فيما تمثل السنية المذهبية أغلبية العالم الإسلامي، فإن الأقليات المذهبية والدينية تسعى إلى أدوار تتجاوز أحجامها، وبهذا فإن ثمة إشكاليات على صعيدي تطور المذهبية السياسية السنية كأنظمة، وخطورة بقائها في التقليدية والشمولية، وسعي الأقليات إلى تجاوز أحجامها والتغلغل في منطقة الأكثرية، وتحويل الصراع مع الهيمنة الخارجية إلى صراع بين المسلمين أنفسهم.
إن المحور الإيراني – السوري، تدخل فيه إسرائيل من نافذة خلفية، فهي تمثل كذلك أقلية دينية في المنطقة، فيحدثُ لقاءٌ ديني بين الأقليات الكبيرة، وهي تجدُ في منطقة السنة الواسعة المعتدلة الفضفاضة اجتماعيا والمتقطعة جغرافيا، ساحة تغلغل وتغيير وتأثير، مستندة كلها إلى أنظمة شمولية قوية، تخشى من ديمقراطية حقيقية، فتجعل المذهب أو الدين أداة تمييز بين المواطنين.
وبهذا فإن هذا المحور الإيراني – السوري في حالة تصدع، أو هو يعيش تناقضات كبيرة أمام التطور الطبيعي في العالم، فسوريا تسعى إلى سلام مع إسرائيل، واستعادة أرضها المغتصبة من الغزو الغاشم لإسرائيل، لكن بحيث لا تتصدع علاقاتها مع إيران، وهذا أمر صعب، لأن سياسة نجاد جعلت إيران في حالة حرب مع إسرائيل.
والسلام السوري مع إسرائيل رغم أنه سراب سياسي فإنه صار أمرا مهما للقيادة السورية للخروج من تبعات تدخلها الدامي في لبنان، لكنها تحاول الابقاء على علاقاتها مع إيران، وبهذا فإن علاقاتها مع حلفائها داخل لبنان يمكن أن تتغير بمقدار خروجها، وبمقدار تبعيتهم للسياسة الإيرانية.
تقوم سياسات الأقليات المذهبية والدينية على اختراق المنطقة السنية الكبرى، بحيث تحول تلك الأنظمة الصراع داخلها من صراع اجتماعي ضد سيطرتها على الثروة والحكم إلى صراع طائفي يعزز سيطرتها، بل يحولها إلى قوى متنفذة في المنطقة.
وقد رأينا في مقالات (صراعات الطوائف والطبقات) كيف تمتد هذه التدخلات في رقعة واسعة. لقد رأينا كيف تظهر هذه التدخلات في العراق بشكل وفي لبنان بشكل آخر وفي اليمن، أي في المشرق العربي بصفة خاصة.
وقد رأينا كذلك كيف أن النمو الليبرالي أو الديمقراطي قد تجمد في المحور، فتوجهت القوى السائدة نحو إحياء روابط قديمة، وإحداث تقارب بين مذاهب متباعدة من أجل حراك سياسي غير بناء.
إن اختراق المنطقة السنية يمثل لها اختبارا مهما فهي تركز في أن هذه المنطقة متهمة في ولائها للإسلام وللحرية وبكونها تابعة للغرب، كما تقول للجمهور الواسع، وبهذا فهي تتعرض للاختراق خاصة عبر الأقليات المذهبية الداخلية، وتحولها إلى قوى مساندة لسياستها.
هذا حدث لحماس في غزة التي وجدت نفسها في صراعها لضرب منظمة التحرير الفلسطينية تلتقي المحور الإيراني – السوري، والسياسة الإسرائيلية السابقة، وهي إذ تعزز مواقع الصقور في السياسة الإسرائيلية الراهنة، تضع نفسها كعقبة لتطور سياسة السلام.لقد قلبت حماس طبيعتها المذهبية، وصارت فقط أداة سياسية لصراع مناطقي، معرضة نضال الشعب الفلسطيني لأخطار فادحة، فلم تعرف القضية الفلسطينية مثل هذا النزاع رغم احتضانها العالمي الكبير الآن.
وراحت غزة تدفع ثمن هذه السياسة المراد لها تسخين المنطقة وتوتيرها بشكل مستمر، لكن سكان غزة هم من يدفع الثمن الباهظ لمواجهة كهذه.
وهذا ما جربه الشعب اللبناني بمرارة دافعاً ثمناً هائلاً لهذا.
في إيران وسوريا هناك شعور قوي في الدوائر الرسمية بأن زمن الدكتاتورية يتوجه نحو نهايته المحتومة، وأن المذهبية المحافظة هي أكبر متراس لهما، وأن الإماميات يجب أن تتحد وتتغلغل وتثير القلاقل معتمدة على الشعارات الحماسية بضرب الغرب والتبعية، لكن الجمهور في البلدين خاصة يتوجه لرفض هذه السفاسف السياسية ويطالب بتغيير الأوضاع المعيشية والسياسية بالداخل أولاً، وأن هذه السياسات المعارضة للمسلمين والممزقة لوحدة صفوفهم هي كارثة على الجميع.
وقد بدأ ذلك في العراق وراح الشيعة العراقيون الوطنيون يبحثون عن مصالح وطنهم المستقلة، ويتخذون خيارات نابعة من هذه المصالح بغض النظر عما تقول الدول الأخرى.
ولكن التدخلات الارهابية الدموية التي تجري من أجهزة غير معروفة بشكل كلي حتى الآن تهيجهم وتدفعهم لخيارات معاكسة، وهو أمرٌ لا تخفى دلالاته، فهذه الأجهزة السرية لا يهمها السكان الذين تقتلهم من أي مذهب كانوا ولكن يهمها بقاء العراق في هيمنتها.
يجري صراع طائفي رهيب في العراق يعكس ضعف الوطنية العراقية.
ومن جهةٍ أخرى فإن الدول السنية السائدة خاصة الدول المركزية ذات الأهمية لا تقوم بسياسات قومية وشعبية إصلاحية كبيرة تجعل السكان يلتفون حولها، فإداراتها مشغولة بمصالحها وكراسيها، وتجعل الأغلبية الشعبية عرضة لكل التردي المعيشي والتغلغلات، ولا تجابه التعنت الإسرائيلي والغربي المتدخل بما يرده.
وحين تظهر سياسة (سنية) ارهابية على طريقة القاعدة لكي (تحرر المسلمين من الذل) تزيدهم ذلاً وتبعية وتجعل الجيوش الأجنبية تتدخل في كل زوايا بلادهم.
هذا يتطلب كله سياسة علمانية عربية تحررية إسلامية مسيحية يهودية إنسانية، بمعنى أن تتفق كل القوى في المنطقة على السلام وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتنهي احتلال الأراضي التابعة للجيران، وتجعل المواطنة هي الأساس تاركة الأديان والمذاهب للحياة الاجتماعية والعبادية، وتشكل مجتمعات ديمقراطية يقوم المواطنون بتغيير أوضاعهم فيها بما يتلاءم مع تقاليدهم السياسية.
إن كل الدول في المنطقة تعاني المشاكل نفسها، وإذ هي تقوم بالصراع بين بعضها بعضا، وتعتمد على الأقليات واختراق حدودها السياسية والاجتماعية فهي تحطم نفسها، وتتواجه في معارك لا غالب فيها ولا مغلوب بل تجعل نفسها عرضة للتفكك والغزو.
إن نشوء روابط وعلاقات بين قوى السلام والتحديث تمارس تأثيرات مشتركة في هذه المنطقة وتسعى إلى التقارب بين الدول والشعوب هو مطلب ملح، فالقوى القديمة “القوموية” والدينية لا تدرك تغير طبيعة المنطقة والحاجة إلى وحدة شعوبها وأممها، فتتوجه للصراعات دائماً، وتأجيج المنطقة مع انها في وضع غير قادر على مثل هذه المواجهات، وترفض توسع علاقات حسن الجوار والسلام بين كل هذه الشعوب.
صحيفة اخبار الخليج
23 ديسمبر 2008