قرأت مؤخراً باهتمام بالغ ما سطره على ثلاث حلقات القلم الرشيق لأخي وزميلي العزيز الدكتور حسن مدن الأمين العام لجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي في جريدة “الأيام” أيام الخميس والأحد والاثنين من الأسبوع الجاري حول الفكرين الماركسي والرأسمالي، وما صار يدور اليوم بين شيعتهما من سجالات على خلفية انهيارات أسواق المال.
والحقيقة أني لم أرد أن أكون جزءا من هذا السجال لولا شعوري بنبرة غضب وعتاب موجهة من الزميل للغرب الليبرالي/الرأسمالي ومجتمعاته وأطيافه وأنصاره، واتهامهم جميعا بأنهم يشوهون صورة ماركس ونظرياته ويؤكدون كل يوم ومنذ مائة سنة موته إلى الأبد، فيما هو “أي ماركس” يثبت عدم موته. والحقيقة أنه لئن كان للرأسمالية الغربية وأنصارها الكثير من التحفظات على النظرية الماركسية – وهذا حقهم – فان ما يخالف الواقع ويجافيه جملة وتفصيلا هو القول باستهزائهم بتلك النظرية و صاحبها ورفاقه، بحسب ما لمسناه وعرفناه من طريقة راقية وأسلوب حضاري في تعامل جامعات وكليات ومعاهد الغرب الرأسمالي مع الفكر الماركسي أثناء دراستنا في تلك الجامعات والمعاهد ينفي هذا الانطباع الخاطئ والمتعسف.
وبعبارة أخرى، لم يحدث أن استهان احد في الغرب في أي يوم بالنظريات الاقتصادية التي صاغها كارل ماركس و فريدريك أنجلس ورفاقهما أو طعن في مصداقيتها أو استهزأ بنتائجها، بقدر ما ترك الأمر للحوار الحر والمناقشة العلمية الرصينة حولها. بل أستطيع أن اجزم أنه في جامعة بوسطون الأمريكية – على الأقل – التي درست بها وحزت منها على شهادة الماجستير، كان هناك اهتمام خاص بتدريس كتاب “رأس المال” لكارل ماركس ضمن المنهاج الدراسي على اعتبار انه إسهام إنساني عظيم في الفكر الاقتصادي، أو كما ذكر الزميل الدكتور مدن نفسه حينما أورد على لسان أكاديمي غربي بارز قوله “إن ماركس سيظل واحدا من أعظم العقول الفلسفية والمحللين الاقتصاديين في القرن التاسع عشر”، هذا فضلا عن الاهتمام الخاص لجامعة بوسطون وغيرها من الجامعات الأمريكية بتعليم مثل هذه المواد على يد نخبة من الأساتذة المنحدرين من دول شرق أوروبا كالبروفسورة مارغو لايت، اليهودية المعتقد، البولندية المولد، الجنوب افريقية المنشأ، الأمريكية الإقامة. هذه السيدة التي ظلت – رغم كل المساجلات الحادة في قاعات المحاضرات – تدرسنا النظرية الماركسية/ الاشتراكية بطريقة يستشف منها أنها لم تسقط وإنما الذي سقط هو طريقة فهمها وأسلوب تطبيقها، وذلك في وقت كان فيه الاتحاد السوفيتي قد بدأ يترنح وكتلته الشرقية قد انفرط عقدها، واغلب أنصاره قد تخلوا عنه واصمين إياه بالفشل.
وهنا تحديدا تكمن قوة الليبرالية/ الرأسمالية التي هي في النهاية فكر إنساني خاضع للجدل والمساءلة والتجديد “وليس فكرا دينيا او كهنوتيا مقدسا يقمع المنتسبين إليه لمجرد إبدائهم تشكيكا عابرا في مضامينه أو يحاكمهم على نواياهم”.. فكر يعترف بالآخر المضاد ويحاوره ولا يحجر عليه أو يقصيه أو يحكم عليه بالعجز دون قراءة متأنية لنظرياته الفلسفية. والحقيقة أن فكرا بهذه الروح المنفتحة وهذا الفضاء المتسامح وهذا القدر العقلاني من التعاطي لن يسقط ولن تأفل شمسه أو يخسف قمره، فهو قادر على تجديد نفسه كلما اعتراه عجز أو استشعر بنقص، وذلك من خلال الاستعانة – دون حرج أو حساسية أو غضاضة – بالأفكار والآليات والمناهج التي صاغها خصومه في المعسكر المواجه أو من خلال اختراع واستجلاب الضوابط المناسبة. ولعل أعظم مثال على صحة ما نقول هو ما أسبغته الرأسمالية الليبرالية الغربية على نفسها من ثوب اجتماعي/ اشتراكي حينما تطورت الأمور خلافا للمتوقع على نحو ما جرى في الدول الاسكندينافية وبريطانيا تحديدا.
وجملة القول إن الرأسمالية/ الليبرالية – مهما دبج خصومها مقالات الشتيمة في حقها وحق أنصارها، ومهما وصفوها بالتوحش والعجرفة تارة واللانسانية والفساد تارة أخرى، ومهما حملوها بأحمال ثقيلة لا تحتمل من تلك الأكثر بروزا ووضوحا عند خصومها مثل ” العدوانية والتسلطية والبوليسية والقمعية ” لن تحتضر وستظل قادرة على الحياة والاستمرارية بفضل قوة التكيف والتجديد والحرية الكامنة بداخلها.
أما الاستشهاد بكتاب من هنا أو من هناك لمؤلفين غربيين حول قيام الليبرالية/الرأسمالية الغربية على دعائم وهياكل تستخف ” بالتضاريس الثقافية والفروقات الحضارية في العالم، وتخضعه بالقوة لنهج لا يحظى بالقبول لدى قطاعات تعد بالمليارات من البشر” كما ورد نصا في عمود الزميل مدن يوم الاثنين الماضي، فهو يذكرنا بما كتبه الفرنسي “تيري ميسان” بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 من أن أمريكا ضربت نفسها بنفسها. فان هكذا استشهاد غالبا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، بمعنى أنه يثبت أن المجتمعات الليبرالية/الرأسمالية بلغت من الحصانة والثقة بالنفس ما يجعلها لا تخاف الرأي الآخر حتى وان كان هذا الرأي ضد مرتكزاتها الأساسية أو يثير الشكوك حول هياكلها البنيوية. فهل سمع أحدكم في جنة الماركسية/الاشتراكية يوما ما شيئا شبيها بهذا كأن أتيح لكاتب أن يلعن سلسفيل نظريات ماركس وانجلس دون أذى أو محاسبة أو حبال مشنقة تلتف حول عنقه.
الأيام 16 اكتوبر 2008