العالم بأسره يراقب التداعيات الخطيرة للانهيار المالي الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تردد صداه سريعا في انهيار الأسواق في الولايات المتحدة أولاً ثم في غالبية دول العالم ثانياً، وانتشار حالة من الهلع في مختلف بورصات العالم مع الشعور بقلق عميق على مصير الاقتصاد العالمي بعد توالي الإعلان عن إفلاس العديد من المصارف الكبرى خاصة في الولايات المتحدة.
في البداية تم الإعلان عن إفلاس اثني عشر بنكاً أمريكيا خلال فترة قصيرة، ثم تلا ذلك الإعلان عن إفلاس رابع اكبر بنك في الولايات المتحدة “ليمان بروذرز”، ووقفت مؤسسة التأمين الأمريكية “أيه. أي. ج” على حافة الإفلاس، حيث تم انتشالها نتيجة تدخل حكومي سريع. وجرى بعد ذلك إدماج ميريل لينش مع بانك اوف اميركا، هذا بعدما أممت الحكومة الأمريكية أهم شركتين للرهن العقاري وهما ” فاني ماي وفريدي ماك”.
يقول المسؤولون الامريكيون، وفي مقدمتهم بوش رئيس الجمهورية ورئيس البنك الفدرالي ووزير المالية، انهم اضطروا للتدخل المباشر والسريع لمواجهة الزلزال المالي الذي اخذ يهز الاقتصاد الامريكي ويهدده بخطر غير مسبوق. وطرح هذا التدخل الحكومي السريع في مواجهة الانهيار المالي عدة قضايا، أصبحت موضوعاً للبحث والنقاش في الولايات المتحدة وعلى الصعيد العالمي.
بهذا التدخل تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن مبدأ الاقتصاد الحر،الذي بذلت جهوداً متعددة، وصلت حد التهديد أحياناً لفرضه على جميع دول العالم. فقد كافحت واشنطن، خاصة في ظل هيمنة المحافظين الجدد لفرض اقتصاد السوق وإنهاء أو تخفيض دور الدولة في الاقتصاد إلى الحدود الدنيا، والاستسلام إلى آليات السوق باعتبارها قادرة وحدها على إعادة التوازن للأسواق وتعديل المسارات.
المتابعون والمسؤولون في مختلف دول العالم، وخاصة في الدول النامية يقدرون حجم وأثر الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية وقوى العولمة الرأسمالية الشرسة في فرض اقتصاد السوق من خلال إلغاء دور الدولة ودور القطاع العام في الاقتصاد، وخصخصة مختلف الأصول بما فيها مصادر الثروات الطبيعية، وفسح المجال للقطاع الخاص المحلي والدولي على السواء، لامتلاك هذه الأصول، بحجة انه الأقدر على تطوير الاقتصاد. والجميع يدرك الخراب الذي ألحقته عمليات الخصخصة في عدد غير قليل من دول العالم، حيث مورس في تنفيذها أبشع أشكال الفساد والنهب في تاريخ البشرية، وقادت في العديد من الدول وخاصة النامية إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة، في حين تضاعفت ثروات بعض الأغنياء وبشكل أسطوري، وأصبح هؤلاء “الأثرياء الجدد” يشكلون فئة متميزة ذات ملامح خاصة في طبقة أغنياء مختلف مجتمعات العالم.
وتحت شعارات اقتصاد السوق، قويت مراكز ونفوذ الليبرالية الجديدة، والتي ساهمت بقوة وفعالية في تعزيز دور آليات السوق وتدويل نشاطها من خلال توسيع حرية انتقال رؤوس الأموال بشكل خاص دون رقابة وطنية وتوفير الآليات التي تسمح بذلك.
المضاربة وعولمة رأس المال
قادت عولمة رأس المال، إلى زيادة فرص المضاربة وتعميق دورها على النطاق العالمي، مستفيدة أولاً من الحريات الواسعة وغير المحدودة لانتقال رؤوس الأموال ومستفيدة ثانياً من التطور السريع والمتتالي للآليات والوسائل لتسريع عمليات الانتقال، الأمر الذي عزز مكانة الأموال الساخنة في النشاط المالي العالمي، وزاد من تأثير المضاربة وانتقالات الأموال السريعة ازدياد حجم المدخرات العالمية غير المستخدمة في مجالات الإنتاج. إذ يقدر أن المدخرات العالمية كانت تنمو سنوياً بمئات مليارات الدولارات، ولكن نسبة المستخدم من هذه المدخرات في الإنتاج المادي والخدمات كانت تتناقص بحيث انها تقل حالياً عن 10% من هذه المدخرات. ويلاحظ أنه في حين تعاني غالبية دول العالم من العجز في ميزانياتها العامة ومن بعض أشكال المديونية العامة التي تصل الى معدلات خطيرة في بعض الحالات، فإن فائض الادخار العالمي يتركز في صناديق وأيدي البنوك الكبرى والشركات المالية عابرة الحدود وعابرة القارات. ويقدر المختصون أن الانتقالات المالية اليومية لمختلف الاستخدامات كالمتاجرة بالأسهم والعملات والسندات تزيد عن تريليون دولار، بينما توجد مئات التريليونات من الدولارات الأخرى التي لا يوجد لها استخدامات ذات مردود عالٍ “حسب مالكيها” إلا في توسيع المضاربة وتعميمها على قطاعات جديدة في الاقتصاد الوطني. ولذلك لا يتوقف نشاط المضاربة الآن على الأسهم والسندات بل أخذ يزحف بقوة على أسعار السلع والمواد الأولية كالنفط والمعادن والقطاعات الأخرى، وأخيراً وصل سوق المواد الغذائية، حيث أدت المضاربة في هذه القطاعات إلى ارتفاعات حادة في أسعار مختلف السلع كالنفط والمواد الغذائية وإلى زيادة معدلات التضخم في وقت سيتباطأ الإنتاج المادي، مما يفرض حالة جديدة من الكساد التضخمي على اقتصاديات العالم بأسره.
وقادت حرية انتقال الأموال وتجولها غير المراقب وتطور وسائل وأساليب المتاجرة الآجلة وإلغاء أية قيود وطنية أو تقليصها إلى أدنى الحدود في مختلف البلدان على حرية انتقال رؤوس الأموال، إلى مضاعفة الهزات المالية المتوالية التي أصابت بشكل متلاحق العديد من المناطق والدول في العالم. فقد انفجرت أزمة مالية حادة في المكسيك عام 1995 ثم جاءت الأزمة الآسيوية “أزمة النمور الآسيوية” عام 1997 فالروسية عام 1998 والأرجنتينية عام 2001 وأزمة التكنولوجيا والاقتصاد الجديد عام 2000، وانفجرت أخيراً أزمة الرهن العقاري التي ما زالت تتفاعل حتى أدخلت الاقتصاد الأمريكي في المأزق الراهن الخطير، وهي تهدد الاقتصاد العالمي برمته.
وإبان كل هذه الأزمات مُنعت الدول المعنية من التدخل لمواجهة الاختلالات، وحذر صندوق النقد الدولي بوجه خاص من خطورة التدخلات الحكومية لمعالجة الموضوع وفرض إملاءاته الخاصة، الأمر الذي عمق الانعكاسات الخطيرة في هذه الدول. والدولة الوحيدة التي تمردت على املاءات صندوق النقد الدولي والضغوط الأمريكية كانت ماليزيا بقيادة مهاتير محمد، الذي اتخذ اجراءات فعالة ضد حرية دخول وخروج الأموال من جهة واتخذ اجراءات محددة في مجالات الاقراض والتسهيلات المالية وغير ذلك مما ساهم في سرعة الخروج من الأزمة وتحقيق نمو اقتصادي سريع. وكانت ماليزيا الدولة الأولى التي تعافت سريعاً من الأزمة الخانقة في جنوب شرقي آسيا، بينما لا زال بعض الدول الأخرى يعاني من نتائج الأزمة حتى الآن وخاصة اندونيسيا.
ولعبت المضاربات دوراً حاسماً في انفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة. ولكنها لم تكن السبب الوحيد، بل كانت من جملة الأسباب الهامة التي أدت إلى ذلك. وانفجرت أولاً أزمة الرهن العقاري في مطلع عام 2007 عندما لم يتمكن المدينون من تسديد أقساط القروض المستحقة عليهم، جراء انتشار حالات الإفلاس مما فجر أزمة البورصات في آب من عام 2007 التي أخذت تعاني من اتساع المخاطر، مما فرض على العديد من المصارف في أكتوبر من نفس العام أن تعلن انخفاضاً كبيراً في أسعار أسهمها، وهو ما فرض على بنك الاحتياطي الفدرالي السير في طريق تخفيض معدل الفائدة للحفاظ على تدفق السيولة للأسواق. فأجرى تخفيضاً بمعدل ثلاثة أرباع النقطة في كانون ثاني 2008 وأجرى تخفيضاً آخراً خلال الربع الأول من عام 2008. ولم تتمكن تخفيضات الفائدة من إيقاف التدهور الذي استمر وأدى إلى إعلان إفلاس اثني عشر مصرفاً في الولايات المتحدة، ثم توالت عمليات الإفلاس، وأصابت بنك ليمان بروذرز وميريل لنش. واستمرت عمليات الإفلاس وأصابت بنوكاً غير أمريكية. فاشترى بنك لويد البريطاني منافسه ” اتش بي أواس” المهدد بالإفلاس. ثم أعلن انهيار أسهم شركة التأمين البلجيكية – الهولندية “فوربس” وجرى تعويمها لاحقاً من قبل سلطات بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، وتم تأميم بنك برادفور وبينغلي في بريطانيا. وقام بنك ” جي بي مورغان” الأمريكي بشراء منافسه بنك “واشنطن ميونشوال” بمساعدة السلطات الفدرالية، والذي يعتبر من البنوك الأمريكية الكبيرة.
ومع توالي إفلاس البنوك ، وخاصة الكبيرة وشركات التأمين، توالى تدهور الأسعار في مختلف البورصات التي شهدت تراجعاً حاداً جداً في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا وغيرها من الأسواق. وشمل التراجع جميع الأسواق العربية بلا استثناء.
لماذا حصل الانهيار؟
تتفاوت تحليلات الاقتصاديين الرأسماليين لأسباب الانهيار، ويحاول بعضهم إيجاد تبريرات لها بعيداً عن طبيعة النظام الرأسمالي حتى لا تؤدي التحليلات المختلفة إلى الجزم بأن ما حصل هو أزمة حقيقية للنظام الرأسمالي، وليست ظاهره عارضه . ولذلك لم يتوصل حتى الآن الاقتصاديون الرأسماليون إلى موقف موحد حول أسباب ما حصل. فبعضهم يحمل المديرين التنفيذيين الجشعين للمصارف والمؤسسات المالية الكبيرة مسؤولية ما حدث لأنهم خاضوا مغامرات استثمارية متهورة وأقرضوا الكثير من المال لأفراد لم يتمكنوا من تسديد الديون، وقسم آخر يرى أن الخطأ ارتكبه بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي ومصارف مركزية أخرى، لأنها تركت مستويات الفائدة متدنية، ما شجع الناس على الاستدانة بشكل واسع، كما شجع المصارف على الإقراض. وهناك رأي يقول إن المصارف المركزية فشلت في تنظيم البنوك وبيوت الاستثمار من أجل التأكد من أنها تملك الأموال الكافية للعمل.
يؤكد العديد من الاقتصاديين والباحثين أن الأزمة الحالية هي الأسوأ منذ أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وإن أسبابها تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي، وليست عارضة، وهي أزمة عميقة للرأسمالية كنظام، تعني فشل ونهاية عصر “الرأسمالية المالية” بكل أرباحها الخيالية المصطنعة التي تتحقق في الأساس من المضاربات. فالرأسمالية المالية كانت تدير أموال وأنشطة العالم الاقتصادية بموجب عقلية المقامرين في كازينوهات القمار، وإن أسواق المال تحكمها نفس قواعد المقامرة التي تديرها المافيات. وهو ما ينطبق تماماً على قواعد اقتصاد السوق والاقتصاد الحر!!!
ولكشف هذه الحقيقة علينا تتبع كيف نشأت أزمة الرهن العقاري
في البداية كانت المصارف ومؤسسات البناء تجذب الإيداعات من المدخرين، ثم تقدمها على شكل قروض للذين يريدون شراء المنازل. وكانت المعادلة هذه سهلة جداً، من المدخر إلى المقترض عبر المصرف أو المؤسسة. ثم اتسعت العملية، إذ من أجل زيادة الأرباح زاد التوجه إلى الاستدانة من المصارف الأخرى لتقديم القروض العقارية. وتحولت هذه المصارف الوسيطة إلى مؤسسات للتمويل الشمولي لقطاع العقارات، وأصبح لها حملة أسهم وإدارات نشطة تسعى لجني الأرباح. وتفتق ذهن العاملين في هذا القطاع لزيادة الأرباح عن أسلوب يقضي بتجميع القروض السكنية وبيعها كسندات أمان لمصارف أخرى أو لمستثمرين ماليين، وأدت مختلف الإيداعات الجديدة إلى زيادة وتنويع مصادر المخاطر. وإضافة لذلك نشأت شركات وبنوك أخذت القيام بكل هذه الحلقات وأخذ المخاطر على عاتقها، مما أتاح للمصارف الاستدانة أكثر وفسح المجال للتوسع الكبير في إعطاء القروض السكنية. في البداية لم تكن هناك مشكلة، كانت السوق العقارية تزدهر والمصارف تستعيد الأموال المقترضة من خلال ارتفاع أسعار العقارات، وأصحاب المنازل كانوا يتحملون تسديد ديونهم وحتى أخذ قروض جديدة. ثم أخذت المصارف تقرض دائنين لا مداخيل لديهم، وتعتمد على احتمال ارتفاع أسعار العقارات. ولكن عندما وصلت هذه العمليات الذروة في الأرباح والاستدانة، أخذت أسعار العقارات تتراجع وتتباطأ منذ عام 2006، مما أصبح يؤثر تدريجياً على قدرة المستدينين في تسديد ديونهم. هكذا هبط سوق القروض العقارية، وكشفت خسائر دائني القروض، واتضح أن أسعار العقارات جراء هذه المضاربات المتلاحقة والمتعددة قد جرى تضخيمها. ومن الواضح أنه لم يكن من المتوقع أن تستمر حركة الرهن العقاري والربح العقاري على خطها المستقيم صعوداً كما حصل لمدة 18 عاماً، لأن طبيعة الدورة الاقتصادية، كما يعرفها ماركس، تلعب دورها في الاقتصاد الرأسمالي الذي يحرك الاستثمار فيه عامل الربح فقط. فالدورات الرأسمالية استندت إلى عامل الربح إلى أن بلغت الأرباح الذروة، ثم أخذت تتراجع وتتحول إلى خسائر كما هي طبيعة الدورة، حيث يواجه كل حالة صعود حالة هبوط.
وفي ظل هيمنة الرأسمالية المالية على الاقتصاد الأمريكي والأوروبي والعالمي، فإن صناعة المال الأمريكية مارست نموذجاً احتكارياً فريداً، أدى للوقوع فريسة لعقلية المقامرين في كازينوهات القمار بالاندفاع الطائش لتحقيق الربح بعيداً عن الالتزام بالقواعد والأصول. وتشير مجلة الايكونومست البريطانية إلى أن صناعة المال الأمريكية حصلت على 10% من إجمالي أرباح الشركات عام 1980 مقابل قروضها وخدماتها المختلفة لهذه الشركات، في حين أن حصة صناعة المال الأمريكية تضاعفت أربعة أمثال مع العام الأخير 2007، حيث تبلغ تقديرات أرباح المال المباشرة في العقد الأخير 1.2 تريليون دولار. ومع هذه الأرباح الخيالية فإن صناعة المال تحولت إلى الصناعة الرأسمالية الأولى وتراجعت أهمية القطاعات الإنتاجية والخدمية الحيوية وأصبح تدوير الأموال في الأسهم والسندات والمشتقات المالية المبتكرة والمضاربات في المعادن والنفط يأتي في مقدمة الأنشطة الرأسمالية ويتفوق على ما عداه من حيث الأرباح والأهمية.
وبجانب الأرباح الخيالية الطائلة لصناعة المال الأمريكية فإن تكلفة كوارثها وخسائرها باهظة جداً كذلك. إذ تشير تقديرات خدمة بلومبيرج الاقتصادية الأمريكية المتخصصة إلى أن الأزمة المالية لأسواق المال المرتبطة بالإعلان عن إفلاس بنك “ليمان براذرز” رابع أكبر البنوك الاستثمارية الأمريكية في منتصف شهر أيلول / سبتمبر الماضي أدت إلى خسائر لحملة الأسهم في بورصات العالم المختلفة قدرت قيمتها ب 4 تريليونات دولار في أربعة أيام، كما تشير إلى أن أصحاب الأسهم في بورصات العالم المختلفة خسروا خلال عشرة أشهر من الأزمة نوفمبر / تشرين ثاني 2007 – أغسطس / آب 2008 نحو 19 تريليون دولار من قيمة الأسهم. وفي ظل هذه الهزات المالية العنيفة فإن المؤسسات المالية الأمريكية فقدت نحو 1.2 تريليون دولار من القيمة الاسمية لأسهمها منذ أغسطس / آب 2007. ولا يقل عن ذلك خسائر سوق العمل، حيث فقد مائة ألف وظائفهم في القطاع المالي منذ بداية العام الحالي وهناك 50 ألف وظيفة أخرى في الطريق إلى الضياع. ومع إفلاس بنك ليمان براذرز فقد 26 ألفاً وظائفهم في القطاع المالي الأمريكي.
وهكذا يمكن التأكيد أن الانهيار المريع حصل جراء تضخيم دور السوق غير المقيدة وغير المراقبة، أي السوق الحرة البعيدة عن المراقبة الوطنية، في ظل حالة الانفتاح التي فرضها مبدأ التدويل واقتصاد السوق. ويرتبط هذا بالهدف الكبير لليبرالية الجديدة المتمثل في إنهاء دور الدولة في الاقتصاد والاستناد إلى آلية السوق. لذلك فإن الذي ينهار اليوم هو النظام الذي لا تجري مراقبته بطريقة منظمة، أي سيطرة اقتصاد رأس المال المالي ونظام المضاربة. ويتحمل المسؤولية الكلية عن ذلك قادة الولايات المتحدة بالمكان الأول الذين عملوا على فرض “اقتصاد السوق” منذ ولاية الثنائي “ريجان – تاتشر” في كل من أمريكا وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي.
وينهي الانهيار المالي الكبير القطبية الأحادية الاقتصادية والسياسية، والتي بالاستناد إليها حاولت واشنطن في ظل هيمنة المحافظين الجدد تركيع العالم بأسره لنزواتها المالية والتوسعية “الجيوسياسية” وتثبيت القطبية الأحادية كأمر واقع.
ومع الانهيار الكبير تفشل نظرية إنهاء أو تقليص دور الدولة في الاقتصاد وتمنى الليبرالية الجديدة بهزيمة نكراء، وتستعيد الدولة مكانتها ودورها في الاقتصاد الرأسمالي، وتطوى صفحة نهاية التاريخ، حيث تؤكد التجربة القاسية والمريرة أن الليبرالية الجديدة قادت الرأسمالية نحو أكثر الأشكال قسوة ووحشية، ووضعت البشرية أمام منعطف جديد. فإذا كانت الليبرالية الجديدة تريد إلغاء الصراع الطبقي، والعلاقات الطبقية في المجتمعات الرأسمالية، من خلال الركون إلى آلية السوق فقط، آلية السوق غير المراقبة والتي لا تخضع إلى أية قيود أو ضوابط وطنية، فإن الانهيار الكبير جاء لينسف هذا التوجه والفكر الذي يقف خلفه، ويعيد الشيء الكثير للنظرية الكنزية، والشيء الأهم ليؤكد الفهم الماركسي لطبيعة الدورات الاقتصادية في الرأسمالية.
وكما أثبتت أزمة ثلاثينيات القرن الماضي ضرورة دور الدولة في الحياة الاقتصادية، فإن الأزمة الحالية لا تؤكد ذلك فقط، بل تتجاوزه إلى ضرورة حضور الدولة المخطط، والذي حاولت الليبرالية الجديدة إلغاءه تماماً.
بعض ردود الفعل على الانهيار الكبير
لا شك أن هذا الانهيار غير المسبوق والمدوي ، قد أحدث ردود فعل واسعة في جميع أرجاء المعمورة، وفسح المجال لتحليلات وسجالات فكرية متنوعة. ولكن النتائج الملموسة المترتبة على الانهيار الكبير بالنسبة لمصالح مختلف الطبقات والفئات في مختلف المجتمعات تعتبر الوسيلة الأدق لقراءة ردود الفعل. ويهمنا هنا بالدرجة الأولى إيراد بعض ردود الفعل من الدول والدوائر الرأسمالية العالمية خاصة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يؤكد أهمية ردود الفعل هذه ويشير إلى الانقسام العميق في العالم الرأسمالي حول الموقف مما جرى.
ندد الرئيس الفرنسي ساركوزي بالنظام الذي سمح بحدوث هذا الانهيار وقال “لا يمكن الاستسلام إلى نظام مالي مجنون وغير مراقب” وطالب الولايات المتحدة، بعد أن حملها مسؤولية الانهيار، اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنيب الاقتصاد العالمي التداعيات المؤلمة والخطيرة لهذا الحدث.
وألقى خطبة في مدينة تولوز في نهاية شهر أيلول الماضي قال فيها “اقتصاد السوق وهم، ومبدأ دعه يعمل دعه يمر انتهى، والسوق كلية الجبروت، التي كانت دائماً على حق، انتهت أيضاً، ومن الضروري إعادة بناء كامل النظام التمويلي والمالي من الأسفل إلى الأعلى، على غرار ما جرى في بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية!!!
أما المستشارة الألمانية انجيلا ميركل فقد وجهت انتقادات حادة إلى النظام المالي في الولايات المتحدة لسماحه بمعاملات تحمل قدراً كبيراً من المخاطرة ، الأمر الذي يلحق الضرر بجميع الأسواق المالية في العالم . وقالت ميركل أمام تجمع من السياسيين اليمينيين ” ان سماح الولايات المتحدة للبنوك والمؤسسات المالية العمل بإشراف حكومي ضعيف للغاية يمثل سياسة غير مسؤولة” . وقالت “ان المجتمع الدولي بحاجة الآن إلى قواعد جديدة للأسواق المالية ، وأضافت نحن بحاجة إلى تقوية منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ، وقواعد جديدة للأسواق المالية”.
أما وزير المالية الألماني بيير شتاينبرويك فقد وصف الأزمة الأمريكية بأنها زلزال سيكلف الولايات المتحدة دورها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي. وقال أمام البرلمان الألماني ” لن يعود وول ستريت والعالم إلى الوضع الذي كانا عليه قبل الأزمة المالية” وقال ” سيصبح النظام المالي العالمي متعدد الأقطاب”.
أما دومينيك شتراوس – كان رئيس صندوق النقد الدولي – فيتوقع ان الكلفة الإجمالية لازمة الائتمان العالمية التي أطلقها انفجار الفقاعة العقارية ستبلغ 1.3 تريليون دولار وليس تريليون واحد كما كان يعتقد سابقاً.
وصرحت المفوضية الأوروبية انه ينبغي على الولايات المتحدة ان تضطلع بمسؤوليتها الخاصة لحل الأزمة المالية العالمية،ودعت الى الإسراع في إقرار خطة إنقاذ القطاع المالي،وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية في مؤتمر صحفي “ينبغي ان تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن هذا الوضع”. ووجه رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون انتقادات حادة لأداء الأسواق المالية وندد بحي المال في لندن، واتهمه بانتهاج سلوك غير مسؤول. ومن الملفت للنظر ان المفوضية الأوروبية وأمام الضغوط المتزايدة على المؤسسات النقدية الأوروبية قبلت ان تقوم حكومات ألمانيا وهولندا وبلجيكا وايرلندا والدول المنتمية لمنطقة اليورو بعمليات تأميم مقنعة لعدد من المصارف وضخ الأموال من اجل ذلك من الخزينة العامة. وهذا الأمر فيه تأكيد واضح على ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد ونسف لشروط اقتصاد السوق.
وعلق الرئيس الروسي ميدفيديف خلال لقائه مع المستشارة الالمانية في بطرسبورغ على ألأزمة المالية العالمية قائلاً “ان عهد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية قد ولى” وإن العالم بحاجة إلى نظام مالي جديد أكثر عدلاً، وعلينا العمل معاً لإقامة هذا النظام بحيث يقوم على مبادئ تعدد الأقطاب وسيادة القانون والأخذ بالمصالح المتبادلة”. ومثل هذه الآراء عبر عنها غالبية المسؤولين في آسيا كالصين والهند واليابان والعديد من دول جنوب شرق آسيا والبرازيل. ويتضح ان الدول الرأسمالية الرئيسية تتنكر علناً لأسلوب الرأسمالية المالية الأمريكية، الذي قاد العالم إلى الوضع الراهن الخطير، ويبدو جلياً أن صوتاً واحداً وموحداً يطالب بإعادة النظر في النظام المالي الدولي وعلى غير قاعدة اقتصاد السوق!!!
وهكذا يشهد العالم تحولاً جديداً يوجه صفعة مؤلمة لأساطين اقتصاد السوق والعولمة الرأسمالية المتوحشة ولسلطة رأس المال المالي.
ومن ناحية أخرى، فإن بعض ردود الفعل على الأزمة، اتخذت طابعاً فكرياً، فكثيرون هم الذين يرون أن الأزمة ذات طابعً ايديولوجي- سياسي بامتياز، لأن الليبرالية الجديدة التي شنت حملات متعددة الأوجه منذ سبعينات القرن الماضي لفرض اقتصاد السوق وتحرير الأسواق والأسعار، وإنهاء دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتسليم الاقتصاد إلى القطاع الخاص، فشلت تماماً، وأخذ العديد من الدول يعود الآن الى التأميم لإنقاذ اقتصاده، ومن هذه الزاوية يمكننا ان نرى العديد من ردود الفعل والانتقادات والتي تمثل موقف قوى اجتماعية وسياسية واسعة في جميع البلدان.ولأول مرة تظهر الليبرالية الجديدة محاصرة ومدحورة بهذا الشكل.
ولذلك، فإن العديد من الاقتصاديين إن لم يكن غالبيتهم يؤكدون أن مجلس النواب الأمريكي سيوافق على خطة الإنقاذ المقترحة من الإدارة بشكلها المقدم أو معدلة، وذلك بعد أن رفضها، تجنباً لمواجهة خطر انكماش عميق وطويل الأمد. وبالفعل وافق المجلس على الخطة بعد موافقة مجلس الشيوخ عليها.
“خطه الإنقاذ” للخروج من الأزمة
أقدمت الإدارة الأمريكية وبنك الاحتياطي الفدرالي على اتخاذ عدة خطوات في محاولة لمواجهة الاختلالات التي أخذت تتضح بعد انفجار فقاعة الرهن العقاري. وكان من بين تلك الإجراءات تخفيض سعر الفائدة وتقديم تسهيلات مالية تسمح بالمحافظة على معدل السيولة، كما قامت بخطوات مماثلة بعض البنوك المركزية في بعض الدول الأخرى. وثبت أن هذه الإجراءات لم تنجح في مواجهة الانهيار المالي الذي اخذ يتعمق ويشيع اضطراباً غير مسبوق في جميع البورصات والأسواق المالية، جنباً إلى جنب مع توالي حركة الإفلاسات التي أصابت اكبر البنوك في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأخرى.
وفي خضم هذه التداعيات الخطيرة، وأمام الضغوط المتنامية والمستمرة على البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة، وفي العديد من الدول الأخرى، وأمام ضغوط على واشنطن لتحمل مسؤوليتها في مواجهة زلزال الانهيار المالي، أعلن الرئيس الأمريكي عن خطة لمواجهة الأزمة. وتتكون الخطة من رصد 700 مليار دولار لشراء الرهون الهالكة ومساعدة المؤسسات المالية وحماية الاقتصاد الأمريكي من الانهيار. وقال الرئيس الأمريكي لدى إعلان الخطة “إنها حزمة مالية كبيرة، لأن المشكلة كبيرة” وذلك من أجل معالجة الأزمة المالية العميقة، ووقف التدهور واستعادة الثقة في وول ستريت وفي سائر البورصات العالمية.
تعتمد هذه الخطة على الأموال العامة، أي أموال الخزينة الأمريكية، وهي بالتالي تحدث حالة من الضغط على المالية العامة. فمن المعروف أن الإدارة الأمريكية كلفت الخزينة العامة ما يقرب من 700 مليار دولار لحروبها في العراق وأفغانستان الأمر الذي زاد من عجز الموازنة الأمريكية، وزاد من المديونية العامة، وهو ما يؤثر على طبيعة واتجاهات الإنفاق العام من جهة، وعلى مستوى معيشة والضمانات الخاصة بدافعي الضرائب، من الفئات والشرائح المتوسطة في المجتمع من جهة ثانية.
وبموجب الخطة، التي جرى حوار واسع حولها بين مسؤولي الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس، وفي مراكز البحث والدراسات المتخصصة، فإن الدين العام الأمريكي سيرتفع من 10.6 تريليون دولار إلى 11.3 تريليون، وهو ما يعادل حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية ويثقل كاهل دافعي الضرائب وينعكس سلباً على جوانب الإنفاق الاجتماعي ومختلف الخدمات الضرورية.
واجهت الخطة صعوبات كبيرة في الكونجرس وقوبلت بمعارضة واسعة من ممثلي كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري على السواء. وتركز الخلاف والصراع أولاً على حجم المبالغ المرصودة في الخطة وثانياً على كيفية إنفاق هذه الأموال وإدارتها. ففي حين يؤكد الديمقراطيون على الحد من إنفاق الأموال على المديرين التنفيذيين ومن في حكمهم، بل تخصيصها لمعالجة القضايا المادية الملموسة، يرفض الجمهوريون ذلك. ولذلك تتسع المطالبة في المجتمع الأمريكي، خاصة في أوساط الإعلام بعدم تحويل المخصصات الكبيرة الواردة في الخطة إلى مكافأة المديرين والمغامرين الذين أوصلوا الأزمة الى هذه الحدود الخطيرة. ولذلك تؤكد أوساط واسعة في المجتمع الأمريكي، بأن مساعدة دافعي الضرائب من الطبقات المتوسطة يجب أن يعتنى بحمايتهم، وتقديم الدعم لهم. فالأرصدة الضخمة الواردة في خطة الإنقاذ تفرض على كل أمريكي، وليس دافعي الضرائب فقط ما متوسطه 2000 دولار.
ولذلك أعلن الرئيس الأمريكي صراحة، أن خطة الإنقاذ وإن كانت ستحدث آلاماً لدافعي الضرائب، إلا أنها تهدف إلى تجنب الآلام على المدى البعيد. ومن الملاحظ أن الخطة تزيد عجز الموازنة، الذي يزيد حالياً عن 500 مليار دولار. ومن الجدير بالذكر، أن الرئيس جورج بوش عندما جاء للإدارة كان هناك فائض في الموازنة، ولكنها أخذت تعاني من العجز المتراكم طوال سنوات بقائه في البيت الأبيض.
وإذا كانت الخلافات بين الديمقراطيين وبعض القوى الاجتماعية من جهة وبين الجمهوريين ومؤيديهم، تتركز حول كيفية إدارة أموال الخطة وتخصيص أوجه الإنفاق وتحديد صلاحيات المشرفين على ذلك، فإن أصواتاً برزت في داخل الحزب الجمهوري وبعض الأوساط المحافظة وخاصة من أنصار ومؤيدي المحافظين الجدد، تتركز على أن خطة الإنقاذ تعتبر خرقاً فاضحاً لمبادئ الاقتصاد الحر. حتى أن بعض منتقدي خطة التدخل هذه ذهبوا إلى القول إنها تعتبر”خطوة اشتراكية” وتشكل ضربة قاصمة لفلسفة اقتصاد السوق والاقتصاد الحر.
من المعروف أن مجلس النواب رفض الخطة عندما عرضت عليه في المرة الأولى، مما دفع إلى إعادة النظر فيها وتعديلها وإدخال بعض القيود على شكل وأساليب الإنفاق. ولذلك قدمت مرة أخرى لمجلسي الشيوخ والنواب وتمت الموافقة عليها.
الملاحظات الأولية حول موقف الرأي العام الأمريكي من الخطة، يؤكد حالة من القلق التي تسود بشكل عام، والخوف من أن تتحول الخطة إلى وسيلة لمكافأة المسيئين والمقامرين على حساب عامة الناس ودافعي الضرائب، وإسناد الشركات الكبرى على حساب المستوى المعيشي لغالبية الموطنين.
12 أكتوبر 2008