أطلقت التحولات التي جاءت مع الاقتصاد القائم على النفط في بلدان الخليج حالاً من الحراك الاجتماعي والثقافي السريع الذي نجد تجلياته في العديد من مظاهر الحياة، وهو حراك مستمر، فبرغم مرور عقود على هذه التحولات، فان مجتمعاتنا الحالية ما زالت في حالة صيرورة وتشكل، وهي لم تعرف بعد الشكل النهائي أو الممتد الذي يسمح برصد أدق للظواهر ونتائجها. إن بعض الباحثين يذهبون إلى أن المدينة الخليجية، من حيث هي الجسم العمراني والسكاني الأساسي لدول الخليج ما زالت تبدو غير مكتملة، ومخترقة بالمساحات الرملية الكبيرة، وهذه الملاحظة يمكن تعميمها، فهي في العمق الاجتماعي ليست اقل بروزاً، بل إنها هنا بالذات أكثر حدةً وأبلغ في النتائج. ويظهر ذلك، أشد ما يظهر، في الازدواجية العميقة للقيم وأنساق الثقافة ومظاهر الوعي الاجتماعي، فمن جهة تخترق مظاهر العولمة ثقافياً وعمرانياً البنى والمظاهر التقليدية في مجتمعاتنا، وتنشأ مدن حديثة تُضاهي المدن الأمريكية أو الأوروبية، لكن خلف هذه المظاهر الجذابة والأنيقة تختفي مظاهر الكسل والركود في أشكال الوعي. رغم أن التكنولوجيا الحديثة إذ تدخل مجتمعاً ما فإنها لا تفعل ذلك بصورة محايدة، إنما هي تحمل معها مؤثرات مٌهمة تمسُ الوعي، لكن » الوعي « الذي ينشأ عندنا بحكم ذلك هو وعي مُشوه لأنه يريد التشبه بمظاهر الحياة الحديثة ويزعم في الوقت نفسه تمسكه بمنظومة القيم الموروثة. صحيح أن التطور الصحي للمجتمعات لا يمكن أن يقوم على قطيعة مع الماضي، إنما عبر تمثل العناصر الايجابية في هذا الماضي وإدماجها بروح خلاقة في ثقافة ووعي الحاضر، بيد أن الوعي المُشوه الذي يتشكل الآن يعيد إنتاج أشد العناصر سلبية ومحافظة في ثقافة الماضي ويكسبها رداء عصرياً، فينتج لنا شخصية قلقة، مضطربة، ميالة للسهولة والمظهرية الفارغة والاستعلاء الذي يخفي وراءه هشاشة وضعفا وترددا. ليس هذا النوع من الاضطراب أو القلق بين التحديث والتقليد حالة خاصة بمجتمعات الخليج، غير أن هذه الظاهرة تكتسب طابعاً أكثر حدة لعدة عوامل بينها نمط الاستهلاك الترفي والبذخ الذي ارتفع إلى مستوى القيمة التي تقدر بها منزلة المرء ومكانته الاجتماعية، وبينها أيضا النمو أو »التحضر الفوري السريع« كما دعاه أحد الباحثين الذي لم ينبت في بيئته بشكل تدريجي، بقدر ما جرى استجلابه من خارجها. كان البحث السوسيولوجي في المنطقة يركز على أن هذه مجرد مظاهر مرحلة انتقالية، بعدها ستنتقل مجتمعاتنا إلى حالة من التوازن النفسي والاجتماعي والتنموي، لكن ما يقلق المرء أن هذه الحالة » المؤقتة « أخذت تنتج آليات استمراريتها التي قد تطول، وأكثر من ذلك تنشئ وتعمم القيم وأنساق الثقافة المشوهة الخاصة بها. ويجري الإعلاء من هذه الأنساق المشوهة وتعميمها عبر أجهزة الإعلام والصحافة، من خلال برامج ترصد لها جوائز سخية، وتقدم كبديلٍ للثقافة في أنماطها الرفيعة، وإغفال مستلزمات التنمية الثقافية والبشرية الحقة التي تتطلب تدريب حواس وملكات التلقي الثقافي، وتربية الإنسان بروح العمل والتضحية ونبذ الاتكالية.
صحيفة الايام
13 نوفمبر 2008
أنساق مُشوهة
“نقابة ألبا” تقدم لنا النموذج
بداية نزف التهنئة لمن فازوا في انتخابات ” نقابة ألبا ” التي جرت في الأيام القليلة الماضية. ففوز القائمة العمالية يعد في الحقيقة، انتصاراً “للبحرين النموذج الحضاري المدني” الذي طالما جسدته هذه الجزر الجميلة الصغيرة في مساحتها، والعريقة بتاريخها وانفتاحها وتعدديتها وتسامحها ومكانتها الحضارية في وسط منطقة الخليج والجزيرة العربية، طبعاً، قبل أن تهب علينا رياح “الكوس” الشرقية المشبعة بالرطوبة الخانقة. وفي مشهدٍ يتسم بمنتهى الرقي والتحضر أدلى أكثر من 2600 عامل بأصواتهم، لقد صوتوا لصالح رفاقهم العمال الذين أثبتوا جدارتهم في الدفاع عن المطالب المشتركة لجميع عمال ألبا، بعيداً عن أية مؤثرات للطائفية السياسية أو العنصرية التي، ويا للأسف، تخيم الآن في سماء عموم المنطقة، وذلك لأسباب باتت معروفة لنا جميعاً، لا مجال لذكرها في هذه المساحة الضيقة.
ومنذ انتهاء انتخابات “نقابة ألبا” والعديد من الأسئلة لا تبارحنا. ومن بين تلك الأسئلة، هل النتائج التي تمخضت عنها تلك الانتخابات، جاءت بمحض الصدفة أم أنها ثمرة عمل طويل ومضني من أجل مصالح العمال، استغرق سنوات، قامت به القيادات العمالية التي صوتت لصالحها القواعد العمالية وأوصلتها إلى سدة قيادة النقابة للفترة القادمة. أم أن للتحالفات والتنازلات السياسية خلف الكواليس دوراً في الوصول إلى تلك النتائج، كما هو معهود في مثل هذه المنعطفات. أكثر الذين تحدثنا معهم من النقابيين والسياسيين أكدوا بأن فوز القائمة العمالية يؤكد على أن العمال قاموا بانتخاب قيادة عمالية تتسم بالعقلانية والنزعة السلمية في تحركاتها من أجل تحقيق مطالبهم، ملتزمة بالقوانين السارية في المملكة وبالمواثيق الدولية التي وقعت عليها مملكة البحرين دون مزايدات فارغة أو مناكفات تلحق الضرر بمطالب العمال دون طائل. وهذا السلوك النقابي التدرجي الرصين الذي لا يلجأ إلى خلط الأوراق المطلبية بالأوراق السياسية وغيرها هو الذي يمكن أن يحقق للعمال في كل موقع مطالبهم اللصيقة بهم.
وعلى أية حال، فإن الدرس البليغ الذي قدمته لنا انتخابات ألبا، هو أن العمال هم أعلم الناس بمصلحتهم أولاً، ثم، وحين تتوافر أجواء الحرية الواسعة في الاختيار، بحيادية تامة، بعيداً عن المؤثرات الأخرى، بإمكان الإنسان أن يكون رشيداً وعقلانياً في اختياره بما يخدم مصلحة القطاع الذي ينتمي إليه بوجه خاص، وعلى مستوى الوطن بوجه عام، وبصورة سلمية وحضارية راقية نتمنى لها أن تعم جميع ساحات المملكة دون طيش أو انفلات أو تحشيد.
وهنا لابد أن نشيد بأن للتعامل العقلاني والحضاري من جانب الإدارة التنفيذية في شركة ألبا دوراً محورياً وإيجابياً في وصول النقابة والشركة إلى ما يرضي الطرفين. إن تلك التجربة العمالية المميزة تفرض تحدياً جديداً أمام بعض القوى السياسية التي ما فتئت تكرس جهودها من أجل خدمة مصالح حزبية أو طائفية سياسية ضيقة، واختزلت مصالح الوطن في مصالحها الخاصة غير عابئة لا بالعمال ولا بغيرهم. وهناك دليل على ما نقول أكثر وضوحاً، يبرهن لنا أن تلك القوى السياسية تعمل على تشرذم المطالب، لا وحدتها. فمنذ سبع سنوات ونيف وطلبة الجامعات يحاولون لملمة صفوفهم في إطار اتحاد طلابي يجمعهم كي يدافع عن مطالبهم الطلابية التي أصبحت – مع مرور الوقت تكبر وتتعقد – بحكم تعقد العملية التعليمية واتساع نطاقها ومتطلباتها من جهة، ناهيك عن الظهور السريع والواسع للجامعات والمعاهد الخاصة، مع فرضها لرسوم جامعية عالية، بل وفي أغلب الأحيان مبالغ فيها، مع افتقار أغلبها إلى المعايير التعليمية المعروفة فى دول العالم المختلفة، وهذا كله ينعكس بدوره على أوضاع الطلبة المادية ومستواهم الأكاديمي وقدرتهم على المنافسة في سوق العمل، الذي بات يتطلب معايير مختلفة من المتقدمين للحصول على وظيفة. لماذا لم يتمكن الجسم الطلابي من تأطير جهوده على مدى السبع سنوات الماضية؟ ولماذا لا نبني على ما أنجزناه وتحقق من مكاسب سياسية أو غيرها؟ ولماذا لا نركز عملنا على تحقيق الحقوق المطلبية لكل قطاع من قطاعات المجتمع بشكل تدريجي، دون حماس زائد أو تصعيد غير مبرر وخلطٍ للأوراق، يعيدنا إلى الوراء من جديد؟
هذا سؤال نترك الإجابة عليه برسم القوى السياسية التي تعمل – سواء بوعي منها أو بدون وعي – على تخريب العمل السياسي والمطلبي في كل الساحات. وهكذا، يوماً بعد يوم، نكتشف حاجتنا الماسة لقيادات سياسية، تمتلك المهارات اللازمة للعمل في أجواء العمل الوطني العلني الذي، لا شك، أنه يختلف كلياً عما تمرست عليه القيادات الحالية في ظروف عملها السري وتضحياتها آنذاك، التي نقدرها ونجلها، ولكن لم يعد ذلك العمل صالحاً لهذا الزمن.
الأيام 13 نوفمبر 2008
.. وماذا عن بايدن نائب الرئيس؟!
ربما يكون الكاتب الصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل من أوائل الكتاب السياسيين الذين حذروا العرب مؤخرا من الارتكان على طيبة باراك اوباما لمجرد انه أول أمريكي من أصل افريقي يصل الى البيت الابيض. ففي احدى الحلقتين اللتين بثتهما الجزيرة غداة انتصار اوباما اوضح هيكل في مقابلة معه ليس فقط ان ثوابت السياسة الامريكية غير قابلة للزعزعة او التغير تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي – الاسرائيلي، بل حذر من خطورة فريق العمل المعاون المتوقع ان يشكله الرئيس اوباما للاعتماد عليه ومساعدته في حل وادارة المشاكل الداخلية الراهنة التي تعصف بأمريكا ناهيك عن رسم وادارة السياسة الخارجية خلال ولايته، حيث سيترك له سلفه جورج بوش الابن ميراثا ثقيلا من الازمات المتراكمة ما لم يتركه ربما أي رئيس لخلفه في تاريخ كل الرؤساء الامريكيين بالنظر لمعضلاتها الشائكة وكيفية قدرة واشنطن على الخروج منها بأقل الاكلاف الممكنة ماليا وبشريا وبما يحفظ ماء وجهها، كقوة عظمى تواجه تحديات وقضايا دولية واقليمية جمة على درجة من التعقيد في مقدمتها مستقبل التسوية المتعثرة في الشرق الأوسط، وفي افغانستان، ومصير قواتها في هذا البلد وفي العراق عدا قضايا آسيوية وافريقية واوروبية متعددة شائكة من بينها دارفور، والقوقاز، والملف النووي الايراني، والعلاقات مع روسيا وكيفية تفادي الدخول معها مجددا في حرب باردة جديدة في ضوء قوتها العسكرية والاقتصادية المتنامية اثر شعورها بشيء من التعافي من الانهيار المدوي الذي عصف بامبراطوريتها السوفيتية السابقة في مطلع العقد الأخير من القرن الآفل، ولاسيما فيما يتعلق بقضايا اوروبية معلقة لعل ابرزها الموقف من نصب الدرع الصاروخية الامريكية في التشيك وبولندا، وتمدد “الناتو” إلى مقربة من حدودها، ووجود – الحلف – الجديد المكثف في البحر الأسود على خلفية انفجار حرب القوقاز في الصيف الفائت التي كانت أشبه بحرب بالوكالة بين القوتين العظميين، حيث وقفت موسكو إلى جانب مقاطعتي ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين عن جورجيا ذواتي الاغلبية الروسية فيما وقفت واشنطن إلى جانب جورجيا.. وان لم يصل الامر بالأولى الى حد التدخل العسكري إلى جانب الثانية.
وإذا كنا من جانبنا قد حذرنا من الافراط في التفاؤل على النيات الطيبة والحسنة لباراك اوباما، حتى اذا ما صرفنا النظر عن تصريحه قبل زيارته لاسرائيل بوقوفه الى جانبها والى جانب أمنها بقوة وإلى جانب حقها في القدس كمدينة موحدة عاصمة للدولة العبرية وانها، أي هذه المواقف الامريكية، غير قابلة للنقاش على حد تعبيره، واذا ابتلعنا أيضا أو حاولنا ان نبتلع الصفعة الأولى التي تلقيناها فور فوزه بتعيين الصهيوني اليهودي رام عمانوئيل رئيسا لموظفي البيت الأبيض، فها نحن نتلقى الصفعة الثانية قبل أن يمحى اثر الصفعة الاولى بإفصاح وتباهي نائبه المنتخب جوزيف بايدن بمواقفه وسيرته السوداء المجللة بالعار الى جانب الدولة العبرية العنصرية. فالرجل معروف بأنه احد ألد الاعداء للعرب والفلسطينيين داخل لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس التي لايزال يرأسها، وهو لا يتردد بكل وقاحة عن الدفاع عن اسلوب استخدام القوة التأديبية في افغانستان ودارفور وفي البلقان للمحافظة على الهيبة والقوة الامريكيتين، وهو الى ذلك، يتباهى بأنه اقوى سيناتور على امتداد ثلاثة عقود ونيف أيد اسرائيل بكل قوة ولم يكن يضاهيه في هذا التأييد سوى اعضاء اللجنة اليهود كالسيناتور جو ليبرمان.
وهو إلى ذلك ردد أكثر من مرة مقولته الشهيرة “ليس من الضروري ان يكون يهوديا ليكون صهيونيا” بمعنى ان كل امريكي يستطيع ان يكون صهيونيا وإن لم يكن يهوديا.
وهو تحدى العرب بكل صلافة واستخفاف بقوتهم قائلا: “ماذا سيفعل العرب لو أيدنا احتلال اسرائيل الدائم للقدس الشرقية؟”.
بايدن نائب الرئيس الامريكي الجديد المنتخب باراك اوباما وصف مؤخرا نائب الرئيس الحالي ديك تشيني الموشكة ولايته على الانتهاء بأنه “أخطر نائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة” وذلك لما وظفه من صلاحيات وسلطات واسعة استخدمها في التأثير في الرئيس الغبي جورج بوش الابن، فماذا عسى أن يكون تأثير نائب الرئيس المقبل بايدن في رئيسه الجديد الشاب “الطيب القلب” وهو لا يملك، اوباما سدس ما يملكه بايدن من دهاء وخبث اكتسبهما من تجربته المديدة في الوقوف الى جانب اسرائيل وهو الآن في سن والده وبمثابة استاذه الناصح؟
صحيفة اخبار الخليج
12 نوفمبر 2008
الحصاد المر للمرحلة (2)
تتشكل علاقة هيمنة من قبل عالم الدين المحافظ على الحداثي التقني التابع.
مثلما ان الموظف التقني في أجهزة الدول خاضع للبيروقراطي السياسي البدوي، أو الضابط القروي الذي استولى على الحكم في المدينة، ليعيد إنتاج العصور الوسطى والإقطاع السياسي.
وكلمات الديني هي سقوط الشيوعية والرأسمالية والحداثة، ويقدم نموذجَ قريته المتخلفة كنموذجٍ صالح لكل الإنسانية، رغم أن هذه القرية تتفتت تحت ضربات التلفزيون والانترنت والرقص الشرقي.
لكن كيف يهيمن الديني على وعي التقني خريج الجامعات؟ يهيمن عليه مثلما يهيمن مختار القرية الذي صار الرئيس أو قائد الشعب على المناهج والكوادر التقنية، ويحدث في هذه المرحلة السياسية تبادل للموقعين، في لعبة كراسي متخلفة.
وعي التقني هو وعي انتهازي قابل لتقديم خدماته لكل الأطراف، وفي حالة جوعه أو طموحه الزائد عن الحد هو مع الثورة المظفرة، وفي حالة شبعه وتعلقه بالكراسي، هو مع الاستقرار والأمان والتقدم الوطيد.
إن جذر المسألة يبدأ من المذهبية السياسية، فهي كارثة المرحلة، والقنبلة الهيدروجينية التي سوف تنفجر في القادم من أيام الشحن الساخن، ولا تكتشف خطورتها للناس العاديين إلا حينما تطبق على أعناقهم في أحيائهم وأرزاقهم، فهؤلاء لا يعرفون التاريخ إلا بالممارسة المريرة، وما داموا يجدون ان الخبز يُباع بالسعر المناسب فالمستقبل لا قيمة له. (تحضرني هنا صرخة السلفي المعتزلي للعامة المشغولين بالحصول على لقمة العيش في بدء الدولة العباسية: كلما حدثناكم عن الفيء تسارعتم للكلام عن سعر البقول!). المثقف التقني له أجنحة من أرصدة ومن ألاعيب كلامية يستخدمها وقت اللزوم.
علينا أن نفرق بين المذهبيات السياسية التي تشبه الممثلين الثانويين (الكومبارس) وبين المذهبيات السياسية المركزية، ففي المراكز يجري تعبئة الثانويين بالسائل المصدر.
في المراكز يتمُ إنتاجُ القنبلة الهيدروجينية السياسية، ويتمظهر ذلك في كون النظام المذهبي السياسي، الطائفي بصريح العبارة، لا يقبل بالديمقراطية، ويحتفظ بالعرش ومكاسبه الفائضة لبناً وعسلاً.
وقد جعلته الثرواتُ المعاصرة ولكنها مواد خام ثمينة بأنه اتصل مع السماء بحبل وثيق، فليست الثروة سوى إشارة لهذا كما يتوهم!
ولهذا له مشروعاته السياسية الكبرى المتمثلة في اختراق الخرائط السياسية والسيطرة على بلدان، ويعتمد في هذا على قوته العسكرية وثقله السكاني الكبير، ويتوهم انهما كافيان لتحقيق مشروعاته.
فيتم تحريك المنطقة وبيادقها الثانوية المختلفة، التي تتوهم أنها تشتغلُ في استقلال وحرية.
وهذه البيادق لا تقول إنها مجرد توابع سياسية للمركز بل انها تنطلق من مبادئها، ومن حرياتها الفكرية المستقلة، في حين ان هذه البيادق ظهرت مع ظهور هذه الأنظمة ونمت من خيراتها ومن دعاياتها ومراكز تثقيفها، وكانت في لحظة الصعود المليء بالنشوة، والأحلام العريضة بالسؤدد السياسي، وبالانتصار المذهبي الساحق!
إن الخطورة هنا تكمن في تحويل سياسة التبعية إلى مبادئ دينية، مرتبطة بما هو مقدس لدى الناس. فهي لا تقول إن هذا علاقة سياسية فيها مصلحة وانها خاضعة لأحكام العقل من تعاون ونقد واستقلال وتباين يصل أحياناً للفراق، ولا تعني التهييج المقدس والسير وراء المركز في كل ما يقوله.
لكن علاقة المركز والطرف التابع تنفي هذه الإمكانية الجميلة، وتنفي ظهور مركزين متساويين.
ويمكن أن ينطبق ذلك على بلدان صغيرة لا تمتلك قوة فكرية مستقلة ذات جذور ضاربة في الأرض، لكن في بعض البلدان الكبيرة، ذات الجذور الفقهية والسياسية وللدولة تاريخ عريق، يختلف الأمر بعض الأختلاف، فيمكن أن يجري فيها ظهور قوى مستقلة من ذات المذهبية، لكنها ذات آفاق ورؤى تتيحُ لها تبصر المستقبل، فلا تمشي كالعميان.
لكن لحظة صعود المركز لا تستمر خاصة إذا تعارضت مع سير الغرب الديمقراطي أو الدكتاتوري المسيطرين. فالغرب شئنا أم أبينا هو قائد الكرة الأرضية في هذه العقود والقرون التي سبقتنا، وعلى مدى سير المراكز الطائفية في عملها السياسي وتقاربها مع الحداثة والسلام والديمقراطية تكون نجاتها، وأما غير ذلك فيكون هلاكها!
وإذا ربط المركزُ السياسي المذهبي القائدُ اتباعَهُ بسياساتٍ طائشة وحروب وصراعات فهي الكارثة، فهو كمركز يعملُ على سيادته، ولا يقبلُ بالسلام الوطيد في المنطقة التابعة له افتراضاً، فيشتغلُ الأتباعُ بما يعمق ذلك لكن من خلال أطروحات تجد ألوانـَها الخاصة في كل بلد!
وإذا كان الصعود مع المركز حالماً وشعرياً ورومانسياً بهيجاً فإن النزول مع المركز لا يكون إلا مأساوياً ومحطِماً.
إن المراكز الشمولية المذهبية في الشرق تتلقى ضربات غربية مستمرة ومتصاعدة، فحتى حليف الغرب لا يسلم من هذه الضربات السلمية، فالغرب لم يعد بحاجة قوية ماسة له، وأصبحت سرعة دوران الأرض قياسية في هذه العقود، وكلما قارب الحليفُ الغربَ في كيانهِ السياسي التحديثي نجا، وكلما عاكس ذلك تدهور وسقط.
ومن هنا فإن جعجعة المثقف التقني عن أصالة الشرق ومبادئه السرمدية المخالفة للديمقراطية والعلمانية، هي لعبة مصلحية ذاتية، يقوم بها لتمشية مصالحه إلى حين، وحين تقع الكارثة، فلا تنفع صرخات مثل صرخات مذيعي صدام، وبرامجهم التلفزيونية.
والمتضرر الأكبر هو الجمهور العادي الذي وثق بالمركز ودعايته كما وزعه بينه وكيلُ أعمالهِ الخاص، الذي ربط بين المقدس والسياسة، وبين المركز والفرع، وبين الإلهي والدنيوي، وجعل كل ذلك بمنأى عن ضربات الكفرة والملاحدة!
لكن الضربات قد جاءت، وكلما اتسعت دوائرُها زادت خسائرها وكوارثها.
هكذا انهارتْ مراكز عدة، سابقاً، وسوف تتجدد مع مراكز لاحقة، ومن لا يتعلم من الماضي، لا يعش في المستقبل.
وكلما تشددت الجماعة في الارتباط بالمركز لحظة الضربة العاصفة، وفي زمن انهيار المركز تعمقت ضحاياها واشتد بلاؤها، وعظمت خسائرها، وغدا الخروج من هذه السقطة مؤلماً وطويلاً، وكثرت بينها الانقسامات والتصدعات.
وكلما احتاط الفرع واستقل، ونأى بنفسه عن الميكانيكية النقلية السياسية، وربى أعضاءه على العقل وفهم البنى المركبة والمختلفة للبلدان والحركات، واعتمد على شعبه، كانت خسائره أقل، ونهوضه المستقبلي أبكر.
صحيفة اخبار الخليج
12 نوفمبر 2008
بعض محاذير توغل العمالة الآسيوية
على ضفاف الأنهر وعلى مقربة منها ومن شواطئ الخلجان قامت المدن الأولى، مدفوعة بمحفزات موضوعية، تجارية (في الشكل البدائي الأول للتجارة وهي المبادلات السلعية غير النقدية) وحرفية ومهنية.
وفي هذه الثغور كان البر-جوازيون (التسمية الفرنسية الأصلية لسكان المدن (Bour-geoisie) يضعون اللبنات الأولى لما صار يُعرف اليوم بالأسواق التي يلتقي فيها الباعة والمشترون لتبادل وشراء السلع من بعضهم البعض قبل أن تتطور من أشكالها البدائية إلى حالتها الإلكترونية الراهنة.
ولازالت السوق ومنذ ظهور أشكالها الأولى، تُوالي إفراز ظواهرها الجديدة العاكسة للحالة الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمع ما، سواء كان ذلك في أسواق المال الكبرى المتطورة أو الأسواق السلعية الصغيرة الناشئة.
وكلما ازداد إيقاع الحراك في الأسواق كلما أفرزت مزيد من ظواهرها الجديدة وتجلياتها المعبرة عما يمور في مجتمع السوق من علاقات ملكية وتوزيع وإعادة توزيع للمداخيل.
وتعتبر أسواق دول مجلس التعاون الخليجي وبضمنها السوق البحرينــي، نماذج مثالية للأســـواق ذات الحـــراك العالي والميـــزات التـــي تكـــاد تنفــرد بهــا بــين مجمــــل الأســـــــواق فـــي الــدول النامية، بما في ذلك الأسواق الناشئة (Emerging Markets) التي ميزت نفسها في السنوات العشر الأخيرة بين أسواق الدول النامية كأسواق دينامية ومتنامية التعولم والاندماج في الاقتصاد العالمي.
فهي - أي الأسواق الخليجية، ومنها السوق البحرينية - تتميز بنموذجها الاستهلاكي المفرط، وبالحضور الكثيف والمتسع عمقاً للعمالة الأجنبية ورواد الأعمال الأجانب الذين صاروا يحتلون رقعة شاسعة ومتسعة دوماً من أسواق هذه البلدان.
في حالة البحـرين، على سبيل المثال، بقيت الأسواق الداخلية، جميعها دون استثناء .. من سوق التجارة في السلع والخدمات، إلى أسواق الجملة والتجزئة، في أيدي البحرينيين باستثناء نسبة ضئيلة جداً، وذلك حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين الماضي عندما بدأت الموجات الأولى من العمالة الأجنبية بالتدفق على البحرين وبقية البلدان الخليجية تحت تأثير الطفرة النفطية الأولى (1973-1974).
فقد آذن ذلك بحدوث ‘نزوح’ صريح للعمالة البحرينية من مواقعها الإنتاجية إلى مواقع وظيفية ريعية أفرزتها الطفرة من قبيل البوتيكات التي انتشرت كالفطر، ومكاتب استيراد الأيدي العاملة الأجنبية لاسيما خدم المنازل، والمطاعم ومحلات الوجبات السريعة، والاتجار في التأشيرات والسجلات التجارية، وتخليص المعاملات الحكومية والجمركية، والبقالات، ومقاولات تنظيم رحلات الحج والمواقع الدينية في العراق وسوريا وإيران، وأعمال المقاولات بأنواعها المعتمدة على طوفان العمالة الآسيوية … الخ.
وكان أن اكتسبت هذه النقلة النوعية في سوق البحرين والأسواق الخليجية الأخرى زخماً جديداً مع الطفرة النفطية الثانية في عام 1979 مع دخول نشاطي المضاربات في سوق العقار الصاعد والواعد ومن بعده بورصات الأوراق المالية التي أنشئت مع قيام المزيد من الشركات المساهمة وانتعاش سوق الإصدار الأولي.
فكان أن أدى تجذر النزعة الريعية في منظومة القيم الاجتماعية الخليجية والسعي للكسب السهل والسريع في الأنشطة الأكثر إغراءً، إضافةً إلى مرافقة الفساد، الطبيعية، لمثل هذا التكالب على تكوين الثروة - أدى إلى التواطؤ مع تشكيلات العمالة الأجنبية المتمسكنة والمتمكنة مع الوقت من استيعاب النمط الاقتصادي الخليجي الذي راح يشق طريقه بين نماذج التنمية الآسيوية الصاعدة، وذلك بالتشارك معها في إدارة ومن بعد تقاسم ملكية عدد واسع من أنشطة قطاع التجارة الداخلية.
وسرعان ما تطور الأمر في البحرين، نتيجة لحسن تنظيم ومثابرة رواد الأعمال الأجانب الذين أفرزتهم ‘سيولة’ أسواق العمل المحلية، فبعد ‘سقوط مواقع’ سوق البقالات، وسوق الأقمشة والملابس الجاهزة، وسوق الذهب والمشغولات الذهبية، وسوق الخضار (سوق الجملة والتجـزئة)، وسوق الفواكـه (جملة وتجزئة)، وسوق اللحم، وأكثر من نصف سوق السمك - بعد ‘سقوط مواقع’ هذه الأسواق الواحد تلو الآخر في أيدي العمالة الآسيوية التي ارتادت عالم ‘البيزنس’ (كأصحاب أعمال هذه المرة)، انضمت إلى قائمة حيازات ملكياتهم فيما بعد سوق المقاولات من الباطن، وسوق ورش الألمنيوم المصنِّعة لمختلف مدخلات قطاع الإنشاء.
ولم ‘تسقط’ هذه الأسواق في أيدي العمالة الآسيوية ورواد أعمالها الذين أفرزتهم تداعيات وملابسات السوق، من تلقاء نفسها ولا هي كانت محل صراع امتيازات محتدم، وإنما هي سقطت نتيجة لتفريط روادها وأصحاب أملاكها البحرينيين، أي أن عملية نقل ملكيتها وتشغيلها وإدارتها، كلياً في أغلب الحالات، وجزئياً في النزر اليسير منها، قد تمت بإرادة أصحابها وملاكها الأصليين.
وهذه كانت أبرز الظواهر التي أفرزها نمط التنمية الذي تسيَّد الساحة الاقتصادية الخليجية عموماً والبحرينية ضمناً.
وإلى جانب هذه الظواهر الأبرز، فقد كانت هنالك ظواهر مماثلة أقل شأناً مثل ‘السوق الثانوي’ (The Secondary Market) - إن جاز التعبير - لعرض وبيع قوة العمل الآسيوية، وهي أسواق طيارة لتجمعات عمالية تتخذ من بعض الأماكن الرئيسية مواقع لعرض وبيع قوة عملها لمن يطلبها سواء في أعمال مؤقتة أو أخرى ذات فترات أطول.
وهناك ظاهرة الباعة المتجولين الذين اتسع نطاق تجارتهم وانتشارهم في مناطق البحرين المختلفة. وما عليك سوى التوجه صباحاً ناحية السوق المركزي بالمنامة (ما بين السادسة والثامنة صباحاً) لتجد نفسك أمام سيل متدفق من العربات المحملة بمختلف صناديق الخضار والفواكه يجرها آسيويون لينقلونها للبيع بالتجزئة إلى بقالاتهم المنتشرة كالفطر في أنحاء مختلفة من العاصمة، ومداخل وزوايا أسواقها القديمة وما جاورها من أحياء هجرها أصحابها البحرينيون ليستوطنها آلاف الآسيويين الذين حولوها إلى ما يشبه الغيتوات الجنوب أفريقية المتمايزة بشكل صارخ عن الأمكنة البحرينية، سواء التي لازالت محتفظة بطابعها العربي مثل المحرق أو مناطق التجمعات السكانية البحرينية الجديدة.
ولا ريب أن هذا التفريغ اليومي للسوق المركزي من شحنات الخضار والفواكه على أيدي هؤلاء الآسيويين من الباعة المتجولين وأصحاب البقالات الآسيوية المتوالدة، قد أسهم بلا شك في تقليص طاقة العرض السلعي للسوق المركزي من الخضار والفواكه وبالتالي الضغط على أسعارها صعوداً.
ولا يجب أن يستهين أحدنا بحجم هذه الظاهرة وتبعاتها استناداً إلى هامشية هذه الأنشطة الاقتصادية في الطاقة الإجمالية للاقتصاد الوطني البحريني. صحيح أن أسواق البقالات والخضار والفواكه واللحوم، وأيضاً - كفرضية جدلية - سوق الذهب والمشغولات الذهبية وسوق ورش الألمنيوم وسوق المقاولات الباطنية - هي أنشطة ثانوية إذا ما قورنت بالقطاعات المفتاحية لاقتصادنا الوطني. ولكن علينا أن نتنبه، من وجهة نظر التحليل الاقتصادي الكمي، إن الدورة السلعية وترتيباً الدورة الرأسمالية في هذه الأنشطة هي الأسرع بين الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وهي بالتالي تتمتع بميزة خلق التراكم الغزير والتركيز العالي لرأس المال.
صحيفة الوطن
11 نوفمبر 2008
أوباما.. وشيء من صورتنا في المرآة
ثمة بُعد نفسي سياسي تاريخي، كما ذكرنا، في حديث سابق لفرحة العرب العارمة بفوز المرشح الديمقراطي ذي الاصل الافريقي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الامريكية، نجدها ليس لدى الناس العاديين فحسب، بل لدى اقسام وشرائح واسعة من النخبة السياسية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها السياسية والدينية، حتى بالرغم من ادراك العديد من هذه الشرائح والاقسام لضآلة التغيير المعول عليه الذي سيحدثه أوباما في السياسة الخارجية تجاه منطقة الشرق الاوسط في عهده الوشيك باتخاذ مواقف، على الاقل ان لم تكن متوازنة ومحايدة بين العرب والاسرائيليين، فمواقف أخف عداء ازاء العرب وأقل تشدداً في الانحياز المطلق لاسرائيل ودعمها السياسي والعسكري في مختلف الاحوال والظروف كما دأبت على ذلك كل الادارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة على امتداد اربعة عقود ونيف منذ هزيمة يونيو 1967م.
هذا الاحساس النفسي بالأمل والفرحة العارمة الذي تولد في نفوس العرب مبعثه ليس ما ارتكبته الادارة البوشية الحالية الموشكة على الانتهاء من مظالم وجرائم بحق العرب وعلى الاخص العراقيون والفلسطينيون فحسب طوال حقبة ولايتيه المتعاقبتين، بل للتماهي اللاشعوري مع القادم الجديد الى البيت الابيض باعتباره وابناء جلدته هم شركاء لنا في الاضطهاد والمظلومية العنصرية على ايدي الطبقة الحاكمة البيضاء في امريكا طوال عقود طويلة سواء تجاهنا نحن العرب وعلى الاخص منذ انشاء اسرائيل عام 1948م، أم تجاه السود المستعبدين طوال بضعة قرون منذ استرقاقهم وشحنهم مكبلين في سفن العار عبر المحيط الى العالم الجديد.
ولهذا لربما يكون الاعلام العربي هو اكثر الاعلام العالمي حديثاً عما يرمز إليه انتصار أوباما من معان وابعاد عنصرية باتجاه آفاق تلاشيها ازاء السود، والتطلع بأمل كبير نحو انحسارها تجاه العرب والمسلمين. وعلى الرغم من كثرة الكتابات والمؤلفات الصادرة في السنوات الاخيرة عن كيف ينظر الينا الاخرون على شاكلة عناوين من قبيل “العرب في عيون الفرنسيين” او “العرب في عيون الأمريكيين”.. إلخ أو كيف ينظر الغرب، وعلى الاخص الامريكيون، الى السود فإن قليلة هي الكتابات والدراسات العربية التي تناولت كيف تنظر الذات العربية نفسها الى الآخر المختلف عنها ليس تجاه الاجنبي المختلف عنها لغة وقومية او ديناً، بل حتى تجاه بعضهم بعضاً، إذ قلما نظرت الذات العربية وتمعنت في نفسها امام المرآة.
فمع اننا نحمد الله سبحانه وتعالى بأننا كعرب وكمسلمين لم نقع تاريخيا في الآثام والجرائم التي ارتكبتها امبراطوريات ومجاميع من المسيحيين باستعمار واسترقاق معظم شعوب العالم واضطهادها ونهب ثرواتها فضلاً عن ممارسات اضطهادية واسترقاقية قائمة على الكراهية العنصرية الا انه من يستطيع منا ان يكابر بأن شيئا على الاقل من العنصرية مازال يسكن في ارواحنا وفي نفوسنا كنزعات عصية على الاقتلاع والتطهير؟ فإذا ما جئنا الى الموقف من “السود”، حتى تجاه اخوة لنا في القومية والدين منهم، فمن ينفي منا النظرة الصريحة او المكتومة المتعالية تجاههم، بل نعت من تحمل بشرته هذا اللون الغامق بـ “الاسود” او “العبد”؟ ولا تقتصر هذه الممارسات على الناس العاديين بل تمتد الى اقسام غير قليلة من المثقفين في ازدواجية مكشوفة وبخاصة حينما يكتب المثقف او السياسي مندداً بأمريكا والغرب لتمسكهما بهذه النزعة على نقيض ممارساته او ما هو مستقر في نفسه من نزعة كامنة عنصرية. وخذ على سبيل المثال نظرتنا الدونية تجاه المرأة وقدراتها العقلية والعلمية والمهنية، وبضمنها على سبيل المثال قدراتها وكفاءتها في السياقة على عكس ما يدبجه العديد من مثقفينا من مقالات تتشدق بالدفاع عنها وحقها في المساواة مع الرجل وتمكينها السياسي.. الخ.
وانت لاحظ معي ايضا كيف هي نظرة اهل المدن، وعلى الاخص العواصم، الازدرائية المتعالية المزمنة تجاه الفلاحين واهل القرى التي لا يكاد بلد عربي يخلو منها.
وانظر كذلك كيف هي نظرتنا الى الهنود برمتهم كنموذج للجهل والغباء فيما هم اصحاب واحدة من اعرق الحضارات البشرية التي مازالت معطاة حتى في عصرنا الحديث. وقس على ذلك نظرتنا الى من يختلف معنا في الديانة او في المذهب او في الطائفة او الفكر، أو حتى من لا يعتنق أياً من هذه المعتقدات. كما يمكن القياس على ذلك نظرتنا، كشعوب، تجاه بعضنا بعضاً سواء على المستوى الخليجي ام على المستوى القومي وفق ثنائيات من القيم المتضادة: بدو متخلفون مقابل مدنيين متحضرين، بخلاء مقابل كرماء، نساؤهم معروفات بسرعة الانحراف والزنى مقابل نسائنا المعروفات بالعفة، معروفون بالجلافة والنزق وسرعة الغضب مقابل ما هو معروف عنا بالطيبة وسعة البال والاريحية، معروفون ببطرهم وثرائهم النفطي الفاحش وولعهم بالنساء والقصور، مقابل عصاميتنا ومحدودية دخل وفقر ابناء شعبنا والمبتعدين عن الملذات والفساد.
ينقل عن تومان سول في بحث اجراه في جامعة جورجيا ان الاشخاص الذين يمتلكون شعورا عنصريا يتعاملون به مع الآخرين على أساس عقائدي او نوعي (الجندر) أو طبقي هم في الاساس يعانون مشكلات او اضطرابات نفسية واجتماعية واسرية أضحت حاجزاً ضد القدرة على تواصلهم مع الآخر. ويزداد وينتفخ عادة لديهم مركب النقص والتناقض مع القيم التي يتباهون بتبنيها والدفاع عنها لانهم عاجزون عن النظر لأنفسهم في المرآة.
كما ينقل عن المؤلف “ج. ك. فريمان” في كتابه “العنصرية إبعاد للذات والآخر” ان مشاعرنا العنصرية تجاه الاخرين ما هي الا وسيلة دفاعية لاثبات وجود الذات المتواضعة او الوضيعة، ان صح القول، ومن ثم خير وسيلة لستر هذه الذات العارية اخلاقيا والمتصحرة فكريا او حضاريا هو الهجوم الوقائي على الآخر الذي يتحلى بهذه القيم والمزايا الاخلاقية والفكرية.
والحال اننا لن نستطيع ان ندافع عن انفسنا ضد غول العنصرية العالمية ما لم نطهر ذواتنا من ادرانها العنصرية محلياً، ولم تكن العنصرية العالمية لتطاولنا سهامها لو لم تكن رواسب هذه الادران بكل اشكالها متأصلة تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في نفوسنا وان بدرجات متفاوتة.
صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2008
الجريمة والعقاب
حين يرتكب مجرمٌ جريمة وهو بلا مبادئ لا يغدو لها أي أثر في نفسه، ولا تقود إلى أي تراكم أخلاقي في ذاته الضحلة الفارغة.
إنه فرد مجرد يسوّقُ جريمتـَهُ بكلمةٍ بسيطة (مصلحتي).
وقد عملت الأديانُ خلال ألوف السنين للتحذير من هذه الحالة العدمية، لخطورتها على العيش وعلى الأخلاق.
لم تكن الأديان تمتلك زنزانات الحبس الانفرادي والمقاصل، كانت تشتغل في عالم أخلاقي فكري.
الجنة والنار، يوم الحساب، البشير والنذير وغيرها كلها أدوات للامتناع عن الجريمة بكل صنوفها وألوانها. جرائم الاعتداء على الغير، جرائم القتل والعنف والإيذاء لبشر مسالمين، كل هذه الوسائل الخطرة والمضرة لأهداف شخصية وعامة تمشي فوق الدم للوصول إلى مصالحها.
ثم تشكلت أدوات العقاب الدنيوية من خلال الدول المستبدة العنيفة في معظم الأحيان فردعت بعض الردع لكنها لم تكن تستطيع القضاء على الجريمة، لأنها هي نفسها تقوم على الجريمة وعلى الاعتداء على الغير وعلى الاستغلال، لكن هذا لم يكن يجيز للآخرين القيام بنفس أدوار هذه الدول، وهم يبنون عالماً مغايراً يستبعد الجريمة من برنامجه.
وقد وَجدَ كثير من الدينيين والسياسيين انهم يقومون بجرائم باسم الدين والمذهب وباسم حركاتهم، وقد برروا ذلك بأن الله معهم!
دولٌ وحركاتٌ كثيرة لدينا في التاريخين القديم والحديث تقوم بهذه الأفعال، وتعتدي على الناس والحرمات والأموال، ثم لا تجد أي غضاضة في أفعالها هذه، ولا تخاف من نار، أو من حساب، وتصرخ بالإيمان والقرآن.
لحسن الحظ فإن حركات دينية كثيرة تجنبت سفك الدماء والأعتداء على البشر، واعتبرت ذلك خطأً جسيماً، ولم تفكر في عبور الخط الأحمر هذا. وحاسبت كل شخص قام بهذا دنيوياً، قبل أن توكل أمره لعلام الغيوب. نحن نفخر بأن في تاريخنا الإسلامي من وقف بقوة ضد الهدر في الدم والكرامة.
ثمة هنا إيمان عميق بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب.
لكن حركات ودول أخرى كثيرة رفعت لافتات الدين زيفاً، وعاقبت وعذبت البشر وحرقت بيوتهم وأعمالهم ولم تعترف بغيب وحساب أخروي، رغم أن أعضاءها ومسئوليها يصلون كل يوم، ويتكلمون باسم الدين!
ونجد في الحركات الشيوعية والاشتراكية والقومية من قاموا بمثل هذه الجرائم، لكن الكثيرين منهم لم يؤمنوا لا بجنة ولا بنار، ولا بثواب ولا بعقاب!
وكانوا يعملون لأغراضهم السياسية المحضة مبررينها أخلاقياً بأنها تجري من أجل الأمم والشعوب والطبقات الكادحة المظلومة!
وكم في مثل الحركات الدينية وغير الدينية من شارك صامتاً في مثل هذا التاريخ الذي جرى قبله أو في أيامه لكنه لم يستنكف هذه الجرائم ولم يَعُد لها ناقداً، بل يفخر بمن قام بها!
وكثيرون كذلك من الحركات التقدمية والإنسانية من رفض العنف وقتل الآخرين والأبرياء، أي ألا يقوم بهذا حتى في حركة عنف موجهة ضد غزاة محتلين فيعتدي على أناس لا علاقة لهم بالغزو. اضطرتهم ظروف الغزو للقيام بثورة أو بعنف وجه لعسكريين مماثلين لهم، وكان هذا يعني عملاً مماثلاً لرجال الدين والحركات الدينية التي كانت تأبى الدخول في التصفيات الجسدية للمدنيين ولمن ليس لهم علاقة في مسائل الغزو، وتشترط في مسائل القتل والعقاب شروطاً كبيرة جعلت الإسلام من الأديان الدقيقة في هذه المسألة الكبرى، وكان الأئمة يقارعون الملحدين مقارعة فكرية صارمة لكن بلا اعتداء وبلا عنف.
هناك اتفاق أخلاقي بين الدينيين واللادينيين الإنسانيين في رفض العنف المجرد، والاعتداء على البشر، وفي حين أن الأولين يؤمنون بثواب وعقاب، والآخرين لا يؤمنون، ولكن هي مسائل القيم الأخلاقية العظيمة التي جمعت بين هؤلاء.
السياسيون والدينيون المعارضون والحكوميون من غير ذوي الضمائر، والنفعيون، والعدميون في الأخلاق، هم كذلك يتفقون للحصول على مكاسب فوق جثث البشر وآلامهم، لا تحرك دواخهلم أشياء من قبيل الضمير، ويوم الحساب، بل هم يتساءلون ماذا سوف تفيدني هذه الأعمال؟ هل ستبقي سلطتي؟ هل سوف تزيد ثروتي؟
مثل هؤلاء ستجده في وقت الضعف حمامة، وفي وقت القوة أداة تعذيب وقنبلة موجهة للمساكين.
ولهذا فحين تتفوق أساليبهم وتصعدهم وتصلهم إلى ما ابتغوه من مجد ومال سوف يتظاهرون بحب السلام، ورفض التعذيب، ورفض الجور والظلم، فقد مكنتهم أساليبهم من الارتفاع وصاروا جزءًا من طبقة السوط والخزائن المليئة! فلا ضمير يتحرك لكشف ما ارتكبوه من جرم، ولا ضوء يشع في عقولهم من أجل نقد الماضي والحاضر الجائرين!
يظل استخدام الدين والمبادئ الحديثة رهناً بالتطبيق الإنساني، ولن نفرق في هذا بين هتلر وستالين وأمثالهما من النسخ الدموية، فمن آمن بهما كسف الله به، وكسفت به مبادئ الإنسانية!
ليست لغة الثواب والعقاب هي لغة مجردة واستعراضية ولكنها لغة البشرية لقرون طويلة وجدت في المسآلة الأخلاقية وفي خلق الضمير والمسئولية الشخصية أدوات كبيرة لتربية الإنسان، وقد دخلت هذه في ضمائر من لم يؤمن بها بشكلها التجسيدي المباشر وفهم معناها الرمزي الكبير وتغلغلت في وجدانه وشخصيته.
ولكن هناك من يقرأها صباحَ مساء ولكنها لم تدخل قلبه، هم مسلمون ولكن هل آمنوا؟!
صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2008
أملاك الدولة مُجدداً
شكا أعضاء لجنة التحقيق في أملاك الدولة التي شكلها مجلس النواب من عدم تعاون الحكومة معهم في تقديم البيانات المطلوبة، وقالوا أن الحكومة عملت على إعاقة عمل اللجنة من خلال التقتير في تقديم ما هو مطلوب منها من معطيات، ورفض زيارة أعضاء اللجنة لبعض الأجهزة الحكومية ذات الصلة، وبينها جهاز التسجيل العقاري التابع لوزارة العدل، وقسم الأملاك الحكومية في وزارة المالية. وحسب نائب رئيس اللجنة حسن الدوسري فان عدم تعاون الحكومة مع اللجنة أعطى مؤشراً على أوجه القصور والخلل في وضع أملاك الدولة، ويُفهم من قول النائب الدوسري أن لدى السلطة التنفيذية ما تُخفيه عن اللجنة، وإلا لما كانت تعاطت بهذه الطريقة مع أعضائها، ولمكنتهم من الوصول إلى كل ما يلزمهم من بيانات، لا أن تقرر الحكومة بالنيابة أن ما أتيح للجنة من بيانات كاف، فيما المطلوب هو العكس تماماً، وهو أن تصل اللجنة إلى قناعة بأن ما توفر إليها من هذه البيانات يُحقق ما أرادته بتكوين صورة شاملة عن وضع أملاك الدولة وطريقة التصرف فيها. في مناسباتٍ سابقة قلنا في هذه الزاوية أننا ننظر إلى أن هذه اللجنة واحدة من أهم لجان التحقيق التي شكلها مجلس النواب الحالي، لا بل أنها الأهم، هذا إذا ضربنا صفحاً عن الوقت الثمين الذي أضاعه المجلس وكُتلهُ المختلفة في تشكيل لجان تحقيق في قضايا عرضية، لكي لا نقول تافهة، عبرت عن انحراف بوصلة المجلس بصورة كلية. أهمية لجنة التحقيق في أملاك الدولة ناجمةٌ من الموضوع الذي تُحقق فيه، لنعرف ما هي حدود العلاقة بين المال العام والمال الخاص، وما هي أوجه التصرف من قبل الجهات المتنفذة فيما يفترض أن يكون مُلكية عامة، وبالتالي فان الآمال المعقودة على ستصل إليه هذه اللجنة من نتائج كبيرة. في المؤتمر الصحافي الذي عقده أعضاء اللجنة قدمت معطيات ذات دلالة، بينها ما قاله رئيس اللجنة عبد الجليل خليل عن فوضى التعامل مع العقارات التابعة للدولة، وبينها عقارات محسوبة على وزارات، والوزارات لا تعلم بها، عند المقارنة بين سجل الوزارات وسجل وزارة المالية لوحظ وجود اختلافات، كما تحدث رئيس اللجنة عن وجود تضارب بين سجلي المالية والتسجيل العقاري يبلغ نحو ٠٠٦عقار! لكن أنظارا لناخبين تتطلع إلى الخطوات التالية المنتظرة لا من قبل لجنة التحقيق وحدها، وهي بالمناسبة تضم ممثلين عن الكتل النيابية المختلفة، وإنما من قبل مجلس النواب كاملاً في التعاطي الرقابي الجدي على الموضوع الذي تنظر فيه اللجنة ومحاسبة المسؤولين عن التجاوزات الظاهرة فيه. رئيس اللجنة تحدث عن أن الاستجواب وارد مع أي وزير أعاق عمل اللجنة، هذا أمر حسن، وحسنٌ أيضاً أن يكون خيار الاستجواب مطروحاً مع من يثبت سوء تصرفه في أملاك الدولة، التي هي في عبارة أخرى أملاك المجتمع كله التي لا يصح التصرف فيها إ
صحيفة الايام
11 نوفمبر 2008
قراءة مواطن للرؤية الاقتصادية (٢-٤)
تركزت أهداف الرؤية الثلاثة (الاستدامة - التنافسية - العدالة) أو الهدف الرئيس للرؤية في زيادة دخل الفرد (الأسرة الحقيقي) دون أن تغفل عن التوضيح، بأن تلك الزيادة والتحسين المعيشي يواجه تحديات، وهنا مفتاح مسألة صراع الوجود، صراع التحديات، لشعب صغير محدود في ثروته ومحاط بتقلبات اقتصادية إقليمية وعالمية، ويعيش ضمن دائرة ثقافية وبيئة محلية من الضروري أن ننتبه إليها، فهي مهمة للغاية لتحديد معنى الرفاهية الاجتماعية للأسرة ودخلها.
طرحت الرؤية معضلة حقيقية جرسها خطير، بأن البحريني لا يمثل الاختيار الأمثل للقطاع الخاص!! فإذا ما سلمنا جدلا أننا استطعنا أن نواجه التحديات المحددة وتجاوز شروطها، وهي بالضرورة تعتمد على أطراف ثلاثة في الإنتاج وعمليته، فإذا ما تم تصنيف العمالة الأجنبية والمهارة المطلوبة لمواجهتها، في ظل حسابات مستقبلية لتزايد حجم العمالة البحرينية للضعف خلال عقد، فالنظام السياسي وفر لنا نظاما تعليميا مجانيا ومتطورا، والذي سيقذف لسوق العمل خريجين يفتشون عن عمل، خريجين غير قادرين على تلبية الحاجة لذلك السوق، ويطالبون بأجر مرتفع في ظل وجود عمالة ارخص وأكثر مهارة!! فنقع من جديد في الحلقة المفرغة القديمة، ونعود للتأهيل والتدريب لخريج كان من الأجدى أن تستفيد الدولة والوطن والمجتمع من مهارته مباشرة بدلا من إنفاق مضاعف، بالإضافة إلى ضياع الوقت وهو عنصر مهم في العملية الإنتاجية. هذه الحلقة ينبغي كسرها تعليميا، بخلق مناهج أكثر دقة ودراية بسوق العمل والمستقبل المهني لذلك السوق، فنحن حتى الان نجد شكوى من أرباب العمل أو القطاع الخاص ووزارة العمل تتحجج عن عدم وجود مهارات ومهن مطلوبة، وهذا الادعاء له مبرراته فلا احد يوظف شخصا من اجل الأعمال الخيرية، فالبزنس بزنس !!، ولكن ماذا لديه رب العمل من حجج في حالة توفير المهارة المطلوبة في سوق العمل ويبعث إليه قسم العاطلين في الوزارة بقائمة أسماء؟، سنجد بالطبع التلكؤ من أرباب العمل، فالمهارة الأجنبية ارخص أجرا. وهذا هو مربط الفرس، ارخص أجرا، بل وأكثر طاعة والتزاما بخطط العمل والإنتاجية وكل الشروط اللاانسانية التي يقبلها العامل الأجنبي.
في هذه الحالة نجد حلقة فارغة كبيرة وعسيرة يتململ منها القطاع الخاص، والذي تحاول الرؤية جذبه للمشاركة في العملية الإنتاجية في البحرين سواء كان قطاعا خاصا أجنبيا أو محليا. فهل يتنازل القطاع الخاص عن مسألة عدالة الأجور في مجتمع رأسمالي أم يفضل أجوراً في مجتمع السخرة؟ فشروط العمل وظروفه هنا مختلفة عن العمل في السخرة، والذي نرى كيف أن العمالة الأجنبية بدأت تتذمر وتبحث لها عن وسائل للتنفيس عبر انفجاراتها. ومع ذلك،سيبقى ترويض العمالة الأجنبية أسهل وفصلها وإنهاء عقود خدماتها أهون من عمالة محلية مشاكسة. ولهذا لن يتحقق هذا التوازن والتوافق الاجتماعي إلا بالتنازلات المشتركة والعقود المهنية العادلة بما فيها المحور الهام »الأجور المجزية«. وافهم معنى أن تكون الأجور مجزية في ظل قانون قضائي لا يحاسب بشدة الطرفين في أثناء النزاع المهني، خاصة وان القطاع الخاص يجد نفسه قادرا على الضغط في حالات كثيرة. وفي بيئة سياسية ديمقراطية ربما نقع في نزاعات عمالية دائمة كما نشهدها في العالم الرأسمالي برمته، فلا يمكن أن نتخيل أنفسنا جنة هادئة وسعيدة وسيكون مخاضها مريحا وولادتها للرؤية سهلة، بدون اجتياز تلك التحديات المطروحة وتذليل معوقاتها. كنت في إحدى المرات اسأل نفسي أي نوع من قطاع خاص هذا الذي ليس على استعداد لدفع ضريبة الديزل؟!، وكانت الضريبة ما يقرب ٠٩ فلسا، وهم الذين بسياراتهم يلوثون المناخ ويحتجزون الطرق ويفعلون ما يرغبون، بسواق لم يدربوا على قيم السياقة قبل أن يجلسوا للمقود.
هكذا هدد المقاولون بالاعتصام احتجاجا على تلك الضريبة، والتي ستكون في النهاية عائدا للدولة والتي يتم تدويرها ضمن ميزانية الدخل الوطني! مثل هذه الذهنية لا يمكنها أن تتفهم معنى الارتفاع بمستوى معيشة الناس وتحسين أجورهم، طالما أن المناقصات لديهم باتت مضمونة أيضا. لقد اعتاد بعض من القطاع الخاص على الدلال مثلما اعتاد البعض منهم على المضايقة، فذلك يعتمد على طبيعة القطاع، الذي يعمل فيه وطبيعة المنافس المتنفذ. لا نريد أن نسمع باستمرار الاسطوانة المشروخة بحكاية هروب الرأسمال والاستثمارات لمجرد أن اعتصاما حدث هنا أو إضرابا حدث هناك، فالمؤسسات الأجنبية لا تحمل أوراقها ومؤسساتها وتهاجر أو تنتقل لمجرد حدث نزاع عمالي قابل للتفاوض وإنهاء الوضع ضمن القانون، وإذا ما عجزت وسدت في وجهها الأبواب، فإن خياراتها النهائية حينذاك تصبح الرحيل إلى مكان أخر. وعادة لا تختار الشركات الأجنبية بلدا دون علمها بكل مناخه السياسي والقانوني، ولكن الجاذبية الاستثمارية للمكان تحتمها أوضاع دولية وإقليمية والى حد كبير أيضا المحلية، وربما أي خلل في تلك الحلقات قد يؤثر على وضعها ونشاطها. لهذا ستبدو لنا الرؤية متكاملة إذا ما نجحت بالفعل الحكومة والمؤسسات والمنظمات المهنية والسياسية تفهم عملية التنازل، ومنح الأولوية للمواطن في كل القضايا، فلا توجد حجة لأي فرد يرفض العمل عندما تصبح الأجور مجزية، مثلما لا يحق لرب العمل البحث عن ذرائع المهارة، فكل وظيفة يشغرها عامل أجنبي بالإمكان أن يتم الإحلال محلها بعد التدريب والتأهيل.
صحيفة الايام
11 نوفمبر 2008
من ضيق الصدر إلى ارهاب الآخر
وصل ضيق صدر الحكومة ونزقها إلى ذروتها باعلان وزير الداخلية من ان الحكومة سوف تُجرِّم، بالحبس أو الغرامة، كل من يشارك في مؤتمرات أو اجتماعات خارجية غير مرخص له من قبل الحكومة بذلك (!!)، وهو ما يعبر عن تحول خطير في سياسة الحكومة تجاه المعارضة، من تعبئة اقلامها واصواتها المأجورة للتصدي لكل نقد، مهما كانت أهميته، ومحاولة لحجم أصوات المعارضة.. إلى اعتماد سياسة الحرب النفسية وارهاب الآخر تهديدا باستغلال أدوات السلطة التي تحتكرها وفي مقدمتها أجهزة القمع والمخابرات.
يحدث هذا التحول في “عقلية الاصلاح” في الوقت الذي تتوالى فيه جرائم الفاسدين وكبار المسؤولين الحكوميين والتي تُقيض محاسن الصدف لكشف بعض فيضها، مثل فضيحة المقامرة بأموال التأمينات الاجتماعية والادعاء بخسارة 112 مليون دولار في الازمة المالية العالمية(!) من دون أن يثير ذلك اية ضجة في الاروقة البرلمانية ولا لدى ما يسمى بديوان الرقابة المالية الذي اغمض عينيه عن فضيحة سرقة ملياري دولار في شركة “ألبا”.
وهو يحدث فيما لازال صدى التطبيل والتزمير لما يسمى بالرؤية الاقتصادية يتردد على ألسنة السلطة وحاشيتها، مع ان الكيل قد طفح بالوزارات والمؤسسات الحكومية من فرط الضغط عليها لخفض موازناتها للسنتين الماليتين 2009 و2010 ومنها وزارة الاشغال التي راحت تلمح إلى امكانية تعليق مشروعاتها المتعلقة بالبنية الاساسية بسبب تقليص موازنتها!
إلى وقت قريب كانت السلطة – ولازالت في الواقع – خلف السعيدي و”س” و “ص” من كتابها. ولكن يبدو ان هذا التكتيك لم يعد كافيا، فقررت الخروج من خلف الستار والظهور العلني للتعبير عن نفسها بنفسها!.. برافو هيك أفضل خلينا انشوفك!