تاريخُ سوريا الحديث تاريخٌ عميقٌ وواسع، وهي قد بدأتْ الحداثةَ العربية ونشرتها بين الدول العربية المشرقية، وأدى الاحتلالُ التركي المباشر إلى نزوعها نحو الأفكار العروبية والقومية في بدء القرن العشرين، وكانت سوريا في بعض فترات التاريخ الإسلامي عاصمة الامبراطورية فغدتْ منتجةَ المذهب السني الرسمي بشكله الأولي (المرجئة)، وكذلك الاعتزال، رديفه العقلاني المعارض، وحين أُلحقتْ ببغداد عاصمة الامبراطورية تراجع ذلك المركزُ السني الغالب وانتشرت المذاهبُ الإسلامية المعارضة كالاثني عشرية وأهل التوحيد (الدروز) واليزيدية وغيرها وكذلك واصلت المسيحية حضورها المهم. وكانت الشامُ المنبسطة مركز المذهب الرسمي، أما المعارضات فتحصنتْ وراء جبال لبنان.
تشكلتْ برجوازيةٌ تحديثيةٌ في زمن الاستعمار الفرنسي وساهمتْ في نمو الوعي السياسي الحديث، وكان الإقطاعُ في الزراعة متجذراً، ومع بدءِ الاستقلال قامت الأسرُ الإقطاعية بطرد الفلاحين من قراهم وأحدثت شيئاً من العلاقات الرأسمالية، وأدت هذه العملية إلى مقاومة الإقطاع في الريف أما الإقطاع السياسي فكانت جذوره في جهاز الدولة تتنامى بشكلٍ حديث. ومع الاستقلال أخذت الملكيةُ العامة في التصاعد، وهو الأمر الذي أوجد إدارات دكتاتورية بدءًا من الشيشكلي الذي فتح الباب للاستعمار البريطاني والأمريكي خاصة في مجال النفط. ثم كرت سبحة الانقلابيين والعسكريين الحكام حتى الوقت الراهن، وبهذا تم إنشاء إقطاع سياسي حاكم على مدى عقود وهو الرحمُ التي تتولدُ منها البرجوازيةُ الشرقيةُ (السوداء)، وهي غير (البيضاء) التي تطلعُ من خارج الدولة في شمس العلانية التجارية. كان ما يُسمى الخيار الاشتراكي محاولة لتجذير رأسمالية الدولة، وكان اقصاه لدى صلاح جديد وجماعته وعني بتصفية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لتغدو الدولة المالك الوحيد، وتغيير تخلف الريف وتحجيم الإقطاع في مجال الزراعة، وكان نظام الوحدة الناصري قد بدأ ذلك، ولكن الفئات الوسطى التي استولت على إدارة الجيش والحكم خلال عقود رفضت هذا، وكان خيارها هو الرأسمالية المسيطر عليها من قبل الدولة التقليدية، وتجلى ذلك في ضرب دولة الوحدة، ثم في صعود حافظ الأسد، الذي صفى الجناح اليساري في حزب البعث والأحزاب اليسارية الأخرى التي حولها إلى ملاحق سياسية للنظام أو قوى مقموعة سرية.
كان نشوء وتوسع رأسمالية الدولة قد حدثا في القسم الشامي من سوريا، بعد الاستقلال، في حين لم يعرف لبنان رأسمالية الدولة المتجذرة، بل واصلت الإقطاعيات المذهبية تاريخها المديد وهي تشكل رأسمالياتها الباطنية، وهذا ما جعل لبنانَ الطفلَ غيرَ قادرٍ على قطع الحبل السري مع أمه سوريا. لقد قامت هذه الأجهزة بعصر العاملين في سوريا وحولتهم إلى رساميل بسبب هذه الهيمنات المتعددة: العسكرية والبوليسية والسياسية.
وقد شهد حكم الرئيس السابق حافظ الأسد بداية تدهور وضع القطاع العام الحكومي، ويمثل ذلك أزمة رأسمالية الدولة، التي سوف تنعكس على الاتجاهات السياسية والمذهبية الدينية ومواقعها في الخريطة السورية. (في سنة 2000 كانت قيمة الناتج المحلي تتراوح بين 18 و19 مليار دولار، وهو رقمٌ مقاربٌ لناتج لبنان، ولكن عدد سكان سوريا 16 مليون نسمة، وقد نشر الاقتصادي هنري عزام دراسة في جريدة الحياة في 4/3/2000 ذكر فيها تراجعا في نسبة نمو الاقتصاد السوري حتى وصلت إلى 3،1% سنة 1996، وتراجعت مكانة سوريا في الترتيب الاقتصادي العالمي من المرتبة 80 حتى111، أما الديون الخارجية فكانت تبلغ 22 مليار دولار، وكانت البطالة تبلغ 18% من قوة العمل البالغة 29% من مجموع السكان، (موقع إسلام أون لاين، الكاتب: عبدالكريم حمودي).
هذا كله كان ينعكس على وضع الشعب، حيث تزايد الفقر، في حين كانت رأسمالية الدولة تستغل النفط والصناعات المختلفة والسدود، فبدأ عهد الرئيس بشار الأسد بحديث عن تغيير هذه الرأسمالية الحكومية البيروقراطية الفاسدة وبحلول عهد من الديمقراطية، لكن ذلك لم يتحقق، وتوجهت الحكومة نحو الخصخصة المفيدة لهذه البيروقراطية. فجرت تغييرات كبيرة في الحياة الاقتصادية لكن في مسار معين. يقول السيد عبدالله الدردري المشرف على برنامج إعادة الهيكلة في سوريا في الوقت الراهن إن (من يعيش بأقل من دولار في اليوم لا تتجاوز نسبته 6،0% من عدد السكان لكن نسبة من يعيش بدولارين في اليوم تصل إلى 10%) فكم نسبة من يعيش بثلاثة أو أربعة دولارات؟! استطاعت الإدارات السورية أن تسبق بعض دول المشرق في تصعيد جسم الرأسمالية الخاصة التي خرجت من تحت عباءة الدولة بفضل هذا الضغط المعيشي على الجمهور العامل. يقول أحدُ الباحثين: (لقد اصبحت حصة القطاع الخاص ورجال الأعمال (أي البرجوازية الخاصة) من الناتج المحلي الإجمالي من 2،64 % عام 2005 إلى 70% عام .2008 مما يدلُ بشكلٍ قاطعٍ على جبروت وقوة الطبقة البرجوازية السورية الخاصة التي وصلت إليه، ولاسيما أنها تسيطر على 65% من الصناعة، و75% من القطاع التجاري ( نقلاً عن الباحث غياث نعيسة، موقع ميدل ايست أون لاين). ومع هذا فإن حياة الغالبية الشعبية في تدهور، وثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر، وتفاقم هذا بعد قبول الدولة شروط البنك الدولي لعمليات الخصخصة، فقامت بـ “تحرير” أسعار المحروقات. استطاعت القوى البيروقراطية المختلفة المتعاونة مع القطاع الخاص أن توجه خيار سوريا السياسي في هذه المرحلة، وهو أمر سوف ينعكس على التوجهات الفكرية والمذهبية كما سنرى. فتشكيل الثروات الكبرى بهذا الشكل السري الواسع العنيف يوجه أي بلد نحو صعود القوى المذهبية السياسية التي تعني انهيار أي دولة. كان السيد رفعت الأسد ضابطاً صغيراً في بداية الستينيات ولا يتجاوز راتبه عدة مئات من الليرات، ثم صار يملك المليارات ورحّل نصفَ ذهب سوريا للخارج. وباسل الأسد توفي وقام البنكُ السويسري الذي أودعَ فيه حساباً له بأخذ نصفه البالغ عشرين ملياراً، لأنه كان أعزب ويتم هذا الإجراء بحسب القانون السويسري.
أخبار الخليج 3 أكتوبر 2008
الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (1)
ذاكرة الوطن في العيد
يحل علينا عيد الفطر المبارك اليوم والفرحة تعم على الجميع, إلا أنها ستكون فرحة أكبر فيما لو عرفنا حق الذين خدموا الوطن كجنود مجهولين، أو معلومين ظاهراً وغير معروفين بالنسبة الى مقدار عطائهم وتضحياتهم. فجميع الاتجاهات الوطنية ساهمت في تحقيق ما تشهده البحرين الآن من حراك اجتماعي وسياسي مميز رغم كل شيء.
ومنذ أيام غاب عنا أحد رجالات الوطن الذين كانوا بحسب ما سمعناه من جيل آبائنا, ينشطون من أجل البحرين قبل أن نولد، وهو المرحوم هشام الشهابي، في الوقت الذي نرى هناك الكثير من المناضلين ممن أصابهم المرض، مثل الأب الروحي لجمعية العمل الديمقراطي (وعد) عبدالرحمن النعيمي الذي أقعده المرض (شافاه الله)، وكذلك شخصيات ساهمت في تأسيس النضال الوطني مثل علي دويغر، وغيرهم الكثير.
لكن بكل تأكيد سيكون عيدنا أكثر فرحة في المرات المقبلة أي عندما نسمع عن تطور مشروع «ذاكرة الوطن» الذي بدأه رئيس جمعية الشفافية عبدالنبي العكري، وهو الذي أعلن أنه سيجمع الوثائق عن جميع من ساهم في الحركة المطلبية والنضالية، لأن ذلك يُعَدُّ بمثابة جزء لا يتجزأ من تاريخ بلدنا، بل ولا يمكن لنا أن نشطب صفحاته ومراحله أو نغفلها… فهي أمانة على من يعرف عنها شئياً ليبلغ بها أجيال المستقبل وتكون مصدراً مهمّاً للتوثيق لأفراد نكروا ذواتهم لصالح نصرة قضايا وطن يجمع في جعبته تلاوين وأشكالاً مختلفة من أهل البحرين لمختلف اتجاهاتهم، اليسارية، الإسلاميه، الخ… جميعهم جمعهم حب الوطن وحب البحرين.
ذكرى هذه الشخصيات تفرحنا في العيد لأنها تذكرنا بأن البحرينيين الأصيلين لم تكن لديهم الأمراض التي تنتشر لدى كثيرين ممن يبيعون ويشترون من أجل نيل المصالح الشخصية. إن ذاكرة وطننا جميلة لأن لدينا في وطننا من يملك محتوى إنسانياً جميلاً، ويعطي من نفسه، ويبدع في مجالاته الحياتية التي ينشط فيها، وهؤلاء يستحقون أن يعرفهم شعبهم من خلال توثيق مستمر ومتعدد الأوجه. وأملنا من الكتابة والتوثيق ألا يكون من أجل إظهار بطولات شخصية، وطمس الآخرين كما شاهدنا هذا في بعض مما كتب، وإنما من أجل أن نفخر جميعاً بالجهود التي خلقت لنا وطناً جميلاً اسمه البحرين.
الوسط 30 سبتمبر 2008
طعـام غانـــدي
في رأي سلامة موسى لو أن رجلاً ممتازاً في قواه الذهنية والأخلاقية مثل المهاتما غاندي زعيم الهند وقائدها نحو الاستقلال شرح للناس الطعام الذي يأكله والذي ساعده على أداء مهامه الشاقة لانتفع الناس بتجاربه. ولكن قل أن نقرأ سيرة أحد العظماء ونرى فيها وصفاً لطعامه على نحو ما نجده في سيرة غاندي.
يظن سلامة موسى أن طعام كل إنسان هو كالحذاء أو البزّة، يحتاج إلى قياس خاص بعد اعتبار الجسم من حيث مزاجه ثم اعتبار الحرفة التي يحترفها الشخص، وقد عرف غاندي قياسه بعد التجارب التي يقوم بها على نفسه.
درس غاندي الطعام لبواعث وغايات مختلفة، فهو نفسه ينزع إلى النسك ويحتاج إلى الطعام الذي يوافق حياة النسك، ثم هو يقول بالعودة إلى الطبيعة، وهذه العودة تقتضي بساطة العيش والرضا بأبسط الأطعمة وأقلها حاجة إلى عناية الطباخ وتعدد التوابل واختلاف الألوان، وهو بعد ذلك يجد في درس الطعام ما يبصره بالخطط الوطنية، كما فعل في مسألة الملح. ففي نطاق صراعه ضد الانجليز دعا أبناء شعبه إلى عدم دفع ضريبة الملح التي فرضها المستعمرون على الهنود، ولهذا علاقة بالطعام الهندي، ذلك بأن الهندوس أقل الشعوب تناولاً للحوم بسبب تقديسهم للبقرة، وفيهم طوائف لا تذوق اللحم بتاتا، كالطائفة التي ينتمي إليها غاندي، ثم ان الفاقة تجعل الهنود يقبلون على الأطعمة النباتية، وهذه الأطعمة تحتاج إلى كثير من الملح، ومن هنا كانت حاجة الهنود إلى الملح كبيرة جدا، لأنهم يقتاتون بالأطعمة النباتية، لذا جاءت دعوة غاندي لمخالفة الحكومة بالكف عن دفع ضريبة الملح الذي هو ضروري لكل إنسان.
كان غاندي ناسكاً ومناضلاً، والنسك يتطلب الكف عن الشهوات بالصوم وقلة الغذاء، والنضال يتطلب طاقة وجهداً، مما يقتضي التغذية الجيدة التي تعين على الحركة والنشاط، وكان على غاندي أن يلائم بين الغايتين، وقد وجد بالتجارب التي أجراها على نفسه انه لكي يراقب ما يدخل في ذهنه عليه أن يراقب ما يدخل معدته، لذا فإنه قد اقتصر في وقت من الأوقات على لبن عنزته، وعلى الفواكه الجافة كالبلح وغيره. وهذا الطعام يكفيه بالغداء الذي يلزم جسمه، فلبن الماعز كثير الدسم، قليل المعادن، والفواكه الجافة خالية من الدسم كثيرة المعادن، وهذا يؤلف طعاماً تاماً لرجل مثل غاندي لا يعمل بعضلاته وإنما بذهنه، وينشد هدوء العواطف لا ثورتها، وقد أتاح له هذا النظام أن يعمل نهاره كله وبعض ليله لخدمة بلاده، فهو لا يُقيّل عقب الغداء على نحو ما نفعل نحن بعد وجبات غدائنا الدسمة المليئة باللحوم، فنثقل ونسترخي بعد الطعام، ولا يعود بوسعنا النهوض إلا بعد نوم عميق متصل، فيما كان غاندي يبقى نشيطاً طوال نهاره، قادراً على العمل والعطاء.
استغلاليون لموجة
دهشتُ من ممثل عربي كان شاباً واعداً في أفلام يوسف شاهين وقد ظهر في محطة فضائية من هذه المحطات التي ظهرت كالعشب الضاري فوق عقول العرب المتصحرة، ظهر بلحية ليعلم بالإسلام وهو يخطئ في لغته العربية ولا يعرف تاريخ العرب والمسلمين، ويتصدى لقضايا كبرى خطيرة!
هذا زمانٌ امتلأت فيه المدنُ العربية بالمسحوقين والسحرة، الأولون يبحثون عن بصيص ضوء ينجيهم من قسوة الأسعار المرتفعة ولعنة الأجور الهابطة وكوارث السكن والصحة والتعليم والبيئة، في ظل حكومات اللصوص الكبار المدعمين بأعظم تكنولوجيا غربية في استلال الأموال وتعمية الأبصار. والآخرون من السحرة انتهزوا زمان الجنون والعولمة وتخريف الجامعات العربية ليظهر كلُ واحدٍ منهم بالمنجي من الضلال. وفئة المثقفين الانتهازيين الذين يميلون مع الموجة ويستثمرونها هم دائماً في الموقع نفسه، لا يتأخرون ولا يتقدمون، يوظفون الموجة السياسية لمصلحتهم، أناسٌ لا هوية لهم، ولا أخلاق، بل هي المصلحة الذاتية، (إملأ جيوبي أكن معك).
والدول والحركات حين تكون استغلالية تعتمد عليهم، فهم الحربة التي توجه للمناضلين وللعاملين، وهم الأدوات التي تكون الآلات الحكومية لتدوس الناس، وترفعُ الفوائضَ المالية الكبيرة لمن بيدهم الأمر، فهم بوم الكوارث في الأنظمة، وطيور الخرابات، فلا يتجمعون إلا وصار أي وطن خرابة، وتحولت أي دولة إلى أطلال.
والحكامُ يفرحون بهذا البوم، ويسعدون كلما كثرت أسرابهُ، وهو ليس سوى إشارة على انتهاء عهدهم، لو يعلمون القراءة العميقة. والحكام الحكماء يقولون غري يا صفراء ويا حمراء، يقصدون بها الفضة والذهب، ويردون على كل طاغية صغير يقول إن الناس لا تقومهم سوى العصا، بقول عمر بن عبدالعزيز (كذبت بل يقومهم العدل). وتجد أكثر هذا في الشامتين في اليسار وسقوطه، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى خدم ومؤمنين شديدي الإيمان، يريدون أن يخدعونا، وهم الذين باعوا أنفسهم لمن يدفع ولمن يرفعهم بوصة واحدة على قامات الفقراء، وعلى المثقفين المناضلين الشرفاء، يريدون تصوير ذواتهم بأنهم مناضلون الآن من أجل الإسلام، حين ارتفعت أسعار النفط والأرز والشعير. وكان الرجلُ يديمُ إجازاته في تايلند والفلبين ثم صار إماماً يؤم المصلين، ويدعو لزوال الالحاد والكفر المبين، وصار الناس يستشيرونه ونسوا وقتاً كانوا يرجمونه. وهذه الموجة الدينية المليئة بالخزعبلات والخرافات والريالات والدولارات مؤقتة لأنها ليست مليئة بالعقلانية والمبادئ المحمدية النضالية العظيمة، وتستغلها الحكوماتُ الفاشلة في كل أمم المسلمين لخداع المسلمين، فإذا هي لم تحفرْ في نظم الاستغلال والحكم المطلق وتعزلها عن فضائنا السياسي فهي شرٌ وليست خيراً، والعاقبة للمتقين. وهؤلاء المثقفون الكثيرون الكثيفون الانتهازيون علامة شر وهوان، ومن نجا منهم مضى في سُبل الجهاد لا سبل الانحناء، وهم يستعينون بكل المخزن العتيق لإرث الاستبداد، معلين الطائفة، فصاروا في منزلة (الكفر) بالشعوب وهم لا يشعرون، وهم أحياناً معاصرون يستعينون بآلة الغرب الثقافية لدوس بذور النضال في ثقافة الشرق، تكرسهم مناهجُ جامعاتٍ لا تجمع سوى الغث وغياب العقل والموقف العربي الإسلامي والإنساني النضالي، ثم تجدهم منتفخين بما جلبوه من بضاعة خارجية زعموا أنها من إنتاجهم فالقابضون على الجمر الشعبي قلةٌ ممتحنة في عيشها البسيط يمسكون الخيوط الرقيقة للمقاومة، وبوصلتهم أن يغوصوا بين الناس، صانعي التخلف وزواله، وهذا جدلٌ عسيرٌ فهمه على من أدمن الخرافات الشرقية والغربية.
الغوصُ بين الناس وتحويلهم أداة تغيير علامة فارقة، تؤسس نفسها في الفلسفة والكتابة إنتاجاً لوعي غير مستورد يبني دلالاته على تغيير حياة العرب من دون كاتلوج جاهز، ويكشف أبنية الاستغلال منذ فرعون ذي الأوتاد حتى فرعون ذي الآبار، وذي الأوغاد الثقافيين الكثيرين. حين يولدُ مثقفٌ بهذا الشكل يُوضع في سَبت في نهر دافق يتوجه نحو قصر فرعون لينهي عهده. بهذا تكلمت التوراة والقرآن والإنجيل والبيان. تعددتْ الألفاظُ والموتُ واحد.
(قد أفلح من زكاها) وليس من سرقها وركب موجتها وسرق فقراءها، وبنى لنفسه قصوراً وفللاً من أضلاعها. لا يستطيعون خداع المسلمين، لأنهم عرفوا كثيراً من اللصوص بعدد الغبار في صحاراهم وبقدر الجوع في بطون أطفالهم، وبقدر الثوار الذين ماتوا شهداء في أرضهم أو تحولوا إلى حكامٍ ظالمين على أعناقهم، وبعدد أبيات الشعر التي فجروها في كفاحهم وغزواتهم وطربهم حتى زادت على عدد النجوم والأفلاك. فلا يتصور الواهمون أنهم فلتات في التاريخ، وأنهم مخادعون لم يجد الزمانُ بمثلهم، فهم مجردُ غبارٍ وفقاقيع يضيعون حيواتهم فيما لا يحفر عميقاً في الأرض ويصير مع ذهاب الصولجان والهيلمان إلى مخلفات توضع في المزابل. وهم شبعوا من التخريف فلديهم جبال حاشدة منها، منذ فرعون ذي السحرة، فما أفادته سحرته ولا ثعابينه ولا كنوزه، ومضى غارقاً في بحر الظلمات.
وقلْ أشهد إنني من المكافحين البسطاء غير الضالين بالنقود والخرافات والطوائف.
أخبار الخليج 1 أكتوبر 2008
خيارنا العلمانية
المطالبة بالدولة الاشتراكية على أهميتها وشرعيتها جزء من حرق المراحل في الوقت الراهن. ذلك أن الدولة الاشتراكية لا بد أن تُهيئ الأرضية الملائمة لتشكيلها، وفي مجتمع قبَلي يدعي المدنية لا بد أن تؤسس القواعد الأولية لتحرير هذا الشعب من التصاقه حد العبادة برموزه الطائفية، أو بولائه للحكم.
من هنا فأن العمل على تأسيس ثقافة الدولة العلمانية في الخليج يضاهي أهمية ما تسعى له كبرى الأحزاب الشيوعية في أوروبا من إعادة لقراءة نظريات ماركس، وتحليل مكامن الخلل في قراءة النظرية وتطبيقها في الاتحاد السوفيتي وأسباب التراجع من الاشتراكية بوصفها حالةً متقدمةً لانصهار المجتمع تحت كنف الدولة الراعية لمصادر الدخل والموزع له على أسس العدالة والمساواة، إلى الرأسمالية التي تمثل أقصى حالات الاستغلال للعنصر البشري.
مثلما ارتبطت الماركسية بمشاريع التحرر في مصر وفلسطين ولبنان والجزائر وهناك في كوبا حيث جيفارا وكاسترو، ارتبطت الطائفية بمشاهد الانهزام في العراق، والاقتتال الداخلي في لبنان وفلسطين، وسحق الجماعة من أجل بضعة أفراد في البحرين والسعودية وباقي المخفي في دول الخليج، لم تعد ثورة ظفار حيةً لتحرير الخليج العربي، فلقد غزته بعد غياب المشروع الاشتراكي العظيم مظاهر التبعية والاستهلاك، بات الناس يتنفسون الشيشة في المقاهي بعد أن كانوا يأملون في تنفس الحرية، يكدحون نهاراً ليصرفوا ما جمعوه ليلاً ، العجلة تدور ومن يتوقف يسحق.
رغم ذلك فأن مشايخنا النبهاء يدفعون الشباب إلى أتون صراع طائفي، لا يحتاج المرء أن يكون نبيهاً لكي يستوعب أنه يتجه في عكس السير، والمخالفة المرورية لن تكون تهمتها الدفاع عن الحقوق المسلوبة بل نصرة الطائفة التي تحمل امتدادات عقائدية خارجية.
وشيخنا الجليل لم يعد يصرخ: لا للتمييز، لا للمحسوبية لا للفساد، بل صرخ بأعلى صوته فلتسقط العلمانية.
لماذا ؟ لأن العلمانية ترفع الغطاء عن من يُوهم الشعب بالتمييز الطائفي من أجل مصالحه الذاتية، فيدفعهم إلى المعركة ويُهرول مسرعاً إلى الخارج، فيما يقضون هم عقوبة السجن لسنوات ويحرمون من التعليم والعمل والسكن.
على الضفة الأخرى تبدو الشوارع مزدحمةً والأراضي ممتلئةً بالسكان عدا تلك التي لُفت بسور على امتداد البصر وكتب على مدخلها ممتلكات خاصة يمنع الدخول، شعب جديد حلّ مكان آخر ، يحتدم الصراع الطائفي، جزء من الشعب يعارض وآخر يرى في التجنيس السياسي حماية لبقائه، الحركة المطلبية تتعطل لأن العيد عيدين والهلال هلالين، أما السرقة فهي جارية لا ريب فيها.
إذاً، لماذا تشكل العلمانية إزعاجاً للكثيرين.. ربما لأنها تدعو لتحكيم مبدأ العدالة والمساواة دون الاعتبار إلى إمتيازات طائفية أو عرقية ..
ما أجمل أن تكون فقط مواطناً بحرينياً وأن تتمتع بهذا الحق، يبدو أن لا سبيل لخلاصكم سوى العلمانية. لذا فان من يخشاها لا يملك إلا الهتاف: فلتسقط العلمانية.
من نشرة التقدمي
تاريخ الحركة الوطنية – ٢
الإنصاف يقتضي الإشارة إلى جهود بعض النشطاء السياسيين والنقابيين في المراحل السابقة لجهة توثيق ذكرياتهم أو ما بقي عالقاً في أذهانهم من يوميات عاشوها، ومن ذلك ما كتبه المحامي محمد السيد يوسف عن انتفاضة مارس 1965، وما كتبه عبدالله مطيويع وعبدالمنعم الشيراوي عن الحركة العمالية في السبعينات، وما كتبه علي ربيعة عن مرحلة التسعينات، وكذلك مذكرات عبدالرحمن النعيمي، منّ الله عليه بالشفاء، التي نُشرت مسلسلة في مجلة ” الديمقراطي “. وتعكف الأستاذة فوزية مطر على وضع سيرةٍ مُفصلة عن حياة وكفاح زوجها المناضل أحمد الشملان الرئيس الفخري لمنبرنا التقدمي، ستكون، في صورة من الصور، تسجيلاً لجوانب من تاريخ التنظيمات الوطنية بالنظر للدور المحوري الذي اطلع به الشملان في قيادة هذه التنظيمات وفي النضالات الجماهيرية التي خاضتها، بدءاً من عضويته ونشاطه في حركة القوميين العرب وانتهاءً بدوره البارز في جبهة التحرير الوطني.
لكن يظل أن المجهول من تاريخنا الوطني أكبر بكثير من المعروف، وما زلنا في حاجة ماسة لقراءة شهادات رجال مثل يوسف العجاجي وعبدالله البنعلي وعلي دويغر ومحمد حسين نصرالله، الذين يمكن أن يقولوا الكثير عن تاريخ جبهة التحرير الوطني، وهذا القول يصحُ على الكثيرين من قادة وكوادر الجبهة. وما يقال عن جبهة التحرير ينطبق على حركة القوميين العرب ووريثتها الجبهة الشعبية، وكذلك على تنظيم حزب البعث في البحرين، وعلى بقية التشكيلات الوطنية والقومية التي تشكلت في فترات مختلفة من تاريخنا، لكنها لم تستمر.
ولا يقف الأمر عند حدود كتابة تاريخ التنظيمات، وإنما أيضاً توثيق مراحل فاصلة في تاريخنا الوطني وفي التاريخ السياسي في البلد عامة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فان تاريخ التجربة النيابية القصيرة في السبعينات لم يُروَ بعد من وجهة نظر الحركة الوطنية، وكم سيكون مُفيداً تسليط الضوء على تجربة كتلة الشعب، باعتبارها كتلة المعارضة البرلمانية الرئيسية. وهذا يتطلب تتبع تفاصيل تشكيل هذه الكتلة، وحملتها الانتخابية، والبرنامج الذي قدمته، ومن ثم الملفات التي طرحتها في المجلس، وعلاقتها مع الكتلتين النيابيتين الأُخريين، أي كتلة الوسط والكتلة الدينية الشيعية، وكذلك علاقتها مع الحكومة.
وفي هذا السياق ننتظر من محسن مرهون ومحمد جابر الصباح وعلي ربيعة وغيرهم من أعضاء الكتلة الأحياء أن يعطوا هذه المهمة اهتماماً خاصاً، فيدونوا مذكراتهم وتقييماتهم لتلك المرحلة. وأشير هنا إلى أن المنبر التقدمي نظّم، منذ نحو عامين، حلقة نقاش حول تاريخ الحياة النيابية شارك فيها من نواب مجلس 1973 الأساتذة جاسم مراد وعلي ربيعة ومحسن مرهون، وكان هدفنا تحفيز النقاش حول فكرة تدوين التاريخ، من خلال شهادات من شاركوا في أحداثه. والهدف أن تندرج مثل هذه الشهادات أو المذكرات في عمل منهجي مدروس، يُقدم لأجيال اليوم معرفةً بتاريخ صعب حافل بالمشقات والتضحيات، ويترك للتاريخ شهادات لا تمحى من ذاكرة الوطن.