المنشور

إلى رجل اسمه احمد الشملان…!


 
 
 
 

 
إلى رجل إسمه احمد الشملان…! 
 

أهـدي التحـيــة مـن فـمـي وجـنـانـي
بـســم الـنـضـال لأحمد الشـمـــــلان
وأقول للـقـلـب الكبـيـر سـلـمـت يـــا
جـرس الحقـيـقـة مـن فــم الإنســـان ِ
يا صـرخـة َ البابـاي مـن أضـمـائــه
وهـديـرَ بحــر ٍ ضـاقَ بالحـيـتـــــان ِ
لـم تعُـط ِ إذعان الخـنــوع لطـامـــع
أبدى لك الـتـرغـيـب بالــرنـّـــــــان ِ
لـم تـُـلـق ِ بـيـرقـك المضمخ بالأذى
حيـن انتضى الترهـيـبُ حـدَّ سـنـان ِ
صـمـت الكـثـيـــرُ وقــد تـآكـــل ودُّهُ
ورمـى الخـريـف ُ بـذابل الأغصـان ِ
وبقـيـت أغنيـــة َ الطريق ِِ بموحــش
ً في العَـتـْم ِ ضـم طليعـة َ الشجعــان ِ
دمّ يـا رفـيـقُ لـشعـبـنــا ولجـمـعـنـــا
يا رمــزَنـــا يا فــــــارسَ الميــــدان
 
عبدالصمد الليث   2003
 

اقرأ المزيد

عمّال البحرين…! “هذا نحـن”


 

 

 


  
 عمّال البحرين…! “هذا نحـن”
 


مــرحــى لمـجــدكِ والـفـخــــار ِ اوال               فـلقـــد بـنـــاه بـكــدحــهـــم عـمــــــال
وعـلــى ربــاك و بـالـمــآثـر شيّــــدوا               أسـس الحـيـــاة وطـابـت الأفـعـــــــالُ
فـمـن(المنـامـة) و(المحـرق) والقـرى               تـتــرى جـمـوع ُالكـادحـيـــن طـــوالُ
جــاءوا جـيـاعـا يحـلـمـون بخـبـزهـم               تحــدوا قــوافـــلَ بـــؤسهـــم آمــــــالُ
باعــــوا مـآثـــر قـــوّة خـلا ّقــــــــــة               وشـــروا بـهـا أجـــرا ً وشــقّ مـــــآلُ
أدمـــت سـواعـدَهــم معــاولُ كدّهـــم                وقـســت عـلى أعـنـاقـهـــم أغــــــلالُ
وتـكـفـّــل النـــزرُ اليسيــرُ كـفـافـَهــم                وعـلــت عـلـى أجـســادهـم أسـمــــالُ
فـهـنـا دمٌ قــد سـال يسـقــي مـكـسـبـا ً               وهـنــاك مــن اجـل الحقـوق نـضـــالُ
من(ثــورة الغـوص) التي هي مَعْـلـمٌ                يـبـقى وان تـتـعـاقــب الأجـيــــــــــالُ
مــع أول الآبــــار كــان عـطـاؤهـــم                زيـتــا ً لــه فـي العـالـمـيــن مـنــــــالُ
فــأضــاءَ لـيــل فـي الــدجى أنـــواره               ونـمـت رسامـيــل الجـيــوب غــــلالُ
فـعـلـت صـروحُ الناهـبـيــن سعـــادة                و رمــت جــروحَ الواهـبـيـن نصـــالُ
وبـدت قـصـورُ المتـرفـيــن مضيـئـة                وعلى قـبـــور ِالمتـعـبـيـــن وبـــــــالُ
كانــت لبـئــر النـفــط أول قــطـــــرة               مــــن وابـــل يــروي الظمـاء ســؤالُ
حـتـّـامَ نـشـقـى والــرفاه لغـيــرنــــا ؟               وعــلامَ يـسحـــق عــزَنـــــــا إذلالُ ؟
وتــواتـــر الـزفــرات أوقـد شـعـلــة                 وســرت بـهـا تحــت الــرمـاد شمــالُ
قـــــد شـاقـهــم مـا كابــدوه تعـسـفـــا ً               ظـلــم الغـريــب بــه القـيــــود ثــقــالُ
فـأتـى(مــــدان) وبــث فـيـهـم وعـيـه                ولــــه رفـــاق قـــــدوة ومـثـــــــــــالُ
بـرح الخـفـاءُ وصـار إضـرابُ الألى               وضـعـــوا لبـان حــراكـهـم وأمالـــوا
(الـبـــا) و(اســـري) والمواقع كـلهــا                وذرى (بـنـــا غـــاز) بـهـــن مـجـــالُ
حـتى إذا أتـت الـثـمــارَ بــذورُهـــــم                وحـمى الوطـيــسُ ونـازلوه وصـالـوا
ســاروا إلـى آمـالِـهـِـم بـصلابــــــــة                صـدقـوا عـلـى ما عــاهــدوه وقالـــوا
وتـفــرقــوا عـبــر المنـافــي عـنـــوة ً               ورمـــت كــواكـبَ فـجــرهــم آجـــالُ
ولـســوف يـبـقى مـا تـقـدم مـاثـــــلا ً                ما دام بـحـــرٌ زاخــــرٌ وجـبــــــــــالُ
هـذا (عـزيـزُ) وقد قـضى فـي غـربة                و(عـلــيُ) مسـقــومــا ً طـواه عـضالُ
إن النـقــابــة بـيـتـُـكـــم فــتــوحــــدوا               انـتــم لبـحـــريــن الخــلـود مثــــــــالُ

عبدالصمد الليث
10/1/2003
 

اقرأ المزيد

بغداد.. اطفئوا النيران…!


 
 

 

 


“الى الشعب العراقي العظيم”

 


هـبـّــــوا لنجـدة صرخــــة الـــزوراء               وتـعـاهـــدوا غــوث الحمى بمضــــاء
وا عـالمــاه تـصيــح وهـي جـريحـــة               مـن خـرط اشــــواك وفــرط بــــــلاء
بغــداد تـــدعـــو كــل قـلــب طيّــــب               وتـُهـيــب بالاحــــرار والشـرفـــــــاء
حِـقـَـبٌ تـمــر عـلى العـراق وارضـه               ســــوح لحـرب مصــائــب ودمـــــاء
في كـل بـيــت بالفـجـيـعــة كـربـــــلا               وعـلــى الحـيــــاة مآتـــــم لعــــــــزاء
لله شـعـــب قـــد تـضـمــــخ مجــــــده               بنجـيـــع نــزف القـلـب والاحشــــــاء
فـبهـبـة ( النجـف) الذبـيـحـة واللظــى              و(الهـور) و(العشـريـن) والعلـمـــــاء
وبـوثـبـة (الجســــر) المجيــدة والالى               ضحــوا ونالــوا رفـعـــــة الشـهــــداء
وبكـل اقـبـيـــة المظالــــم والــــــردى              وبــــ(نـقــــرة السلـمـــــان) والارزاء
وبكل من صعــد المشانـــق هاتـفــــا ً:               اقــــوى مــن المــوت الــزؤام فــدائي
وبـوجه(تـمـــوز) المطــرّز بالـنــــدى               قـــــد غـــاله خســـف مــن الظلـمـــاء
جـــاب المشــارق والمغارب طالبــــا               خبــز الكـفــاف وهــاربــا ً بعـنـــــــاء
قـد غـــادر البلــد الحبـيب مهجّـــــرا                عـــن مــوطـــن الاجـــداد والآبـــــاء
اذ هام في الاصقاع يضرب مُطعمــا ً                جــوع البـحــار ظـلامـــة الابــنـــــاء
نـار الحصــار ونـار حتـف غـاشــــم                جـلــب الخــراب لبـصــرة فـيـحـــــاء
رهـن البـلاد..سـبى العباد واطفـئــت                عـيـــن الحجــى بسـيـاســة خـرقـــــاء
شـرقـت بدمع الحيف عـين هضيمــة                فجـعــت بهــول رزيــــة الكــرمـــــاء
هــذي فـلسـطيــن السليـبـة تـشتـكــي                ظلـم الشـقـيــق وظـلـمــة الغــربـــــاء
وغــدا ً عـلى ارض الشـآم وحولهـــا                خـطــط تـُـدَبِّـــــر دولـــة العـمــــــلاء
لاتـتــركــوا شعــب العراق لوحــــده                لا تــركــنــــوا لمــذلــــة التعـســــــاء
وتـنـكبــوا تـرف الصموت وخوفــــه               وخــذوا تلابيب الدجى بضــيــــــــــاء
ستــؤول دنـيـاكــم الــى انـقــاضـهـــا               ابـــدا ً عــليــكـــم سبــة الاغــضــــاء
قـومـوا غـضابا ً.. صوتكم ملء الدنـا                قــــولـــوا لهــم : كــلا ولا.. بـابـــــاء
لاتحــرقـوا شـعــب العـراق وخيــره                لاتـجـــعـلــــوه مقـطـــــع الاشــــــلاء
لاتـعــلـنـــوا حرب النـفـوط لاجلكــم                تبــــــا ً لعــولمــة عـلـى الضــعــفــاء
كل السعـــــادة في النضـــال ودربـه                 فـثــبـــوا لنـيــل المجـــــد والعـلـيـــاء
 

عبدالصمد الليث
1/1/2003
 
 

اقرأ المزيد

وطن خلف زجاج



في سوق هذا الأسبوع نستضيف الدكتور حسن مدن الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي، وهو يروي حركة تشكله رجلا ومعرفةً ووعياً وخبرةً، بعيداَ عن بحر وطنه، حاملا ذكرى أستاذه المسيحي الذي أشار له يوماً، وهو ينظر بعيداً من شرفة مدرسة النعيم: إن شبكة العين ترتاح حين تُحدق بعيداً، فكلما اتسع مدار النظر كانت العين أكثر ارتياحاً. لم يتمكن حسن أن يحدّق في بحر وطنه، فقد ذهب بعيداً، البحر وهو.


حـــدّق بعيــداً


درستُ المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة الخميس، وتوزعت المرحلة الثانوية على مدرستين: النعيم والحورة الثانوية.
في الأولى أنهيتُ الصف الأول ثانوي فقط، وكانت مدرسة النعيم مدرسة نموذجية جديدة، وتقع فصولنا على البحر مباشرةً، ومن وراء النوافذ الزجاجية نُبصر هذا البحرَ الذي لا يفصلنا عنه سوى ممر صغير ثم سور من الأسلاك. أذكر أن مُدرساً فلسطينياً مسيحياً اسمه إيميل كان يُدرسنا مادة الفيزياء، وفي حصته عن البصريات ذكر أن شبكة العين ترتاح حين تُحدق بعيداً، فكلما اتسع مدار النظر كانت العين أكثر ارتياحاً.
تَشّكل لدي شعور بأنه كان يُحرضنا على التحديق في البحر الذي يمتد إلى اللامتناهي خلف شباك الفصل، وما زال هذا الشعور يحملني على التحديق في ما تبقى من امتداد البحر كلما قُيض لي ذلك. مدرسة الحورة التي فُصلت منها في منتصف الدراسة بسبب نشاطي الطلابي، تقع هي الأخرى على البحر بمحاذاة امتداد جسر المحرق الوحيد يوم ذاك الذي كان يبلغ منطقة رأس رمان، وحين عدتُ للبحرين بحثتُ عن المدرستين فوجدتهما قد توارتا خلف المباني المتراصة، أما البحر الذي كنا نسمع هدير أمواجه فقد أصبح بعيداً جداً، وهو ما انفك يبعدُ عن مركز المدينة، أمام زحف رمال الردم وأبراج الكونكريت والزجاج.


بــرلمـــــــان73

كنت، في نحو السابعة عشرة من عمري، نحيف البنية، ضئيل الجسم. حين دخلتُ مكتب الأستاذ علي سيار أحد رواد الصحافة والعمل الوطني في البحرين في الخمسينات، في مكاتب مجلة ‘صدى الأسبوع’ بشارع أبي العلاء الحضرمي المتفرع عن شارع باب البحرين بالمنامة. بادرني بالقول: حين قرأت مقالاتك ظننتك أكبر عُمراً وأضخم جسماً، ثم عبر عن ترحيبه بانضمامي لصدى الأسبوع، قال: ليس مطلوبا منك في البدء سوى أن تقرأ وتتابع آلية العمل وسنُكلفك تباعاً ببعض المهام، وهكذا وجدت نفسي بعد حين لم يطل منخرطاً في مهنة الصحافة.
كُلفت ببعض التغطيات الصحافية وتدربتُ على إعداد وكتابة التحقيق الصحافي، إضافة إلى أني أشرفتُ على الصفحة الثقافية في المجلة لعدة سنوات. كانت البلاد يوم ذاك تضج بالأحداث السياسية، فقد خَرجتْ للتو من التحرك العمالي الواسع الذي طالب بالحريات النقابية وتحسين مستوى معيشة الشغيلة، وكانت البلاد تتهيأ لانتخابات المجلس التأسيسي الذي وضعَ أول دستور في تاريخ البحرين، وتلاها انتخابات المجلس الوطني، وكنت من موقعي في المجلة أتابعُ كل تلك الأنشطة والفعاليات، إضافة إلى صلتي المباشرة بالحركة الأدبية والثقافية عبر أنشطة أسرة الأدباء والكتاب التي أصبحت عضواً فيها.
ومن أكثر ما أعتز به تغطيتي لجلسات المجلس الوطني في دور الانعقاد الأول. كانت تلك تجربةً ثريةً لأنها جعلتني على صلة مباشرة بالحراك السياسي والبرلماني في البلد.


تنــــور الكتابــة


لتجربة كتابة العمود اليومي أكثر من وجه. وقد حاولت أن أعبر عن هذه الفكرة في مقدمة كتابي ‘ تـنـُّور الكتابة’ الذي جمعت بين دفتيه نماذج من المقالات التي تطرقتُ فيها لوجوهٍ أدبية وفكرية مختلفة، حين وجدت أن فكرة ‘التـّنـوُرْ’ في الكتابة اليومية فكرة مزدوجة، فأنت من جهة متورط في صميم الحياة، من حيث هي بؤرة الأحداث والوقائع والتحولات، مما يجعل هذه الكتابة مليئة بالحرقة تجاه الفقدانات العربية الكثيرة، لكنك من جهة أخرى تضطر أحياناً لإخراج خبز الكتابة من هذا التنور قبل أن يستوي تماماً.


الخطيئــة الجميلــــة



بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا فإن السبعينات تمثل مرحلة مُزهرة، فهي الفترة التي بدأتْ فيها أذهاننا تتفتح على الحياة وأسئلتها، ولكن السبعينات هي نفسها كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي، وكان توقيع اتفاقيات ‘كامب ديفيد’ أحد عناوين هذا التراجع، وبهذا المعنى كان الجيل الفتي في السبعينات، جيلنا نحن، يعيشُ ما يشبه صحوة الموت دون أن يدري، كان يُوهم نفسه إن الهزيمة التي حدثت في 1967 مؤقتة، وإنها قد تشكل قاعدة أو منطلقاً لإعادة الثقة بالنفس وإحراز النصر.
هذه الفكرة كانت محط تأملي، إلى أن قرأتُ كتاب الكاتبة المصرية أروى صالح التي انشغل الوسط الثقافي والفكري في مصر وفي خارجها بحادثة انتحارها منذ عدة سنوات، عنوان الكتاب هو: ‘المبتسرون – دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية’، وأروى صالح كما هو واضح من عنوان الكتاب، شابةٌ تنتسب إلى هذا الجيل الذي عاش كل تلك التمزقات والمخاضات، أما الكتاب فهو شهادة مصاغة بلغة عذبة وأسلوب سلس وعبارة شفافة رشيقة لامرأة حالمة، فجاء جامعاً بين عذوبة المرأة وجمال الحلم، ليقدم شهادة بشر كانوا صادقين في البحث عن قيم العدالة والحرية هم الذين يعتبرون أنفسهم نتاج العهد الناصري الذي أمن لهم التعليم المجاني في المدارس والجامعات.
أروى صالح، هذه المرأة الشابة الرقيقة، الشفافة الحالمة لم تتحمل مسعى التدجين ومصادرة الحلم، فاختارت أقصر الطرق حتى لا تقع ضحية التناقض بين الروح وبين الحاجة، ولم يكن هذا الطريق سوى الانتحار، ولكن انتحارها ليس دلالة خيبة جيل، وإنما تعبير عن طموح هذا الجيل الذي مسه سحر الحلم، وستلاحقه دوماً ‘ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفةٌ لا تكاد تحتمل لفرطِ جمالها، تبقى مؤرقةً كالضمير’، كما عبرت في كتابها.


عــــــــــــنـب


في منتصف المسافة بين ‘سوق الغرب’ و ‘عاليه’ – المصيف اللبناني الجبلي الشهير الذي يقصدهُ أهل الخليج، تقع مجموعة من البيوت الحجرية المغطاة أسقفها بالقرميد الأحمر، والمحاطة بغابات الأشجار الداكنة الخضرة. أحد هذه البيوت، وهو عبارة عن طابق أول في دارة أنيقة مكونة من طابقين، تؤدي إليها درجات سلم حجري، كان مستأجراً من عبد الهادي خلف.
وما أكثر ما دعانا لقضاء نهاية الأسبوع في هذا البيت، فترة منفانا البيروتي، كان للدارة شرفة تطلُ على منحدرٍ متدرج من أشجار الصنوبر والزيتون التي تغطي قرى صغيرة جميلة، ومن خلفها تتراءى بيروت بكل سحرها. في الأمسيات كان النظر من الشرفةِ إلى أضواء المدينة وهي تتلألأ متعةً حقيقيةً، أشبه بالنظر من نافذة طائرةٍ مُحلقةٍ على علوٍ منخفض لمدينة حديثة. ورغم أننا لم نكن نخلد إلى النوم مبكرين، فإن المناخ الندي الجميل والنسمات العليلة التي تتسلل في الصباح تُوقظنا باكراً بشعورٍ من النشاط والحيوية.
وأمام البيت مباشرة ساحة صغيرة أنيقة، حيث كَرمةٌ تبسط أذرعها على سقفٍ يُظلل المدخل، وتتدلى منها العناقيد وافرةً، جنية، حملى بالعنب الأحمر الشهي. وكانت سعادةً كبيرةً قطف ذلك العنب الطازج الناضج. وكلما رأيتُ الكرمةَ خطرت على بالي القصيدة الشهيرة لجبران خليل جبران التي تغنيها فيروز التي يقول مطلعها: ‘أعطني الناي وغني’، والتي يُشبه فيها عناقيد العنب بثريات الذهب، وكنت أقول أنه لم يكن بإمكان جبران إلا أن يكون لبنانياً كي يكتب هذه القصيدة، وأن أمام الدارة التي سكنها في بلدته ‘بشري’ توجد بالتأكيد كرمةٌ عنب تدلت منها عناقيد كتلك التي كانت تتدلى من الكرمة في هذه الدارة.
مشهد عناقيد العنب ظل عالقاً في الذاكرة، حتى جاء صيف   1982 ، واندفعت دبابات شارون إلى النبطية وصور فبيروت، وألقت الطائرات حمم الموت والجحيم على الأبرياء والأطفال والناس العزل انتقاما من المدينة – الرمز ومن أهلها.
بالنسبة لإنسان جاهل بشؤون العسكرة وأنواع الطائرات والدبابات والقنابل مثلي، كان أمراً مُحيراً أن بعض القنابل التي مزقت جثث النساء والأطفال والأبرياء إرباً اسمها القنابل العنقودية. وهذه القنابل كما كُتب في الصحف حينها عبارة عن مجموعةٍ كبيرة من القنابل الصغيرة داخل قنبلة كبيرة وأنها تنفجر تباعاً، بالتوالي، وليس مرةً واحدةً، لذا تأتي الخسائر التي تُوقعها أكثر، بما في ذلك في صفوف المُنقذين من رجال الإسعاف وسواهم الذين يهبون لنجدةِ وإخلاء الجرحى وجثث الشهداء، فيفاجئون بانفجارات أخرى. انزاحت صورة عناقيد العنب في الدارة وفي قصيدة جبران خليل جبران، لتحل محلها صورة هذا النوعِ المُرعب من القنابل الذي تباهى رونالد ريجان حينها بفعاليته بعد أن جُرب لأول مرةٍ في اللحم اللبناني والفلسطيني..!


وطن خلف زجاج


حين عدتُ إلى البحرين في السابع والعشرين من فبراير 2001 ، كان عمري قد بلغ خمسة وأربعين عاماً. كنت قد غادرت الوطن آخر مرة، وأنا لم أكملُ العشرين بعد. كُنت خُلواً من التجربة الكافية، وكان عليَّ أن أتشكل، رجلا ومعرفةً ووعياً وخبرةً، بعيداَ عن وطني على مدار سنوات طوال توزعت على عدة ديار ومدن وأماكن.
ليست هذه المرة الأولى التي تطير بي الطائرة إلى مطار البحرين الدولي. لقد تكرر ذلك في السنوات العشر السابقة لذلك مرتين أو ثلاث. المرة الأولى كانت في ديسمبر من العام 1992 حيث خلفت ورائي صقيع موسكو وثلجها. كان ذلك بالضبط في السابع عشر من ديسمبر، وكانت موسكو السابحة في بياض الثلج تستعد لاستقبال أعياد الميلاد ورأس السنة، وكانت أشجار العيد تزين المحلات والشوارع والبيوت.
قبل أن تحط الطائرة في مطار البحرين في تلك الليلة، رحت أحدق من نافذة الطائرة في أضواء الجزيرة التي اسمها البحرين، والتي هي وطني، البلد الذي ولدت فيه وأحمل جنسيته. 


ورشة الرافـد


الإمارات بالنسبة لي كانت ورشة عمل ذهنية وإبداعية. لقد مكنتني من أن أخلو إلى نفسي، وأن أتفرغ للعمل الثقافي الذي وجدت فيه حقل اهتمامي الحقيقي، وبسرعة اندمجتُ في النسيج الثقافي والأدبي في البلد، لأكون على تماسٍ مباشر مع مفردات الاهتمامات والانشغالات الثقافية للمبدعين الإماراتيين وشريحة المثقفين والمبدعين من أفراد الجاليات العربية المنوعة هناك.
كانت ‘الرافد’ إحدى النوافذ الرئيسية لهذا الاهتمام.
منحتني ‘الرافـــد’ فرصــــةً كنت أتوقُ إليها في أن أزج بنفسي في أتـــون تجربـــةٍ ثقافية غنية تكون على تماس مع روافد الثقافة والإبداع في العالم العـــربي برمته، وعلى تخوم الأجناس الأدبية والفنون المختلفة: النقد الأدبي والفني، المسرح، التشكيل، السينما، فضلا عن إمكانية التعرف على التجــــارب الإبداعية الجديـــدة في الأقطــار العربية المختلفــة.

 


الوطن من السماءّ
!




أن ترى الوطن من فوق، من علوٍ. أضواء تتلألأ في خطوط دائرية وأخرى عمودية، ومن تلك الأضواء تستطيع أن تحدد الفاصل بين البحر واليابسة. يبدأ البحر حيث تبدأ العتمة، أما اليابسة فإنها تسبح في الأضواء، تشع بالنور. قبل عشر سنـــوات استغرقني التفكير ذاته عما خلفته في وطني: صباي وغرفتي المتواضعة في بيتنا القديم، وبعض كتب وصور ورسـائل حـبٍ أولْ لم يكتمل. لم أر الوطن يوم ذاك. اكتفيت بالذكرى التي رسخت في الذهن. ليلة مبيت واحدة على كرسي في قاعة ترانزيت المطار، في اليوم التالي أُعد لي على عجل جواز سفر صالح لمدة سنة واحدة، وعلى إحدى رحلات شركة طيران الخليــج المتجهـة إلى دبي، طُرت إلى الإمارات.
بعد سنوات أخرى، كنت عائداً من عمّان عاصمة الأردن في طريقي إلى دبي. كانت الرحلة عبر البحرين، كان لا بد من وقفة أخرى في مطار الوطن. الوقت كان نهاراً، وكان الفصل صيفاً والشمس ساطعة. ولأن فترة التوقف تستغرق ساعات، فقد رحت أتجول في أرجاء المطار. من خلف الزجاج بدت أشجار النخيل الباسقة في محيطه، على بعد مرمى النظر. أحسست في تلك النخيل بشيء من طفولتي، من صباي، لأنها ذكرتني بواحة النخيل التي كانت تجاور البيت الذي وعيت فيه على الدنيا وقضيت سنوات الطفولة والصبا.


الوطن من وراء الزجاج

!




أن ترى تراب الوطن ونخيله وبيوته وبعض شوارعه ولكن من خلف الزجاج. لا تطأ قدمك ترابه، ولكن عينيك تراه، ليستثار في نفسك ولع وغصة.
اليوم السابع والعشرون من فبراير 2001 لم أكتفِ برؤية الوطن من السماء، من علوٍ، ولا من وراء زجاج المطار.خطوتُ برجليَّ إلى ما هو أبعد من ردهة المطار، فتجاوزت بوابته الرئيسية، وخرجت إلى الشارع لأشم هواء الوطن.


 
الوقت 
علي الديري
سوق الجنة
8 نزفمبر 2008
 

اقرأ المزيد

تكميم الأفـواه من جـديـد


لم أجد تشبيهاً أقرب إلى تصريح وزير الداخلية الأخير والذي شابه تهديد ووعيد لكل من تُسوِّل له نفسه من المواطنين أو النواب أو ممثلين لجمعيات سياسية بالمشاركة بحضور اجتماعات أو مؤتمرات أو ندوات في الخارج أو الالتقاء بممثلي دول أجنبية أو منظمات أو هيئات أجنبية بغرض بحث الأوضاع والشئون الداخلية لمملكة البحرين إذ عدّها مخالفة للقانون سوى أن «حليمة عادت لعادتها القديمة».

تصريحات وزير الداخلية تعيد البلد من جديد إلى ما قبل العام 2000 وإلى الحقبة السوداء وقانون أمن الدولة وسياسة ملاحقة النشطاء السياسيين والاجتماعيين الذي يتواصلون مع المنظمات العالمية فيما يتعلق بمختلف الأنشطة والفعاليات سواء كانت حقوقية أو تنموية أو سياسية أو اقتصادية.

تصريحات وزير الداخلية تصطدم مع مشروع عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة الإصلاحي الذي أخرج البلد من ظلمات الاستعباد وتكميم الأفواه والقمع، وفتح الباب أمام الجميع للحديث بصراحة في مختلف القضايا العالقة مع مختلف الجهات سواء كانت داخلية أو خارجية، وأطلقت العنان لممارسة مؤسسات المجتمع المدني دورهم الحقيقي في الحياة العامة بما لا يمس بسيادة البلد وأمنه، وبما يضمن وجود فعاليات شعبية فاعلة ونشطة.

لقد فقدت الحكومة صوابها بصدق عندما وجدت نفسها عاجزة عن كبح جماح مؤسسات المجتمع المدني التي تحركت وفق الأطر السلمية وبعيداً عن العنف في تحقيق مطالب شعبية عادلة بعدما عجزت عن تحريكها على المستوى الداخلي لتضييق الخناق عليها، فلجأت إلى الخارج ضمن سياسة عالمية تؤمن بأن العالم بأجمعه أصبح قرية صغيرة لا يمكن تجزئتها.

وبالتالي أصبح واجباً على وزارة الداخلية محاسبة كل مؤسسات المجتمع المدني والوفود الأهلية التي تشارك في الفعاليات الدولية، وقد نجد أن حملة الاعتقالات قد تطول تلك الوفود المخالفة للقانون والتي عمدت للمساس بهيبة البلد ووضعها المالي وعلاقاتها الخارجية، وجملة من الإغلاقات للجمعيات النشطة على الصعيد الدولي ومن أبرزها الجمعيات الحقوقية والنسائية.

من المؤكد أن الأضرار التي تكبدتها البحرين جراء الأزمة المالية العالمية الحالية، لم يكن سببها سوى ما قامت به بعض الجمعيات وأعضاء المجلس النيابي من عرض حقائق واقعية عن أوضاع بحرينية لا يمكن لأي شخص أن ينفي وجودها، وبالتالي كان من الأحرى أن يتحرك وزير الداخلية للحفاظ على الوضع المالي للبلد وهيبتها ومكانتها وعلاقاتها الدولية، وخصوصاً أن المادة (134 مكرر) من قانون العقوبات تنص على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مواطن، أياً كانت صفته، حضر بغير ترخيص من الحكومة أيَّ مؤتمر أو اجتماع عام أو ندوة عامة عقدت في الخارج أو شارك بأية صورة في أعمالها بغرض بحث الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في البحرين أو في غيرها من الدول وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بدولة البحرين أو النيل من هيبتها أو اعتبارها أو الإساءة إلى العلاقات السياسية بينها وبين تلك الدول”.

إنها الشراكة الحقيقية بين المجتمع المدني والدولة والتي رفضها وزير الداخلية، فإما أن تكون الشراكة وفق ما ترتضيه الدول وبإذنها وتصريح وإلا فلا شراكة ولا مؤسسات مجتمع مدني ولا تنمية وتطوير، بل حبس وغرامات وضرب بيد من حديد لكل من يتحرك من أجل المطالبة بالحقوق والإنصاف والعدالة.

لقد ذهب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ومقولته الشهيرة ” أنت لست معي… إذاً أنت ضدّي ” ، ولكن أعاد وزير الداخلية البحريني هذه المقولة من جديد ليشد الحزام على كل من يعارض الحكومة ويتحدث عن مساوئها وأفعالها، فإما أن تكون الجمعيات والنواب وأي مواطن «ملمعين» للحكومة في الخارج، وإلا فإن الحبس والغرامة مصيره ولا مشاركات خارجية إلا بإذنه وعلمه، وقد نعود من جديد إلى زمن الوفود المفبركة للمزيد من التلميع الخارجي والاضطهاد الداخلي.
 
الوسط 8 نوفمبر 2008

اقرأ المزيد

انتخابات نقابة ألبا 2008 غير


عكس التنظيم الكبير لانتخابات نقابة العاملين في شركة ألمنيوم البحرين (ألبا ( الوجه المختلف للقدرة العمالية والنقابية في البحرين، إذ إن نقابة ألبا والتي تعد أكبر نقابة عمالية ليس على مستوى البحرين فقط بل على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي نافست في تنظيمها لانتخاباتها قدرة الحكومة على تنظيم الانتخابات النيابية والبلدية، بل تفوّقت عليها مع احتساب فارق الإمكانات والقدرات المالية والبشرية والخبرة التي تمتعت بها الحكومة.

انتخابات نقابة ألبا أحدثت نقلة نوعية في العمل العمالي والتنظيم الانتخابي مع وجود بعض الأمور التي لا يمكن لوم اللجنة الانتخابية عليها سوى لنقص الخبرة في هذا المجال كإيجاد آلية أكثر وضوحاً لعملية فرز الأصوات في ظل الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع والذي أذهل الجميع بمن فيهم رئيس مجلس إدارة شركة ألبا محمود الكوهجي.

انتخابات «نقابة ألبا» لم تحاول أبداً إخفاء رأسها في الحفرة كالنعامة لحظة الخوف، بل خرجت كأول تنظيم عمالي ومجتمعي يعترف بوجود القوائم العمالية والتحزبات والتكتلات في العملية الانتخابية، إذ سمحت بأن تكون اللعبة الانتخابية على المكشوف للجميع ولم تمنع أو ترفض وجود تلك القوائم متفوقة بذلك حتى على الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين الذي تكتّم على وجود القوائم وبل في بعض الأحيان كان ينفيها على مستوى انتخابات الأمانة العامة.

وأزعم بأن كسر هاجس الخوف من علانية وجود القوائم في انتخابات نقابة ألبا سينسحب أيضاً على باقي الانتخابات العمالية والنقابية وبالخصوص في النقابات الكبرى كنقابة بابكو وبتلكو وغيرهما ولكنها لن تكون بالحجم ذاته لاختلاف القوى العمالية، كما قد نشهد بعد أربع سنوات انتخابات قوية بقوائم علانية في الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وذلك بعد أن أشاد الأمين العام للاتحاد سيد سلمان المحفوظ بخطوة القوائم واعتبرها عملية حضارية وديمقراطية.

ما يميز العمال عن غيرهم في مختلف المؤسسات الاجتماعية أن خلافاتهم نادرا ما تنعكس على علاقاتهم الاجتماعية، فلا يوجد في البحرين بأكملها جهة بها خلافات بين أطراف مختلفة كما هو موجود في نقابة ألبا، إذ وصلت هذه الخلافات إلى حد التسقيط والتخوين بين الأطراف المتصارعة، إلا أنهم أيضاً تجدهم يجلسون مع بعض بشكل طبيعي حتى وإن كان ذلك شكلياً.

انتخابات نقابة ألبا 2008 فريدة من نوعها وطبعها وقوتها وقدراتها، بعد أن أعطت دليلاً واضحاً على قوة العامل البحريني على التنظيم وإقباله على الحركة العمالية تمهيداً لمطالب واسعة ضمن أجندة كبيرة لتحسين أوضاعهم في أكبر الشركات البحرينية.

أمام إدارة شركة ألبا تحدٍّ كبيرٌ في كيفية التعامل مع نقابة من طراز جديد وأداء عمالي راقٍ فرض احترامة على الجميع، ويبقى أمامنا أن نقف ونترقب كيف سيكون أداء الإدارة الجديدة للنقابة، فهل سيكون مختلفاً أم سيعيد كرة الأدوار السابقة؟، هذا ما ستكشفه الأيام لنا قريباً.
 
الوسط  1 نوفمبر 2008

اقرأ المزيد

صراع الطوائف والطبقات في اليمن (1)


كبقية الدول العربية عملت القوى المحافظة على تفكيك العلاقة التحالفية بين قوى الحداثة التي تصارعت مع بعضها بعضا في اليمن، فكان يُفترض لمؤسسي وحدة اليمن: حزب الوحدة الشعبية الشمالي والحزب الاشتراكي في الجنوب أن يمتنا دعائم العلاقة بينهما، وينشرا التنوير والديمقراطية والحداثة.
ولكنهما لم يفعلا ذلك بل انجرا لتأثيرات القوى المعادية للوحدة اليمنية وللتقدم في اليمن، واستدرجا لصراع ضار مدمر.
في البدء عنت الوحدة قبول الجنوب بسيطرة الشمال القوية، وكانت تضحية من الجنوبيين، وتمثل ذلك في سيطرة مؤسسة الرئاسة في صنعاء وجيش الشمال، وقبل الحزب الاشتراكي بدور الشريك، لكن تم تفكيك عرى العلاقة بينهما.
 

علينا من البداية أن نقرأ أخطاء الحزب الاشتراكي اليمني، لقد كان حزبا جنوبيا بامتياز، ولم يكن قادراً على التغلغل في الشمال، ولم يفهم ظروف اليمن بدقة، وضرورة النضال الديمقراطي الطويل والتحالف مع كل القوى الديمقراطية بدلاً من الركون للقوى العسكرية، وللمؤسسات الحكومية المخترقة من قبل قوى التخلف والاستبداد في الشمال، وبالتالي جاءت موافقته على مسألة “الوحدة اليمنية” غير متبصرة وسريعة، وألقى بنفسه في ساحة هائلة، كما أن قياداته كانت ذات مواقع قبلية مناطقية ولم تستطع أن تخلق تنظيما وطنيا ديمقراطيا واسعا، فقد قادت شعارات التأميم للملكيات الصغيرة والتطرف اليساري والقفز على ظروف اليمن وعدم فهم مرحلته السياسية إلى وجود شلل شمولية داخل التنظيم، قادت إلى مغامرات وصراعات ضارية.
إن فكره “الاشتراكي” كان طفوليا، ولم يشكل ثقافة ديمقراطية وطنية تلائم ظروف اليمن القبلي والأمي، ثم قفز إلى وضع سياسي هائل هو وضع الوحدة التي ذوبته وسط الشمال الكبير عليه.
في حين كان حزب الوحدة الشمالي الحاكم حزبا قبليا بامتياز لقبيلة حاشد، التي هيمنت على السلطة، وأورثت جماعاتها هياكل الدولة، وكان خيار الوحدة لها ليس خيارا ديمقراطيا وطنيا بل سيطرة قبلية كاملة، ولا شك أن دغدغة مشاعر الرئيس للهيمنة وأن يكون الشخصية الأولى والوحيدة والتي تورث حكمها لابنها وتحويل النظام الجمهوري إلى نظام ملكي أسوة ببقية الجمهوريات العربية، كانت تتلاقى وتتوحد في تيار شمولي شمالي قوي.
ووجد حزب الإصلاح المذهبي السياسي (السني) في هذا التحالف الشمالي في أول الوحدة وسيلته لضرب الحزب الاشتراكي اليمني، خوفاً من توجيه الوحدة نحو الاشتراكية والحداثة.
وهكذا فإن قوى تحديثية عديدة وجدت نفسها في خنادق متضادة، وراحت دولة الشمال وجيش الشمال يذوبان القوى الجنوبية التي توحدت معهما وأعطتهما السلطة، وغدت المعركة سياسية وشخصية، ثم تحولت إلى معركة حربية شرسة مخيفة، هجم فيها الجيش على الجنوب، واتضح فيها أن الشمال يفترسُ الجنوب لا أن يتوحد معه.
“وعلى الرغم من أن أصعب الأزمات التي تواجه الرئيس صالح هو صراعه مع القوى المتضررة من الحرب الأهلية في 1994، والتي كان الاخوان المسلمون شركاء الرئيس صالح فيها، حيث كانوا من أشد التيارات تحمسا لها، معزولة عن سياق الصراع الراهن بين النخبة الحاكمة والإخوان، فإن أغلب الكتاب المؤيدين لنظام صالح يرون أن تجمع الإصلاح الإسلامي متورط في تأجيج مشاعر أبناء الجنوب ويعمل بذكاء شديد على استثمار الوضع لتشتيت طاقة النظام وإضعافه.”، (الشرق الأوسط، اليمن صراع السياسة بين الرئيس والاخوان، 29 اكتوبر، 2007).
لقد دمرت القوى التحديثية الوطنية: المؤتمر الشعبي، الاشتراكي، الإصلاح، أنفسها في صراعها الجانبي، المدمر، وكانت الحصيلة هي ظهور مؤسسة الفرد الواحد الحاكم المطلق، وهشاشة وضع القوى التحديثية التي أسهمت في صعود دولة الوحدة ونخرها بالصراعات الفئوية.
لقد كان هذا من أخطر إفرازات الحرب، فليس رئيس السلطة كفرد هو القضية، بل صعود الفرد المطلق مع قبيلته. لقد أدت نتائجُ الحرب إلى رجوع اليمن خطوات كبيرة للوراء، إضافة إلى فقد عشرات الألوف من القتلى والخسائر المادية الجسيمة.
وبدلاً من انتقال اليمن للحداثة والوطنية والديمقراطية عاد اليمن كلية للقرون الوسطى سياسيا، لقد نزع قشرة الحداثة الهشة من فوق جسده القبلي المحافظ وبان على طبيعته.
ومع ذلك فإن البقية الباقية من عناصر الوعي الديمقراطي الوطني في الحزب الاشتراكي اليمني حاولت أن تخرجَ من هذه الثنائية القاتلة، ثنائية الجنوب والشمال، ثنائية الاشتراكي والرأسمالي الخيالية، ثنائية الحياة والموت، بالتوجه إلى أساس المشروع التوحيدي وإلى عناصره الديمقراطية الصغيرة وإعادة إحيائها.
لكن الشمال القبلي المسيطر عاد إلى عصره الإقطاعي الشامل، لقد افترس الجنوبَ وتركهُ ينزفُ ويلعقُ جراحَه.
لقد استولى كلية على السلطة ولم يعد أحدٌ ينافسه من الجنوب، فقادة الاشتراكي الأقوياء الذين حرروا الجنوب من الاستعمار البريطاني إما قتلى وإما هاربون، ومن رفض الحرب وصراعاتها وتهميش ما بعدها لم يُترك ليعيش بل انقضت عليه عصاباتٌ تعددت أقنعتها ولها مضمون واحد.
لم تكن حرب الانفصال والوحدة سوى حرب الجنون القبلي، فكأن الشمال كان يثأر من تقدم الجنوب، وينشر قبليته الكاملة في الفضاء اليمني لتسود، وما يدري ان هذا التسويد سيكون خرابا قادما واسعا للشمال.
لقد اتفقت القوتان السياسيتان الشماليتان حزبا المؤتمر الشعبي والإصلاح على تحطيم المعارضة اليسارية التي كانت جزءاً من الحكم، عبر حرب لبست قناع الدفاع عن الوحدة، ولم تكن سوى عملية ثأر متخلفة ضد التحديث الجنوبي، الذي كان يمضي بخطى صغيرة نحو صهر الشعب في كيان تحديثي موحد، وجاءتْ عملية الثأر من منطلقات مختلفة، من قبل كراهية اليسار والاشتراكية، وإقصاء المنافسين في الحكم، وتوسيع حصيلة أنصبتها في السلطة.
لكن السلطة كانت تعود للوراء.
كانت تغرق في العالم السعيد الإقطاعي، عالم القبائل المتصارعة، عالم شيوخ الدين الحالمين بسلطة مطلقة، عالم المناطق التي راحت ترفع رؤوسها مطالبة بالحكم الذاتي، عالم القبائل التي تعتبر أراضيها من سلطتها، فتعتدي على السياح وتتدخل في امتيازات النفط، وتلجأ إلى خطف البشر والمطالبة بفدى.
لقد عاد اليمن للوراء.


أخبار الخليج 8 نوفمبر 2008

اقرأ المزيد

توثيق التاريخ العمّالي‮ ‬والنقابي


بالرغم من المحاولات والجهود التي بذلت لتوثيق تاريخ الحركة العمالية والنقابية، هذا التاريخ الذي شهد منذ عقد الخمسينات تحديداً تحركات عمالية ونضالات مطلبية منظمة فإن رغم أهمية هذه المحاولات إلا انه لا يزال هناك الكثير من المحطات النضالية التي يجب تدوينها وتقييمها تقييماً يتسم بالمصداقية والحيادية والموضوعية حتى لا تغيب تلك المحطات والحقائق والأدوار فردية كانت أم جماعية.


إن النقابيين الأوائل وكل النشطاء لعبوا دوراً فعالاً في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة البحرينية وان هؤلاء الذين قدموا التضحيات الجسام وخاصة الذين مازالوا على قيد الحياة هم المعين والمرجعية لتوثيق هذا التاريخ المشرق، بمعنى لولا إرادة هؤلاء الصلدة التي تميزت بنكران الذات ولولا نضال سائر الكادحين ونشاط الحركة الوطنية والتقدمية والتضامن الاممي مع تنظيماتنا العمالية والنقابية السرية لما برز دور الطبقة العاملة البحرينية التي بالفعل كانت مسيرتها حافلة بالنضال من اجل تحقيق المطالب والحقوق العمالية والنقابية وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكافة العاملين والمستخدمين.


ومن المعروف ان هذا الدور ازداد عمقاً ووعياً عمالياً وخاصة عندما شكلت اللجنة التأسيسية للاتحاد العام للعمال والمستخدمين وأصحاب المهن الحرة عام “1972” وعلى اثر نهاية دور هذه اللجنة تصاعد نضال الطبقة العاملة الوطني والنقابي ولاسيما بعد تشكيل النقابات العمالية الأربع في ألبا، وإدارة الكهرباء، ووزارة الصحة، والبناء والمهن الإنشائية ومن هنا كانت الإضرابات العمالية السلمية التي انتشرت في مواقع عمل كثيرة تعبيراً سليماً عن مصالح الجماهير العاملة ومن هنا أيضا أدت لجنة التنسيق بين النقابات واللجان العمالية دوراً هاماً في قيادة النضالات العمالية والنقابية والكل يعلم انه في تلك المرحلة تعرضت الحركة العمالية والنقابية الى صعوبات كثيرة وفي مقدمتها حملات الاعتقالات التعسفية التي شملت الكثير من قيادات هذه الحركة والى جانب ذلك الفصل التعسفي ولا شك ان هناك صعوبات أخرى أرهقتها كالأخطاء الذاتية وعلى سبيل المثال حالة التفرد في اتخاذ القرارات!!


ويمكننا ان نلاحظ ذلك في مقالة كتبها النقابي البارز عباس عواجي في صفحة الملتقى بجريدة “الأيام” العدد “7131” تحت عنوان هشام الشهابي – اللجنة التأسيسية.
في هذه المقالة التي أبَّن فيها كلا من المناضلين جمال عمران واحمد الفاتح وهشام الشهابي تعرض إلى شيء من تاريخ الحركة العمالية في مرحلتي الستينيات والسبعينيات والأكثر تحديداً تعرض إلى النضالات العمالية والنقابية من اجل تطبيق قانون العمل لعام “1957” ومن المفاصل المهمة التي تعرض اليها أيضا الإضرابات العمالية مع بداية الستينيات وانتفاضة مارس “1965” ولكن الأهم من ذلك سلط الضوء على بعض السلبيات التي شهدتها هذه الحركة على الصعيد الذاتي وهذه حقيقة يجب الوقوف عندها.
يقول عواجي: عند تشكيل اللجنة التأسيسية كانت القرارات تؤخذ بشكل ديمقراطي ويغلب عليها الطابع الجماعي المتمثل في الاجتماعات المنتظمة مع دائرة العمل لشرح المطالب العمالية إلا أن في بداية عام (1972) حصلت انتكاسة في جسم اللجنة التأسيسية بداية لم نشعر بثقله وهو المتمثل في سفر علي الشيراوي لحضور المؤتمر الطلابي في دمشق والكويت وكذلك سفر هشام الشهابي لمواصلة الدراسة وان غياب الاثنين في الخارج جعل معظم القرارات تؤخذ بشكل فردي وتأتي في شكل قوالب جامدة يصعب مناقشتها او التعاطي معها مما اضعف القرار الجماعي وكثر التخبط في التخطيط للعمل النقابي هذا ما جعل الكثير من الكوادر العمالية تتلكأ في حضور الاجتماعات والأمر الآخر ومع سفر الشيراوي والشهابي مكن بعض العناصر غير المحسوبة على الفكر النقابي وهذا تسبب في اتخاذ قرارات فردية أضعفت الحركة العمالية تنظيمياً.
على العموم ما أشار إليه “عواجي” ليس إلا نموذجاً لأخطاء وقعت وهذا بالطبع يُثير تساؤلات ليس بهدف التشكيك وإنما بهدف الوقوف على السلبيات التي كانت تعاني منها الحركة العمالية.


الخلاصة، الجهود التي تبذل من قبل المنبر “التقدمي” و”وعد” من اجل توثيق تاريخ الحركة الوطنية والتقدمية والعمالية خطوة نأمل التجاوب معها وخصوصاً في المرحلة الأولى مرحلة جمع المعلومات والاهم ان هذه المعلومات ينبغي أن توثق بحيادية تامة بعيدة عن المبالغة والتشويه وبعيدة أيضا عن تجاهل دور الآخرين.


 
ألأيام 8 نوفمبر 2008

اقرأ المزيد

نقابة ألبا من العمال إلى العمال‮!!‬


تميزت انتخابات نقابة عمال ألبا بحدث فريد ليس فقط من حيث المشاركة الكبيرة للعمال، بل أيضا للدور البارز والفعال للعمال من حيث اختيار ممثليهم ووعيهم على أن العمل النقابي يجب أن يبقى ضمن إطار وقواعد ومبادئ المصلحة والحقوق العمالية، وان من يراهن على غير ذلك سيكون مصيره الفشل والعزلة في الوسط العمالي.


التجربة الانتخابية الأخيرة لنقابة عمال ألبا أثبتت وبوضوح أن الوعي العمالي والنقابي هي البوصلة الحقيقة لعمال ألبا في اختيار ممثليهم وان الإرادة العمالية هي القرار والمقياس الفاصل لصناديق الاقتراع، وان من راهن في تشويه هذا الوعي والإرادة العمالية بمحاولات يائسة بدفعها باتجاه مسالك طائفية تحت شعارات شكلية كان يسبح ضد التيار العمالي والمصلحة الحقيقية للعمال.


حقا ان الدور التي لعبته النقابة المنتخبة السابقة طوال فترة الثلاث سنوات السابقة والمعارك العمالية التي خاضتها بمشاركة العمال والتي تمخضت بتحقيق انجازات ومكاسب عمالية على الأرض من رفع الأجور وتحسين ظروف العمل والسلامة والصحة وغيرها من المكاسب العمالية، بل الأكثر من ذلك ولأول مرة في تاريخ الحركة العمالية البحرينية عبر تاريخ نضالها الطويل ان نقابة ألبا بقدرة قيادتها الشابة والمشاركة الفعلية للعمال أصبحت لها هيبتها الفعلية وقوتها المؤثرة والمستقلة، وان الأطراف الأخرى كإدارة الشركة لا يمكنها اتخاذ أي قرار يتعلق بمصالح العمال قبل الرجوع واستشارة النقابة في ذلك، وبات للنقابة كيانها المستقل وشخصيتها الاعتبارية وسمعتها الجيدة التي كسبتها من خلال المعارك المطلبية بأنها نقابة مدافعة عن العمال ليس فقط على مستوى شركة ألبا، بل على مستوى المجتمع البحريني.


ان الكثيرين ومنهم الطارئين على العمل العمالي والنقابي لم يدركوا هذه الحقيقة، “مع إننا نؤمن بان الساحة العمالية والعمل النقابي يتسع لجهود المخلصين من الذين يسعون من اجل تحقيق مكاسب مطلبيه للعمال ونقاباتهم مهما تعددت ألوان الطيف في رؤاهم وأفكارهم في ظل سقف الحريات التي وفرها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك”، حقيقة ان القضايا العمالية والنضال النقابي وتصاعد الحركة المطلبية وتحقيق انجازات ومكاسب للعمال لا يمكن ان يتم ويسير في مساره الصحيح ما لم يتأسس ويرتكز على أساس  وجود نقابة فاعلة على الأرض تتشكل من العمال أنفسهم ولديها قناعة تامة بمبدأ الدفاع عن العمال أيضا، ضمن رؤية ووعي واضح بمصالح العمال مهما تغيرت الأوضاع والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسة.


 نقابة ألبا استوعبت هذا الشرط ومارست دورها بمسؤولية وحرفية عالية بالرغم من التجربة النقابية القصيرة ومحدودية الإمكانيات والأدوات المتوفرة، إلا أن ذلك لم يمنعها من إتقان هذا الدور والمضي في مواجهة الصعاب والمهام من اجل جعل السفينة النقابية تبحر بسلام ونجاح.
المسألة الحيوية هنا بان النقابة وعمال ألبا لم يستجيبوا لكل المحاولات التشويهية والإضرار بسمعتهم وكذلك للسهام الطائفية والضغوطات الأخرى كل ذلك من اجل ثنيهم وتكسير شوكتهم الحماسية والتي لم نتلمسها بين شقيقاتها الأخرى من النقابات، بل استمروا في مواصلة وخوض المعارك المطلبية تلو الأخرى، مما اكسبها هيبة عمالية واسعة، والنتائج الانتخابية الأخيرة دليل ساطع على ذلك.


 
الأيام 7 نوفمبر 2008

 

اقرأ المزيد

خِلاسِيٌّ في البيت الأبيض !


ستظل الذاكرة البشرية تتذكر لفترة طويلة وصول أول ملون، خلاسي – من أصل كيني- لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية ، قلعة العنصرية الحصينة ورأس المنظومة الرأسمالية السائدة وأرض الفرص والتوقعات والأحلام! بدا السيد’أوباما’ وعقيلته السمراء، الهيفاء الجميلة فوق المنصة بعد إلقائه كلمة النصر التقليدية، كنيزكين جاءا من كوكب آخر ضمن مشهد أغرب من الخيال، لا يمكن تصديقه بسهولة.. ولكنها أميركا .. أرض العجائب والأحلام والمفارقات، حيث تعيش صفوة من أغنى أغنياء العالم في بحبوبة، مصابة بتخمة تتسبب تباعا في موجات من الفقاعات المالية، لا تلبث إلا وتنتشر كالنار في الهشيم في مختلف أرجاء المعمورة.. هذا مقابل أفقر الفقراء، الذين يمدون أياديهم المرتجفة -يوميا- في صناديق القمامة عسى أن يتزودوا بما قد يسد رمقهم!


لعل المثاليين ‘الفيثاغورثيين’، الملتهين بنظرية ‘النسق الرياضي’.. يتشدقون الآن فرحا وهم يرون صدقية ما يروجون له فيما يتعلق بالعلاقة العجيبة / الغيبية بين الأحداث التاريخية وتناسق الأرقام الحسابية.. فلابد أن يكون هناك سببا ما ، ليكون أول رئيس أميركي غير أبيض يحمل رقم الـ 44 ! على أية حال.. ليس هنا مجال الخوض في هذه الفرضية الفلسفية /العلمية (مقولة الصدفة والضرورة) الأكثر إشكالية وتعقيدا وغموضا من بين المقولات الرديفة الأخرى. ولكن الإشارة جاءت من باب غرائبية هذه الصدفة في المشهد الانتخابي الأميركي! فالحدث تاريخي بكل معنى الكلمة.. لقد كسرت أكثر المحرمات قدسية وقربا إلى قلب’العنصري’ الغربي الأبيض تجاه أخيه الإنسان، العنصر الملون القادم من الجنوب والشرق.. تلاشى الخوف وأصبح بمقدور الإنسان الأسود، الذي كان عبدا لسيده في الماضي ، أن ينتشي بما في طاقته من الزهو والفخر بهذا الانتصار الرمزي والمعنوي، مشاركا رفاقه المهمشين البيض والصفر والدكن ، دون أن يفيدهم هذا الحبور كثيرا على الصعيد المادي، من مغبة وضعهم المعيشي البائس، الأقل ضمانا وسلاما من أشقائهم الأوروبيين الغربيين بالرغم من جهدهم الإنتاجي والعملي المضاعف والمضني وادرارهم لمردود أكثر للقيمة الزائدة ، التي تذهب لخزينة القطط السمان


ارتأت أميركا – نخبا وشعبا- أن تغير لون رئيسها عبر ديمقراطيتها الأكثر بهرجة والأصخب كرنفالية، المعبرة عن المزاج الأميركي الجامح في مجتمع البذخ والاستهلاك المعاصرين. باتت هذه الانتخابات الأكثر كلفة وأحد أكثر الانتخابات حضورا وجدلا ومشاركة . فالمتنافسان لوحدهما قد صرفا مبلغا يفوق المليار دولار، عدا المصروفات الإجمالية التي كلفت المليارات، في وقت تجاوز فيه الدين العام العشرة تريليونات وعجز تجاري تجاوز أيضا التريليون الواحد. من هذه الزاوية يجب أن ننظر إلى السيرك الانتخابي الأميركي وكلمة السر/ المرور.. أضحت كلمة ‘التغيير’ هي العنوان الأبرز في هذه الحملة الانتخابية التي بدأت منذ بداية السنة وانتهت للتو.. صارت هذه الكلمة على كل لسان واستخدمت بحنكة ودهاء- قل نظيره- من قبل المتنافسين وخاصة المرشح الديمقراطي النحيل الطويل وحامل الاسم ذي الوقع السيكولوجي المدهش’ باراك أوباما’. لكن لابد من الملاحظة بإمعان أن مجيء أوباما نفسه كان النتيجة، أي أن انتصاره هو نتيجة لشعور التغيير الضروري لواقع حال، طال انتظاره في نسيج المجتمع الأميركي، الذي يرنو بالطبع، ولو في مخيلته وعقله الجمعي الباطن، لمجتمع أكثر عدلا وإنصافا وإنسانية. غير أن ‘المطبخ السياسي الرسمي’ للخبراء/الثعالب الكبار، المتسمون بقوة خارقة لتحويل الهزيمة إلى انتصار والضعف إلى قوة واستبدال الأبيض بالأسود ، قد نجح في عمله بامتياز عن طريق استثمار مشاعر وحاجة التغيير النابض في قلب المواطن الأميركي، بشكل يبدو فيه المجتمع الأميركي كما وكأنه قد تخلص إلى الأبد من العنصرية المقيتة ، متجسدا في وصول مواطن أسود لأول مرة في التاريخ الأميركي لأعلى منصب في المؤسسة الحاكمة، كدليل واضح – لا لبس فيه- على إمكانية وصول أي أميركي إلى غايته ( حسب ما قاله الرئيس القادم في إحدى خطبه الحماسية)! نعم لابد لأميركا الديناميكية من تغير ما، ولو في صورة رئيس أسود أو حتى امرأة بيضاء أو سوداء (فرصة قد تنفتح مستقبلا لكونداليزا رايس)، وإلا فإن الأمور تزيد من خطورتها إن ظلت الحال على حالها، حيث وصلت صورة أميركا الدولية إلى الحضيض في الفترة الأخيرة فلا بد من تغيير الصورة إذا.. لا بد من التخلص (التظاهر بذلك على الأقل) من شوائب الفكر العنصري المحافظ القديم والمعيق -داخليا وخارجيا- للمحافظة على الريادة الأميركية في العالم، فخبث الصفوة من الاستراتيجيين الأميركان عبارة عن تنازل في الظاهر واستمرارية في سياسة الهيمنة في الباطن.. ومن هنا جاءت ضرورة إعادة إنتاج الثقافة/السلعة الأكثر رواجا وتسويقا للمواطن الأميركي العادي المخدوع بجملة ‘المصلحة الوطنية العليا’. لابد من؛’استعادة صورة أميركا كآخر بقعة للأمل على الأرض’ (حسب ما قاله أوباما أيضا)! والشيء بالشيء يذكر.. في ظرف مئة عام لم يدخل مجلس الشيوخ إلا ثلاثة سود فقط ، ليجلسوا في مقاعد الشيوخ الوفيرة ويكونوا ضمن الصفوة. ولنا أن نتصور درجة الغبن والحسرة والألم لدى السود الأميركان الذين عانوا طويلا من المعاملة اللاإنسانية، التي لا تتغير كثيرا بالطبع الآن، ضمن نظام جوهره التمييز والاستغلال- بين ليلة وضحاها – فقط لأن خلاسي قد وصل إلى سدة الحكم في البيت الأبيض!

 
على أن هذه الحقائق المرة ، يجب أن لا تغفلنا عن إيجابيات، قد تكون في مصلحة دول العالم إن أعطت إدارة ‘أوباما’ على الصعيد الدولي، أولوية البحث الجدي عن علاقات من الشراكة والندية مع دول العالم من الشركاء والخصوم الكبار، خاصة روسيا من خلال ضرورة العمل المشترك لإزالة التوتر الدولي الحالي وحل بعض المشاكل المزمنة والمعلقة مثل مشكلة الشرق الأوسط (الخلاف العربي /الفلسطيني الإسرائيلي) وإيران والعراق وأفغانستان والقوقاز، بدل التفكير في استمرارية الهيمنة والعنجهية ولكن هذه المرة بقفازات ناعمة. من الممكن للإدارة الجديدة -إن شاءت- الاستفادة من الحماس والترحيب العاطفي المنقطع النظير من قبل الشارع العربي والإسلامي لفوز أوباما .. وفي هذا السياق فإن الأمر غير المفهوم أبدا هو إطلاق ‘سلطة غزة الحماسية’ 20 صاروخا إلى الجنوب الإسرائيلي في يوم فوز أوباما ! هل كانت عملية رمزية لاستقبال أو رسالة لأوباما أو عمل طائش لا طائل منه ؟! لا أحد يدري حتى الآن. تتلخص نقاط القوة والإيجابية لإدارة أوباما الجديدة على الصعيد الخارجي في توافر ظروف مواتية للبحث المشترك لإيجاد حلول ناجعة للأزمة المالية الحالية وإعادة الصدقية والصورة الحسنة لأميركا أمام العالم الخارجي . أما على الصعيد الداخلي فإن إعادة اللحمة الأميركية للمجتمع الأميركي المنقسم على نفسه سوف يأخذ الحيز الأكبر لدى الإدارة القادمة، بجانب المسائل الاجتماعية الأساسية، لعل أهمها الضمان الصحي إضافة إلى أولوية الشأن الاقتصادي، تحديدا المالي ، ضمن الأزمة المستفحلة الحالية وتأثيراتها على الطبقة الوسطى، عماد الاقتصاد الأميركي المعاصر لكن الأمر السلبي والمقلق هو ما جاء في خطاب ‘أوباما’ فيما يتعلق بالشأن الروسي، حين أشار إلى التعامل مع التحدي الروسي بحزم، أي العزم والرغبة الدفينة على استعادة الزعامة الأميركية للعالم وخاصة بعد حرب القوقاز وعدم الكف عن سياسة حصار روسيا والتمدد الأطلسي شرقا، الاستراتيجية الأكثر خطورة للعالم المعاصر. ومن هنا يبدو واضحا من أن أميركا كمؤسسة ونظام، وهو متربع على رأس القطب الواحد، لا تريد النزوح عنه. ولن تستسلم بسهولة للتسليم بالأمر الواقع من جراء الوضع الدولي الناشئ والتخلي عن الزعامة الوحيدة لعالم أحادي القطبية والقبول بالظروف المتحولة والجديدة للدخول إلى عالم متعدد الأقطاب، الأمر الذي قد يدخل العالم إلى مجابهات لا تحمد عقباها. والحقيقة أن التفاهم الأميركي الروسي المأمول في حالة توافره سيشكل حجر الزاوية للتعامل الجدي مع المشاكل العالمية وهذا لن يحدث بالطبع إلا بشرطين وهما؛ أولا: تغيير استراتيجي في السياسة الأميركية من المجابهة إلى الشراكة من الغطرسة إلى الواقعية مع روسيا والصين وغيرهما من أقطاب دول العالم خارج أوروبا. ثانيا: أن تلعب الدول الأوروبية الغربية، شركاء أميركا في ‘الناتو’، أدوارا أكثر استقلالية وأقل ذيلية.. وإلا فإن العالم سيأخذ شكلا آخر من الاستقطاب؛ حلف غربي ضد حلف شرقي .. حينئذ ستتحقق نبوءة الكاتب الإنجليزي الاستعماري’كيبلنغ’ صاحب مقولة ؛’ الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان’!
 
الوقت 8 نوفمبر 2008

اقرأ المزيد