعنها صدرت أعمال كبار الكتاب والروائيين المصريين المعروفين بأمزجتهم اليسارية،‮ ‬لكنه هو نفسه أعدم،‮ ‬مؤخراً،‮ ‬أحدث طبعتين من كتابين لنوال السعداوي‮ ‬ربما تحت تأثير المزاج المتشدد الذي‮ ‬أخذ‮ ‬يطبع الحياة العامة والثقافية على حد سواء في‮ ‬السنوات الأخيرة‮.‬ وفي‮ ‬ظل حديث عن تراجع جودة النشر،‮ ‬لا في‮ ‬مصر وحدها وإنما في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬وتوقف أو تدهور سلاسل الكتب والترجمات القيمة التي‮ ‬ربـت أجيالاً‮ ‬من المثقفين،‮ ‬بسبب انصياع الناشرين،‮ ‬بما فيهم وزارات الثقافة لمتطلبات السوق التي‮ ‬تقتضي‮ ‬الخفة،‮ ‬فان رحيل مدبولي‮ ‬يعني‮ ‬غياب عَمود من أعمدة النشر الثقافي‮ ‬الجاد في‮ ‬مصر والعالم العربي،‮ ‬حافظ على صدقيته حتى النهاية‮.‬
 
صحيفة الايام
11 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

في‮ ‬الذكرى الستون

احتفل العالم الحقوقي‮ ‬أمس،‮ ‬العاشر من ديسمبر بمناسبة مرور ‮٠٦ ‬عاماً‮ ‬على الاعلان العالمي‮ ‬لحقوق الانسان‮.‬
وفضلاً‮ ‬عن الجمعيات الحقوقية،‮ ‬أصدرت الجمعيات السياسية والأهلية والشبابية بيانات بالمناسبة،‮ ‬طالبوا،‮ ‬واستنكروا،‮ ‬وتحفظوا،‮ ‬وناشدو الى آخرها من العبارات المعتادة التي‮ ‬تتصدر فقرات البيانات‮.‬
ليس المهم عند الكثير إصدار هذه البيانات من كل هذه المؤسسات،‮ ‬ما‮ ‬يهم هو الاقتناع بتلك المبادئ الحقوقية‮.‬
أية أهمية تلك حين تصدر جمعية ما بيانات،‮ ‬وهي‮ ‬تمارس على المجتمع القمع والاستبداد الفكري،‮ ‬تضع خطوط حمراء أمام عقل الانسان،‮ ‬ليس كل ما في‮ ‬الفضاء مفتوح أمام عقلك ايها الانسان‮.‬
جمعيات تدعو لحرية الكلمة وهي‮ ‬التي‮ ‬تريد ان تضيق على الصحافة،‮ ‬وتجرجر الصحافيين للمحاكم،‮ ‬لا تقبل ان تدخل الثقافة من أبوابها المختلفة،‮ ‬فالفن والرسم والنحت والغناء الهادف منه بالنسبة لهم حرام وبدعة وكل أصحاب بدعة في‮ ‬النار‮.‬
جمعيات تنادي‮ ‬بالحقوق وهي‮ ‬التي‮ ‬ترفض ان‮ ‬يجرم التمييز بكافة أشكاله وأنواعه،‮ ‬يمارسون الظلم على المرأة‮.‬
وبالمناسبة كنت استمع الى رجل دين في‮ ‬احدى الفضائيات‮ ‬يخطب في‮ ‬عدد من الحجيج‮ »‬حجهم مقبول ان شاء الله‮«‬،‮ ‬كان حديثه‮ ‬يدور حول الحقوق الأسرية،‮ ‬حق الزوج والزوجة وحق الابناء،‮ ‬فكان‮ ‬يشير الى حق كل فرد من هذه الاسرة،‮ ‬ودعا الرجل ان لا‮ ‬يستغل ما أباحة الشرع في‮ ‬ضرب الزوج لزوجته فيكثر من ضربها،‮ ‬واستشهد بحديث نبوي‮ ‬غير معروف المصدر ولا اعرف ان كان متفق عليه ام لا،‮ ‬بأن الضرب‮ ‬يكون في‮ ‬حدود التأديب‮.‬
أي‮ ‬ثقافة حقوقية نقدمها للناس حتى في‮ ‬موسم الحج،‮ ‬ثم نتفاخر بأننا سبقنا الغرب في‮ ‬نشر ثقافة الحقوق‮.‬
وعوداً‮ ‬على بدء،‮ ‬فإن الاحتفال بالذكرى الستين ليس مجرد بيانات وفي‮ ‬الباطن ممارسات لا تمس الى الحقوق بصلة‮.‬
المؤتمرات والندوات والاحتفالات لا تمثل للمنتهكة حقوقهم اية قيمة،‮ ‬المهم لديهم هو إعطاء كل ذي‮ ‬حق حقه‮.‬

صحيفة الايام
11 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

في الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان


 

اليوم عيد الأضحى المبارك. كل عام وأنتم بخير. وبعد يومين سيحل عيد آخر، حيث سنحتفل مع سكان المعمورة جميعا بالذكرى الستين لإقرار هيئة الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذه هي الوثيقة الدولية الأولى التي وضعت أساس نظام حماية حقوق الإنسان. ومنذ العام 1958 جرت العادة أن يحتفل كل عشر سنوات بيوبيل هذا الحدث العظيم لشد الاهتمام لمسائل حقوق الإنسان والمستويات العصرية لاحترامها والدفاع عنها.
بأي حال عدت يا عيد؟ من وحي البيان الذي أصدرته منظمة العفو الدولية في 28 مايو/ أيار من هذا العام استعدادا للاحتفالات بهذه الذكرى استوحت وسائل الإعلام في مختلف بلدان العالم الجواب على هذا السؤال بعنوان: ‘ستون عاما من انتهاكات حقوق الإنسان’. ألم تناشد منظمة العفو الدولية في بيانها قادة بلدان العالم بالاعتذار عن ستين عاما من عدم مراعاة حقوق الإنسان والعودة إلى طريق إحداث تحسينات ملموسة على هذا الصعيد؟ ألم تلق عليهم ‘آيرن كان’، الأمين العام للمنظمة، واجب العمل سريعا على إزالة البون الشاسع بين الوعود والواقع؟
أوضح البيان أنه بعد مرور ستين عاما على إعلان حقوق الإنسان لا يزال الناس يتعرضون للتعذيب والمعاملات الوحشية فيما لا يقل عن 81 بلدا، وللمحاكمات غير العادلة في 54 بلدا على أقل تقدير، وفي 77 بلدا كحد أدنى لا يسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم بحرية.
وطبعا معظم البلدان المعنية بهذا الحديث ستحتفل أيضا، إلى جانب بلدان العالم الأخرى بهذه المناسبة مبرزة إنجازاتها في الارتقاء بمستويات حقوق الإنسان لديها. وطبيعي أن هذه المظاهر الاحتفالية لن تحل مشاكل حقوق الإنسان حول العالم وفي كل بلد فيه، بل ستعقدها.
والخوف على مصير حقوق الإنسان يصبح أكبر فأكبر مع استمرار آثار ضربات الأزمة المالية والاقتصادية العالميتين على بلدان العالم الثالث خصوصا. لقد كشفت الأزمة الاقتصادية عن أزمة عامة أعمق طالت الأخلاق والقيم وحتى معايير حقوق الإنسان في البلدان المتقدمة ذاتها. أما البلدان الأقل تطورا فتصبح مهيأة أكثر، وتحت ذريعة مواجهة آثار الأزمة العالمية، لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، ومصادرة المكتسبات الاجتماعية التي تحققت على مدى السنوات الماضية وحتى لعودة ظهور أنظمة دكتاتورية في بعضها. ومن طبيعة هذه الأنظمة الأخيرة أن تعزز مظاهر القمع ضد غالبية السكان بدلا من إزالتها لكي تأخذ فرصتها كاملة لحل كافة المشكلات الناتجة عن الأزمة من منظور مصالح الفئات الاجتماعية التي تمثلها. طبيعي أن الناس لن تقبل بمصادرة مكتسباتها، وستقاوم بكل شراسة محاولات استمرار طرحها على حصير الفقر وتكميم الأفواه. وهذا بلا شك سيزيد أوضاع هذه البلدان تعقيدا، وسيجعلها تدخل من جديد مرحلة سنوات من الوقت الضائع كما كان الحال في أوقات سابقة.
هذا السيناريو مرعب حقا. لكن فرص تحققه من عدمها ستعتمد إلى درجة كبيرة على مدى الإرادة السياسية للسلطات، ومن ثم قوى المجتمع، بتأكيد خيار تطورها على الطريق الديمقراطي، وبذل الجهود من أجل تذليل الصعوبات التي اعترضنه بدلا من اعتبار الحل الأسهل هو فض اللعبة الديمقراطية من أصلها. خلال الفترة الماضية أنجزت الدولة ومنظمات حقوق الإنسان في بلادنا الكثير من الأقوال والقليل من الأفعال على صعيد تطور حقوق الإنسان. فلا يزال شعار ‘الحرية من العوز حق إنساني’ الذي أطلقته حملة ‘النداء العالمي لمكافحة الفقر’ في فبراير/ شباط من هذا العام بعيدا عن التحقق بالنسبة لفئات واسعة في مجتمع تمتع بوفرة نسبية من عائدات النفط في السنوات الماضية. ولازالت مسألة المصالحة الوطنية الحقيقية لم تجد طريقا واضح المعالم لإنجازها. وإذا كان المجتمع قد استبشر خيرا منذ بداية الإصلاحات بقبر قانون أمن الدولة السيئ الذكر، فإن أيتامه من قوانين متربصة في الأدراج تثب بين حين وآخر لتذكر بأنها لا تزال تعيش زمن أبيها. وقبيل الاحتفال بالذكرى الستين لإعلان حقوق الإنسان استل من تلك المجموعة قانون ليشهر في وجه مشاركات المواطنين في مؤتمرات دولية. وفي السنوات الأخيرة صدرت سلسلة قوانين جديدة تعزز ترسانة القديمة التي تسد الطريق في وجه التطور الإصلاحي ونحو مزيد من حقوق الإنسان. ولا يزال توزيع الدوائر الانتخابية لم يتحرك خطوة نحو تأكيد حق المواطن بالتمثل انتخابيا بشكل أكثر عدالة. ولا يزال حق المواطن في الانتماء إلى الأحزاب السياسية غير مكتمل، لأن قانونا يقر بوجود الأحزاب السياسية الحقيقية غير موجود بشكله ومحتواه العصريين. ولا يزال حق المواطن في فرص التوظيف والترقي بناء على مؤهلاته وكفاءاته منتقصا نظرا لغياب قانون يؤكد على تكافؤ الفرص ويحرم ويجرم التمييز في مجالات العمل وغير العمل. ولا تزال القائمة لم تنته، غير أن الانتهاء منها كلية هو المطلوب.
وقد يعجب الإنسان أحيانا بدعوات نظرية تطالب المواطن بالموازنة بين الحقوق والواجبات. لكن هذه الفكرة بحاجة إلى مزيد من التطوير. وفي حين لا يمكن إلا  إحترام دعوات مقابلة الحريات بالمسؤولية وممارسة الحقوق بمسؤولية ووعي، إلا أن التوازن بين الحقوق والواجبات أمر آخر. فالمواطن أنشأ على معرفة الواجبات منذ نعومة أظافره. بينما الحقوق حديثة العهد. وفي المعادلة بين الحقوق والواجبات فالحقوق هي الطرف الأضعف. وأية دعوة صادقة يجب أن تكون منحازة بلا تردد لصالح مزيد من الحقوق. نعني بذلك الدعوة أعلاه إلى إزالة القوانين المعرقلة للتطور وإحلال قوانين تخدمه. عندها سيتحقق التوازن بين الحقوق والواجبات في منظومة الواقع، وعندها فقط سيمكن الحديث عن تحقيق هذا التوازن في وعي وممارسة المواطن.

الوقت 8 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

العيد الذهبي‮ ‬ليوم المرأة البحريني


شهدت مملكة البحرين في الأول من ديسمبر مجموعة فعاليات واحتفالات وكتابات تشهد بدور المرأة البحرينية وبدور المجلس الأعلى للمرأة في ظل رئاسة قرينة الملك سمو الشيخة سبيكة بنت ابراهيم آل خليفة، وبدور الجمعيات والاتحاد النسائي ، والذي برهن على انه شريك قادر في هذه المرحلة التاريخية أن يكون ثنائيا متكاملا (دويتو) مهما للأخذ بناصية الدفاع عن حقوق المرأة ونقلها من مرتبة وواقع وحقوق ومكانة اقل إلى واقع أفضل وارفع وأكثر تقدما في جميع النواحي والمجالات، التي كثيرا ما سعت إلى تحقيقها المرأة البحرينية  منذ أن كانت فوق مقاعدها الدراسية في الداخل والخارج، والتي لم تبخل في حركتها النسوية المناضلة، سياسيا واجتماعيا وطلابيا، في التعبير عنها وان كانت في حدود ضيقة ومحصورة لم تستطع التوفيق في أحلامها الكبرى.
غير إن المشروع الإصلاحي للمملكة فتح للمرأة البحرينية أفاقا جديدة لكي تنطلق منها لحدود أوسع نحو حلمها في العدالة والمساواة على كافة الصعد، داخل البيت وخارجه في مجتمع ما يزال يقيد حركتها وحريتها وينتزع منها أهم حقوقها في التعبير والدفاع عن أحوالها الشخصية وغير الشخصية .
 ما تم انجازه حتى ألان وفي فترة وجيزة وقياسية من عمر الإصلاح ليس إلا خطوات مهمة نحو خطوات كبرى تنتظرها، لكي تتمكن بأن تصبح شريكا على قدم المساواة في قبة البرلمان وبأصوات كثيرة ، تتناسب وحجم انخراطها في التصويت واختيار نوابها من النساء والرجال ، المعبرين تعبيرا حقيقيا في برامجهم الوطنية والاجتماعية والحقوقية وبأصواتهم الواضحة، عن إن النساء هن الشريك الحقيقي في المجتمع والتنمية والحياة بينها وبين الرجل، ولكن النتائج المعبرة عن حضورها البلدي والنيابي اليتيم، بل وحتى حضورها في الأنشطة المجتمعية والمهنية، والجمعيات السياسية ، إذ تركت المرأة بعض المجالات للرجل، بل ولم تفكر أن تنافسه باقتدار وجرأة، وهو جزء من ثقل تاريخي وارث اجتماعي لا زال يلقي بظلاله على كيانها ووجودها الإنساني . دون شك نحن في مرحلة تاريخية ، من التمكين ـ مهمة تتحرك فيه المرأة في الاتجاه الصحيح وبروح من التفاؤل ، غير إن الإفراط المتناهي لحقيقة واقعنا لا يدعونا للشعور بالانجاز وحده بقدر ما يدعونا للنظر في المعوقات الكبرى أمامها في عملية الإنتاج والعمل والحراك العام، باعتبارها من أهم مكونات وحرية المرأة في المجتمع والتنمية المستدامة، فما تم في مجالات الحقوق النسوية البحتة كالاهتمام بالأيتام والأرامل والمطلقات والحفاظ على كرامتهن ومنحهن حقوق متساوية للجنسية مع الرجل إزاء أطفالها كونها متزوجة من أجنبي مسائل في غاية الأهمية ، وقضايا معاشية مهمة تحسب لحيوية وجهود قرينة الملك والمجلس الأعلى والاتحاد النسائي، غير إن المعركة الكبرى والامتحان العسير القادم هو مدى نجاح المرأة في انجاز مشروعها في الأحوال الشخصية والخروج من عالم الحجر الزوجي الدائم والاستسلام لطاعته المريرة.
ما ينتظر النساء من جولات قادمة أكثر صعوبة هو الأهم، من خلال الفهم المشترك للنساء جميعا في التضامن والوحدة  والتماسك دون النظر للشكليات الجانبية، فذلك قد يدفع بهن إلى التشتت والضياع على حساب الحقوق الفعلية للمرأة، والذي لا يمكن انجازه في وجه قوى مجتمعية قادرة على عزل الكثير من النساء عن الحركة النسائية الفاعلة وإخضاعهن لتلك الأفكار الزائفة حول سيادة الرجل عليها تحت مظلة ذرائع كثيرة.
وإذا لم تستطع المرأة البحرينية في عصرها الذهبي اجتياز محطات عدة لإثبات وجودها في مواقع كثيرة وتمكنها من انتزاعها من براثن العقلية الذكورية المتسيدة ، فان الفرص التاريخية لا تتكرر دائما ، برغم إن الأحلام تحاول العبور نحو  المستقبل وليس الحاضر وحده ، إذ يحمل المشروع الإصلاحي للمرأة ، وطبعا الرجل- الآمال العديدة بحياة أفضل.
الطريق طويل وطويل جدا أمام المرأة وشركائها في اختراق واقع إسمنتي تم بنائه عبر تاريخ طويل للغاية، وعليهن معرفة الأدوات الأنسب لهدم تلك الجدران العالية والعازلة والمخيفة، فقد تم سلبها وعيها ودورها وتم خلق ثقافة التجهيل والتقليل من قدراتها، وتم ربطها بدائرة ضيقة نسجت بصور قاتمة. من حق النساء في البحرين الدخول في عالم الفرح والانخراط في أنشطة متعددة تشعرها بوجودها الإنساني، وتمنحها كل المعاني النبيلة كأم وأخت وزوجة وابنة وصديقة وشريك متكافئ في الحياة والعمل، ففي تلك المعاني تتجسد الحقوق الكاملة المحسوسة في قوانيننا ومعيشتنا وحركتنا اليومية، فمجتمع دون نساء ، مجتمع رجولي معاق، يجعلنا نشعر بنقيصة حقيقية لغيابها ودورها، ومن حاولوا وضعها في قفص البيت وحده وكللوها بزهور سوداء!! هم من ذبحوها في وضح النهار ثم بكوا على قبرها يتحسرون، ففي وحدتهم الجافة والميتة شعروا عزلتهم وموتهم البطيء.
من منا ، نحن، الرجال يزايد على تلك الحقيقة ، فإنه يخفي علته ومرضه الاجتماعي والنفسي، ويمارسها بسوداوية تستحق العلاج. ما عشناه في يوم المرأة البحرينية من احتفالات وأنشطة كان ربيعا رائعا سننتظره كل عام ، بحيث يصبح أوسع واكبر وأجمل من كل عام ، فليس للغناء حدود وليس للجمال والخير وجه نقتله.
 
الأيام 8 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

7 ديسمبر 1973: الدولة فشلت في الامتحان

منذ أيام قليلة مضت أحْيينا، نحن وأخوتنا في جمعية العمل الوطني الديمقراطي، ذكرى استشهاد المناضلين البطلين محمد غلوم بوجيري والشاعر سعيد العويناتي.
لا أعلم إذا كانت المصادفة وحدها هي التي جعلت هذين المناضلين اللذين ينتميان إلى التنظيمين الرئيسين في الحركة الديمقراطية، أي جبهة التحرير الوطني والجبهة الشعبية، يسقطان شهيدين في شهر ديسمبر بالذات بعد سنة ونيف من إنهاء التجربة البرلمانية الأولى في أغسطس من عام 1975، وبعد ثلاثة أعوام من بدء هذه التجربة المؤودة في السابع من ديسمبر 1973، والذي تمر عليه هذا اليوم خمسة وثلاثون عاماً.

استشهاد محمد غلوم وسعيد العويناتي هو التعبير المُبكر الأكثر دموية عن مشهد القمع الذي طبع الحياة السياسية في البلاد نحو ثلاثة عقود، وكانت تلك الضريبة الباهظة التي دفعتها حركتنا الوطنية وجماهير شعبنا وهي تناضل بعناد ودون كلل أو يأس من اجل الديمقراطية واستعادة الحياة النيابية ومن اجل الحقوق المعيشية.

هذا القمع الذي ساد شكّل في احد وجوهه رداً انتقامياً من قبل السلطة على النجاح الذي حققته حركتنا الوطنية والتقدمية، وفي مقدمتها جبهة التحرير الوطني البحرانية في انتخابات المجلس الوطني، وعلى الدور الذي اضطلعت به فترة الحياة القصيرة التي استغرقتها الحياة النيابية، ومن مظاهره النهوض الكبير للحركة العمالية والنقابية، الذي وجد تعبيراته في تصاعد النضال المطلبي ضد استغلال الشركات الاحتكارية ومن اجل حرية العمل النقابي، حيث تشكلت النقابات ونشطت اللجان العمالية السرية في مواقع العمل المختلفة.

كما أن هذا القمع، المقنن بمرسوم تدابير أمن الدولة الذي رفضه البرلمان بالإجماع، أُريد له أن يكون تدبيراً احترازياً في وجه النضال الشعبي من أجل استعادة الحياة الدستورية.
انتخابات السابع من ديسمبر 1973 والحياة النيابية القصيرة التي تلتها ما زالت تتطلب تسليطاً للضوء عليها، نظرا لثرائها والدروس المهمة التي تقدمها للحاضر، خاصة وان جيلا جديدا من الناشطين سياسيا اليوم لم يعش تلك التجربة، بل إن كثيرين منهم ولدوا بعدها. وهم في أمس الحاجة لأن يعرفوا تفاصيل هذه التجربة ودروسها.

إن قضية اليوم هي قضية الأمس، وستظل أيضاً قضية المستقبل إلى أن نبلغ الهدف المنشود، وهو بناء الدولة الدستورية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، دولة المواطنة المتكافئة، التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، وهو أمر لا يمر إلا عبر الحلول والتوافقات السياسية، لأن السبيل القسري الذي يقترن باستخدام الوسائل والتدابير الأمنية قد جرب على مدار ثلاثين عاما دون أن يؤدي إلى أي حل، بل انه فاقم الأوضاع وباعد من الشقة بين الدولة والمجتمع.
 وجوهر هذا الحل هو إقرار السلطة التنفيذية بضرورة تقاسم السلطة مع الشعب، وطريق ذلك واضح ومحدد وهو تفويض السلطة التشريعية لمجلس منتخب كامل الصلاحية إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات، مع ما يترتب على ذلك من شروط وموجبات وتشريعات.

  وحين يدور الحديث عن هذا الاستحقاق فان الأنظار لا تتجه إلى المجلس النيابي الحالي،  المقيد بعدد لا يُحصى من القيود والنصوص الواردة في دستور 2002 التي تطال صلاحياته التشريعية، بل إن تلك القيود تمتد لتشمل اللائحة الداخلية للمجلس التي فُرضت عليه من الحكومة وما زال عاجزاً على مدار فصلين تشريعيين عن تعديلها، بسبب تعنت السلطة التنفيذية أولاً، وثانياً بسبب الموقف المهادن للكتل الانتخابية الجديدة الطارئة على العمل السياسي في البحرين، والتي كانت معنية بدرجة  رئيسية بطمأنة الحكومة على أنها معها في ما تقول، فيما كان الشعب قد انتخبها لتكون رقيبا ومحاسبا لهذه الحكومة.

أكثر من ذلك فان المجلس الراهن وقد خلا من النواب ذوي التوجهات الديمقراطية والمتجاوزة للانحيازات الطائفية، الذين يمكن أن يشكلوا صوتا مختلفا أكثر تعبيرا عن الهموم الاجتماعية والسياسية ذات الطابع الوطني الشامل، فانه جاء ليفاقم من مأزق الخيارات السياسية في البلاد، ويتحول إلى معيق للبناء الديمقراطي أكثر منه مدافعاً عنه وعاملاً في سبيله.

طبيعيٌ، والحال كذلك، أن تتوجه الأنظار إلى التجربة المضيئة لبرلمان السبعينات الذي أنتجته الحركة الوطنية والديمقراطية في البحرين مدعومةً من الالتفاف الشعبي حولها، لأن هذه التجربة، على نواقصها، شكلت حالاً مُتقدمة في الممارسة السياسية والبرلمانية وفي النهوض الشعبي الذي جسد نضال الشعب، وفئاته الكادحة خاصة، التي لم تتخندق في الشرنقات الطائفية والمذهبية كما هو حالها اليوم.

فضلاً عن أن هذه التجربة، بالإطار الدستوري الذي نتجت عنه، شكلت نموذجاً يقتدى في الشراكة المطلوبة بين الدولة والمجتمع، وكان يمكن لها أن تدفع بوطننا نحو آفاق رحبة، لولا أن السلطة فشلت في الامتحان واختارت الطريق الخاطئ الذي جر على البلاد المزالق.
 
خاص بالتقدمي

اقرأ المزيد

7 ديسمبر التاريخي

لهذا اليوم وقع مؤثر على الذاكرة الوطنية البحرينية، فهو من جهة، أول تجربة برلمانية عرفتها البحرين منذ العام ,1973 أي قبل 35 سنة قضت، لتجربة عمرها عامان، ومن جهة أخرى، أن يكون هذا اليوم (السابع من ديسمبر/ كانون الأول) بعد حل المجلس الوطني في العام ,1975 يوماً للتضامن العالمي مع شعب البحرين بإقرار منظمة «الأفرو أسوي» آنذاك، فصار هذا اليوم عادة بحرينية احتفالية نضالية تتكرر كل عام.
إذاً، لم يكن ذلك اليوم يوماً عادياً بكل المقاييس.. حيث كانت البحرين مقبلة على مرحلة جديدة من التحولات النوعية، وهي خوض تجربة الانتخابات ومصطلحاتها التي تطرق آذاننا للمرة الأولى، وكلمة انتخابات مجلس وطني تعني للكثيرين مقدمة أولية لممارسة الديمقراطية التي طالما طالب بها شعبنا وقدم من أجلها التضحيات الجسام على مذبح الكفاح الوطني لسنوات سبقت ذلك اليوم التاريخي بكل تجلياته.
أخيراً، كنا على موعد مع هذه الانتخابات التي تخللها صراع فكري وسياسي بين فصيلين وطنيين، أو أكثر، في موضوع جدوى «المشاركة أو المقاطعة»، وكانت الأسئلة تدور بشأن محور: هل المشاركة «تمييع للصراع الطبقي، أم تأجيج له؟»، فيما جرى في تلك الأيام التحضيرية للسابع من ديسمبر نقاشات حادة وتداول كتب يسارية تدعو للمشاركة، وأخرى تناقضها، وكان «إنجيلهم» كتب لينين: «مرض اليسار الطفولي»، و«ما العمل؟»، وكتب أخرى ثورية تدعو إلى الكفاح المسلح تناقض التحولات السلمية للعمليات السياسية في العالم إلى آخره..
المشهد السياسي، في تلك الأيام التحضيرية لهذه الانتخابات، كان مشحوناً بإيمان عميق من كلا الطرفين المتناقضين للتوجه نحو الأفضل للناس، والكل يعمل بكل طاقاته الوطنية ضمن توجهات العمل السياسي وتقديم الوعي للناس بكل ما استطاع وفق مبدأ «ما من جهد ضائع».. والفرقاء كانوا يعملون وفق أجنداتهم الوطنية المخلصة لتفكيرهم السياسي آنذاك، وشاءت الظروف الذاتية والموضوعية أن تتكون «كتلة الشعب»، وهي وفق تعبير الدكتور عبد الهادي خلف «ظاهرة سياسية/ اجتماعية وكانت ابنة وقتها. فلقد أسقط ناخبوها فتاوى العمائم من الطائفتيْن، كما أفشلوا العراقيل التي وضعتها السلطة أمام مترشحيها»(1).
تشخيص أو رسول حول «كتلة الشعب» التي ذاع صوتها آنذاك، ومازال رنينها إلى يومنا هذا من أنها «ظاهرة سياسية/ اجتماعية، وكانت ابنة وقتها»، يبدو صحيحاً، فكان الناس المنتمون إلى التيارات السياسية وغير المنتمين، غير الناس الآن، فلا أحد يصدق أن المرحوم خالد الذوادي (يساري سني) يفوز في منطقة «شيعية»، ومحسن مرهون (شيعي يساري) يفوز في منطقة «سنية»، آنذاك كان وعي الناس مختلفاً، لا ينظرون للمترشح وفق خلفية قبلية أو طائفية أو عرقية، أو مالية، بل لسلوكه النضالي وتضحياته وشجاعة مواقفه وقدراته على توصيل همومهم والدفاع عنهم بنكران ذات، وأذكر طرفة صادفتني في إقناع «أغتم/ أبكم» من مشجعي كرة القدم عندنا في المنطقة، لترشيح خالد الذوادي بلغة الإشارات، وعندما شاهد «بوستر» الذوادي الذي كنت أحمله في يدي رفع «إبهامه» اليمنى بعلامة موافق، ثم سأل عن «بوستر» رسول الجشي في علامة أنه سيرشح الاثنين معاً، عندها قلت لأصحابي الذين أوكلوا لي هذه المهمة: إن هذا الأغتم «شيني/ شيعي وسني»، ومهمتي كانت سهلة معه، ويا ريت كل الناس مثله، رغم أنه أحنى سبابته عندما شاهد «بوستر خالد»، في إشارة إلى أنه «سني»، إلا أنه لم يبد ممانعة من ترشيحه مع الجشي.
ومع ذلك، ماذا لو أن التجربة التي مضى عليها الآن 35 عاماً استمرت من دون انقطاع، ومن دون حل لذلك المجلس إلى يومنا هذا؟ هل سيكون حالنا أفضل مما نحن فيه، أم العكس؟ ربما العكس، لكن الأكيد، أن الشعوب تتدرب على المشي من تجاربها، وتعطيل التجارب مشكلة كل المشكلات ليس في البحرين فحسب، بل في الوطن العربي من البحر إلى البحر.
 
صحيفة الوقت
7 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

العرب ومعاهدة حظر القنابل العنقودية

في خضم القضايا المحلية والاقليمية والدولية المتشعبة التي بدا العرب جميعاً مشغولين أو غارقين فيها من الرأس حتى اخمص القدمين، غاب عن اهتمامهم، وعلى الأخص اللبنانيون منهم واحدة من أكثر القضايا المأساوية التي مازالت بمثابة سيف حقيقي مسلط يهدد آلاف العرب واللبنانيين، وعلى الأخص اطرافهم الجسدية السفلى، من جراء آلاف القنابل العنقودية الاسرائيلية التي لم تنفجر والتي مازال يروح ضحيتها بين الحين والآخر عدد غير قليل من المواطنين، ولاسيما في الجنوب اللبناني. ويتمثل غياب العرب، واللبنانيين بوجه خاص باعتبارهم أكثر المعنيين بهذه المأساة عن المؤتمر الدولي الذي عقد مؤخراً في العاصمة النرويجية اوسلو وخصص للتوقيع على معاهدة دولية لحظر القنابل العنقودية. ولا نقصد بهذا الغياب هنا بالطبع غياب ممثلين من الدول العربية عن حضور المؤتمر فلربما حضر منهم من حضر، بل غياب التحضير المسبق والنشاط الملموس للمشاركة بفعالية في المؤتمر وابراز هذه المشاركة اعلامياً على أوسع نطاق عربيا ودوليا لتوعية الناس ومؤسسات المجتمع المدني بالمخاطر الجمة من هذه القنابل، وتفعيل شبكة من الاتصالات مع مختلف الدول والمنظمات الدولية، ولاسيما الكبرى او الفاعلة على الساحة الدولية بغية تأمين اكبر عدد من الدول المشاركة في المؤتمر والتوقيع على الاتفاقية، ناهيك عن التنديد، ولو بأخف لهجة بالدول الضالعة في صنع هذه القنابل الاجرامية الوحشية، وهي كل من الولايات المتحدة واسرائيل وباكستان والهند وروسيا والصين والتي غابت جميعها عن المشاركة في المؤتمر، ولم تبال ولو بأدنى مستوى من المشاركة او ارسال مندوب عن كل منها بصفة «مراقب« مستمع لمداولات المؤتمر ليعقب فقط على ما يود ان يبرره من ذرائع او تحفظات على الاتفاقية. هذا على الرغم مما ينطوي عليه المؤتمر والاتفاقية الدولية التي تمخضت عنه من أهمية فائقة لتعزيز السلم العالمي، وتجنيب البشرية المزيد من الويلات حتى في زمن السلم من شرور تلك القنابل المباغته المدفونة في باطن الارض او المختبئة على سطحها او بالقرب منه. لقد وقعت على اتفاقية حظر القنابل العنقودية في مؤتمر اوسلو الاخير مائة دولة، في حين كان يمكن لو كانت تحضيرات العرب واللبنانيين ومنظمات وقوى السلم في العالم اكثر فاعلية مسبقاً، لوصل عدد الموقعين على الاتفاقية أكبر بكثير من 100 دولة فقط، ولاسيما انه سبق ان اجريت مفاوضات مكثفة في مايو الماضي في دبلن تمهيدا لتوقيع الاتفاقية وتعزيز قوة نصوصها الالزامية ليكون حظر القنابل العنقودية حظراً حازماً، بما في ذلك انتاجها والتجارة بها، ناهيك عن استخدامها في الحروب. وكان من ابرز المتحدثين في المؤتمر وزير خارجية لاوس ثو نجلون سيسلوليث الذي وصف المعاهدة بأنها تعد معلما تاريخيا، مبديا تفاؤله بأنها «ستحمي الابرياء من التعرض لويلات القنابل العنقودية«. واشار كيف ان ثلث القنابل الملقاة على بلاده ابان حرب الهند الصينية لم تنفجر، وان 300 ضحية يسقطون سنويا من جراء هذه القنابل، وهو ما يشكل نصف ضحايا القنابل العنقودية على مستوى العالم. ورغم التفاؤل الذي ابداه نائب وزير الخارجية اللاوسي بأن تتمكن معاهدة حظر القنابل العنقودية من حماية الابرياء المدنيين الذين تباغتهم هذه القنابل بانفجارها على حين غرة من دون مقدمات، فإن الكثير من المراقبين يبدون شكوكاً في قدرة المعاهدة على الزام الدول التي تنتجها أو تتاجر بها أو التي تستخدمها في حروبها بحظر انتاجها والمتاجرة فيها او استخدامها، ولاسيما في ظل غياب كل او معظم هذه الدول عن المؤتمر بذرائع واهية مفضوحة. وهذا ما اعترف به عن حق وزير الخارجية الياباني هيروفومي تاكوسوني في المؤتمر والذي اكد ان فعالية المعاهدة تظل محدودة مع غياب ابرز الدول المنتجة أو المستخدمة للقنابل العنقودية عن المؤتمر. وفي الوقت الذي اكد فيه الوزير الياباني ايضاً أن بلاده تبرعت منذ عام 1988م بـ300 مليون دولار لمساعدة الدول التي تهددها القنابل العنقودية والألغام فإننا مازلنا لم نسمع بعد كم هي تبرعات الدول العربية في هذه القضية الانسانية السياسية التي يذهب ضحاياها عشرات اللبنانيين سنوياً، دع عنك الالغام المتبقية الاقدم الموروثة عن الاحتلال الاسرائيلي في سيناء وأراض مصرية اخرى على الحدود مع ليبيا وداخل ليبيا نفسها والموروثة بدورها عن الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن الاراضي السورية وغيرها من الاراضي العربية التي خلفها الاحتلال الاسرائيلي. وليس بالضرورة ان تكون مساعدات الدول العربية المقتدرة فنية عسكرية، بل يكفي ان تتبرع بالتعاقد مع دول ذات صناعة عسكرية وتكنلوجية متقدمة لمساعدة الدول العربية المتضررة في هذه المهمة لازالة الالغام. والأنكى من ذلك فإن لبنان الذي مازال يدفع اثمانا باهظة لحروب اسرائيل العدوانية عليه مازال يعاني ويترك وحده عربياً في مطالبته المشروعة بالزام اسرائيل بتسليمه خريطة لكل قنابلها العنقودية التي اسقطتها او دفنتها في الاراضي اللبنانية. مهما يكن فإن هذه المعاهدة التي وقعت مؤخراً في اوسلو من شأنها على الاقل تسليط الاضواء بقوة على مخاطر وشرور هذه القنابل الجهنمية التي تعد بمثابة قنابل صامتة موقوتة تصطاد فرائسها المدنيين الابرياء على حين غرة. لكن ما لم تبادر فوراً كل الدول العربية ودول العالم المتضررة من هذه القنابل، أو المتعاطفة مع ضحاياها، فضلاً عن كل قوى السلم والخير بتكثيف فعالياتها ونضالاتها من اجل حشد اكبر تكتل عالمي ضاغط نحو زيادة عدد الموقعين على الاتفاقية، وعلى رأسهم الدول المنتجة والمستخدمة لهذه القنابل الشريرة الفتاكة، والضغط على هذه الدول بكل الوسائل والتشهير بمواقفها الانانية اللاانسانية من المعاهدة، فإن نصوص هذه الاتفاقية ستبقى مجرد حبر على ورق أقرب الى المرجع القانوني أو الوثيقة التي توثق ضمير العالم الحي الذي تؤرقه هذه القضية لا أكثر.. تماماً كاعلان حقوق الانسان العالمي.

صحيفة اخبار الخليج
7 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

وعي مرهف بالوحدة

مهما اعتمد المذهبيون السياسيون على الجحافل ومهما جاءت من الأرض أو من الفضاء، من الواقع أو من السحر، فإنهم لن يغيروا بوصة من الواقع. في زمن التدفق الثوري أو المحافظ ومهما جاء من عواصم متعددة، فهو مرهون بزمن النفط، ودخول الحكومات السياسية الشمولية، التي تتراجع في تمثيلها للجمهور أو في تحصيها لفواتير البترول. في زمن الصعود كانت العواطف المتأججة التي تحلم بالتغيير الكاسح، وتستند إلى معرفةٍ مبسطة بالحياة، وهذا كان مثل الموجات السابقة الدينية المحافظة والليبرالية المستوردة، والشيوعية، والقومية والبعث، تنشأ من قوة مركز سواءً كان في موسكو أو القاهرة أو بغداد أو دمشق، ثم يدخل المركزُ في أزمةِ الصرف المالي، كما هو الحال الآن في مراكز الصرف البترولي. والصرف المالي هو القضية الكبيرة فانتبهوا. وكانت البحرين الأولى الكبرى تمتدُ من البصرة حتى عُمان، ولو كانت الآن موجودة لحازت أكبر الآبار في الكرة الأرضية، ولكنه عدم المعرفة والتضحيات المجانية، فانكمشت البحرين الكبرى حتى صارت محارة صغيرة في الخليج. ولكن هل نسمح بذوبان البحرين الصغيرة في المياه المالحة؟ حتى لو حدثت عشر انتفاضات طائفية وألف مظاهرة مذهبية فلن تغير بوصة من الأرض. صراخٌ يذوب في المستحيل وكلام يتبخر وتبقى الأرض ممتنعة. عودوا إلى الوطن والإسلام الموحد ومحبة أهل البيت. لدينا بيتٌ صغيرٌ وصارت كلُ حجرة تتصارع مع الحجرة الأخرى. كان البحرينيون الوطنيون الفقراء البسطاء يواجهون اللواري البريطانية، ولن تعرف الدم المسكوب وقتذاك لمن يعود، وأي من يرفع راية مذهبية يُضرب بالحذاء، وكانت الامبراطورية البريطانية لا يغيب عنها الظلام، فكيف يستطيع الشعبُ الصغير أن ينتزع حريته ويحقق استقلاله لو كان وجودكم موجوداً؟ تراجعوا عن هذه المصايد المذهبية السياسية التي سجنتم فيها أنفسكم، عودوا إلى الوطن الواحد. استقيلوا من هذه الزنازين وعودوا للوطن الواحد والشعب الواحد ومحبة البيت. والبيت صار محارة صغيرة في الخليج تكاد أن تذوب من كثرة الأجانب والغرباء. كانت لنا إمبراطورية لا يغيب عنها الزيت. كانت البحرين امبراطورية فتقلصت واقتصرت على نقطة وعلى مجد قديم، والآن وزيتها قليل وناضب وأسعاره تتدهور، فأي مصير يتنظرنا؟ ليس لكم سوى العودة للوطن، منفيين كنتم خارجه وداخله، ففكوا الارتباط وعانقوا الأهل والوطن كله. المراكز تترنح اليوم أو غداً، والأهل في العراق فك أغلبهم الارتباط، وجعلوا المصلحة العراقية الوطنية فوق كل شيء. والقاعدة ليست أملاً، ولا مستقبلاً، ففي بضع سنين تتلاشى. الحشودُ تتدفق علينا من كل صوب، تذوبنا، وليس لنا سوى كلمتنا الوطنية ووحدتنا، ندافع بها عن رزقنا، وأرضنا، ولن تعرفك المراكز حين تقرر وحين تسقط وحين تتأزم. لم يبق من البحرين الكبرى سوى قارب صغير يجدف بأشرعة أوال. الماضي انتهى وتاريخ الثورات المذهبية التي تحولت إلى ثورات مضادة للشعوب انتهى، ويكاد. فجدفوا بالزورق صوب البحرين، صوب الوطن، وانسوا التواريخ الطائفية. نحن نكاد أن نتلاشى. نحن نكاد أن نفقد اللغة العربية. البحرين بمجدها العظيم الممتد في القرآن والتاريخ ذهبت بسبب المغامرات السياسية. نحن نغرق بالسيارات والتلوث والغرباء. والقوى مشغولة بالطوائف ومعاركها الوهمية، وتقدمُ رجالَ الدين المتخصصين في الفقه ليديروا الصراع حول البترول والأجور والمصانع، والتلوث والضرائب وهم لا يعرفون شيئاً من ذلك. يضيعون علينا عدة سنوات ثمينة حين كانت أسعار النفط مرتفعة ويزيدون الصراع الجانبي حين ينخفض النفط والمشكلة ليست فيهم، فهم نتاج موجة مذهبية، لم تتخصص في اقتصاد وبيئة وعلوم، وعندهم أن رجل الدين يعرف كلَ شيء ويفتي في كل شيء. وهم يُغرقون الزورق الأخير من قافلة البحرين الأولى والكبيرة التي غرفت من كل مذاهب التمرد. هذا لديه مجداف يقود لليمين. وهذا لديه مجداف يضربُ في اليسار. هذا يتوجه للضفة الشرقية. وذاك يتوجه للضفة الغربية. وينحرفون عن الجهة الأصلية، جهة البحرين، وأهلها، عن البحرين التي تذوب مثل قطعة سكر في الخليج. فلماذا لا تتوحد المجاديف؟ الحلوة التي خطفها قراصنة الشرق والغرب ومركبها يغرق. ارحمونا وتخلوا عن زنزاناتكم الطائفية. ارحمونا وتذكروا اننا نغرق في الأسعار والبطالة والعمالة الأجنبية السائدة والتجنيس والتخسيس الاقتصادي وازدحام المرور والتلوث وسلاحف الوزارات الحكومية. لكم تاريخكم الكبير في الوطن، به تعرفون، وبه تزدهرون، والمراكز الخارجية لا تعرفكم ثم تتغير كما تغيرت موسكو والقاهرة وبغداد ودمشق. إن العواصم لا تعرف سوى مصالحها. لا يختلف فريق الحورة عن فريق الحمام. كلاهما اتحدا في الفقر والبحر وحب الوطن. وصار كلاهما آثارا. بسيوف موحدة أزال البحرينيون الاستعمار البرتغالي، وبحجارة صغيرة طرد البحرينيون المتحدون الاستعمار البريطاني. وبدولة وطنية متوحدة نستطيع إقامة مجتمع يتجاوز بإمكانياته العلمية المنطقة الخليجية. ليس ثمة وقت والتأخير يعني التوحد بالشعوب المندثرة.

صحيفة اخبار الخليج
7 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد