المنشور

المسلسلات والصراعات

عبرت المسلسلاتُ المعروضة في شهر رمضان عن طبيعة الحياة العربية التقليدية المحدودة، وسيطرة القوى الشمولية المتخلفة على عقولها، حيث تعجز العقول الإبداعية العربية بضخامتها واتساعها عن خلق شيء مشترك سوى المسلسلات التي تتحد فيها، وتحدق عيون الملايين فيها، غير قادرةٍ على خلق شيء إبداعي آخر ذي قيمة، وعند العرب نتاج قصصي وروائي هائل. في البداية لابد أن نرى تلك القسمة بين الإنتاج المصري والإنتاج السوري اللذين تقاسما صنع هذه المسلسلات، بتفوق واضح للمسلسلات السورية في العدد ولكنها كانت ضعيفة في الرؤى الفكرية. ومهما كانت أفكار هذه المسلسلات للدولتين المتسيدتين على عرش الإنتاج، إلا أنهما كانتا متفوقتين في الإبداع الأدائي وكثرة الموهوبين من الفنانين في مختلف جوانب الإنتاج التلفزيوني هذا.
كانت المساحة المصرية للديمقراطية الأوسع تتيح عرض صراعات اجتماعية واسعة من دون خوف من الرقيب، ولهذا توجهت لقضايا سياسية واجتماعية ساخنة، فمسلسلات مثل (ناصر) و(الدالي) و(شرف فتح الباب)، و(في أيدٍ أمينة)، و(بعد الفراق) وغيرها، عرضت قضايا مفصلية في الحياة السياسية والاجتماعية العربية، فمسلسل الدالي بجزئه الثاني واصل الحفر في العائلة الرأسمالية الكبيرة، عائلة الدالي، وما تواجهه من هجوم أجنبي غربي لابتلاع مؤسساتها، ومن صراعات داخلية عائلية مختلفة وكثيرة، ويلعب الأب سعد الدالي الذي جسده الفنان الكبير نور الشريف، دور القيادة القوية في حسم هذه الصراعات لصالح العائلة والوطن. ويتمكن بذكائه وشجاعته وقوة شركاته من ضرب الخصوم الكثيرين الذين هاجموا أو حتى توغلوا داخل نسيج هذه العائلة. ولكنه يتجاوز القانون أحياناً ويصارع ورثة صديقه الراحل ثم يسلم بأمر القضاء، ولكنه يرتكب بعض الجرائم تجاه الشخص الذي تقدم للزواج من أرملة ابنه ويعرضه لتعذيب غير إنساني، ويعترف بأنه كان وحشاً. ومع هذا كله يقاوم من خلال شركاته بشكل وطني. يطرح المسلسلُ أسئلة عديدة حول رؤية الفنان نور الشريف الذي تجاوز هنا التعبير عن “الغلابة” والفقراء كما عُرف عنه ليطرح قضايا الرأسمالية الوطنية وليعرض الارستقراطية وعالم النخبة المرفهة، ولكن ذلك تم بشكل موضوعي، فلم يجعل نفسه وطبقته كاملة نقيتين، بل عرض إنجازاتهما وأخطاءهما وصراعاتهما والأهم من ذلك دورهما في بناء الإنتاج صناعة وثقافة. كذلك كان العرض الفني مبهرا، معتمدا على التشويق المتصاعد، وعرض شبكة واسعة من الشخصيات والأحداث في مواقعها، الملونة، المتعددة الأمكنة سواءً في مصر أم أوروبا، ويتجسدُ الأداءُ بشكلٍ متقن موجز كاشفاً تحولات الشخصيات نفسيا واجتماعيا. وكان مسلسل(شرف فتح الباب) الذي قام ببطولته الممثل الكبير يحيى الفخراني، هو الآخر يتسمُ بدراميةٍ عالية، ويدورُ حول قصةِ موظفٍ تقوم شركتهُ العامة بطردهِ معطية إياه بدلا ماليا هزيلا، في حين كان يصرفُ على عائلةٍ مكونة من خمسة أفراد، فيجدُ أن السرقةَ من هذه الشركة الحكومية التي سرقتهُ هي أفضل حلٍ لتحقيق العدالة. ويتمكن بالتعاون مع رئيسه في العمل من اختلاس مليونين من الجنيهات هي حصته من العملية ويقوم بوضعها في برميل المياه فوق سطح العمارة، بمساعدة أحد الشغيلة الذي يشك في هذا التخزين الغريب، ثم يكتشف السر مع تقديم شرف فتح الباب للمحاكمة. وبدا كأن المسلسل قد وصل إلى طريق مسدود بوضع شرف الباب في السجن، ولكن المؤلفَ يخرجهُ بريئاً بعد ضبط رئيسه في عملية فساد كبرى، ليقوم شرف الباب بإظهار النقود بشكل سري من الخزان المائي، ولكن عائلته التي اعتبرته مثال الأمانة والشرف تشم رائحة فساد داخلية خطرة، فتتصاعد مقاومتها حتى تحرق النقود وليودع شرف الباب مرة أخرى في السجن ويظهر ثانية وقد صار متسولاً مجنوناً. والمسلسل يقوم بفبركة ميلودرامية ليظهر أخلاقية العائلة في حين إن الواقع أقسى من ذلك. لكن المسلسل ذا الطابع الديني عكس خوف الناس من انتشار الفساد المالي ومن سوء القطاعات العامة وإداراتها ومن معاناة الفقراء الذين لا تتغير معيشتهم سوى باللحاق بركب الفساد. في حين كان المسلسلان الآخران(في أيدٍ أمنية) و(بعد الفراق) أقل من السابقين كثيراً، ولم يطرحا القضايا الاجتماعية بعمق. أما المسلسلات السورية فهي تعجز عن نقد الواقع السوري وما يجري فيه من فساد، فتلجأ إلى الهروب نحو التاريخ، فكانت أغلب المسلسلات السورية تاريخية، كمسلسل (ابوجعفر المنصور) و(المرابطون والأندلس) و(عنترة) وغيرها أما المسلسلات المعاصرة فيغلب عليها الطابع الرومانسي الأدبي كمسلسل(رائحة المطر) الذي توجه لعرض أدبي جمالي للأحداث والشخصيات بطريقة بطيئة ليست فيها علاقات وطيدة قوية بالحياة وصراعاتها، في حين كان مسلسل(فسحة سماوية) أكثر ارتباطاً بالحياة من خلال عرض نماذج شعبية تسكن في فندق صغير مشترك، العديد منه يقاوم الرشوة في جهاز الدولة من دون أن يفلح في صنع شيء، لكنهم يعيشون حيواتهم الصعبة المتنوعة ويناضلون بما يستطيعون عليه. المسلسل يتشكل بطريقة درامية متوترة متصاعدة بعكس الجمود في مسلسل (رائحة المطر) المكون من قصص قصيرة منفصلة. وكمثال على المسلسلات السورية التاريخية فإن مسلسل (أبوجعفر المنصور) هو قمة هذه المسلسلات، فهو ضخم، حيث ان الإنتاج قطري، وتشترك فيه مجموعات كبيرة من الممثلين، ويسجل جملة حروب وصراعات سياسية في نهاية الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية. ويتوجه المسلسل للتسجيل المطول لأحداث تمتد من زمن عمر بن عبدالعزيز مروراً بهشام بن عبدالملك وغيرهما من خلفاء بني أمية، حتى يستقر عند مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة، ويتابع نشأة ابي جعفر المنصور منذ أن كان فتى حتى شب وصار رجلاً، ويعرض الأحداث في فارس وصراعات أبي مسلم الخراساني ونصر بن سيار وغيرهما من قادة إقليم خراسان وغير هذا كثير من الصراعات الجانبية والقصص العرضية، فكأن المؤلف – المخرج يقدمان كتابا مدرسيا عن الفترة المذكورة بكل صغائرها، لا أن يقدما مسلسلا فنيا يعرضُ بشكلٍ عميق لشخصية المنصور المركبة، وتناقضاته الكثيرة، من بخله الشديد وعنفه وشدته على أئمة العصر، وترفيعه للتافهين والقادة الباطشين وتنكرهِ للقائد المضحي في سبيل الدولة أبي مسلم الخراساني، إلى حدة ذكائه السياسي، وبنائه الدقيق للدولة. لقد أخذ أبوجعفر المنصور بضع حلقات أيام نضجه في حين كانت أغلب الحلقات تدور عن غيره، ويعبر ذلك عن عدم وجود تحليل عميق لتاريخ نشوء الدولة العباسية ولشخصية المنصور المهمة في هذا المسلسل الضخم. أما مسلسل(ناصر) الذي عُرض في قناة مصرية وحيدة فهو يصور حياة الرئيس جمال عبدالناصر وقيادته للثورة، وهو مسلسلٌ ضخم مشوق ودرامي حقيقي ومن دون تزويق سياسي، يعتمد على التسجيل عائليا وسياسيا، ويفتقد معالجة جديدة لقضية تلك الفترة، ورغم أهمية المسلسل فإن المحطات الفضائية العربية تآمرت على منعه.
 
صحيفة اخبار الخليج
8 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

من الذي‮ ‬كتب التاريخ؟‮!‬

ثمة رواية جميلة اسمها‮ »‬تاريخ حصار لشبونة‮« ‬لكاتب اسمه خوسيه سارماجو ترجمها إلى العربية أ‮. ‬سيد عبد الخالق‮. ‬تدور أحداثها حول مصحح بروفات،‮ ‬أو من نسميه بالمدقق اللغوي،‮ ‬يخترق المألوف،‮ ‬فيقوم بتعديل حادثة من حوادث التاريخ في‮ ‬كتابٍ‮ ‬يُصححهُ‮ ‬بعنوان‮ »‬تاريخ حصار لشبونة‮«‬،‮ ‬إذ‮ ‬يقرر وفقاً‮ ‬لترتيب الأحداث وطبيعتها وقراءته الخاصة لها،‮ ‬ان الصليبيين لم‮ ‬يساعدوا البرتغاليين في‮ ‬احتلال لشبونة واستردادها من أيدي‮ ‬المسلمين المغاربة في‮ ‬النصف الثاني‮ ‬من القرن الثاني‮ ‬عشر‮.‬ ‮ ‬بينما‮ ‬يؤكد الكتاب الذي‮ ‬يقوم بتصحيح بروفاته وكذلك عدد كبير من المراجع المشابهة مساعدة الصليبيين للبرتغال،‮ ‬فما كان منه إلا أن أضاف كلمة‮ »‬لم‮« ‬قبل الفعل‮ »‬يساعد‮«‬،‮ ‬وبهذا انعكست الآية‮.‬ ولما اكتشف الناشرون هذا التغيير الذي‮ ‬مر بسلام،‮ ‬رغم أنه قلب الحقائق رأساً‮ ‬على عقب،‮ ‬اقترحت عليه إحدى المسؤولات عن النشر أن‮ ‬يواصل كتابة تاريخ الحصار من الزاوية التي‮ ‬بدأ بها،‮ ‬ومن هنا‮ ‬يُشرع المدقق اللغوي‮ ‬في‮ ‬كتابة تاريخ البرتغال كله من جديد وفق رؤيته بدءاً‮ ‬من حصار لشبونة،‮ ‬ليبدأ هذا التاريخ بكلمة‮ »‬لم‮« ‬النافية التي‮ ‬أضافها عندما كان‮ ‬يصحح البروفات‮.‬ يقول الكاتب إن خطأ مطبعياً‮ ‬واحداً‮ ‬قد‮ ‬يغيّر من وجه التاريخ كله،‮ ‬وهذا ما فعله هو شخصياً‮ ‬بسابق الإصرار والترصد في‮ ‬هذه الرواية،‮ ‬ليستفزنا على طرح السؤال الذي‮ ‬لا مناص منه‮: ‬مَن الذي‮ ‬كتب التاريخ الذي‮ ‬درسناه وندرسه،‮ ‬وإلى أي‮ ‬مدى‮ ‬يمكن أن نثق بأن هذا التاريخ هو حقاً‮ ‬تأريخ لما جرى قبل عقود أو قبل قرون‮.‬ وكم مَن هم على شاكلة المدقق اللغوي‮ ‬الذين قرروا أن‮ ‬يكتبوا تاريخاً‮ ‬يتسق وهواهم،‮ ‬فأضافوا إليه‮ »‬لا‮« ‬النافية حين أرادوا،‮ ‬أو حذفوا لاءات‮ »‬مثلها‮« ‬في‮ ‬أمكنة ووقائع أخرى من دون أن‮ ‬يلتفت إليهم أحد أو‮ ‬يعترض عليهم،‮ ‬تماماً‮ ‬كما حدث مع صاحبنا المدقق الذي‮ ‬صنع تاريخاً‮ ‬مغايراً‮ ‬من دون أن‮ ‬يجد من‮ ‬يقول له إن هذا‮ ‬غير صحيح،‮ ‬وإن الأمور لم تسر كما رواها هو،‮ ‬لأن الناس مشغولة عن التاريخ بقضايا الحاضر،‮ ‬أو لعلها مشغولة بأمور أخرى أقل أو أكثر أهمية من تلك الأمور التي‮ ‬نطلق عليها قضايا‮.‬ إن الأمر‮ ‬يكمن قبل كل شيء في‮ ‬السؤال المهم‮: ‬إلى أي‮ ‬مدى‮ ‬يجدر بنا الوثوق في‮ ‬الأشخاص حين‮ ‬يعالجون أحداثاً‮ ‬مجهولة أو‮ ‬يتعاملون مع الفراغات،‮ ‬أو تلك المناطق التي‮ ‬يطلق عليها في‮ ‬اللغة الروسية اسم البقع البيضاء في‮ ‬التاريخ،‮ ‬التي‮ ‬يتعين ملؤها بوقائع،‮ ‬مما‮ ‬يطرح مسألة أخلاقية على قدر كبير من التعقيد‮: ‬من له الحق في‮ ‬ملء هذه البقع بالوقائع،‮ ‬ومن الذي‮ ‬يقرر أن هذه‮ »‬الوقائع‮« ‬قد وقعت فعلاً،‮ ‬في‮ ‬حين أنها قد لا تعدو كونها تخيلات أو تخمينات أو استنتاجات‮ ‬يغلب عليها ما هو ذاتي‮.‬ ‮ ‬لعل التاريخ الحقيقي‮ ‬يقع في‮ ‬منطقة أخرى مجهولة لا نعرفها،‮ ‬وأن ما نسميه تاريخاً‮ ‬ليس هو بالضرورة كذلك،‮ ‬وأنه قد لا‮ ‬يعدو كونه اجتهاد فرد أو أفراد،‮ ‬مثل المدقق اللغوي‮ ‬في‮ ‬الرواية المذكورة،‮ ‬صاغوا لنا الأحداث وطلبوا منا أن نصدقها‮.‬
 
صحيفة الايام
8 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (5 – 5)

وجدت القوى السياسية السورية المعارضة الموجودة خارج السلطة ان مواقفها تتقارب لزحزحة حزب البعث عن احتكار السلطة المكرسة منذ سنة .1963 وليس شيئاً غريباً أن يتصدر ذلك حزب الاخوان المسلمين السوريين، فطابع النظام الذي اتجه لاستخدام المذهبية السياسية ووسع التحالف العلوي – الشيعي، وغذى الأدبيات والتجمعات العبادية المذهبية وتكرس ذلك بربط نفسه بقوى سياسية واسعة من إيران مروراً بالعراق حتى لبنان، فأثار النسيج الطائفي الذي كان يتمزق خلال هذه العقود في المجتمع السوري. وللمجتمع السوري تقاليد قوية متجذرة في هيمنة (المذهب) السني عبر القرون، فالطوائفُ الأخرى تسكنُ المناطقَ الجبلية وبعض الأرياف في حين تسودُ المدنَ والبراري الطائفة السنية. وقد عمل الانتدابُ الفرنسي على تكريس الأقليات المذهبية في الجيش خاصة، وتنامى هذا مع حكم البعث، فأدت الأزمةُ الاقتصاديةُ إلى استرجاع صراع الطوائف القديم، ولكن في ظروف سياسية وعسكرية معاكسة للأغلبية المذهبية. فغدا المذهب السني أداةً كبيرة لزحزحة الشمولية.
فقامت الحكوماتُ البعثية المتساقطة بتكريس الصراع المذهبي للحيلولة دون الاستحقاقات الديمقراطية المنتظرة، وقامت بحصر الاخوان وعزلهم، كقوة سياسية معبرة عن جسم مهم من الأغلبية، مثيرةً المخاوف منها. لكن جماعة الاخوان كانت لديها تقلبات خطرة هي الأخرى فقد تحالفت مع النظام العراقي في عهد صدام، ووظفها ذلك النظامُ في الصراع مع سوريا، كما يقول الباحث المصري وحيد عبدالمجيد في مقالته «الإسلام السياسي بين مصر وسوريا« في الأهرام، وبالتالي يغدو توجهها نحو الديمقراطية محفوفاً بأسئلةٍ كثيرة، كذلك هناك جماعات متقاربة معها تكرس الصراعات المذهبية. إضافة إلى أن قوى المعارضة البعثية والقومية والشيوعية كبيرة في سوريا، وإن كانت روابطها العلنية محدودة مع الجمهور في حين يتحرك الاخوان في مؤسسات العبادة، ولهذا لم تستطع القوى التحديثية أن تمنع توسع الصراع المذهبي. وهكذا تشكل الصراعُ السني – العلوي في سوريا بعد قرن من القومية والعلمانية. إن عملية تجمع المعارضة احتاجت إلى بضع سنوات لكي تتشكل، فصاغت جماعةُ الاخوان ميثاق الشرف ودعت إلى مؤتمر في لندن، الذي انعقد في أغسطس 2002، وحضرته معظم قوى المعارضة، وتم اعتماد ميثاق الشرف الوطني، الذي يعمل لإنهاء حكم الحزب الواحد وقيام نظام التعددية الحزبية في سوريا. ويتصور الباحثُ عبدالمجيد في مقالته السابقة الذكر أن الاخوان في سوريا مختلفون عن الاخوان في مصر، «تعلم اخوانُ سوريا، بخلافِ نظرائهم في مصر، إعمال العقل سعياً للتجديد استجابة للتحديات التي تواجههم، وكان أبرز مثال على ذلك الاجتهاد المميز الذي قدمه المراقبُ العامُ للإخوان في سوريا مصطفى السباعي في مسألةِ النظامِ الاقتصادي – الاجتماعي في الخمسينيات إذ طرح رؤية اجتماعية تنحو نحو اليسار«، ويضيف الأستاذ عبدالمجيد «وكان هذا واضحاً في كتاب السباعي عن الاشتراكية في الإسلام«، (الأهرام: 29/10/2007). لقد قلنا كيف ان الاخوان السوريين وقفوا مع الإقطاع، ورفضوا قانون عبدالناصر المحدود، وإضافةً إلى هذا ولحد الآن لم يعترف الاخوان السوريون بالعلمانية كشكل لنظام الحكم، ومن دون التداخل الوثيق بين العلمانية والديمقراطية والوطنية، فإن الوعي السياسي يظلُ مذهبيا ويكرسُ التمزقَ الوطني، وتحطيم مكونات الدولة، أي يتم بقاء التنظيم في دائرة الإقطاع الديني، ولم يتحول إلى فصيل برجوازي ديمقراطي كما يُفترض أن يكون، وإذا تحول إلى ذلك فإن تسميته كتنظيم مذهبي تـُلغى، ولا يصبح تجمعاً للمسلمين من طائفةٍ واحدة، فيحددُ توجهَهُ الاجتماعي بوضوح بدلاً من التمثيل الفضفاض للشعب والأمة الإسلامية كلها. وهو إذ لم يفعل ذلك فهو يريدُ الاستفادةَ من الصراع المذهبي المتفاقم لمصلحة سيطرته السياسية، وحين تحدث السيطرة السياسية تتبدل المواقف، ويكون للسلطة مذاقها الحلو المختلف عن المنافي والسجون. وهذه الضبابية التي تحدث للفصائل السياسية حتى الوطنية والتقدمية منها بسبب عدم تجذرها في النضال الشعبي، وعدم معرفتها بالأنظمة التاريخية، فالمرحلة الحالية المتحولة من بُنية الإقطاع إلى الرأسمالية لها قوانين، بظهور برجوازية خاصة صناعية، وطبقة عاملة صناعية، تعيدان تشكيل المجتمع التقليدي عبر تطور الصناعة، بتحرير الفوائض من البذخ وتحرير القوى المغيبة عن التصنيع كالفلاحين والنساء، وتحرير العقل عن الخرافات، وتحرير الدين من سيطرة الإقطاع. ويمر المجتمعُ السوري بمرحلة متوترة في خروجه الحثيث من النظام التقليدي فقد ظهرت برجوازيتان مسيطرتان على الفوائض الاقتصادية، عامة وخاصة، ولهما نسيج مشترك متداخل، والتصنيع في مرحلة مهمة وشائكة، ومن دون دولة وطنية وأحزاب وطنية ديمقراطية فإن الكثير من المكاسب قد يضيع في أتون صراع بلا فائدة. وكما يبدو من احتمالات التطور في مجتمعات رأسماليات الدولة الشرقية كروسيا وإيران فإن مركز القرار سيكون في يد الدولة وجيشها وهي التي تصنع القيادات المحركة للتطور باتجاه مصالحها ومصالح تطور اقتصادها، وهي تقوم بتحسين ذلك على الدوام مصطدمة بعقبات التطور الموضوعية كالمركزية الشديدة وضعف الإنتاج والتمويل وهي تقوم بتغييرات جزئية في هذا الشأن، ولهذا ستكون الدولة هي اللاعب الرئيسي باستمرار، في حالة أحزاب طائفية أو علمانية محدودة التأثير، لأن الناس تخشى من القوى المذهبية السياسية وهي التي لا تتحد من أجلها وتريد قوة وطنية ديمقراطية موحدة للشعب، ووقتذاك يكون التغيير، أما الآن وفي خضم الكيانات المذهبية والعلمانية النخبوية فإن التغيير ينبع من الحكومة، وإذا ارتفعت الجماعات المذهبية إلى أفق العلمانية والديمقراطية والوطنية والعقلانية فإن مناخا فكريا جديدا سوف يتشكل عند الناس، ويؤدي إلى تغيير سياسي، لأن العلوي لا يخشى السني بل يتحد معه من أجل مصالحهما الواحدة، وهذا يحتاج إلى وقت، وقوى طليعية تخلق هذه الثقافة المشتركة، في زمن تعملُ فيه القوى المستفيدة من التمزقات من أجل استمرار الفرقة والتطاحن. إن الشعب يخشى المغامرة ولا يراهن على قوى مذهبية، ويجد ان حياته في ظل البعث رغم فساده أفضل من نظام لا يعرف ماذا سوف يكون وأي احتمالات رهيبة قد يجر الناس إليها، ولهذا فعلى المناضلين من أجل الديمقراطية أن يبدأوا بأنفسهم.
 
صحيفة اخبار الخليج
7 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الموقف العربي‮ ‬من العراق

حتى أمدٍ‮ ‬قريب جداً‮ ‬تعاطتْ‮ ‬الدبلوماسية العربية بصورة سلبية مع العراق الراهن،‮ ‬من منطلقات واعتبارات مختلفة،‮ ‬بينها خشية أنظمة عربية من أن تؤدي‮ ‬المساعدة في‮ ‬استقرار الوضع السياسي‮ ‬في‮ ‬هذا البلد إلى تمكين القوى الجديدة التي‮ ‬صعدت إلى صدارة المشهد السياسي‮ ‬هناك،‮ ‬بعد الاحتلال الأمريكي‮ ‬وسقوط النظام السابق‮.‬ بعض النظام الرسمي‮ ‬العربي‮ ‬وثيق الصلة بالولايات المتحدة الأمريكية التي‮ ‬احتلت قواتها العراق،‮ ‬رأى مصلحةً‮ ‬له في‮ ‬عدم المساعدة على تثبيت الوضع الجديد الناشئ هناك،‮ ‬حتى تغرق واشنطن في‮ ‬الرمال المتحركة في‮ ‬العراق،‮ ‬فلا‮ ‬يعود بوسعها ممارسة ضغوط على أنظمة عربية أخرى حليفة لها في‮ ‬الجوهر،‮ ‬ولكن واشنطن،‮ ‬من حيث الشكل،‮ ‬تُطالبها بإدخال تعديلات على سياساتها‮.‬ لسان حال النظام الرسمي‮ ‬العربي‮ ‬يكاد‮ ‬يقول‮: ‬كلما تورطتْ‮ ‬واشنطن في‮ ‬المستنقع العراقي،‮ ‬أمكن تفادي‮ ‬ضغوط متوقعة منها على بلدان أخرى‮.‬ الممثل الدائم السابق لجامعة الدول العربية في‮ ‬بغداد قدم استقالته احتجاجاً‮ ‬على عدم وجود رؤية للجامعة تجاه راهن ومستقبل الوضع هناك‮. ‬ولا‮ ‬يمكن للجامعة العربية أن تُلام على‮ ‬غياب مثل هذه الرؤية،‮ ‬إذا تذكرنا أنه ليس في‮ ‬وسع الجامعة أن ترسم سياسة ما إزاء قضية بهذه الخطورة بمعزل عن رغبة وإرادة الدول العربية المحورية التي‮ ‬صنعت وتصنع سياسة الجامعة‮.‬ لكن سرعان ما اتضح أن موقف الدبلوماسية العربية‮ ‬يفتقد للبصيرة،‮ ‬فليس العراقيون وحدهم من‮ ‬يتضرر من عدم الاستقرار السياسي‮ ‬والأمني‮ ‬في‮ ‬بلادهم،‮ ‬وإنما بقية الدول العربية،‮ ‬خاصة منها تلك التي‮ ‬تملك حدوداً‮ ‬مشتركة مع العراق،‮ ‬فـ‮ »‬صناعة‮« ‬الإرهاب في‮ ‬العراق،‮ ‬وفي‮ ‬بعض الحالات تصدير أشكال منه إلى أراضيه عبر الحدود،‮ ‬لا‮ ‬يمكن إلا أن ترتد بنتائجها على المحيط الإقليمي،‮ ‬العربي‮ ‬منه خاصة‮.‬ بعض المحللين والمراقبين‮ ‬يتحدثون اليوم عن ظاهرة اسمها‮ »‬العائدون من العراق‮«‬،‮ ‬على طريقة‮ »‬العائدين من أفغانستان‮«‬،‮ ‬بعد خروج القوات السوفياتية من هناك،‮ ‬فكما شكل هؤلاء خطراً‮ ‬على أمن بلدان المصدر التي‮ ‬أتوا منها،‮ ‬بعد عودتهم،‮ ‬فإن نظراءهم،‮ ‬وقد‮ ‬يكونون هم أنفسهم،‮ ‬من العائدين من العراق بعد التحسن النسبي‮ ‬في‮ ‬الوضع الأمني‮ ‬هناك،‮ ‬باتوا‮ ‬يُشكلون مصدر خطر جديد على أمن بلدانهم‮.‬ وهناك من‮ ‬يعزو بعض العمليات الإرهابية في‮ ‬كل من سوريا وشمالي‮ ‬لبنان واليمن إلى بعض هؤلاء العائدين الباحثين عن دور لهم‮.‬ هناك بوادر تغيير في‮ ‬الدبلوماسية العربية،‮ ‬أو بعضها على الأقل،‮ ‬تمثلت في‮ ‬الزيارة التي‮ ‬قام بها وزير الخارجية المصري‮ ‬إلى بغداد مؤخراً،‮ ‬والتي‮ ‬سيسفر عنها إعادة فتح السفارة المصرية هناك،‮ ‬وهو أمر كانت البحرين قد فعلته مبكراً،‮ ‬رغم أن خروج القائم بالأعمال البحريني‮ ‬هناك منذ سنوات حدث بعد إصابته في‮ ‬عمل إرهابي‮.‬ بعيداً‮ ‬عن الرغبات الدولية،‮ ‬والأمريكية منها خاصة،‮ ‬فان من مصلحة النظام الرسمي‮ ‬العربي‮ ‬العمل على الاستقرار الأمني‮ ‬والسياسي‮ ‬في‮ ‬العراق،‮ ‬بما‮ ‬يخلق أرضيةً‮ ‬أكثر مؤاتاة لسحب قوات الاحتلال الأمريكي،‮ ‬وتمكين العملية السياسية في‮ ‬البلد من أن تتطور بصورة سلسة،‮ ‬بما‮ ‬يعود بنتائج ايجابية على استقرار المنطقة كلها،‮ ‬وبما‮ ‬يضمن للعراق تواصله مع عمقه العربي،‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن تصور مستقبل العراق بدونه‮.‬
 
صحيفة الايام
7 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الأفغو‮ – ‬باكستان والحرب الطويلة على الإرهاب

كان من الضروري‮ ‬أن نحيك عنواناً‮ ‬من نسيج مركب،‮ ‬باعتبار أن خزان الإرهاب متمحور في‮ ‬مناطق حدودية مشتركة،‮ ‬حيث التضاريس وعِرة والحكومة المركزية ضعيفة والقيم والتقاليد القبلية مفعمة بروح الالتزامات الأخلاقية والدينية والعشائرية،‮ ‬فإذا ما التزمت القبائل باحتضان الهاربين تحت حجة لواء دفاعهم عن الإسلام والوطن إزاء عدو‮ ‬غريب وأجنبي‮ ‬وكافر ومنحتهم حمايتها القبلية،‮ ‬فإن مهمات الحكومتين المركزيتين في‮ ‬كابول وإسلام آباد تصبح معقدة،‮ ‬إذ تتحول الحرب بجبهات متعددة الوجوه أخلاقية ودينية وسياسية وعقائدية‮.‬
‮ ‬وإذا ما ضربت أطنابها في‮ ‬عقول مجتمعات أمية ونصف أمية،‮ ‬تصبح المسألة أكثر تعقيداً‮. ‬في‮ ‬هذه التربة،‮ ‬الأفغو ـ باكستانية عند نقطة الحدود المشتركة التاريخية،‮ ‬بالضرورة تكون الحرب على الإرهاب طويلة الأمد بعض الشيء وقد تكون اقصر إذا ما عززت الحكومتان من تعاونهما ونجحتا في‮ ‬القبض على ‮٣ ‬شخصيات محورية هم الملا عمر وأيمن الظواهري‮ ‬وأسامة بن لادن،‮ ‬فبعدها تصاب الحركات والتنظيمات المتشددة بنوع من الإحباط العميق داخلها وتتشظى،‮ ‬بحيث تصبح مجرد حلقات متناثرة تعيش على مجد قيم قيادة معنوية وسياسية قد رحلت،‮ ‬وعناصر نائمة وحلقات تقطعت بها السبل بلا جغرافيا وطوبوغرافيا قتالية محكمة ولا دعم مالي‮ ‬منتظم كالسابق من مصادر ثرية تقتات على النفط‮. ‬وإذا ما تم حصار وهزيمة الإرهاب في‮ ‬ذلك الخزان الحدودي‮ ‬ـ الثنائي‮ ‬ـ جغرافيا وسياسيا،‮ ‬فإن الانعكاسات السلبية ستلحق على المراكز البعيدة في‮ ‬كل نقاط ارتكاز حيوية في‮ ‬العالم الإسلامي‮ ‬والعربي،‮ ‬إذ من المعروف ان الحركات السياسية المنظمة لا‮ ‬يمكنها النجاح والانتصار بدون مركز قيادي‮ ‬موحد‮ ‬يمتلك جغرافيا‮ ‬يعيش فيها كمرتكزات مهمة،‮ ‬وما‮ ‬يقوم به حاليا أيمن الظواهري‮ ‬وبن لادن ليس إلا تعليمات وإشارات تصل بعضها متأخرة أو لا‮ ‬يمكنها أن تحقق انتصارات استراتيجية بتحويل العالم وفق مشيئتها وإسقاط النظام الرأسمالي‮ ‬في‮ ‬الألفية الثالثة بمجرد خطب عصماء وتعليمات ووصايا تنطلق عبر إعلام‮ ‬يتصيد خطاها مقابل تحولها إلى محطات تبليغ‮ ‬وتحذير،‮ ‬فيما تحول الملا عمر إلى مشاكس‮ ‬يمارس الكر والفر مع دولة ومجتمع مازال في‮ ‬طور التشكل بعد صراع مفتت الأوصال منذ حكومات أمراء الحرب ونهايتها كانت حكومة طالبان المقبورة‮. ‬وكلما تعاظم وقوي‮ ‬دور الحكومة المركزية في‮ ‬كابول‮.‬
فان القسم الجنوبي‮ ‬من أفغانستان سيضعف بالتدريج،‮ ‬ويزداد ذلك الضعف كلما كنست الحكومة الباكستانية وقواتها العسكرية الحدود المشتركة بينهما،‮ ‬إذ تحاصر‮ »‬كماشة‮« ‬حركة طالبان الأفغانية والباكستانية وتنظيم القاعدة في‮ ‬ذلك المربع الجبلي‮. ‬ما تحتاجه أفغانستان وباكستان ليس بناء قدرتهما العسكرية،‮ ‬وإنما اختراق جبهة الاتصالات السرية لتلك التنظيمات،‮ ‬ليس عبر الفضاء وحده،‮ ‬وإنما ببناء قوة فدائية مقاتلة بنفس النهج وقوة استخباراتية قادرة على اختراق مناطق جبلية ما تزال تعتقد اعتقادا‮ ‬يقينيا أنها تقاتل العدو الأجنبي‮ ‬الغازي‮.‬
وهي‮ ‬فكرة زرعتها ووظفتها القوى الثلاث الرئيسية المتعاونة،‮ ‬وقد ساعدتها الأخطاء الفاحشة التي‮ ‬ترتكبها قوات الناتو في‮ ‬طريقة ضربها للمدنيين بحثاً‮ ‬عن عناصر تنظيم القاعدة وطالبان الأفغانية والباكستانية‮. ‬ولا‮ ‬يمكن من الفضاء اجتثاث حلقات سرية تعمل في‮ ‬الأرض وبين جماعات بشرية تحتضنها بل وتؤمن بها‮. ‬لهذا ستكون على باكستان وحكومتها الجديدة،‮ ‬أن تعزل تلك الحركات المختفية خلف رداء الإسلام بين تلك القبائل،‮ ‬وإفشال دعايتها في‮ ‬إقناع القبائل بأنها وراء كل ما تسببه لهم من مصائب،‮ ‬وفي‮ ‬ذات الوقت إقناع رجل الشارع الباكستاني،‮ ‬عن أنها لا تتفق مع كل أفعال حليفها وتدخلاته في‮ ‬شؤونها وخرقها لسيادتها الوطنية،‮ ‬لتضيف تلك السياسة لحكومة زرداري‮ ‬هيبة وهالة احترام لمن انتخبها ومن لم‮ ‬ينتخبها أيضا،‮ ‬بحيث تترك الفضاء الأفغاني‮ ‬إلى قوات حلف الناتو كون القوى العسكرية الأفغانية هي‮ ‬الحلقة الأضعف،‮ ‬فيما تواصل القوات العسكرية الباكستانية مهماتها بمخطط طويل الأمد لاجتثاث كل ذلك الخزان‮. ‬ما صدر مؤخرا عن ان القوات الباكستانية قتلت ألف مسلح خلال شهر،‮ ‬ربما جاء متأخرا بعد كارثة فندق ماريوت،‮ ‬لإقناع الناس‮.‬
‮ ‬بأن حكومة آصف زرداري‮ ‬خلال تسلمها الحكم هذه المدة القياسية قد أنجزت تقدما في‮ ‬ضرب الحركات الإرهابية حسبما أشار طارق خان المفتش العام للقوات شبه العسكرية الباكستانية المسؤولة عن أمن الحدود مع أفغانستان‮. ‬نتذكر خطاب الرئيس بوش بعد ضرب البرجين واتخاذ قرار حازم بضرب وإسقاط حكومة طالبان فوراً،‮ ‬عن ان الحرب على الإرهاب قد تستغرق ‮٥١ ‬عاماً،‮ ‬فيما نرى اليوم‮ ‬يقال لنا انها حرب طويلة،‮ ‬فقد باتت ملاحقة العناصر الإرهابية مستقبلا ربما تستغرق وقتا أطول حتى مع رحيل قياداته التاريخية،‮ ‬فالتطرف الجديد الحالي‮ ‬يستمد قوته ومرتكزاته من تربة عقائدية‮. ‬لهذا جبهات القتال مع الإرهاب،‮ ‬ستكون متمحورة في‮ ‬الوقت الحالي‮ ‬في‮ ‬مناطق مهمة،‮ ‬بدت أمكنة هشة أمنيا،‮ ‬كالعراق واليمن والصومال وموريتانيا والجزائر،‮ ‬تميزت بعضها بعصبيات دينية وفقر شديد وأميّة ثقافية وبأطراف طبوغرافية معقدة،‮ ‬غير أنها قادرة في‮ ‬نهاية المطاف،‮ ‬وبسياسات محكمة‮.‬
‮ ‬تطويق تلك القوى الإرهابية‮. ‬من تابع طوال هذه الفترة الأعمال الإرهابية،‮ ‬سيجد أن الأمكنة الأسهل اختراقاً‮ ‬هي‮ ‬الفنادق ذات الـ ‮٥ ‬نجوم والمنتجعات السياحية،‮ ‬والتي‮ ‬تعرضت في‮ ‬أمكنة عديدة لتفجيرات مروعة‮. ‬ولن تجدي‮ ‬التصريحات العنترية،‮ ‬بل والتضليل الإعلامي‮ ‬لتبرير الإهمال والاختراق السهل كلما واجهت حكومات أزمتها الأمنية،‮ ‬حيث شراء ذمم رجال الأمن والشرطة‮ ‬يصبح سهلا كلما عشعش الفقر والجهل الأمي‮ ‬لفهم طبيعة الإسلام والتدين،‮ ‬فما‮ ‬يحتاجه الجندي‮ ‬ورجل الشرطة في‮ ‬أفغانستان وباكستان هو انتزاع فكرة مغلوطة في‮ ‬ذهنه ونفسيته،‮ ‬إن من‮ ‬يحاربهم ويلاحقهم من الإرهابيين هم أعداؤه الحقيقيون،‮ ‬وان من‮ ‬يموتون تحت حطام الفنادق ليسوا إلا ناساً‮ ‬مدنيين ليس لهم علاقة بالتطاحن،‮ ‬وما ذريعة محاربة المصالح الغربية إلا تعليل للوصول إلى هدف سهل بعد عجزهم عن تحقيق انتصارات في‮ ‬ميادين قتالية فعلية‮. ‬الحرب طويلة على الإرهاب ولكنها ستصبح أقصر كلما تم محاولة التركيز على اصطياد الثالوث الهارب في‮ ‬الجبال،‮ ‬بعدها سيصاب‮ »‬العنقود‮« ‬الإرهابي‮ ‬في‮ ‬كل مكان بهزيمة كبرى وتمزق نهائي‮ ‬يشارف على العزلة والضمور‮.  ‬

صحيفة الايام
7 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

فضيحة القرن

بالأمس هبت الحكومة الأمريكية لإنقاذ شركتي‮ ‬الرهن العقاري‮ ‘‬فاني‮ ‬ماي‮’ ‬و‮’‬فريدي‮ ‬ماك‮’ ‬من الإفلاس بعد أن هوت القيمة الإجمالية للأسهم العادية للشركتين من مائة مليار دولار نهاية العام الماضي‮ ‬إلى‮ ‬10‮ ‬مليارات دولار،‮ ‬وبعد أن اعترفت الشركتان بأنهما مُنيتا بخسائر تفوق السبعة عشرة مليار دولار على خلفية تورطهما مثل مئات الشركات والبنوك الأمريكية وغير الأمريكية في‮ ‬أزمة المضاربات على الرهونات العقارية الواسعة النطاق‮.‬
وبسرعة متناهية توافقت إدارة بوش والكونجرس على خطة للاستحواذ على الشركتين وضخ أموال حكومية فيهما وتجنيبهما مصير الانهيار‮.‬
ولم‮ ‬يمضِ‮ ‬وقت طويل حتى تكشفت خبايا انهيار حيتان القطاع المالي‮ ‬الأمريكي‮: ‬ليمان براذرز وميريل لينش الذي‮ ‬ابتلعه بنك أوف أمريكا بقيمة‮ ‬50‮ ‬مليار دولار بعد أن ترنح تحت وطأة خسائر ورطة الديون المعدومة والأخرى المشكوك في‮ ‬تحصيلها لأزمة الرهونات العقارية،‮ ‬ومجموعة‮ ‬‭‬(American Insurance Group – AIG)‬التي‮ ‬أسعفتها الحكومة الأمريكية بقرض عاجل قدره‮ ‬85‮ ‬مليار دولار مدته سنتان مقابل تملك الحكومة الأمريكية لـ80٪‮ ‬من حصة المجموعة‮. ‬وأمام هذه الموجة العاتية من ردة فعل السوق على استمرار التعدي‮ ‬الرأسمالي‮ ‬الجشع على قوانينه التي‮ ‬هي‮ ‬قوانين الرأسمالية نفسها،‮ ‬لم تجد الديناصورات الوجلة على حياتها من سبيل سوى البحث عن حاضنات إما حكومية أو خاصة بالاندماج معها حتى ولو كانت منافسة،‮ ‬وعلى الرغم مما‮ ‬يشكله هذا التوجه من خرق فاضح لقوانين وتشريعات منع الاحتكار التي‮ ‬هي‮ ‬قوانين الرأسمالية المنظِّمة إياها‮.‬
لقد كانت الأيام الماضية حقاً‮ ‬أياماً‮ ‬سوداء بالنسبة لعشرات آلاف المستثمرين عبر العالم الذين تبخرت محافظهم في‮ ‬لمح البصر ولمئات آلاف العاملين الذين فقدوا وظائفهم ومثلهم المهددين بالمصير نفسه‮. ‬وهكذا وجدت الحكومة الأمريكية نفسها أمام فضيحة رأسمالية مكشوفة ومدوية،‮ ‬فضيحة تتجاوز فضيحة شركة أنرون للطاقة‮ (‬التي‮ ‬أشيع أن نائب الرئيس ديك تشيني‮ ‬والرئيس نفسه كانت لهما صلة ما بهما‮) ‬والـ‮’‬وورلد دوت كوم‮’‬،‮ ‬وحتى‮ ‘‬فاني‮ ‬ماي‮’ ‬و‮’‬فريدي‮ ‬ماك‮’ ‬و‮’‬ليمان برذرز‮’. ‬وهي‮ ‬لذلك قررت التخلي‮ ‬عن التعامل مع الأزمة بالتجزئة أو بالتقسيط والاعتراف بشمولية وعمق الأزمة بعد أن انكشف مستورها بظهور النظام المالي‮ ‬الأمريكي‮ ‬على حقيقته وقد هدَّه إعياء المقامرات العقارية و‮’‬سيولة‮’ ‬التمويلات البنكية‮ ‬غير المضمونة‮.‬
فكان قرارها،‮ ‬بإنشاء صندوق قومي‮ ‬للإغاثة المالية للشركات والمؤسسات الأمريكية المهددة بالإفلاس والأخرى المتعثرة بسبب الصعقة الكهربائية التي‮ ‬ضربت النظام الائتماني،‮ ‬بطاقة تمويلية تبلغ‮ ‬700‮ ‬مليار دولار‮.‬
وبالنظر لعمق الأزمة واحتمال اتساع نطاقها القطاعي‮ ‬والاقتصادي‮ ‬العالمي،‮ ‬فمن المؤكد والطبيعي‮ ‬أن‮ ‬يبقى صدى تناولها في‮ ‬الإعلام العالمي‮ ‬لبرهة من الزمن‮. ‬إلا أننا نزعم أن القراءات الأولية لها لن تخرج عن التشخيص الأساس التالي‮:‬
1-‬إن الأزمة أكدت صحة القراءات السابقة بشأن هشاشة الوضع المالي‮ ‬الأمريكي‮ ‬المستندة إلى الاختلالات المهملة في‮ ‬الهيكل الاقتصادي‮ ‬المتجسدة في‮ ‬عجوزات الحساب الجاري‮ ‬والموازنة وتغذية النمو من خلال الشرَه الاستهلاكي‮ ‬المستفحل على حساب الادخار الوطني‮.‬
2-‬ونتيجة لذلك اختطت الرأسمالية الأمريكية لها نموذجاً‮ ‬يقوم على التمويل‮ ‘‬الخارجي‮’ (‬غير الذاتي‮ ‬المستند إلى مصادر التمويل المحلية ومنها الادخار الوطني‮)‬،‮ ‬فكانت ظاهرة بنوك الاستثمار أو الأعمال مثل ليمان بروذرز ومورجان ستانلي‮ ‬وغولدمان ساكس وبنك أوف أمريكا وميريل لنتش،‮ ‘‬اختراع‮’ ‬أمريكي‮ ‬محض قبالة مصارف الودائع التقليدية‮. ‬حيث أفرطت بنوك الأعمال هذه في‮ ‬المخاطرة إن لم نقل المغامرة الاستثمارية،‮ ‬إذ كانت تستثمر عشرة أضعاف ما كانت تقترضه من البنوك،‮ ‬خارقةً‮ ‬كل حدود الملاءة المالية التي‮ ‬حددها بنك التسويات الدولي‮ ‬في‮ ‬جنيف أو ما‮ ‬يعرف بقواعد بازل واحد وبازل اثنين للملاءة المالية‮ (‬أي‮ ‬نسبة تغطية رأس المال للقروض‮).‬
3-‬إن رمز الرأسمالية‮ ‬غير المقيّدة‮ (‬المنفلتة‮) ‬وهي‮ ‬هنا الولايات المتحدة،‮ ‬التي‮ ‬تلتزم حرفياً‮ ‬بمبدأ الحرية الاقتصادية المطلقة لآدم سميث‮ ‘‬دعه‮ ‬يعمل دعه‮ ‬يمر‮’‬،‮ ‬تاركةً‮ ‘‬لليد الخفية‮’ ‬‭(‬Invisible Hand‭)‬‮ ‬أي‮ ‬قوى السوق تصحيح نفسها بنفسها،‮ ‬إذا بها تنقلب على‮ ‘‬دِينها‮’ ‬الـ‮’‬نيوليبرالزم‮’‬،‮ ‬وتقوم حكومتها بأضخم عملية تدخل في‮ ‬الاقتصاد ما كان جون مينارد كينر،‮ ‬صاحب نظرية تدخل الدولة في‮ ‬الاقتصاد لتأمين التوازن المطلوب،‮ ‬ما كان‮ ‬يحلم بها‮. ‬إذ عمدت إدارة بوش لأساليب هي‮ ‬أقرب إلى التأميم‮ (‬الاستحواذ على حصة‮ ‬80٪‮ ‬من شركة‮ ‬AIG‮) ‬وانخرطت في‮ ‬عملية شراء للمديونيات الصعبة‮ (‬في‮ ‬حكم المعدومة‮) ‬والمشكوك في‮ ‬تحصيلها لإنقاذ وحدات الاقتصاد من الانهيار‮.‬
4-‬الأدهى من ذلك أن تمويل ما سمي‮ ‬بصندوق الإنقاذ الوطني‮ ‬قد أُلقيَ‮ ‬عبؤه على دافعي‮ ‬الضرائب الأمريكيين وليس على الأرباح الطائلة التي‮ ‬تجنيها الشركات العملاقة والمستثمرين والمضاربين الذين جمعوا ثروات هائلة من عمليات القمار المفتوحة في‮ ‬أسواق المال الأمريكية‮. ‬وهذه مقاربة أقل ما‮ ‬يقال عنها أنها‮ ‬غير عادلة،‮ ‬فكيف لطبقة الفقراء ومتوسطي‮ ‬الدخل أن‮ ‬يغرموا للأثرياء خسائرهم وهم الذين دفعوا الملايين لمدراء محافظهم الاستثمارية في‮ ‬البنوك والصناديق الاستثمارية من أجل مضاعفة أرباحهم؟‮!‬
5-لقد تحول الاقتصاد الأمريكي‮ ‬خصوصاً‮ ‬مع اتساع نطاق عولمة الأسواق المالية العالمية إلى اقتصاد تغذيه المضاربات ذات العمليات.
 
صحيفة الوطن
6 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

أزمة وعنوان تحولات تاريخية

في الأسبوع الماضي ذكرنا أن المبلغ الذي يسعى إليه الرئيس الأميركي جورج بوش إلى تمرير ما أسماه «خطة الإنقاذ» هو ما بين 700 و800 مليار دولار، وأن الاعتراض جاء من وجهتي نظر متضادتين: الأعباء على دافعي الضرائب وكون المبلغ يشكل نصف المطلوب تقريباً. وقلنا كذلك بناء على سوابق مماثلة: «اليوم أيضاً لا يجب أن يشك أحد في أن الرئيس سيمضي على هذا الطريق».
في البدء بدت الأمور وكأنها لا تسير حسب تلك التوقعات. يوم الاثنين الماضي رفض الكونغرس خطة المليارات السبعمئة. وقد أطلق على ذلك اليوم «الاثنين الأسود الجديد»، إذ تسبب في خسائر لأسواق الأسهم في «وول ستريت» بقيمة ترليون دولار.
لقد عكس ذلك مزاج التشوش والذعر السائدين في المؤسسات المالية والسياسية الأميركية. وعلى خلفية هذا المزاج جرت اللعبة الكبرى من أجل احتلال المواقع. وفي إطار هذه اللعبة يمكن فهم أن الذي أسقط «خطة بوش» في التصويت الأول هو في الأساس أصوات أولئك الأعضاء الذين سيتوجب إعادة انتخابهم في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ولهذا، فقد فضلوا إرسال إشارات للناخبين بأنهم ليسوا ممن يلعب دور «مولدات التضخم». وليس أكثر من ذلك.
بعدها صدّق مجلس الشيوخ على الخطة بعد أن كبرت الوثيقة من ثلاث صفحات فقط إلى 450 صفحة نظرت في إجراءات إضافية أخرى تخاطب الناخب العادي كما لاحظ المراقبون. وأحيل المشروع من جديد إلى الغرفة التشريعية الدنيا (مجلس النواب). في مجرى البحث عن حلول مساومة ازداد المشروع وزناً – بمقدار 150 مليار دولار إضافية تسهيلات ضريبية جديدة للشركات الخاصة والأفراد، أي لتشجيع المؤسسات على استخدام مصادر الطاقة البديلة وأخرى لتسهيل حال عدد من صنوف مالكي المنازل والمواطنين المهمشين اجتماعياً. أما بالنسبة إلى المليارات الـ 700 الأصلية فقد أعطى القانون لوزير المالية الحق بأن يستخدم فوراً من الموازنة الفيدرالية 250 مليار دولار لشراء الأصول المالية التي تعاني من مشكلات، ولاستقرار أسواق المال. مئة مليار أخرى يمكن أن تخصص لوزارة المالية بأمر من الرئيس الأميركي لهذه الأهداف أيضاً. الباقي، وهو 350 مليار دولار يمكن تخصيصها من قبل الكونغرس بحسب ما يراه مناسباً.
تنفس الساسة الأوروبيون الصعداء مبدين ارتياحهم لما حدث. أما خبراء اقتصاديون معرفون كالخبير في مجالات الاستثمار جيم روجرز فقد استهجنوا الحلول السياسية. ففي مقابلة أجرتها معه الصحيفة الاقتصادية الألمانية الرائدة «Handelsblatt» في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2008 انتقد بمرارة إجراءات السياسيين مؤكداً أن «السياسة لا تستطيع اجتثاث المشكلة من جذورها».
ورأى أن ما سيفعله دعم المصارف المفلسة هو ترحيل للمشكلات الكبرى إلى حين، بينما الحديث يجب أن يدور عن تنظيف النظام المالي وليس استمرار الدعم له. وأنه إذا استعادت مصارف الإصدار ووزراء المال أنفاسهم بعد تحصيل حزمة المساعدات الطارئة الضخمة، ففي العام المقبل ستصطدم أسواق المال بكم أكبر من المشكلات. ولذا، بحسب روجرز، فقد كان يتعين على السياسيين أن يتركوا المجال كي تفلس كل المصارف الاستثمارية التي لم تتم إدارتها بكفاءة في السابق؛ لأنها لم تحترم مبادئ العمل المصرفي الجاد، وتسببت في جر العالم كله إلى الأزمة. ومع هذه الدعوة المحقة إلى حدود، إلا أننا نجد أنفسنا من جديد أمام اقتصادي مشدود بقوة إلى فكرة أن السوق تمتلك قوة سحرية لتصحيح كل الأمور. وهو مؤمن بذلك رغم قناعته بأن ما يدعو إليه سيعمم مزيداً من الفوضى في أسواق المال الأميركية والعالمية. ويعتقد بأن العلاج بالصدمات على غرار ما جرى في روسيا في التسعينات هو ما يمكن أن يحدث التغييرات المبدئية التي سترفع من جاهزية المؤسسات المالية وقوتها من جديد. ولم نجده في تلك المقابلة يعير اهتماما للآثار الاجتماعية لتلك «الصدمات» التي سبق أن فعلت فعلها السلبي بنتيجة تجارب روسيا والتشيلي والأرجنتين وغيرها من البلدان.
المشكلة في أن كلا الاتجاهين، اتجاه تدخل الدولة لإنقاذ المؤسسات المفلسة واتجاه استبعاد الدولة وترك الأمور لآليات السوق يعرفان جيداً بأن المشكلة مزمنة وأن لا حلول مرجوة في الأمد المنظور. الرئيس بوش بعد أن كرر مراراً في السابق بضرورة خطته كإجراء عاجل عاد قرب إقرارها فحذر بأن الحل لن يكون قريباً. أما روجرز فيعتقد بأن أميركا ستحتاج إلى وقت طويل كي تتعـــافى من الأزمة، ما يذكـــر بالوضع الذي مرت به اليابــــان في سنوات الثمانينات، والذي عرف على أنـــه العقــد الضائع.
وهكذا، فإن طرح «الاقتصادويين» الذين يعالجون الأزمة في إطارها الاقتصادي سيبقون عاجزين عن طرح الحلول الجذرية التي تنطلق من مصالح فئات ضيقة في المجتمع.
للفلاسفة نظرة مختلفة تقول إن ما يجري يشير إلى أننا نقف على مشارف حقبة تاريخية جديدة. لنقترب من الفيلسوف جون غري، الذي أنهى للتو عمله التدريسي أستاذاً في جامعة الاقتصاد اللندنية. كتب غري في صحيفة «Observer» مقالاً رأى فيه أن عهد القيادة الأميركية للعالم الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية انتهى الآن. «.. لقد تدمرت ذاتياً المقولة الأميركية بشأن السوق الحرة، في الوقت الذي استطاعت البلدان التي أبقت سيطرتها على الأسواق اجتياز المحن». ورغم انهيار النموذج السوفييتي إلا أن غري ككثير من الفلاسفة لا يرون ما رآه فوكوياما على أنه نهاية التاريخ. ويشير غري إلى «أنه لأمر ذو دلالة أن يخرج رجل فضاء صيني إلى الفضاء، بينما يجثو وزير المالية الأميركي بركبتيه على الأرض». ويقرأ هذه التحولات المتعاكسة على أننا هنا نشهد انزياحاً تاريخياً جيوسياسياً يرافقه تغير غير قابل للارتداد في توازنات القوى العالمية».
قد لا يتفق الجميع على أن أميركا وصلت إلى حدود تاريخية محددة، لكن الأمر يتعدى مجرد الانتقال من عهد القطبية الواحدة إلى التعددية القطبية. السؤال الأبعد هو: ما الحالة النوعية التي سيسفر عنها للعالم هذا الانزياح التاريخي الجيوسياسي غير القابل للارتداد الذي ينبئنا به الفيلسوف جون غري؟

صحيفة الوقت
6 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (4)

تصاعد الصراعُ الاجتماعي في سوريا على محوري الملكيتين العامة والخاصة لوسائل الإنتاج، فأخذ يتفاقمُ سياسيا، ولم تعدْ القوى المعارضة بقادرةٍ على العمل من داخل الوطن، فلجأت إلى الخارج، وازدهرت التنظيماتُ المعارضةُ ووسائلُ نشرها من دون أن يتمكن معظمها من إقامة روابط متينة مع الشعب السوري. في حين كان تنظيمُ الاخوان المسلمين يعمل خلال أكثر من نصف قرن، والاسم الحقيقي للتنظيم هو «الاخوان المسلمون السنة المحافظون« أي هو يتمحور في طائفة واحدة ويعبرُ عن منحى اجتماعي يميني (ذكوري)، حسب التسمية اللفظية. ومحافظتهُ نتاجُ استيرادهِ للإقطاع المذهبي القديم الذي سيطرَ على إنتاج فهم الإسلام خلال العصر الوسيط، وهذا استيرادٌ من الماضي، رغم انه تنظيمٌ يعبرُ عن فئاتٍ وسطى سورية حديثة، فإن هذا التضاد هو نتاجُ الوعي السياسي الديني المعاصر، الذي لا يعرفُ جذورَهُ، ويمضي في السياسة بشكلٍ عفوي وتجريبي، لكنه يتعلم أثناء ذلك وخاصة في المعارك الدموية وفي التضحيات الجسيمة غير المبررة مثلما جرى ذلك في الأزمة الوطنية السورية المأساوية بدءًا من سنة 1971م. وإذا كان هو فرعٌ من الاخوان المصريين لكنه تجذر وطنيا، فغدت قضايا سوريا هي البوصلةُ له، حتى إنه ميز نفسَهُ عن موقف الاخوان المصريين المعادين للوحدة السورية – المصرية. تشكل بدايةً من الاربعينيات وخاصة في أواخرها، من عناصر من الفئات الوسطى، وهو يصورُ نفسَهُ كمعبرٍ عامٍ عن الإسلام، أي ليس باعتباره تنظيما مذهبيا سياسيا محددا، ويسهمُ هذا التعميمُ في إشكالياتٍ سياسية كبيرة، فهو يختصرُ المسلمينَ والإسلامَ في ذاته، ثم يختصرُ السنةَ في ذاته، وهذا التضخمان يجرانه للنظام الشمولي، وإلى مشروعٍ سياسي دكتاتوري، فتغدو الأدواتُ السياسيةُ العصرية كالنقابات والبرلمان وغيرها أدواتٍ لصعود تلك الشمولية، التي غالباً ما تموهُ نفسَها بضبابِ العبادات والمعاملات الإسلامية للنمو السياسي داخلها، أسوةً بكل التنظيمات الدينية،(إذا لم توجه نفسها لفقهٍ إسلامي وطني تحويلي لحياة الناس الاجتماعية). ذكرتْ الجماعةُ في مؤتمرِ تأسيسِها ببلدة يبرود السورية سنة 1946 انها تعمل على «تحرير الأمة وتوحيدها وحفظ عقيدتها وبناء نظمها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أساس الإسلام، ومحاربة الاستعمار بأشكاله كافة). يختصرُ تنظيمُ الاخوان السوريين هنا كلَ الأمم الإسلامية في ذاته، وهذه التعميماتُ الشمولية هي «وليدةُ العمل« السياسي الأولي، فهو لا يعرف من يمثل وماذا يجسدُ من وعي ديني، مثلما يتحركُ التراثُ في وعيهِ بشكلٍ عفوي مختلط، لكن علاقات قيادته تشكلُ فهمَهُ ويدركُ المصالحَ التي يدافعُ عنها في غمرة الصراع السياسي، وتضفير علاقاته مع الطبقات المختلفة وهي تحتاجُ إلى زمن موضوعي. ولأن التنظيمات الشيوعية والاشتراكية القومية كانت ترفعُ لواءَ تحريك الصراع الطبقي، فهو دعا إلى تهدئة هذا الصراع، ليتباين عنها ويفرملُ انتشارَها، مركزاً على الأشكال الدعوية والكيانات الاجتماعية الخيرية، وهو نمطٌ من الصراع الطبقي البعيد المدى والمتوافق مع الطبقات العليا، وقد شارك في البرلمانات ودافع أعضاؤه المنتخبون عن «حقوق الفلاحين ورفضوا استغلال كبار الملاك لهذه الطبقة المحرومة، ودعوا الحكومة لتخفيض أسعار الخبز ورفع الضرائب عن الفقراء ورفضوا تأجيج الصراع الطبقي بين شرائح المجتمع«، (مذكرات وذكريات الداعية عدنان سعد الدين أحد قياديي الرعيل الأول من الاخوان السوريين). يتجسد عمل الاخوان بشكل أخلاقي ووعظي، أو بشكل سياسي محدود، فالدعوة لتخفيض أسعار الخبز، تنفصلُ عن توزيع الأرض على الفلاحين، أكثر المطالب سخونةً في ذلك الحين، وقد ذكرنا سابقاً كيف كان الإقطاعيون يهجرون الفلاحين السوريين من قراهم، وقد اشتدت حمى هذه المعركة في البرلمان ثم أثناء حكم الرئيس جمال عبدالناصر لسوريا الذي صعدَها لمستوى كبير بطرحهِ تخفيض ملكيات الإقطاعيين وأمم من جهة أخرى أملاك كبار الرأسماليين، فوقف الاخوان ضد الإصلاح الزراعي المحدود جدا الذي حاول عبدالناصر تطبيقه. يقولُ مؤلفُ الكتاب السابق ذكره: «… فصدر قانونُ الإصلاح الزراعي ونزعَ الملكيات الزائدة عن المساحات التي حددها القانونُ لصالح الفلاحين، وطبق القانونُ بحقدٍ وعاشت سوريا بسبب هذا القانون فترةَ مقتٍ وعداء بين المواطنين، وتراجع الانتاج الزراعي«. تتضحُ هنا جذور الاخوان السوريين وارتباطهم بملاك الأراضي، فحتى هذا الإصلاح المبقي على الفدادين الواسعة للملاك، الذي يقوم بقصقصة بعض الريش لهم، أُعتبر سيئاً، وهو أمرٌ يوضح طبيعة النشأة الاجتماعية وترابط المصالح، وكون هذه الفئات الوسطى الاخوانية محافظةً وتقعُ في أقصى اليمين حينذاك على الأقل، ثم يمتد ذلك الرفضُ لقضايا التحديث الأخرى خاصة ما يتعلق بحقوق النساء وابعاد الدين عن الاستغلال السياسي، وتقود هذه المعارضاتُ المتعددة جماعةَ الاخوان السوريين إلى العداءِ للنظام الناصري ثم البعثي وكل قوى الحداثة العربية، وإلى التداخل مع الأنظمة العربية المحافظة الرافضة حركة التحرر العربية، التي تدخلُ في تحالفاتٍ خطرة مع الاستعمار الغربي وقتذاك. من جهةٍ أخرى فإن قوى الحداثة والتحرر السورية التي شكلت التجربة السياسية خلال الخمسة العقود منذ الأربعينيات حتى نهاية القرن العشرين، وصلت إلى أزمة بسبب تشكيلها بناء اقتصاديا بيروقراطيا تنمويا مهما لكنه تجسد بشكل استبدادي مما قاد إلى فساد عميق راحت أمراضه تتكشف بقوة خلال السنوات الأخيرة، وقد أوضحنا بعضَ مظاهره سابقاً. مثلت الاستيراداتُ السياسية الشيوعية والبعثية المنافسة للإخوان قوالب خارجية، رآها الأخيرون كسحق للأمة وتراثها، فأولئك عملوا على عدم الاعتراف بالإسلام والمسيحية كجذور مهمة للشعب السوري، ورأوا السياسة كهدم للطبقات العليا وإزالة تراثها ودينها، مما أوغر الصدر السياسي الضيق ل للإخوان وتوجهوا للنقيض. فكانت السياسات الشمولية لهذه القوى مجتمعة تتصادم، وتدمرُ بعضَها بعضا. مثلما استورد الاخوانُ تراثَ الإقطاع المذهبي العتيق وعمموه كدين، وعارضوا به التحديثيين. لكنه كان كذلك تعبيراً عن صراع المصالح، فقلةٌ من التحديثيين واحزابهم ارتفع طبقياً، وانتشر في المؤسسات الرسمية المختلفة وأثرى، في حين كان الحزبيون الاخوان في دوائر القهر والحرمان، والغربة في وطنهم، وهذا ما وسع شعبيتهم، وجعلهم يصطدمون مع منافسيهم السابقين في معركة جديدة بين هذه القوى، ولكن ليس كل اليسار والليبراليين صار حكوميا، فهناك قوى دافعتْ عن الملكية العامة ومطالب الأغلبية الشعبية ولكن من زاوية الديمقراطية والحداثة.
 
صحيفة اخبار الخليج
6 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

من أين لك هذا؟‮!‬

سيظل الفساد من الآفات التي‮ ‬تنخر مجتمعاتنا،‮ ‬والتي‮ ‬تقف بين الأسباب الرئيسية لهذا الانقسام المريع الذي‮ ‬نشهده بين‮ ‬غالبية فقيرة،‮ ‬معدمة،‮ ‬مهمشة ومحبطة،‮ ‬وبين الثراء الفاحش الذي‮ ‬يجد تعبيراته الفجة في‮ ‬مظاهر الترف والبذخ التي‮ ‬صارت مضرب الأمثال‮. ‬ وطبيعي‮ ‬أن الإنسان المسحوق الذي‮ ‬يلهث وراء لقمة العيش الكريمة لأطفاله وسط هذا الفساد‮ ‬يفقد بصيص الأمل في‮ ‬وضع أحسن،‮ ‬ويصاب بالقرف من كل الكلام عن العدالة الاجتماعية والقيم الذي‮ ‬يسمعه أو‮ ‬يقرأه ليلاً‮ ‬نهاراً‮ ‬من الأجهزة الإعلامية المختلفة‮.‬ يدور الآن حديث عن‮ »‬عولمة‮« ‬الفساد،‮ ‬فمفاهيم من نوع اقتصاد السوق من دون ضوابط وحرية التجارة حتى أقصى حدودها وقيم الفرد المثابر الذي‮ ‬يجري‮ ‬وراء الثروة بأي‮ ‬وسيلة وسبيل تُنعش مثل هذه الظاهرة وتُعممها‮. ‬ وفي‮ ‬المؤتمرات العالمية التي‮ ‬تناقش هذه الظاهرة‮ ‬يجري‮ ‬التأكيد على‮ »‬عالمية‮« ‬هذه الظاهرة وتفاقمها،‮ ‬بحيث لم‮ ‬يعد من الممكن التستر عليها أو مداراتها،‮ ‬بسبب سهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات في‮ ‬هذا العالم المفتوح‮.‬ وفي‮ ‬عددٍ‮ ‬من البلدان العربية تنشط الآن جمعيات الشفافية ومكافحة الفساد التي‮ ‬صارت تدعو إلى الاعتراف بالفساد كظاهرة وعدم التستر عليه أو نفي‮ ‬وجوده عبر الادعاءات والتمويهات،‮ ‬والإقرار بأن هذا الفساد معوق أساسي‮ ‬من معوقات التنمية والتحولات الديمقراطية وحقوق الإنسان،‮ ‬والدعوة لإشاعة ثقافة وطنية تقوم على بث الوعي‮ ‬والجرأة والشجاعة في‮ ‬كشف حالات الفساد والمتورطين فيها،‮ ‬وكذلك الدعوة إلى عمل حكومي‮ – ‬أهلي‮ ‬مشترك من خلال أطر إقليمية تكون بمثابة رديف للأطر العالمية في‮ ‬مجال محاربة الظاهرة‮.‬ على أن الفساد ليس مجرد خلل إداري‮ ‬يعالج بإجراءات إدارية،‮ ‬رغم أهمية كل تدابير الرقابة على أوجه الإنفاق العام،‮ ‬وإنما هو ظاهرة اجتماعية تعود إلى ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة في‮ ‬البلد المعني،‮ ‬مما‮ ‬يتطلب أن تدار الدول من قبل سلطات مختلفة ومستقلة عبر توسيع القاعدة الاجتماعية لهذه الحكومات،‮ ‬وتدريب نخبها على الأداء النزيه والحرص على حرمة المال العام،‮ ‬ووضع الحدود الفاصلة بين المال العام،‮ ‬العائد لما كان‮ ‬يطلق عليه في‮ ‬العهود الإسلامية الأولى بيت مال المسلمين،‮ ‬وبين المال الخاص‮.‬ لزوم الفساد هو تعميمه ليصبح نهجاً‮ ‬متبعاً‮ ‬يغرق فيه الكل،‮ ‬فلا‮ ‬يعود بوسع أحد أن‮ ‬يحاسب أحدا،‮ ‬طالما كان الجميع متورطا فيه،‮ ‬ومن هنا جاء تعبير الفساد الصغير الذي‮ ‬غالبا ما‮ ‬يجاور الفساد الكبير ويستظل بظله،‮ ‬فالاستخدام السيئ للسلطة‮ ‬يشيع حالة عامة على أساسها‮ ‬ينخرط صغار الموظفين في‮ ‬تلقي‮ ‬الرشى،‮ ‬فتصبح الظاهرة عامة شاملة‮.‬ ثمة رقم جدير بالعناية هو أن إسرائيل تحتل المرتبة الـ ‮٠٢ ‬بين دول العالم التي‮ ‬تتمتع بالشفافية في‮ ‬مجال مكافحة الفساد،‮ ‬بشكل‮ ‬يعطيها ‮٧ ‬درجات من ‮٠١‬،‮ ‬فيما‮ ‬غالبية الدول العربية لا تنال في‮ ‬أحسن الحالات ‮٤ ‬درجات من ‮٠١ ‬ودون ذلك‮!‬ منذ أ‮٤١ ‬قرنا صاغ‮ ‬الخليفة الراشد ذلك السؤال العظيم‮: »‬من أين لك هذا«؟،‮ ‬والذي‮ ‬بات فيما بعد بمثابة قاعدة قانونية لحفظ المال العام وحمايته من النهب ومنع سوء استخدام السلطة‮.‬ من‮ ‬يجاسر اليوم بطرح هذا السؤال العظيم؟
 
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

خـارج الطائفــة


ذات أمسية سألني الصديق جعفر الباقر، بحدة الغيور، لماذا تبدو وكأنك تجاهر بخروجك من طائفتك؟ قلت له، بعفوية غير طبيعية، أنا خارج طائفتي!



لا يمكن أن تكون مثقفاً داخل طائفتك، ولا يمكن أن نراهن على مثقف داخل طائفته، وظيفة المثقف أن يُوسّع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا مقياس الطوائف. وتلك المهمة تتطلب منه أن يمارس نقداً حقيقياً لأطر الطائفة، ويحولها من مسلمات عقيدية لا يطالها الشك إلى معطيات تاريخية لا ترقى إلى اليقين. وتتطلب هذه المهمة أن يكون المثقف من الناحية المعرفية خارج طائفته.


وحجة التمييز مع إقراري بوقائعه الفاقعة، لا أجد فيها تبريراً لبقائي داخل الطائفة، فالمثقف الذي يبقى داخل طائفته، يظلم طائفته ووطنه؛ لأنه يوهمها بأن هذا هو شكل نظامها الطبيعي بل والإلهي، ويميز وطنه بدوائر مغلقة على بعضها.


ما معنى أن أكون خارج طائفتي؟


يعني أن تكون طائفتي موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً أستند إليه. ما الفرق بين الحالتين؟ ما الفرق بين أن تكون الطائفة موضوعاً تشتغل عليه، وأن تكون إطاراً تستند إليه؟ في الحالة الثانية تكون أنت في الطائفة، تستند إليها في تعريف ذاتك وتحديد هويتك وتعيين مركز قوتك في علاقتك بالآخرين.


الإطار يسندك حين تبحث عن منجاة خلاص أخروية تضمن بها الجنان، أو حين تبحث عن قوة تستند إليها وسط صراعاتك الاجتماعية. الإطار هنا طوق ينجيك ويقويك. وحين تكون خارج هذا الطوق تفقد قوتك ونجاتك. فأنا خارج طائفتي هنا، بمعنى أني خارج هذا الطوق، بمعنى أن لا نجاة لي ولا قوة. 



والإطار من جانب آخر يحدد لك إمكان الرؤية، فأنت ترى العالم والغيب والآخرة والناس من خلال إطار. والطائفة بما تتوافر عليه من قيم وأوامر ونواهٍ تؤطر لك ما هو صحيح وما هو خطأ، ما هو حلال وما هو حرام، ما هو أفضل وما هو أدنى. بهذا الكل المركب تمثل الطائفة إطارَ رؤية، وأنا خارج طائفتي بمعنى خارج إطار هذه الرؤية.


إذاً أنا، بالنسبة لمن هم في طائفتهم، بلا رؤية ولا قوة ولا نجاة. وحين تدفع بهذا الخروج إلى مآلاته الأكثر قتامة، فأنا أعمى وضال وضعيف وهالك، هكذا يمكن أن تقابل بين الرؤية في طوق الطائفة والعمى في الخروج من هذا الطوق، والقوة في إطارها والضعف في الخروج من إطارها، والنجاة في طوقها والهلاك في الخروج من هذا الطوق. إنه السقوط إذاً. الخروج من إطار الطائفة هو سقوط في جحيم العمى والضلال والضعف والهلاك.


أنا خارج طائفتي، يعني أن أُعرِّف «أناي» تعريفاً لا يستند إلى هذا الإطار، التعريف بهذا الإطار يجعل «أناك» داخل الطائفة، يجعلك محتوى بها، ولأنها تسبق وجودك، فهي تمنحك تعريفها الجاهز قبل ولادتك. هي تضع بطاقتها المعتَّقة على «أناك»، فتكون ابنها البار. وحين تكون «أناك» من غير هذا التعريف، الذي يسبقك، تكون خارج طائفتك. أي خارج ما يسبقك. التقدم يتحدد بهذا السبق. أن تُمّكن طائفتك من أن تسبق أناك، أو أن تُمّكن أناك من أن تسبق طائفتك. حين تتقدم أناك على طائفتك فأنت تسبقها. وحين تتقدم طائفتك على أناك فهي تسبقك. من هنا فأنا خارج طائفتي، بمعنى أني متقدم عليها في تعريف ذاتي. وأكون طائفياً بقدر ما أسمح لها أن تستبق تعريفي.


أنا خارج طائفتي، يعني أني خارج إطارها المعتمد. وإطار الطائفة المعتمد هو مجموع النصوص التي ثبّتتها في التاريخ بوصفها كافية وصحيحة لتعريف ذاتي والعالم والأشياء، ليس إطاري المعتمد في فهم العالم «الكافي»، ولا «صحيح البخاري»، هما ليسا معتمدين لدى «أناي» الخارجة.


أنا خارج طائفتي، أي خارج هذين المعتمدين. لا أعطيهما الحق في أن يسبقا «أناي» في تعريف ذاتي وتعريف عالمي وتحديد نجاتي وتبصير رؤيتي وتقرير خلاصي. أنا خارج طائفتي حين أجعل من هذين المعتمدين موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً يشتغل فيّ. حين أُخضعهما إلى التاريخ وصراعاته ودنيويته ونسبيته وسلطته في تشكيل الحقيقة.


من غير تحويل الطائفة ومعتمدها الذي يحدد هويتها وأساسها الذي تقوم عليه، إلى موضوع اشتغل عليه، لا يمكن أن أكون خارج طائفتي. ومن لا يكون كذلك سيبقى طائفياً.


أن أكون خارج طائفتي بهذا المعنى، أجعل الدولة خارج الطوائف. والدولة التي لا يكون مفهومها في بناء المواطن قائماً على هذا الخروج، لا يمكنها أن تكون إلا دولة طائفة، ودولة الطائفة لا تجد مهمتها الطائفية إلا في تثبيت هذا الإطار وتمكينه من أن يحكم قبضته على الوطن، كما هو الأمر عندنا. كي يتخلص الوطن من طائفيته على الدولة أن تبحث لها عن مهمة غير طائفية، عن مهمة مدنية، تُمكّن الإنسان من العيش في المدينة. كيف يكون ذلك من جانب الدولة وجانب الطوائف في سياق حالتنا البحرينية؟ سأجيب عن ذلك من خلال الإنصات إلى خبير الحالة البحرينية الباحث فؤاد إسحاق خوري.


الوقت 5 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد