كانت أمريكا حبلى بالمتغير السياسي، فقد تراكمت فيها كل عوامل هذا المخاض الذي كان من الصعب تحديد ملامحه كاملة قبل وحتى بعد إعلان فوز باراك اوباما الساحق، في لحظة تاريخية عكست نفسها للعالم دون جدال أو خلاف. ويبقى الجدال الحقيقي: هل كان اوباما رجل التغيير أم أن المكونات الداخلية لذلك التغيير نضجت وتهيأت لتصنع شخصية المرحلة، بشكل يتيح للرئيس المنتصر أن يركب القاطرة ويضع الولايات المتحدة على تلك السكة التي ينشدها الشعب الأمريكي والجيل الجديد على وجه التحديد، والناخب الأمريكي بشكل عام والذي صوّت من اجل ذلك التغيير فكان يبحث بإرادته عن نفق للخروج من الأزمة الخانقة، ومع ذلك كانت هناك من الأصوات من رفضت تلك الإرادة والحلم الأمريكي، وقد أخفقت في إيقاف صعود الرجل القادم من اجل ذلك الحلم.
وتحدد الملامح الفعلية لذلك التغيير في تلك العوامل التي أنضجت ذلك التغيير والنابعة من ظروف خارجية ومن سياسات داخلية لإدارة الرئيس بوش ولمدة تعدت الثماني سنوات، فلم تكن سياساته المتهورة جميعا تخدمه وحزبه في المجالات الخارجية والداخلية، حيث توهم الرئيس بوش انه الرجل القادر على قيادة العالم بطريقته، وبفرض الهيمنة الأمريكية على العالم كما يريد، فقد هيأ نفسه لذلك المشروع بعد أن شاهد سقوط الخصم التاريخي واختفاءه من الساحة الدولية، فصار الباب مفتوحا لكل تطلعاته في صنع عالم جديد موهوم.
ولكن الظروف الدولية لم تكن تتحرك دائما بالشكل الذي يريد ولا يمكن احتكار السياسات الدولية ولا شعوب العالم كما يرغب، ففي الوقت الذي كان يؤسس مع المحافظين الجدد للعولمة بقطبيتها الأحادية، كانت خيوط الإرهاب الدولي تنمو مفاصلها وأنيابها، غير انه لم يكن يقوى على التفكير ولا لحظة واحدة، عن أن ذلك العدو قادر على اختراق أمنه القومي، فجاءت الضربة الأولى للبرجين والبنتاغون فهزت البيت الأمريكي من الداخل وأفقدت النظام توازنه ومصداقيته عن كونه قادراً على حماية نفسه بعد أن بات يشكل القوة العظمى المتسيدة والوحيدة في العالم. وكان عليه أن ينتشل تلك الخيبة السياسية والهزة بإسقاط نظام طالبان والذهاب إلى بغداد لإسقاط صدام حسين، فكانت الورطة اكبر من إسقاط ذلك النظامين، فقد تحول البلدان إلى ارض للمواجهة والحرب كلف الخزينة الأمريكية الملايين، إلى جانب الشرخ الأخلاقي للحرب والألم النفسي للعائلات.
كل ذلك لم تكن حساباته دقيقة مما وضع الشعب الأمريكي أمام العالم وأمام نظامه السياسي في مواجهة إعلامية وسياسية واحتجاجية، ووضع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية في مأزق صعب، وزاد الطين بلة فضائح معتقل غوانتنامو وسجن أبوغريب وتلك التجاوزات للقانون الدولي في مواصلة تعذيب السجناء خارج حدودها ووضعهم خلف القضبان دون محاكمة. تلك القضايا كلفت دافع الضرائب الأمريكي الكثير إلى جانب شعوره بأن حكومة الرئيس تمارس عليه الكذب بمصادرة حرياته باسم ملاحقة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
هذه العوامل الطارئة التي لم تكن في حسبان الرئيس ولا انعكاساتها المؤثرة، حاول قدر المستطاع السيطرة عليها ولكنها خرجت عن نطاقه وتسربت إلى العمق الاجتماعي والاقتصادي في بنية النظام السياسي الأمريكي. وبدأت عجلة الرئيس تغطس كل يوم في الوحل دون أن تتمكن من الخروج. وعندما هبت الكوارث الطبيعية كعوامل طارئة أخرى لم يحسب حسابها، وجد الرئيس نفسه في خندق الحيرة فلم تكن إدارته أكثر من إدارة توزع الوعود، بدلا من مواجهة المشاكل ومعالجتها. وجاءت الأزمة المالية الأخيرة كالعاصفة لتدمر الإدارة لكونها لم تراقب تلك السياسات المالية، التي أدخلت البلاد والعالم في ورطة كبيرة ستكلفها سنوات للخروج منها، ومن جديد كان المواطن هو الخاسر الكبير والذي بدأت مدخراته تنضب وتتبخر وقلقه يزداد، بل ووجد نفسه يلحق بطابور العاطلين والمشردين ويضيف إلى رقمهم رقما جديدا بعد أن باع بيته وفقد وظيفته. هذا المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي بات كحلقات ثلاث في حالات تفاعل، سياسات خارجية متهورة وأوضاع وسياسات داخلية مدمرة هيأت الطريق لفكرة ضرورة التغيير، وكان اوباما السياسي الذي التقط تلك اللحظة التاريخية ومسك حلقتها الرئيسية ليعبر من خلالها نحو النجاح والفوز.
كل تلك العوامل المتلاحقة والتي ساهمت معا في تراكم وبروز الأزمة لم تكن وحدها الضربة القاضية يوم الانتخابات ولا اللحظة المدمرة، إذ هناك – وهو الجوهري في حدة الصراع – ظاهرة أمريكية نخرت في الجسد الاجتماعي الأمريكي، فقد صنع الثراء الفاحش فقرا فاحشا فدمر الطبقة الوسطى أيضا، وصنعت المدن الثرية حولها أحياء وضواحي سكانية وحياتية مهملة وبائسة، حيث تجمّع فيها أولئك المحرومون من تلك الثروة وظللتهم المعاناة والإهمال وضنك العيش، ومن هناك اخترق اوباما خصمه فذهب لتلك الضواحي والأحياء الكثيفة بالسكان الغاضبين، حيث فرّخت تلك العائلات والتجمعات جيلا شابا قلقا في أحلامه، ويجهل مستقبله في ظل أزمات مستفحلة. ما أشار إليه الباحثون في استطلاعاتهم عن أن ولايات جنوبية مثل فلوريدا وغيرها ومناطق ظلت قلاعاً للجمهوريين تم تجاهلها، حيث بدأت التركيبة السكانية في تلك الولايات تتبدل لصالح هؤلاء وهم يشكلون نسبة انتخابية مهمة، فتلاحم الفقراء البيض والطبقة الوسطى مع اللاتين والسود من الشباب والنساء بكل مللهم، ودون أن تمنعهم اختلافاتهم العرقية والدينية من التلاحم كقوة أمريكية جديدة تحلم بالتغيير. من سعوا ومنحوا اوباما صوتهم لم يكن خيارهم إلا التغيير فقد تضخمت الظاهرة وبرزت العوامل الطارئة كقوة فاعلة حفرت قبر الحزب الجمهوري.
صحيفة الايام
16 نوفمبر 2008