المنشور

المواطنون‮ ‬يراقبون أسعار النفط

حتى المواطن الخليجي‮ ‬البسيط‮ ‬يراقب باهتمام أسعار النفط،‮ ‬في‮ ‬الطالع والنازل،‮ ‬إن ارتفعت أسعاره ظن الظن الحسن أن حكومته سترفع من دخله وتطور من مشاريع بلاده وتحسن معيشته،‮ ‬وإن تراجعت أسعاره عرف انه ليس بإمكانه ان‮ ‬يصر على مطلب‮ ‬يثقل من ميزانية بلاده،‮ ‬فإن تراجعت اسعار النفط لن تجد زيادة في‮ ‬رواتب القطاع العام ولا ميزانيات كبيرة للمشاريع الإسكانية التي‮ ‬لابد ان‮ ‬يحتم عليك القدر ان تنتظر ما‮ ‬يربو على ‮٥١ ‬سنة للحصول على وحدة سكنية‮.‬
لم‮ ‬يشعر الكثير من المواطنين في‮ ‬البحرين تحديداً‮ ‬بأثر ارتفاع سعر برميل النفط إلا بعد ان تم صرف علاوة الغلاء رغم أنها أتت بعد شد وجذب وحتى بشيء من الاهانة والمذلة التي‮ ‬تفنن فيها بعض النواب وشاركت في‮ ‬ذلك وزارة التنمية لا أقول تعمداّ‮ ‬ولكن سأحملهم على محمل الخير وأقول سهواً‮.‬
وبدأ القلق وربما لأول مرة‮ ‬يساور المواطن البسيط،‮ ‬وأخذ‮ ‬يبدي‮ ‬اهتمامه بتراجع وصعود سعر برميل النفط خوفاً‮ ‬من ان‮ ‬ينحرم من ‮٠٥ ‬ديناراً‮ ‬تعينه على شراء ما تستلزمه المعيشة‮.‬
البعض‮ ‬يسأل باستمرار وبشكل‮ ‬يومي،‮ ‬كم وصل سعر النفط؟
وبالأمس فقط طالعتنا الأخبار المحلية والدولية بخبرين مهمين تصدرا الأخبار الرئيسية في‮ ‬الصحف اليومية،‮ ‬الأول‮ ‬يفيد بتراجع أسعار النفط بشكل كبير وصل الى ما دون ‮٨٧ ‬دولاراً‮ ‬بعد ان كان قد وصل الى ما هو أكثر من ‮٠٠١ ‬دولار‮.‬
أما الخبر الثاني‮ ‬فهو كلمة الى سمو ولي‮ ‬العهد ألقاها في‮ ‬جامعة واسيدا بطوكيوا قال فيها‮ »‬إننا نتعلم من أخطاء الماضي‮ ‬ولن نبقى معتمدين على الطفرة النفطية وتقلبات سوق النفط‮«.‬
الكلمات التي‮ ‬أطلقها سموه في‮ ‬الجامعة تدل بشكل كبير على اننا وصلنا الى مرحلة اقتصادية مهمة‮ ‬يجب التدقيق فيها،‮ ‬لأنها تمس بشكل كبير مستقبل أجيالنا،‮ ‬وبالتالي‮ ‬يحتم على جميع الأطياف السياسية والمؤسسات توقع ما‮ ‬يمكن ان‮ ‬يحدث في‮ ‬المستقبل‮.‬
هناك مساع ودراسات لإيجاد طاقة بديلة عن النفط،‮ ‬وقد تنجح هذه المساعي،‮ ‬عندها ماذا ستكون ميزانيتنا؟ فهل سنتراجع بعد هذا التقدم بسبب ان ميزانيتنا خلت من عوائد النفط؟
من هذا المنطلق جاء خطاب ولي‮ ‬العهد الذي‮ ‬يحتاج الى ترجمة عملية حتى نستطيع ان نقول إننا اطمأنينا على مستقبلنا الاقتصادي‮.‬

صحيفة الايام
12 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

تمويل‮ “‬مفتوح‮” ‬لحرب مفتوحة


الحرب كالنار الآكلة للأخضر واليابس، فهي تظل تلتهم كل ما يخصص لها من نفقات لتطلب المزيد فتأتي على موارد الثروة حتى يقرر مشعلوها والمتورطون فيها وضع حد لها ولأوزارها، كما النار لا تُطفأ إلا بسكب الماء عليها.


ونتذكر هنا كيف حولت الحرب الكورية (1950-1953) التي سعت إليها وأشعلتها الولايات المتحدة، ومن بعدها مباشرة إشعالها للحروب الاستعمارية في الهند الصينية (فييتنام وكمبوديا ولاوس والتي انتهت بهزيمة أمريكية نكراء) – نتذكر كيف حولت هذه الحروب الولايات المتحدة من دولة تحتكم بعد نهاية الحرب الكونية الثانية (1945) على 60٪ من احتياطي الذهب العالمي وتتمتع بفوائض في ميزان مدفوعاتها وموازنتها العامة، وبعملة تتربع على عرش النظام النقدي العالمي، إلى دولة مستنزفة تبخر معظم احتياطيها الذهبي (هبط إلى 12٪) وتعاني من عجز متفاقم في ميزان مدفوعاتها وموازنتها، الأمر الذي عكس نفسه على عملتها الوطنية ففقدت ميزتها كعملة العملات العالمية (بموجب معاهدة بريتون وودز لعام 1944) واضطُرت في عهد الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون (الذي أسهم بقسطه في إغراق بلاده واقتصادها في المستنقع الفييتنامي) لخفض قيمة عملتها، وهو ما دشن مرحلة التراجع ‘المنظم’ للاقتصاد الأمريكي على الصعيد الدولي.


ولأن الحروب، العلنية منها والسرية، بحاجة إلى تمويل منتظم، غير منقطع، فإن تدبيره من جانب القوى المتورطة في الحرب وفي إدارتها، يتم عادة بصور مشروعة، عبر القنوات الرسمية لأطراف الحرب، أو غير مشروعة في حال اضطُرت بعض جماعات الضغط التي تقف وراء استمرار الحرب، لسلوك هذا الطريق إذا ما ضاق عليها خناق التمويل المستمر. ومثال ذلك الصفقة السرية الخاصة بتمويل شراء الأسلحة التي رتبتها إدارة الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان لصالح ميليشيات الكونترا التي كانت تحارب في ثمانينيات القرن الماضي نظام الساندينستا في نيكاراغوا والتي شملت أكثر من طرف دولي من إيران وإسرائيل إلى مافيا تهريب المخدرات.


على هذا الأساس يكتسب تمويل العمليات القتالية والحرب بالإجمال أهمية محورية في كل الصراعات الساخنة مهما كان شأنها كبيراً أو ضئيلاً.
وهذا بالذات ما يثير تساؤلات وجيهة ومحيرة حول قدرة حركة طالبان والقاعدة في أفغانستان على مواصلة الحرب ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك قدرة المليشيات المسلحة الصومالية على مواصلة الحرب طوال هذه السنوات (حوالي 17 سنة) ضد بعضها بعضاً وضد القوات الأجنبية التي ‘سولت لها نفسها’ التورط في المستنقع الصومالي بحثاً عن موطئ قدم ومغنم ذهب (تتوفر الصومال على احتياطيات مثبتة وأخرى تقديرية من النفط واليورانيوم).


مما لاشك فيه أن لدى حركة طالبان خطوط تمويل عينية ومالية من مصادر محلية (أفغانية) وإقليمية ودولية. فهي تقوم مقام الدولة في المناطق التي تسيطر عليها في أفغانستان لفترات متفاوتة في جمع الاتوات والاستيلاء على أصول المرافق الحكومية، كما تتلقى ‘العطايا’ من أصحاب الأملاك نظير ضمان أمن ممتلكاتهم وسلاسة خطوط تجارتهم الداخلية والخارجية.
وهي إلى جانب هذا وذاك تتلقى المساعدات الطوعية من رجال القبائل الأفغانية الموالين والمناصرين لها.
أما إقليمياً فإنها تتلقى الأسلحة والمعدات العسكرية من الجيش الباكستاني الذي إما أن يقوم كبار ضباطه بتهريبها من مخازن الجيش الباكستاني أو تدبير شرائها من سوق السلاح الرائج على الحدود بين أفغانستان وباكستان. وقد كُشف النقاب مؤخراً عن تورط الجيش الباكستاني في تمويل حرب طالبان في أفغانستان مالياً وعسكرياً، وهو أمر لم يكن ليتم دون معرفة وتواطؤ أجهزة مخابرات الجيش والمخابرات العامة الباكستانية.
كما أن التمويل المالي لازال يصل إلى حركة طالبان والقاعدة من مناطق مختلفة من الشرق الأوسط والعالم عبر شبكة أمان لواجهات تجارية وخيرية وذلك رغم الحظر والمراقبة الدوليين المفروضة على حركة تدفقات الأموال إلى الجماعات الإرهابية من مجلس الأمن الدولي ومن الدول الكبرى الرئيسية ذات النفوذ الواسع في النظام المصرفي العالمي.


إلا أن هذه الرقابة الشديدة على التدفقات النقدية الداخلية والتي رتبت التزاماً قانونياً على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بضرورة الالتزام بها، قد أثرت بلا شك على حجم وانتظام تدفق الأموال على طالبان والقاعدة. فكان لابد من البحث عن طرق ملتوية وأخرى غير مشروعة لتدبير الأموال اللازمة لتمويل الحرب التي يخوضانها. وكانت العودة لزراعة المخدرات وتصديرها لأسواق الاستهلاك في أوروبا والولايات المتحدة.
أما الميليشيات الصومالية التي يوالي كل منها قبيلة أو جهة نفوذ إقليمية أو دولية معينة، والتي حولت هذا البلد العربي الأفريقي الفقير إلى إقطاعيات خربة تعيث فيها العصابات المسلحة من كل لون فساداً وفجوراً بأسماء ويافطات مختلفة، فقد ‘اهتدت’ في ضوء الانهيار التام لمقومات الدولة الباسطة سيادتها على حدودها الجغرافية، إلى أسلوب ‘مبتكر’ بمقاييس القرن الحادي والعشرين، وهو في الواقع مستعار من القرون الماضية ما بعد الوسيطة. انه القرصنة البحرية (Sea Piracy) التي شاعت وازدهرت ‘صناعتها’ في الصومال السنتين الأخيرتين، والتي بلغ عدد عملياتها هذا العام فقط 60 عملية قرصنة.


ولولا العمليـة الأخـيرة التي تم خـلالها اختطاف سـفينة الشحـن الأوكرانية (MV Faina) في خليج عدن وخفرها إلى مراسي القراصنة إما في قرية إيل (Eyl) بمقاطعة ‘بانت لاند’ (Puntland) في الشمال الشرقي أو إلى مدينة القرصنة هاراديري (Haradheere) في الجنوب وذلك بالنظر لطبيعة حمولة السفينة، حيث كانت تنقل 33 دبابة تي-72 الروسية الصنع ومدافع مضادة للطائرات ومنصات إطلاق قذائف ومعدات عسكرية أخرى خفيفة يقال إن جهتها النهائية كانت جنوب السودان (بحسب مانيفستو البضاعة المشحونة) مع أن كينيا أعلنت تبعية الشحنة لها، ما قد يعني انها صفقة مقايضة مقابل نفط سوداني رخيص – لولا هذه العملية لما كان العالم التفت إلى هذه الظاهرة التي باتت تهدد الملاحة البحرية في خليج عدن الذي يمر خلاله 10٪ من التجارة الدولية.


وتقدر مصادر الأمم المتحدة حجم مبالغ الفدية التي دُفعت للقراصنة الصوماليين هذا العام فقط بحوالي مائة مليون دولار (علماً بأن ميزانية مساعدات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للصومال لا تتجاوز 14 مليون دولار).


لقد تحولت القرصنة إلى قطاع أعمال يدر الملايين على رواده من أعضاء هذه العصابات المنظمة وإلى مهنة لكل من يسعى لانتشال نفسه من حالة البؤس والشقاء التي تردت إليها غالبية الشعب الصومالي (تقدر الأمم المتحدة ان 2,3 مليون من الصوماليين يعتمدون على المساعدات الغذائية الدولية) والتمتع بالثروة والجاه والنفوذ وسط عشيرته ومحلته. ومع أنه لم يثبت بعد ارتباط هذه العصابات بالمليشيات الإسلامية بصورة مباشرة، إلا أن الأكيد ان عصابات القرصنة تدفع خوات للميليشيات المسيطرة على الشريط الساحلي الصومالي ومنها مليشيات الشباب والمحاكم الإسلامية التي سيطرت مؤخراً على ميناء مدينة كيسمايو الجنوبية، إضافة إلى تسهيل هذه العصابات وصول الأسلحة إلى المليشيات التي أسهمت بقسطها في تحويل الصومال إلى مرتع للعصابات الإجرامية وملاذاً للإرهابيين الباحثين عن مأوى لا تطاله الملاحقات الإقليمية والدولية.
انها ظاهرة أخرى تتحدى النظام الدولي وأسياده الكبار الذين لا تنقصهم المشاكل هذه الأيام.

 
الوطن 11 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

مفارقات في‮ ‬محاربة الفساد‮..!‬


لا نعلم هل علينا أن نأخذ على محمل الجد وأن نصدق ما نشر قبل أيام عن رفض حكومي لمشروع مجلس النواب الذي أقره بالإجماع في 3 أكتوبر 2007 بشأن إنشاء هيئة عليا وطنية لمكافحة الفساد.
ولا نعلم حقيقة ما إذا كان علينا أن نأخذ على محمل الجد، وأن نصدق ما سبق ذلك الرفض حينما نشر ما يفيد بأن “تعزيز جهود الحكومة لمكافحة الفساد على مدى السنوات القادمة قد وضع كأولوية تحظى بدعم أعلى السلطات في المملكة”.


المفارقة المدهشة وما أكثر المفارقات المدهشة في واقعنا الباعثة على قدر كبير من الحيرة، أنه لا يفصل بين الموقفين المذكورين سوى أيام معدودة، وعلى وجه التحديد ٨ أيام، والبداية حينما ظننا وليس كل الظن إثماً، بأننا أخيراً بدأنا نمضي حقاً في طريق الجد بعد أن وجدنا فيما نسب إلى المسودة الأولية الإستراتيجية الوطنية السداسية للمملكة ( 2009 – 2014) التي أعدها مجلس التنمية الاقتصادية والحكومة، إشارات ورسائل واضحة لا يمكن إلا أن تكون موضع حفاوة وارتياح، من نـــوع ” أن الحكومة سوف تستمر في سياسة عدم التحمل المطلق للفساد والمحاباة” “وأن الحكومة سوف تعمل على تعزيز جهودها لمكافحة الفساد وسوف تنفذ نظاماً للرقابة والإشراف والشفافية والعدل، وسوف تسعى إلى التوصل إلى توازن بين تكاليف الرقابة والإشراف والمنافع”، وفي إشارة أخرى لافتة لها دلالة لا تقبل التأويل تفيد بأن الحكومة ستعين فريقاً خاصاً في ديوان الرقابة المالية للنظر في دعاوى الفساد والمحاباة يعمل بشكل مستقل وتحت الإشراف المباشر لقيادة المملكة لضمان إعطاء الأولوية المطلقة لمحاربة الفساد، وأن هذا الفريق سيعبر عن الوجه الرسمي للبحرين في مجال محاربة الفساد، وسيكون نقطة الاتصال الأولى للإبلاغ عن حالات الفساد وتلقي الشكاوى للتحقيق فيها، وإن هذا الفريق سيعنى بآليات الإبلاغ عن حالات الفساد، وملاحقة أي شخص يرتكب مخالفة فساد مهما كان مستوى ذلك الشخص أو منصبة.


ذلك وبالنص ما جاء في الإستراتيجية الوطنية السداسية للمملكة، كمحور مهم من محاورها، وهو كلام موثق ومنشور وبدا فيه أن الإستراتيجية لم تغفل دور الجمهور في التصدي للفساد عبر إشراكه في التدابير المتخذة لمكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية في تقديم الخدمات الحكومية.
قلنا بأن ذلك منشور وموثق، وبتنا على أساس ذلك نعلم محاور ومنطلقات وأهداف وبرامج أوحت لنا بأننا سوف نشهد بزوغ البشارة الموعودة التي تؤذن ببدء معركة حقيقة مع الفساد، خاصة وأننا اعتبرنا بأن ذلك الكلام ليس فيه مزح أو هزل أو التباس، لذلك فإننا بعد الأيام الثمانية وهي المدة الفاصلة بين ذلك الكلام أو التوجه أو الموقف الطيب وبين هذا الذي استوقفنا وأدهشنا لأنه حمل إلينا ما ينبئنا عن رفض حكومي لمشروع إنشاء هيئة عليا وطنية لمكافحة الفساد، والتبريرات لذلك خلاصتها:


– منع وجود هيئات جديدة تزيد الأعباء المالية للجهاز الإداري للدولة.
– وجود الكثير من الأجهزة في الدولة تمارس الأدوار الرقابية التي أراد النواب لهيئة مكافحة الفساد ممارستها، ومنها ديوان الخدمة المدنية.
– إن جرائم الفساد مثل الرشوة، واستغلال النفوذ والاختلاس والنصب وخيانة الأمانة وغسل الأموال والانحراف الوظيفي مجرمة في القوانين السارية.

الحيرة التي تملكتنا أمام تلك الحيثيات ليست بالأمر الهين، خاصة وأن لغة العقل والمنطق والمصلحة لازالت تصر على ضرورة وضع محاربة الفساد ضمن الأولويات الفعلية والحقيقية لهذه المرحلة، خاصة وأن لب المشروع الإصلاحي لجلالة الملك يرتكز على الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد، فالملك هو القائل بالابتعاد عن الفساد لنرتقي بالوطن، وهو الداعي إلى مكافحة الفساد لضمان نمو البحرين وتطورها الاقتصادي والاجتماعي، وهو الذي تبنى وساند ووجه إلى إنشاء ديوان للرقابة الإدارية – لازال في طي المجهول – ليكون رديفاً ومكملاً لجهد ديوان الرقابة المالية في مواجهة التجاوزات ومحاربة الفساد وتفعيل آليات الإصلاح المالي والإداري، ولا حاجة لنا لنعاود التذكير بكل ما طرحه الملك في مناسبات عدة في شأن موضوع الفساد، إلا أن ما طرحه يؤكد وجود إرادة سياسية ولابد أن تدفع الجميع إلى ممارسة دورهم في تحقيق الإصلاح المنشود ومناهضة الفساد.


كان من الأجدر أن يكون موضوع إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد سابقاً على إنشاء أي هيئات أخرى مطروحة للتداول والنقاش خاصة إذا كان صحيحاً ما جاء في الإستراتيجية الوطنية السداسية التي أشرنا إليها من جعل محاربة الفساد كأولوية مطلقة في الفترة المقبلة.
بقي أن نقول إننا لا نعرف حقيقة أي صدى حتى الآن على الأقل لموقف الرفض من موضوع إنشاء هيئة وطنية عليا لمكافحة الفساد، عدا الموقف الذي عبرت عنه جمعية الشفافية التي نشاطرها الدعوة في الإلحاح على مراجعة هذا الموقف، وأن يتمسك مجلس النواب بحقه ومسؤوليته في التمسك بتفعيل الهيئة كأداة من أدوات المواجهة مع الفساد، فهل سيكون مجلس النواب في مستوى المسؤولية والآمال المعقودة عليه؟


إجابة نتركها لما ستحمله لنا الأيام المقبلة لنعرف ونتعرف على الأقل على حدود المعتمد المباح في شأن موضوع محاربة الفساد..!

 

اقرأ المزيد

صراعُ الطوائفِ والطبقاتِ في العراق (1)


كان النظامُ العراقي السابقُ يمثل مركزيةً قوية شديدة ضد مكونات المجتمع العراقي، وحين انهار عادت هذه المكونات إلى سابق عهدها فيما قبل الدولة المركزية. لقد عاد المجتمعُ الإقطاعي المتحركُ صوب الرأسمالية بفوضوية وبغير عقلانية إلى تجمعاته الدينية والعشائرية والمناطقية المختلفة، بكل إرثها المحافظ المتخلف، فظهرت كياناتُ الجنوبِ والوسط والشمال. وإذا كان الشمالُ الكردي تسيطر عليه القوميةُ الكردية، وهي الممنوعةُ من تشكيلِ وطنٍ قومي لها، فتظلُ مترجرجةً بين الكيان الوطني العراقي وكيانٍ قومي مُفترض ومرفوض إقليميا وعالميا، فإن الكيانين العربيين الجنوبي والوسطي اللذين كان توحدهما القوميةُ العربية صارا كيانين مذهبيين سياسيين منفصلين يفرقهما ما يُزعم إنه إسلام عبر ارتكاز النظام السابق على منطقة وطائفة من دون منطقة وطائفة أخريين.


لقد كونت الدولةَ العراقية خلال نصف قرن الماضي الفئةُ البيروقراطية العسكرية والمدنية المتحالفة مع كبار التجار والمستثمرين وملاك الأرض ورؤساء العشائر، وتمثل ذلك في جهاز الدولة العسكري خاصةً وحزب البعث، ولم تكن لهذه الفئات استقلالية عن الجهازين العسكري والسياسي، أو قدرة على إنتاج ثقافة وطنية تصهرُ الشعبَ في كلٍ موحد، بل على العكس فارق الشعبُ الثقافةَ الشعارية السياسية المنتجة من قبل النظام، بسبب إدخالها إياه في حروب كارثية وقمع وتشرد ثم حصار، فكانت الهزيمة العسكرية إعلاناً بتمزقِ كل شيء، وكل رابطة توحيدية. وخلال الضربة العسكرية وتصفية الوجود المادي للنظام السابق، تشكلت قوى سياسية جديدة متنفذة من سرقة أموال الدولة السابقة ومن خلال النهب السريع الواسع للثروة الوطنية، فتشكلت مجموعاتٌ استولت (على الأراضي ووزعتها على المؤيدين لها)، (من كتاب الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، للباحث د. لطفي حاتم).


وفي تحليل للحزب الشيوعي العراقي اعتبر عمليات النهب تلك صادرةً عن قوى إجرامية غير محددة الهوية الاجتماعية. ظهرت مرجعيتان كبريان هما المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية احتلت الأقاليم الثلاثة، فقد سبق للإقليم الكردي أن جعلهما مسيطرتين لكن من خلال الحزبين الكرديين المهيمنين. وبناءً على تحولهما إلى أساس سياسي للدولة العراقية الجديدة، فقد انتفت المرجعيةُ الديمقراطيةُ المفترضة من تكوين يُقام على أساس مذهبي مناطقي، فمن يعينُ النوابَ حقيقةً هو المرجعيات الطائفية، وليس الانتخاب الحر في بلد يمتلك فيه المواطنون الحرية السياسية والعيش المستقر. وبهذا فقد تم وضع الأساس لانقسام العراق إلى دول ثلاث، فظهرت كياناتٌ إدارية لهذه الدويلات، وظهر كذلك كيانٌ حكومي موحد، هو تجميعٌ للكيانات الثلاثة على صعيد العاصمة، فهي تشكيلات سياسية فوقية إذا امتدت للجمهور تمتد كجذور مذهبية وإقطاعية متعددة المشارب.


واعتبرت القوى المؤثرةُ ذلك الانقسام بكونه فيدرالية، أي أنه ثلاثة أقاليم مستقلة في بعض الخدمات ولكن تبقى هناك دولة مركزية وأساسها الجيش والبرلمان الموحد وغير ذلك من المؤسسات الاتحادية، لكن ذلك يبقى نصوصاً مكتوبة وليس واقعاً إلا إذا استطاعت المؤسسات التوحيدية أن تشكل جيشا وطنيا حقيقيا. لم يظهر عراقُ الطائفية والعشائرية الراهن كجسمٍ سوداوي سحري ظهر من باطن الأرض فجأة، بل تشكل خلال العقود الأخيرة ببطء، وكان موجوداً في كل المكونات الاجتماعية والثقافية. لقد كان حزبُ البعث المفترض كجسمٍ سياسي علماني قومي ينزلقُ نحو هذا اليمين المحافظ بصورة مستمرة، فكان عداؤه التاريخي للحزب الشيوعي العراقي، هو وليدُ الرغبة في المنافسة لتيار يساري جماهيري، عبر تصفيته وإزالة القضايا التي يطرحُها وبركوبِ ظهر العسكر والعشائر، ومن هنا كان احتضانه قيادة عفلق التي خرجت من سوريا المتجهة لليسار وقتذاك، ورسخ الحزبُ البعثي نفسه بين العسكر والقبائل والطوائف، أي كل ما هو محافظ، وكانت المذابح التي كرسها، وأجهزة القمع الواسعة والإفساد للثقافة الوطنية والقومية، كانت هي كلها تضعه ملكاً لقيادةٍ مغامرة. (كان صراع الاشتراكية والرأسمالية المزعوم يجري بشكل مميت في العراق). وقد ظهرت القيادة المغامرة حين عاد صدامُ الذي قيل إنه ارتبط في القاهرة بالمخابرات الأمريكية، وحين صعد تم الهجوم حتى على بذور الحداثة التي شكلها الحزبُ في تاريخه الطويل. لقد توجه لضرب تحرك العراق نحو الحداثة و(الاشتراكية) لكي ينضم إلى اليمين العربي الإقطاعي وكانت أغلبُ خطواته استدعاء مستمرا للاستعمار الأمريكي في منطقة الخليج خاصة. وكان التعجيل المستمر الذي يطالب به الحزب الشيوعي قد أسهم في المنافسة الضارية بين الجماعتين التحديثيتين، التي كان يُفترض أن يمثل البرجوازية فيها البعثُ ويمثل العمالُ الحزب الشيوعي، ولكن الميراث الدكتاتوري العنيف منع مقاربتيهما المختلفتين طبقة، المتحدتين حداثة.


إن البعثَ في توجههِ نحو اليمين ارتبط بالموروثِ السني المحافظ، العسكري، كما كونهُ الإقطاعُ المذهبي خلال القرون السابقة، فغدتْ القوميةُ العربية بدويةً عشائرية، وارستقراطية، وأعادتْ تاريخَ الغزو والأسلاب، المتحد مع تكنولوجيا النابالم والأسلحة الكيماوية. ومن جهة اليسار فقد راح يذوب في الطوائف والأقليات المقموعة، من دون أن تتيح له الشروط الموضوعية أو وعيه، أن يجمع بين اليسار واليمين، بين السنة والشيعة، بين الشمال والجنوب، في تيار نضالي مشترك، فصار في ذيل الأحداث والقوى المذهبية السياسية الطافحة.


إن القوةَ الكبرى المستفيدةَ خلال ذلك كله هي حكومات الولايات المتحدة المتتابعة، فكان صدامُ وتاريخُ الحماقة الوطنية والنزاعات المذهبية والمراهقة اليسارية، هي كلها الجذور الدموية التي أنتجت تفاحة العراق الناضجة دماً ونفطه ومنطقته الإستراتيجية والقواعد الكثيرة وحاملات الطائرات. لقد حدث التآكلُ السياسي في حزبي العمال والبرجوازية الوطنيين، الشيوعي والبعث، وهو نتيجةٌ للتآكل وعدم معرفة الجذور في الجنوب الشيعي والوسط السني، أي في عجز المذهبية المحافظة والقوموية المتعصبة، والاستيراد الفكري من الخارج عن إنتاج مؤسسات وطنية عقلانية ديمقراطية، بمعنى ان العربَ المسلمين عجزوا عن تشكيل سلطة ديمقراطية توزعُ فوائضَ النفط بين الأقاليم الثلاثة، وأن تشكلَ نهضةً، وغدت رأسماليةُ الدولة التي تحولت إلى تنينٍ بعد التأميم، قوةً كبيرة تلتهمُ البشرَ أكثر مما تحُدث الزراعة وتساعد البدو على الانتقال للحداثة، وتعطي مزارعي الجنوبِ الأراضي والمساعدات.


لقد توهم كلُ طرفٍ من المسلمين أن الطرف الآخر هو المسؤول عن الكارثة الوطنية، ومع إزالة القوى التحديثية المعارضة، بقيت المجالسُ العشائرية والكيانات المذهبية هي المغناطيس الذي يجذب برادة الحديد الذائب التائهة.


 
أخبار الخليج 10 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

تحية للرئيس الجديد لهيئة الأمم المتحدة


جاءت تصريحات الرئيس الجديد للجمعية العامة للأمم المتحدة (ميغيل ديسكوتو بروكمان) خلال افتتاح الدورة السنوية الثالثة والستين للأمم المتحدة، مبعث فخر الشعوب، بقدر ما هي مصدر اعتزاز أصحاب الرأي والضمير وهيئات ومنظمات حقوق الإنسان.. لكون هذه التصريحات الشجاعة لم يجرؤ على إعلانها، والجهر بحقائقها، أيا كان من أسلاف الرئيس الجديد للأمم المتحدة ممن شغلوا سواء إداريين أو رؤساء أو أمناء عامين لجمعية الأمم المتحدة سوى الأمين العام الأسبق لهيئة الأمم المتحدة (داغ همرشولد) ما بين عامي (1953 – 1961م) الذي في ضوء مواقفه الوطنية والمبدئية “الجريئة”على مواجهة الولايات المتحدة، اغتالته “السي اي ايه” بواسطة إسقاط طائرته بالكونجو في سبتمبر 1961م.


وهكذا ما تفخر به الأمم المتطورة والحضارية ما جاء من تصريحات شجاعة للرئيس الجديد لهيئة الأمم المتحدة (ميغيل ديسكوتو) في الألفية الثالثة، تضمن محتواها ” شن هجوم عنيف على الولايات المتحدة ” من دون تردد وبلا خوف ولا وجل بقدر الشجب والتنديد بالسياسة الأمريكية العدوانية بفرض الحصار على كوبا الاشتراكية منذ 45 عاما.


ليس هذا فحسب ولكن حملت تصريحات (ديسكوتو) في جوهرها دعوة وطنية ومبدئية تفضي بموجبها إلى «إصلاح عاجل لمجلس الأمن الدولي والبحث إلى توسيعه، مثلما اتسمت هذه الدعوة بالنقد اللاذع لاستبداد بعض أعضاء مجلس الأمن لوضع أنفسهم فوق ميثاق الأمم المتحدة واستئثارهم بحق النقض الفيتو” بحسب ما جاء على لسان الرئيس الجديد لهيئة الأمم المتحدة “.


بادئ ذي بدء نستطيع القول هو حينما أسلفنا الذكر إلى ما تطرق إليه الرئيس الجديد للأمم المتحدة قائلا «استبداد بعض أعضاء مجلس الأمن بوضع أنفسهم فوق ميثاق الأمم المتحدة«.. فان الهيمنة الامبريالية تعود أسبابها إلى سياسة دول الحلفاء التي انتصرت على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي فتح أمامها الأبواب واسعة مشرعة، في ان تسن من القوانين ما يخدم مصالحها السياسية، وتشرع من تشريعات تمثلت في صياغة الميثاق الدولي، الذي ظل بنصوصه ومواده وأنظمته في ثبات وجمود باستاتيكية دوغمائية من جهة، والقائم على التفاوت والاستثناءات التي تتفرد بها الدول الكبرى في مجلس الأمن الدولي.


ولعل عملية انهيار المعسكر الاشتراكي في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي قد دفعت بالولايات المتحدة إلى أن تنتابها رغبة استبدادية عارمة في الهيمنة الامبريالية والكولونيالية باحتلالها العسكري، وترهيبها الايديولوجي، واضطهادها السياسي المفروض على دول العالم، ونهب خيراتها ومقدرات شعوبها، والعراق خير شاهد على ذلك وغيره من الدول الاخرى. ولعل القول الملح أن ما تطرق إليه الرئيس الجديد لهيئة الأمم المتحدة، حول تهميش هيئة الأمم المتحدة متسائلا «إذا كان رأي أكثر من 95% من أعضاء الأمم المتحدة يتم تجاهله، حول الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة منذ 45 عاما على كوبا عمدا، فما فائدة الجمعية العامة؟«.. ونحن بدورنا نستطيع القول: لقد اثبتت الحتمية التاريخية، وأكدت الوقائع السياسية، وبما يستجد على الساحة العالمية من أحداث، وبما تنطق به حقائق الأمم والشعوب وحقوق الإنسان والدول المضطهدة أن هيئة الأمم المتحدة لا تمتلك من الشرعية والمسئوليات المصيرية الكبرى، سوى اسمها بالصورة والشكل، من دون قدرتها على اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية، بسبب طغيان دورها السلبي الذي بات جليا أمام العيان، على ان هذه الهيئة الدولية تعاني ما تعانيه من التهميش والدونية، وبما تنوء به من ترسيخ الشلل والعجز بأجهزتها والفساد الإداري والمالي وسوء الإدارة بين أروقتها.. وضياعها بهوية هلامية هشة، وبكلمة غائبة، في ظل الهيمنة الأمريكية الأحادية القطبية، بفرض طغيانها واستبداد هيمنتها، بقانون القوة وهمجية شريعة الغاب.


 انه من الأهمية بمكان القول انه ليس بالضرورة في الوقت الراهن اعتماد إصلاح وتوسيع عضوية مجلس الأمن الدولي في موعد أقصاه 28 فبراير المقبل.. بقدر ما هو أهم من ذلك كله هو إعادة النظر في صياغة ميثاق هيئة الأمم المتحدة، المستبد بأنظمته، والاوتوقراطي بقوانينه، والدوغمائي بقوانينه، التي أكل الدهر عليها وشرب..


ولعل الصياغة الجديدة والديمقراطية لهذا الميثاق الدولي، قد تكمن بالدرجة الأولى في مشاركة المنظمات غير الحكومية، منها منظمة العفو الدولية، ومختلف منظمات حقوق الإنسان، ونقابات الحقوقيين والمحامين والصحفيين والمفكرين وأصحاب الرأي والضمير، كشركاء حقيقيين ومساهمين فعليين ومؤهلين لإعادة صياغة تلك المواثيق والتشريعات الدولية التي في ضوء هذه الصياغة الجديدة للمواثيق الدولية، وبماهيتها ومفاهيمها المتجددة، ينتصر مبدأ الحق والعدل والمساواة بكفته الراجحة.. بحسب ما يمنح هذا الميثاق الدولي الجديد الصلاحية القانونية، والكفاءة السياسية في توسيع عضوية مجلس الأمن الدولي.. ناهيك عن انتشال هيئة الأمم المتحدة من براثن استبداد الولايات المتحدة، والحفاظ على هويتها وهيبتها وسيادتها، ووضع حد للهيمنة الأمريكية بنظام عولمة القطب الواحد على هيئة الأمم المتحدة من جهة، ودول العالم من جهة أخرى.. وبالتالي تغيير القانون السائد المستبد إزاء نظام التصويت وحق النقض الفيتو،وازدواجية المعايير المهيمنة من خلال مجلس الأمن الدولي. أخبار

الخليج 10 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

أسباب تدهور وعينا

لا يتعلق تدهور الوعي الذي يتجسد في الآداب والفنون وفي الثقافة وفي الوعي السياسي بانتشار الأنانية والانتهازية فقط، بل كمعادل لهذا الانتشار تضاؤل الوعي المادي الجدلي، وهو وعي الحفر في الحقيقة، في كشف تناقضات الأفراد والفئات والمجتمعات. حين تلاحظ اللحظات التاريخية بازدهار المجتمعات، بدءًا من الثورة الفرنسية والثورتين الروسية والصينية وثورات التحرر الوطني تجد ان مثقفيها البارزين الذين وضعوا بصماتهم على التطور السياسي العاصف، الذي غير مجرى بلدانهم والعالم، فعلوا هذا حين اقتربوا من الوعي المادي الجدلي، حين وجهوا ابصارهم لتناقضات الواقع والثقافة السائدة، متخلين عن أوهامهم الفردية والطبقية، مزيحين هذه الغلالة من الأفكار المسبقة، ومن الأوهام.
وقد انتهت تلك الموجة من الوعي التقدمي الذي ساد القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا وآسيا، وهدم الامبرطوريات الاستعمارية، بسبب من شعارية هذا الفكر وتبسيطه في العديد من المحاور، فقد وقف عند هدم المجتمعات التقليدية وكان أمراً بسيطاً قياساً لبناء المستقبل الذي أُخذ بأفكار نقصها ذلك الفكر الجدلي، لقد تصورت انها تبني مجتمعات تنتهي فيها التناقضات، والتناقضات لا تنتهي، وتصورت دولة تزيل الطبقات، والدولة ذاتها جهاز قمع، وتصورت أنها تنهي الرأسمالية في الوقت الذي تقوم بتشكيلها عبر جهاز الدولة نفسه. فهي لم تكن تفهم التناقضات التي تشكلها. وانظر كيف كان حال وعينا في الخمسينيات والستينيات مزدهراً بحركات التغيير في السياسة والثقافة، ثم كيف تدهور مع الموجات الدينية، فصارت ثقافتـُنا العامة ضحلة. إن الموجات الدينية الجماهيرية هذه تعتمد على وعي طفولي ساذج، فهي لا تفهم تعقيدات المجتمعات المعاصرة، وتناقضاتها الطبقية والثقافية، وهي تضعُ فوقها أفكاراً خيالية غيبية، وهذا نتاج قيادات مثقفيها المحافظين الذين يخافون الحركة النضالية الشعبية، فيقسمون الشعوب إلى طوائف ويقسمون العائلات إلى رجال ونساء، ويقسمون الثقافة إلى غيب وواقع. وهم يعيدون ثقافة ضعيفة الاتصال بالعلوم الطبيعية والاجتماعية، ثقافة كانت تعتمد على معلوماتٍ تقدمُها الِحرفُ والأشغالُ اليدوية، في حين انتقل العالمُ منذ قرون لثقافة تعتمد على التصنيع. إدخالهم الدين في السياسة ليس نتاج التقوى بل الأنانية، فهم عاجزون عن التطور العلمي، وعن الشجاعة في تحليل المجتمعات وتناقضاتها الحقيقية، فالتناقض بين العمل ورأس المال، التناقض بين الطبقة الغنية والطبقات الفقيرة، التناقضات بين الشعوب والاستعمار، التناقضات بين الثقافة العلمية والثقافة الخرافية، التناقضات بين ثقافة الغرب المتقدمة وثقافة الشرق الهزيلة، كل هذه التناقضات المحورية في العالم لا يقومون بتحليلها، مثل النشطاء في مجال الثقافة والإنتاج الفكري. إن الإنسان المتفاعل مع الأحداث يذهب لخطبة شيخ الدين ليسمع كلاما عاطفيا وفيه إثارة غيبية غير محددة، فشيخ الدين لا يحلل استغلال الشركات والبنوك، ولا العلاقات الاقتصادية الدولية التي تأخذ بخناق هذا المواطن المتألم، لأنه ربما صاحب علاقات بهذه القوى المادية، فيركز في العلاقات الروحية الغامضة. خطابُ شيخ الدين هنا خطابٌ أناني. وخطابُ شيخ الدين هذا سلسلة من خطابات مثقفي التقوى هؤلاء الذين لا يريدون إثارة الشركات والوزارات ويكشفون الأسعار والأجور والتلوث والاستغلال، محلقين في عالم من التخيل الخاص والتجارة بالرموز المقدسة لأصحابها. ويقول الفنانُ: لماذا أرسمُ آلامَ الإنسان وهل يمكن أن تـُعرض في معرض؟ بطبيعة الحال سيقف القائمون على المعرض دونها. ومن سيشتريها؟ ويمكنني أن أرسم ألواناً وأشياء تجريدية أو صوراً فوتغرافية جميلة للصحراء والجمال والنخيل وهي تـُشترى. ويقول الكاتب: لا استطيع أن أقوم بتحليلات وتحقيقات ومسرحيات وأفلام تكشفُ جشعَ الأغنياء والحكومات وأعري العائلات المحترمة فلاكتفِ بمسرحيات ضاحكة تخفف عن الناس أحزانهم، ومسلسلات تتكلم عن قضايا صغيرة عائلية وخاصة مسألة الطلاق، فكم يؤدي الطلاق إلى كوارث! يعيش المنتجون للأفكار والثقافة السائدة في عالم من الكذب الواسع، وهم نتيجة لجهلهم بالدين ولعمومية مقولاته، يستعينون به لكي يستروا تنازلاتهم لقوى الاستغلال، فإذا سرق المثقف قال: سأذهب للحج لا لشيء سوى أن يخفي ما قام به، وهذا تدهورٌ غاصَ فيه الآن المثقفُ عوضاً أن يكشف السرقات العامة، ويذهب للحج، فتغدو المظاهر العبادية جزءًا من عالم الاستغلال، ويتوسع الأمر في ظل تحويل ذلك إلى عملية تلاعب سياسية واسعة بالدين، وكون التزام المرشح بالعبادات هو ضمان لصحة انتخابه ولصحة عمليات السياسة الوطنية. ويعمق الجمهورُ الجاهلُ هذه الحالة، فبدلاً من أن يطلب إلى السياسي المرشح شهادةً عن نضاله ضد الاستغلال ولرفع حياة الجمهور المعيشية، يطالبه بكشف حساب لعدد صلواته، فالجمهور يزيد أوضاعه سوءًا، فإضافة إلى الاستغلال الحكومي على كاهله يظهرُ استغلالُ النواب. إذًا الوعي المادي الجدلي، الوعي بالتناقضات الطبقية والاقتصادية عامة وتحليلها وكشفها، ومعرفة الوسائل السياسية المرافقة لهذا الوعي والمتوجهة لتنظيم الجمهور لكي يناضل لحلها، هو العاملُ الفكري المرافقُ لنمو الشعوب نحو الحرية والتقدم، فهو وعي يحددُ المشكلات الرئيسية ويوجه الإرادةَ البشرية نحو حلها. فتنظيمُ الشعب الصيني الذي يبلغ أكثر من مليار يعتمد على نخبة صغيرة وجهته نحو حل مشكلاته الحقيقية في الواقع، وليس في الخيال الديني أو الرومانسي أو الذاتي الأناني. إن مشكلاته هي في ضعف المصانع والتجارة والعلوم الخ… وتأتي الحلولُ محددةً، وبعد ذلك من يؤمن بماو فليؤمن ومن يؤمن ببوذا فليؤمن، فساحة الواقع لها مكانتها ومناهجها وساحة الغيب لها مناهجها. خلقت الشعوبُ بهذه المادية الجدلية ثورات «نهضوية« كبرى انتقلت بها من خنادق المتخلفين إلى فضاء المتقدمين.
 
صحيفة اخبار الخليج
9 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

ماركس‮ ‬يعود

أعرف أن العنوان أعلاه سيبدو صادماً‮ ‬لكل الذين ظنوا أن أفكار ماركس قد قُبرت للأبد،‮ ‬وأن قائمةً‮ ‬لها لن تقوم أبداً‮. ‬اعرف أيضاً‮ ‬أن العنوان أعلاه بالنسبة لآخرين سيبدو موضوعاً‮ ‬للتندر والسخرية،‮ ‬ولسان حالهم‮ ‬يقول‮: ‬ألا تتعظون؟،‮ ‬هل من مجنون‮ ‬يصدق أن ماركس عائد إلينا بعد ما جرى في‮ ‬الاتحاد السوفيتي‮ ‬ومحيطه في‮ ‬أوروبا الشرقية،‮ ‬وهناك من سيرى أيضا في‮ ‬العنوان دعوة للشمولية السياسية والاقتصادية،‮ ‬وحنين إلى زمن مضى ولن‮ ‬يعود‮.‬ لطمأنة هؤلاء جميعاً‮ ‬وتهدئة روعهم،‮ ‬نقول أن من‮ ‬يتحدث عن هذه العودة المحققة لماركس ليس اليساريين ولا بقاياهم،‮ ‬وإنما عتاة الرأسماليين،‮ ‬والأكاديميون المستقلون الرصينون الذين لم‮ ‬يكونوا‮ ‬يوماً‮ ‬أعضاء في‮ ‬أحزاب‮ ‬يسارية،‮ ‬بل لعلهم على خصومة مع هذه الأحزاب‮.‬ وإمعاناً‮ ‬في‮ ‬الطمأنة نقول أن الزمن الماضي‮ ‬لن‮ ‬يعود،‮ ‬والشمولية التي‮ ‬انهارت لن تعود هي‮ ‬الأخرى،‮ ‬دون أن ننسى أن شمولية الاقتصاد الحر أشد بشاعة من تلك التي‮ ‬سقطت في‮ ‬البلدان الاشتراكية السابقة‮. ‬الكاتب المصري‮ ‬أحمد الخميس نقل عن مواطن روسي‮ ‬بسيط القول التالي‮:»‬الاشتراكية أعطتني‮ ‬سروالاً‮ ‬واحداً‮ ‬فقط لألبسه،‮ ‬فيا للبؤس،‮ ‬لكن اقتصاد السوق الذي‮ ‬حل بعدها نزع مني‮ ‬حتى هذا السروال الوحيد‮.«‬ وفيما‮ ‬يتبارى بعض الماركسيين السابقين الذين شقت أصواتهم عنان السماء وهم‮ ‬يهتفون بها في‮ ‬أزمنة صعودها،‮ ‬في‮ ‬إظهار براءتهم منها،‮ ‬وسخريتهم من ماضيهم،‮ ‬وندمهم على ما أنفقوه من سنوات في‮ ‬قناعاتهم السابقة،‮ ‬متبارزين في‮ ‬خلع الجلد القديم،‮ ‬تارةً‮ ‬بارتداء القبعة الليبرالية الأنيقة،‮ ‬وتارةً‮ ‬أخرى بارتداء العمامة الاسلاموية،‮ ‬فان الأذكياء من الرأسماليين ومن أهل اليمين‮ ‬يعرفون حق المعرفة ما الذي‮ ‬تعنيه أفكار ماركس في‮ ‬عالم اليوم‮.‬ في‮ ‬ألمانيا،‮ ‬وفي‮ ‬استطلاع للرأي‮ ‬موّلته شركة التلفزيون‮ »‬زيد دي‮ ‬اف‮« ‬لمعرفة أهم الشخصيات الألمانية في‮ ‬التاريخ،‮ ‬صوت أكثر من خمسمائة ألف مشاهد لماركس؛ فحل ثالثاً‮ ‬في‮ ‬التصنيف العام وأولاً‮ ‬في‮ ‬فئة‮ »‬الأهميات الحالية‮«‬،‮ ‬فيما صوّت مستمعو برنامج‮ »‬في‮ ‬وقتنا‮« ‬على إذاعة‮ »‬بي‮ ‬بي‮ ‬سي‮٤ ‬لماركس بوصفه فيلسوفهم الأعظم‮.‬ المفكّر جاك اتالي‮ ‬قال‮: »‬الرأسماليون وللمفارقة هم من‮ ‬يعيدون اكتشاف ماركس أكثر من‮ ‬غيرهم‮«. ‬وتحدث عن دهشته عندما قال له رجل الأعمال والسياسي‮ ‬الليبرالي‮ ‬جورج سوروس‮ »‬كنت اقرأ ماركس للتو وهناك أشياء باهرة كثيرة‮ ‬يقولها‮«. ‬ لا بأس من‮ »‬بحرنة‮« ‬الموضوع،‮ ‬صديقنا الكاتب القديرحافظ الشيخ الذي‮ ‬لا‮ ‬يجمعه كبير ود مع الماركسية،‮ ‬كتب منذ شهور قليلة قائلاً‮ : »‬بالتأكيد أنّ‮ ‬كارل ماركس هو أدق مَنْ‮ ‬قدّم نقداً‮ ‬منهجيا للرأسمالية وأصولها وآثارها،‮ ‬وأيضاً‮ ‬لا شكّ‮ ‬أن الماركسيّة،‮ ‬على جُملة مناهجها واتجاهاتها ومذاهبها،‮ ‬هي‮ ‬في‮ ‬العصر الحديث أدقّ‮ ‬نقدٍ‮ ‬قد ظهر للرأسمالية‮«.‬ وحافظ الشيخ إذ انتقد التطبيقات العملية للماركسية في‮ ‬الاتحاد السوفيتي‮ ‬وسواه قال‮: »‬أنّ‮ ‬فاشلاً‮ ‬في‮ ‬الحياة وبالغ‮ ‬الحُمق هو فقط مَنْ‮ ‬يقول أن الماركسية قد اندثرت،‮ ‬فهي‮ ‬فكرة خصيبة،‮ ‬شديدة الخصوبة،‮ ‬لا تزال تتوالد وتتناسل،‮ ‬لا في‮ ‬المستوى الأكاديمي‮ ‬وحسبُ‮ ‬والنظري،‮ ‬ولكنْ‮ ‬أيضاً‮ ‬في‮ ‬المستوى الآدمي‮ ‬البَشَري‮ ‬الحيّ،‮ ‬وهي‮ ‬فوق ذلك لا تزال في‮ ‬عديد من دول العالم الثالث تقارع الأنظمة الرأسمالية الوكالية،‮ ‬وتُنازلها في‮ ‬شجاعة تاريخية فريدة‮«. ‬للحديث تتمة‮ ‬غداً‮.‬
 
صحيفة الايام
9 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

جزر .. «مولات» .. عمارات


جُزر تعد من ضمن جُزر مملكة البحرين لا يستطيع المواطن دخولها أو الوصول إليها لأسباب لا نعرفها، ربما صارت ملكية خاصة، لكن لا نعرف من يملكها، وكيف آلت ملكيتها إليه؟ سواحل اختفت، أينما تتلفت شمالاً، جنوباً، شرقاً، غرباً عمليات ردم مستمرة لا نعرف لصالح مَنْ تتم هذه العمليات، ولمن آلت ملكية هذه السواحل التي يتم ردمها، ومقابل ماذا آلت هذه الملكية. جزر صناعية في البحر تشيد عليها ‘ فلل ‘ وعمارات، والمواطن يجهل حقيقة هذه المشاريع ومردودها على الاقتصاد الوطني، وبالتالي مردودها على
مستواه الحياتي والمعيشي.


نحن في وطن نجهل الكثير عما يحدث ويجري فيه.


كل ما نعرفه ونشعر به أن الأسعار تضاعفت وبات حبل الفقر والحاجة يلتف حول أعناقنا، باتت الحاجات الأساسية والمتعلقة بالمأكل والملبس والسكن والصحة والتعليم تؤرق يومنا ومستقبل أبنائنا الذي يسير في نفق مظلم عنوانه التشاؤم.


من حقنا أن نسأل ونتساءل عن عمليات الردم الواسعة، وعن آلاف الشقق ومئات ‘الفلل’، وعن مشتري هذه الوحدات. شركات عقارية تولد في كل يوم، بنوك نشاطها الأساسي في الأنشطة العقارية. ما هو مردود كل ذلك على الاقتصاد الوطني؟ ماذا جنى المواطن من هذه الأنشطة؟
يُقال لنا إن أحد ‘المولات’ الضخمة التي تم افتتاحه مؤخراً سيخلق أربعة آلاف فرصة عمل، هذا يعني أن البقية الباقية من العاطلين عن العمل (حسب إحصاءات وزارة العمل) ستنتهي مشكلتهم، ولن يعود هناك عاطل عن العمل، لكن دعونا نحصل على إحصائية فعلية عن فرص العمل التي أوجدها مثل هذا المشروع للعمالة الوطنية، وما هو نصيب العمالة المواطنة من النسبة الحقيقة لمجموع العمالة؟ أشك في أن تتجاوز هذه النسبة الـ 10 في المئة عند أحسن درجات التفاؤل.


إنه أمر جميل ورائع أن نُشاهد عمارات شاهقة ومجمعات سكنية جميلة ومولات تحوي أفخر الماركات العالمية والمقاهي والمطاعم الراقية، لكن من المهم جداً أن نرى المردود الإيجابي على حياتنا اليومية وعلى حاضرنا ومستقبلنا الاقتصادي. نعتقد أن من أسوأ النتائج التي حصلنا عليها هو فقداننا السيطرة على سلوكيات الجيل الحالي من أبنائنا ناحية حياتهم الاستهلاكية، يستسهلون مصاريف جلسات المقاهي والمطاعم، يستسهلون شراء الملابس والأحذية وما يتبع ذلك جرياً وراء الماركة.

 
أين هي المشروعات الاقتصادية الإنتاجية التي تُضيف إلى الاقتصاد الوطني وتخلق فرص عمل حقيقية للمواطن؟
في ظل تزايد المجمعات التجارية الضخمة التي باتت تتواجد في مساحة جغرافية واحدة، فإن معظم المظاهر التي نجدها أمامنا تتمثل في المزيد من الاختناقات المرورية، المحلات التجارية تكاد هي نفسها موجودة في تلك المجمعات كافة وبالبضائع نفسها، المسافة بين المحلات نفسها وبالرغم من تواجدها في مجمعات مختلفة لا تتجاوز العشرات من الأمتار. فهل هناك ثمة أزمة قادمة في الطريق؟ لسنا من ذوي الاختصاص، لكننا نردد هنا تساؤلات المواطن العادي البسيط.


المستثمرون الخليجيون بدلاً من توجيه استثماراتهم في مشاريع منتجة تعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني على المدى البعيد نراهم يتسابقون على جني الربح السريع من خلال المضاربة في العقارات وبناء المجمعات التجارية.


نحن في حاجة ماسة لخلق قيم سلوكية لدى المستثمرين ولدى المستهلكين ولدى الجهات الرسمية للتخطيط لاقتصاد مستقبلي يراعي حاجاتنا الفعلية ومستقبل الجيل الحالي والأجيال القادمة.


إن المردود الذي حصل عليه المواطن العادي نتيجة ارتفاع أسعار النفط وبناء العمارات و’الفلل’ والمجمعات التجارية هو المزيد من الفئات الفقيرة.


الدولة تقر بشكل مباشر بأن من يقل دخله عن ألف وخمسمائة دينار شهرياً يستحق مكرمة شهرية بخمسين دينارا لتساعده على مواجهة متطلبات الحياة اليومية، فيا ترى كم هي نسبة المواطنين الذين يقل دخلهم عن هذا المبلغ، لا نملك أرقاماً، لكن الواقع يقول إنهم ربما يتجاوزون الـ 80%.


يبدو أن الغالبية أصبحت مستحقة للصدقة والزكاة.


الأزمة قادمة.
 
الوقت 4 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

مصل نقص الديمقراطية


في منطقة عامرة وحافلة بالأحداث الجارية سخونةً كالمنطقة العربية، يمسي الهدوء فيها استثناءً نادراً، إن لم يكن غير طبيعي، وهو ما يكفي لإشاعة التوجس والقلق من سيادة هذه الحالة غير المألوفة، مع أن نشدان الهدوء والاستقرار هو الأصل وهو الأمنية العزيزة التي تحلم بها شعوب المنطقة منذ أمد بعيد فلا تطالها.


نعم، وعلى غير العادة، الهدوء يكاد يسيطر على كافة الساحات العربية بشكل عام، فلا أحداث جسام، من ثقل تلك التي ضج بها العراق الجديد وتلك التي كادت أن تخرج الشياطين من جحورها في لبنان قبل بضعة أشهر، ولا زيارات ذات أوزان ثقيلة، ولا اجتماعات رئيسية ذات شأن، ولا تكتلات ومحاور من جنس تلك التي اعتاد المشهد العربي على إخراجها بين الحين والآخر.


هي حالة لا يمكن بطبيعة الحال وصفها ‘بالستاتيكية’، حيث لم يخلُ المشهد من انفجار هنا (الهجوم على مجمع السفارة الأمريكية في صنعاء في السابع عشر من سبتمبر الجاري، وتفجيرات القاعدة في الجزائر، والتفجير الانتحاري الأخير في دمشق) وأعمال عنف هناك (مسلسل القتل اليومي في العراق واختطاف وقتل اثني عشر جندياً موريتانياً كما النعاج)، وبعض مشاكسات الـ ‘بلوجرز’ على ‘الانترنت’ التي لا تتجاوز حدود الأحداث الفردية المتفرقة عديمة المفعول والتأثير.


ولكن بصفة عامة فإن الساحات العربية ظلت على ما هو ظاهر بمنأى عن الأحداث الدرامية المعتادة، اللهم المسلسلات الدرامية الرمضانية التي اكتظت بها شاشات الفضائيات العربية.


ولا يجب أن نُرجع ذلك إلى الشهر الفضيل الذي يميل فيه إيقاع الحياة العربية إلى الاسترخاء وانقطاع الناس إلى عباداتهم وطقوسهم الحياتية الخاصة. فهذه الحالة كانت قائمة قبل بداية شهر رمضان، حيث كانت الساحة العربية خلوًا من أي حدث لافت أو مثير، وإن تخللتها بعض المناكفات والهمز واللمز كان طرفها بعض الحكومات ‘المتخاصمة’ ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى تصعيد ذي شأن.


ونحسب انه ليس هنالك من تفسير محدد لهذا السكون النسبي (الظاهر) سوى أنه يقع ضمن تعليلات وتأويلات قوانين التطور والدورة الحياتية، وبضمنها الدورة السياسية التي ينطبق عليها افتراضاً ما ينطبق على الدورة الاقتصادية من محطات انتعاش وركود وكساد، ارتباطاً بتوفر عوامل وشروط حركتها الذاتية والموضوعية.


وقد يذهب علم الاجتماع السياسي إلى تعليل هذه الحالة بنسبتها إلى حال الإحباط والملل التي تملكت الجميع جراء الإخفاقات المتوالية في إحراز أي منجز حقيقي مهما كان ضئيلاً، رغم الجهد المبذول هنا وهناك لتحقيق تقدم ملموس، سواء على الأصعدة الوطنية أو الصعيد القومي العربي.
والحال أن مثل هذا التعليل هو نفسه بحاجة إلى تسبيب اعتباراً بأن القنوط والإحباط لا يأتيان حكماً، من فراغ، فهما ليسا سوى إفرازين موضوعيين لخلل ما يعتور النظام المؤسسي الذي يدير عملية إعادة إنتاج الحياة اليومية للسكان.


ومن ثم فإننا نميل إلى ترجيح فرضية أن عملية الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي لا تتوفر على آليات تسيير داخلية تكفل لها السيرورة الانتظامية الذاتية غير الخاضعة للمؤثرات ‘الخارجية’، وهو ما يفسر عدم ديناميتها ونقص فاعليتها.


وهو نقص نعزوه، زعماً، إلى نقص بيِّن في توفر آلية التنظيم والإدارة المجتمعية الكلية، وهي هنا الديمقراطية باعتبارها مصلاً (إن جاز التعبير مجازاً) مختبراً ومجرباً لمعالجة العزوف والاعتكاف الفعلي ( من فِعل) عن التعاطي والتدافع المجتمعي الإيجابي، وتعبئة كافة القوى والموارد في عملية التنمية الشاملة.


إذ اتضح أنه حتى هامش الحركة الضيق الذي أتيح للديمقراطية العربية التحرك في إطاره لكي يعبر المجتمع عن آلامه وآماله وطموحاته – حتى هذا الهامش كثيراً ما يتعرض للتعديات وأعمال الزجر والتقييد، والمصادرة أحياناً، بصورة تعكس عدم اطمئنان المؤسسة العربية، ‘لشيطان’ الديمقراطية!


مؤسسة النظام الرسمي العربي، إذ تتعاطى مع هذه الأولية الإدارية الكلية الحداثية بذلكم الحذر والريبة والتشكك فتضيِّق على متنفساتها الشحيحة، فإنها تعتقد إنما تحقق بذلك الهدوء والاستقرار السرمدي الذي تنشده وترومه، مراهنة في ذلك على ‘مبادراتها’ الاحتوائية وعلى أذرع جهازها التسييري، السياسية والاقتصادية والإعلامية.


وهذه مقاربة خاطئة بالتأكيد نظراً لما يترتب عليها من تأسيس لحالة خطيرة ملؤها السخط المكبوت غير المعبر عنه بوضوح وعلانية، فيتراكم وتتركز وتتفاعل جزئياته فتضحى بؤرة نوعية عرضة للاستغلال والاستثمار من القوى الناقمة والأخرى المتربصة والمتوثبة للصعود إلى ‘المنصة’.


وغني عن القول إن مثل هذه التداعيات للحالات المكبوتة عادة ما تجلب النوازل والكوارث على المجتمعات المبتلية بها والعياذ بالله.
لذلك لابد من أخذها على محمل الجد ومعالجة ذيولها قبل استفحالها وتنفيس احتقاناتها قبل انفجارها.
 
من صحيفة الوطن

اقرأ المزيد

أطفـال لا‮ ‬يلعبــون‮!!‬


اتقوا الله في أنفسكم، فما عاد لذوي الدخل المحدود والمعدم مكان يلجئون إليه لتسلية أبنائهم إذا حرموا من قضاء بعض الوقت مع لعبة أو لعبتين من الألعاب الكثيرة التي تكتظ بها بعض ساحات المجمعات التجارية، والسبب طبعًا ارتفاع أسعار تذاكر الألعاب، وللأسف الشديد، في المناسبات، وخاصة في الأعياد الدينية والوطنية، ففي الوقت الذي ينبغي فيه أن تكون أسعار التذاكر مناسبة ومعقولة حتى يتسنى للأطفال اللعب فيها أو بها، نلحظ الوضع لدينا للأسف الشديد (معكوسًا) ويبدو وكما لو أنه انتقامي، إذ إنه حتى مع أسعار التذاكر الباهضة ملزم ولي الأمر بدفع الضرائب الأخرى الموازية لها، مثلاً، مائة أو مائتي فلس مع كل تذكرة للعبة واحدة.

 
لماذا هذا الغلاء والجشع والابتزاز؟ هل هذا السلوك اللاإنساني هو (عيدية) الأطفال ومكافأتهم في العيد؟ هل فكرتم في قلق وحيرة وألم بعض أولياء الأمور النفسي حين يطلب منهم أبناؤهم الاستمرار في اللعب في أكثر من لعبة وهم لا يتوفرون على المبالغ الكافية لتلبية طلب أبنائهم الشرعي في الحق في اللعب والتسلية؟ هل فكرتم أن بعض الأطفال لا يتمكنون من الحظوة بلعبة في أحد المجمعات إلا بين مناسبة وأخرى قد تحصل أو ربما تفشل؟


لماذا لا يكون وضع الأطفال استثنائيًا؟ أقول استثنائيًا لأنه من الصعب أو المستحيل أن تكون مدن الألعاب أو قراها أو مجمعاتها فارغة من الأطفال؟ ومن المستحيل ألا يكون تواجد الأطفال في هذه المدن والقرى والمجمعات كثيفًا وخاصة في الإجازات؟ وهذه الكثافة بلا شك أرباحها المالية طائلة، وعليه ينبغي أن تتاح فرص أكبر للأطفال كي يلعبوا وبأسعار معقولة ومناسبة، هكذا يحدث في أغلب دول العالم، إذ يتم التعامل مع الأطفال دائمًا بشكل استثنائي، ويتم توفير حدائق وملاهي الأطفال في كل مكان وبالمجان أيضًا، كما تعطى للمواطن أسعار خاصة ومختلفة عن السائح كما يحدث مثلاً في تايلند حسب رواية أحد الأصدقاء، وذلك من منطلق أن هذا المواطن يعتبر بشكل أو بآخر (معنويًا) مساهمًا في ابتكار وتدشين هذه الألعاب، لأنه يدفع من جيبه باستمرار ولو بالقطارة إلى مالك اللعبة، وبالتالي نجاح واستمرار هذه الألعاب يأتي بفضل من يساهم في الدفع من جيبه من أجل التسلي بهذه اللعبة أو تلك، ولو شذ هذا المالك، سواء كان شخصًا أو دولة، شذ عن القاعدة، فإنه حتمًا سيخسر، بل سيعاقب من قبل مؤسسات المجتمع المدني خاصة القانونية والحقوقية، لأن ذلك في رأيهم يعد نوعًا من أنواع التلاعب والابتزاز.


فهل يعي تجار الألعاب قيمة ومعنى اللعبة بالنسبة للأطفال؟ وهل يعون مقدار ما يصرفه أولياء الأمور من جيوبهم على الألعاب من أجل تسلية وإسعاد أبنائهم؟ وهل يعون مقدار الحزن الذي ينتابهم جراء عدم اقتدارهم على تلبية مبلغ إضافي للعبة أخرى يزاول فيها أبناؤهم فرحهم؟


في مثل هذه الأمور ينبغي أن يكون للجهة المعنية بالسياحة يد، لأنه يتعلق بالأطفال وبأجيال منهم سوف تحرم من اللعب إذا استمر ارتفاع غلاء أسعار تذاكر الألعاب؟ فهل يدرك هؤلاء معنى ألا يلعب الأطفال؟ إنها الكارثة!!!.
 
من صحيفة الوطن

اقرأ المزيد