كان العديد من أنصار المعسكر الاشتراكي يُصدمون حين يرون منتجات الصناعة الخفيفة فيها، فيذهلون من حجم الفرق بين الحديث عن إنجاز الاشتراكية والتقدم الباهر، وبين تواضع تلك الصناعات والعديد من الخدمات الأخرى.
ولكن ذلك لا يستدعي الدهشة لو كان ثمة تفكيرٌ تاريخي، فصناعة تلك الدول المسماة اشتراكية لم تهبط من علٍ ولم تـُخلقْ بإرادةِ ساحر، بل هي نتاجُ دولٍ متخلفة صعدتْ إلى الصناعة في ظرف قياسي. في روسيا جرى ذلك عبر خمس وسبعين سنة، وانقصْ منها الحروبَ الأهلية والتدخلات الأجنبية والحرب العالمية الثانية، فكم يبقى من سنوات للصناعة؟ وفي الصين جرى ذلك خلال نصف قرن وبلغت مستوىً مذهلاً.
وكان لهذا التسريع منجزاته وسلبياته، فهو لم يأت بقوانين التصنيع الرأسمالية المعتادة بل جرى بإرادة التصنيع الحكومي.
لقد قامت النهضة الأوروبية الغربية على أسس التدرج الطويل، فمهدت سنواتُ النهضة لتلك القفزة الصناعية عبر انتشار الثقافة العلمية وخروج النساء من المنازل، وهذه النهضة بدأت من القرن الخامس عشر الميلادي، ثم جاءت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، محولة الورش والمعامل اليدوية إلى مصانع تعمل بالمحركات، وتوجهت للصناعات الثقيلة والخفيفة في ترابطات وتداخلات معقدة.
وكم جرى في هذه النهضة من جرائم مثل سلب القبائل والشعوب البدائية الكنوز والذهب، وتشغيل العمال عشرين ساعة وأكثر، مع غياب الخدمات الصحية والتعليمية للعمال وأسرهم!
حتى إذا جئنا للقرنين التاسع عشر والعشرين تكون هذه الدول قد بلغت مبلغ الدول الواسعة الصناعة، وهذا جعل قدراتها على إقامة مصانع الحديد والصلب والفولاذ والمحركات والقطارات والكهرباء مقياسا عالميا، وفي ذات القرون كانت تنمي صناعاتها الاستهلاكية والخفيفة، وهي التي تعيش على الأولى وتنمو وتتوسع بها.
ويترابط مع هذا كله نظام استغلال مطلق للمواد الخام من بقية دول العالم، حيث تلعب الأساطيل الحربية دورها في شحن الموز والذهب والنفط والكاكاو، وتقوم بدور فتح الأسواق وفرض تجارة الأفيون وتغيير مسار اللؤلؤ والبهارات.
هذا النمو الاقتصادي الواسع الطويل الأمد لابد أن ينتج سلعاً أكثر جودة، فقد نشأت صناعات عديدة للسلعة الواحدة، في الدولة الواحدة وفي الدول الغربية كلها، فكانت الأسواق تلعب دور صقل السلع وتجويدها، ثم تبدلها وتنتج سلعاً جديدة من المواد الخام نفسها.
في حين إن الرأسماليات الشرقية الحكومية خاصة وجدت نفسها تفرضُ حدوداً جمركية ظهرت بشكل سياسي، وراحت تنشئ صناعات ثقيلة بنفسها، وتوفر الفوائض من أجل مصانع الصلب ومحطات الكهرباء والسكك الحديدية خلال سنوات طويلة مع الحصارات الاقتصادية والسياسية، وتعهدت برعاية الأسر المنتجة بمختلف المؤسسات الصحية والتعليمية.
وحتى في أزمنة الثورة الصناعية فيها كانت بعض السلع رديئة، مثلما قامت الثورة الصينية بتوسيع وتعميم مصانع الحديد في كل مناطق الصين، فجاء بعض الإنتاج سيئاً، وكانت الفؤوس تتحطم في الأرض الزراعية.
لكنها حين بلغت هذا المستوى من خلق الصناعات الثقيلة بدأت بالتوجه العلني للرأسمالية، فقد انتهت المهمة الكبرى، وهي المهمة الأسهل نسبياً من تشكيل الصناعات الخفيفة، فالصناعات الثقيلة تحتاج إلى إمكانيات علمية واقتصادية أبسط، كما تحتاج إلى عمالة واسعة رخيصة متوافرة بكثرة في بلدان مثل الصين وروسيا.
لقد كانت الدول الشرقية منذ فجر التاريخ تعتمد على حشود العمال مثل بناء الأهرام، فهذه الكثافة اليدوية تصنع المعجزات الاقتصادية، لكنها لا تفيد كثيراً في صنع الساعات والكاميرات.
فهذه تحتاج إلى مهارات عمالية كبيرة وإلى تطور الأسواق وتنافسيتها، أي إلى سلسلة من التغيرات في نمط العمالة والمناهج الدراسية وتعددية الأحزاب والصحافة (الحرة).
انظرْ كيف تعجز الدول العربية عن صنع مكيف أو ساعة أو سيارة رغم ضخامة بعض منشآت الصناعة الثقيلة كأفران الحديد، والصناعات البتروكيماوية، وهي تجلب العمالة الأجنبية الرخيصة أو تحول الريفيين إلى عمال لكي تشيد هذه المعامل الضخمة، لكن كل هذه الحشود لا تستطيع صنع ساعة واحدة.
إنها بذات النمط من الدول الشرقية ولكن بشكل أسوأ، فهي إضافة إلى شروط التخلف الشرقية المشتركة تحجر على النساء، وتعيش مدارسها في عالم قديم، وتغلب العمالة اليدوية والأمية عليها، أو تستورد العمالة الأجنبية كدول الخليج، أو ترحل عمالتها التقنية العالية إلى بلاد الغرب نظراً لتخلف هياكلها الاقتصادية والعلمية كالعديد من البلدان العربية.
إن مهمات الديمقراطية السياسية والثقافية تترابط مع عمليات التصنيع، وتقوم الدول الشمولية الشرقية بنقل الجاهز من الصناعات الملوثة من دون رقابة من الرأي العام أو تنشئ الصناعات الثقيلة وبعجز كبير عن إنتاج صناعات خفيفة، فتهرب الفوائض الاقتصادية للخارج من مختلف المسام.
والدول العربية أقرب إلى النمط الغربي في القرن السابع عشر، لكن التدخلات الحكومية في بعض السنوات خلقت بعض الصناعات الثقيلة وبدأت تعجز عن تطويرها وعن الانتقال للصناعات الاستهلاكية، في حين ان الفئات الوسطى تتوجه نحو الخدمات المالية والعقارية بشكل كبير، وقد بينت الأزمة المالية الراهنة خطورة سيادة هذا الاتجاه.
أخبار الخليج 24 اكتوبر 2008