يتنافس المسلمون السنة والشيعة سنويا مرتين في مبارزة معرفية عقيمة، ويتناطحون في جدل فقهيّ وعلميّ طويل وعويص. تتكرر القصة نفسها سنويا، لتطفو على السطح خلافات فقهية تاريخية ترجع إلى قرون غابرة، مرّها الاختلاف المذهبي/ الفقهي، الذي لا يبدو انه سيستقر إلى اتفاق محتمل، في أهم أمر ديني ألا وهو، ثبوتية بزوغ هلال شهري رمضان وشوال، الأمر الذي يرجع إلى وقتٍ لم يكن بمقدور البشر من خلال معارفهم العلمية المحدودة من الإثبات العلميّ القاطع على وجود الهلال الفعليّ حتى وإن لم تستطعْ العين المجردة من رؤيته لسبب من الأسباب.
والمعروف أن المسالة الفقهية الأساس التي تنظم عملية ثبوت رؤية الهلال بالعين المجردة تستند إلى الحديث النبوي الشريف والمشهور، ‘صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته’. وظلت الأمور هكذا حتى العصور الحديثة، حيث صار بمقدور العلم بما لا يقبل الشك إثبات وجود الهلال من عدم وجوده، وان لم يُرَ بالعين المجردة. ويبدو أن الأمر المستجد المهم لدى بعض فقهاء الدين المحدثين، وتفسيراتهم العصرية، وجوهر نهجهم التحليلي والتفسيري يتركز في مبدأ إمكانية التغاضي عن النصّ، الذي يرونه معرضا للتبديل عبر مرور الزمان، محاولين إيجادِ مخرجٍ فقهيّ للمسألة الخلافية هذه، الهادف إلى نقطتين هامتين: أولا: الاعتراف بالحقيقة العلمية الثابتة وان لم يكن بالإمكان رؤيتها. ثانيا: سيمهد هذا الاتفاق البيّن والضروريّ بين المسلمين لتعاون شامل فيما بينهم، الأمر الذي سيقربهم من روح العصر ويدخلهم – ولو متأخرا- إلى دنيا التنوير.
يتخذ المُعمّم العصريّ المجتهد والمشهور باعتداله، الشيخ الجليل السيد محمد حسين فضل الله، احد المراجع الشيعية في لبنان – منذ بعض الوقت – مواقف لا تتلاءم مع السائد من الثوابت. فمعيار المرجعية الجليلة لدى السيد محمد فضل الله متعلق بإمكانية رؤية الهلال في أي بلدٍ [1] ضمن زمن اليوم الواحد (عُرف بهلال شيلي في قارة أميركا الجنوبية). ليس هذا فحسب بل يكاد السيد فضل الله جريئا في اجتهاده إلى درجة (حسب مصادر المطلعين الأقرباء منه) يبدو وكأنه يريد أن يقول أو يوحي بإمكانية تجاوز المقدس المبالغ فيه من ‘النص’ في مصلحة الواقع الموضوعيّ/ العلميّ وسنة التطور الإنسانيّ والظروف المتغيرة أبدا. ويرى ضرورة ذلك لسببين أساسين أولهما: أولية الحقائق العلمية وسنة التطور والتغيير البشريين على التصورات المستندة على النصّ المرهون بزمانه وظروفه. وثانيهما: أحقية مبدأ اتفاق المسلمين وما له من مردود ايجابي يصبّ في مصلحتهم.. هذه المصلحة العمومية التي يجب أن تشكل جوهر الحق الإنساني والديني في كل زمان ومكان.
بالمقابل يستعرض الأكاديميون والاختصاصيون، المتبحرون في علوم الفلك والفيزياء الرياضية، في بسط معارفهم وعلومهم للمهتمين والقراء العاديين، محاولين الإثبات العلمي الدقيق لِلُحَيْظة ظهور أو نشوء الهلال في بدء كل شهر قمري والإمكانية الفعلية من رؤيته أو عدمه.. على أن جُلّهم، انطلاقا من المبدأ النصيّ في التفسيرات والأحكام الفقهية / الدينية، يستندون على ضرورة الرؤية بالعين المجردة (النص الفقهيّ للسّنة النبوية الشريفة).. ولعل أكثرهم بروزا وجدلا وثقة في حساباته الفلكية هو أستاذ الفيزياء التطبيقية بجامعة البحرين ونائب رئيس الجمعية الفلكية البحرينية، الدكتور وهيب عيسى الناصر.
فعلى سبيل المثال والمقارنات، قبل طرح موجزِ مساهمات الأستاذ الناصر.. لنشير أولا إلى شيء من آراء زملائه.. في هذا السياق يتساءل بحق الدكتور فؤاد شهاب أستاذ التاريخ المشارك في جامعة البحرين عن ‘سبب العشوائية في تحديد الهلال’، ويرى أن ذلك ‘من صنع القادة وأصحاب القرار’، أي انه يلمح من أن السبب سياسي وليس ديني.
أما رئيس الجمعية الفلكية البحرينية الدكتور ‘شوقي الدلال’ فيقول إن التاريخ الإسلامي لم يشهد اختلافات من هذا القبيل كأيامنا هذه وذلك بسبب أن الرؤية كانت الوسيلة الوحيدة لإثبات ظهور الهلال. وفي نفس السياق يقول رئيس قسم الفيزياء الأستاذ محمد العثمان من أن الإشكالية راجعة لاختلاف المعايير في الرؤية وليس بسبب حساب موقف الفلك المتفق عليه من قبل الجميع ولذلك فإن الاختلاف شكليّ بحت وليس حقيقياً، مضيفا من أن ظاهرة ‘الاقتران’ بين النهاية والبداية، تحدث عندما يكون مركز القمر والشمس لهما خط الطول الكسوفيّ نفسه. أما فيما يتعلق بفقيهنا الجليل رئيس المرصد الفلكي الإسلامي الشيخ محسن آل عصفور فإنه بعد أن يغلق كليا باب الاجتهاد في هذا الأمر ‘المطلق’ يدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى مناظرة علنية مفتوحة عبر صحيفة ‘الوسط’ بكل شفافية وحياد في هذا الأمر الذي اعتبره من الثوابت الأبدية. ومن الجدير بالذكر في هذا الأمر الخلافيّ أن ‘المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث’ قد أكد أن العيد سيكون يوم الأربعاء.
دخل أستاذنا البحريني الأكثر حضورا وهيب الناصر في سجالات علمية وفقهية ونقاشات دقيقة تجاوز الإعلام المقروء والمسموع والمرئيّ إلى ندوة شاملة، أسهب فيها في إعادة طرح رؤيته الفلكية الدقيقة، منطلقا أساسا من التقويم الهجريّ الصحيح (كما يراه) مناشدا المراجع الفقهية السعودية لنقل وقائع تلقي الشهادات ونشر أسماء الشهود على الملأ متحديا من استحالة رؤية شهر شوال بالعين المجردة. ومؤكدا بنبرة العالم الواثق من أن العيد سيكون يوم الأربعاء. ومن هنا لابد أن نتصور مقدار خيبة أمله عندما أعلنت المملكة العربية السعودية ثبوتية رؤية الهلال، الأمر الذي لابد من فرض احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الشهود في السعودية وغيرها من الدول الإسلامية قد تراءت لهم رؤية الهلال أو أن الحسابات العلمية الدقيقة للأستاذ ‘وهيب الناصر’ غير صحيحة.
وكما يلاحظ القارئ الكريم عبر متابعته للسجال الجاري من أن الإشكالية متأتية من أن ‘الجهتين’ لا يتحدثان لغتين مختلفين فحسب، بل ينطلقان من نهجين متباينين في التفكير والتحليل. ومن هنا فإن إثبات كل طرف لترجيح وجهة نظره ستكون نتائجها غير مقنعة بسبب عدم منهجية فروضه في الأساس. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.. هل من المعقول أن يستمر المسلمون على هذه الحال في تشتتهم الفقهيّ والسياسيّ إلى درجة تبدو وكأن لكرتنا الأرضية ثلاثة أو أربعة توابع من أقمار؟ والنتيجة انه لا يوجد سبيل آخر للتحديث الفقهيّ والتقدم الاجتماعيّ للمسلمين إلا بمغادرة حدود النصِّ، وهو النهج الذي تمثل إرهاصاته المدرسة العصرية للفقيه السيد فضل الله خير تمثيل. لذلك لا غرو أن نجد هذه الكثرة من منتقديه، القادمين ليس فقط من جبهة رجال الدين وفقهائه المحافظين على المتراس المقدس، بل أيضا من جهة الأكاديميين المدنيين، النصّيين/ الشكلانيّين الذين لا يمكنهم أن يتسموا بجرأة الباحث المجرد من كل انحياز مسبق عدا الصدق العلميّ.
[1] لمزيد من الاطلاع على رأي السيد فضل الله وآراء بقية الأساتذة الجامعيين الواردة مقتطفات لهم في المقال، يمكن الرجوع الى الأعداد 2212 /2213 /2214 من صحيفة ‘الوسط’ البحرينية والعدد 954 من صحيفة ‘الوقت’.
صحيفة الوقت
5 اكتوبر 2008
مفارقةُ بينَ مُعَمَّمٍ عَصْريٍّ ومدنيٍّ نَصّيٍّ
لا تراكم عندنا
خلال العام الواحد تتاحُ لي فرصة المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات وورش العمل والحلقات المستديرة التي تناقش ما يمكن أن نُطلق عليه قضايا الساعة في العالم العربي. وقد تَكوّن لدي انطباعٌ أخذ في التعزز مع الوقت، هو أن أهم ما ينقص فكرنا وثقافتنا السياسية وخُططنا التنموية غياب التراكم، مما يؤدي، في النتيجة إلى تكرار البدايات وكثرة التجريب. فالمفردات والمحاور والموضوعات التي تُناقش في هذه الأنشطة متشابهة حد الضجر، وعندما يُفكر منظمو هذا النوع من الفعاليات في وضع محاور البحث والمناقشة فيها يتصرفون كأن الموضوع يُبحث أول مرة، فينطلقوا من أولى البديهيات التي سبق أن قِيل فيها الكثير. فيكون الناتج أن المشاركين فيها يُكررون ما سبق أن قالوه هم أنفسهم في ندوات مشابهة سابقة أو قاله سواهم في أنشطة أخرى، ومن النادر أن تُبنى ندوة أو مؤتمر على خلاصات أو نتائج مؤتمر آخر سبقهما، لينطلق منها نحو آفاق جديدة غير مسبوقة أو غير مدروسة تحتاج للدراسة والتأصيل، لتحقيق الإضافة على ما سبق أن قيل أو بُحث. بسبب ذلك يظل باحثونا ومُفكرونا والناشطون السياسيون يدورون في حلقة مُفرغة لا يقوون على كسرها، مُكررين نفس التوصيات والأطروحات التي لا تجد في الغالب الأعم سبيلها إلى التنفيذ، لذا لا تتراكم المعرفة ولا الفعل لدينا، سواء كان هذا الفعل فكريا أو سياسيا. والتراكم وحده معيار الانجاز، ذلك أن الأمور الحاسمة في ميادين الفكر والنشاط الإنساني الخلاق لا تتحقق دفعة واحدة، إنما بالتراكم الذي يفضي، مع الزمن، إلى تحولات نوعية، وهو الأمر الذي تكشف عنه التجربة الإنسانية المديدة. هذا الأمر يدعو للإعلاء من معايير الجدة والأصالة، التي تتطلب أن يقول الباحث أمراً جديداً، أو أن يُعيد النظر في أطروحةٍ قيلت، فيقدم معالجةً جديدة بمنهج بحثٍ مختلف، لأن ذلك ينتقل بالفكر من مربع إلى مربع تالٍ له، لننطلق إلى آفاق جديدة. سيبدو الأمر باعثاً على المرارة أكثر، حين نلاحظ أن الأمر لا يقف عند حدود المراوحة لا التقدم للأمام، وإنما تعداه إلى النكوص عن المنجز في الفكر والثقافة من قيمٍ للتنوير والتفتح، إلى مواقع سبق أن قدم مفكرون شُجعان تضحيات جسيمة، وفي ظروف صعبة، من أجل انجازها.
صحيفة الايام
5 اكتوبر 2008
ميزانية ٩٠٠٢ – ٠١٠٢
ستحيل الحكومة الى مجلس النواب مشروع ميزانية الدولة لعام ٩٠٠٢ – ٠١٠٢، وفي كل مرة يتطلع العديد من المراقبين والمواطنين الى كيفية تعاطي النواب والحكومة مع أهم مشروع يناقش في البرلمان.. ميزانية الدولة تحدد منهج الحكومة والنواب في تعاطيها مستقبل عامين مقبلين، إن كانا سيرسمان المزيد من الوحدات الإسكانية وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، أم انها ستكون نحو توجه آخر قد نختلف على رسمه.. في كل مره تحال الميزانية الى مجلس النواب يظهر تباين في توجهات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في توزيع أموال الدولة على الوزارات، وبالتالي تكون فرصة امام بعض الكتل للتفاوض مع السلطة التنفيذية، وللأسف قلناها مرارا وحذرنا منها تكرارا ان بعض الكتل تنتظر إحالة الميزانية على أحر من الجمر حتى تستطيع ان تساوم فيها..
جمعية الوفاق ستكون لأول مرة امام مشروع ضخم بحجم ميزانية الدولة، وبحسب ما نشرته »الأيام« فإن تشكيلة اللجان النيابية لن تتغير، وسيبقى النائب الوفاقي عبدالجليل خليل رئيساً للجنة المالية، التي يقع عليها الحمل الأكبر في مناقشة الميزانية.. واعتقد جازماً ان الوفاق لن تبرر أي خلل في تعاطيها مع الميزانية بأن السبب وراء موقف الاغلبية، فلقد ثبت لدينا ان ثلة صغيرة كانت تعقل في الاقتصاد خلال الفصل التشريعي الأول استطاعت ان تجعل من ميزانية بعض الوزارات ميزانيات تاريخية رغم عدم قبول أطراف عديدة لهذه التوزيعة.
سنبقى ننظر ونترقب الى تعاطي الكتل ومنها الوفاق تحديداً مع ميزانية الدولة.
صحيفة الايام
5 اكتوبر 2008
الأثرياء الجدد ينشرون الفساد
موضوعنا الحقيقي ظاهرة الفساد وسوء استخدام الأموال العامة ونهبها بكل الوسائل المتاحة. سنتطرق إلى نموذجين كمدخل لموضوع أوسع يقود إلى كارثة في صلب المجتمع المدني الذي يؤسس منذ بداياته لقيم القانون واحترام الدولة والحقوق المصانة والتشريعات المعلنة. ولكن قبل الخوض في النموذجين نواجه سؤالا نظريا من حيث طبيعته حول تجارب الأمم الغنية بل وحتى الفقيرة الأكثر تلوثا بالفساد . هل يوجد بلد لم يتعرض لظاهرة أو حالة أو وضع لا يسود فيه اللعب بالأموال العامة أو حتى الخاصة ؟ وباستعراض شريط كل الأنظمة تكون الإجابة نفيا وإنما تكمن الإجابة في المفارقة »الكوميدية« بمقارنة نماذج الفساد وحجمها المروع كتساقط الأبنية أو تفشي بيع غذاء فاسد تسبب في تسميم الناس وغرق عبارات وتلاعب وارتشاء قضاة فساد بلغ حجمه التلاعب بحياة الناس ومصيرهم . كما لا يوجد حتى الان نظاما سياسيا لم تتعرض مؤسساته إلى سوء استخدام الأموال العامة سواء كانت أنظمة ديمقراطية عتيدة أو أنظمة عسكرية أو أي نوع كان بما فيها الأنظمة التي نهجت طريق الاشتراكية.
وإذا تطرقنا إلى نظم مثل كوريا الجنوبية أو الولايات المتحدة أو فرنسا وغيرها من دول تمارس القانون ومعرضة للمساءلة ومحاطة بأعين منظمات حقوقية كمنظمة الشفافية وسلطة رابعة كالصحافة فإنها كذلك تعرضت لهزات وفضائح وحالما تقع يتخلون عنك بكل بساطة ويقال لك نحن نحميك طالما لم ينكشف أمرك وكنا ننصحك أن تمارس اللعبة شريطة أن لا تقع في الفخ ولن نقف في صفك عندما تخرج المسألة من نطاقنا فهناك القضاء والقانون كسلطة عليا وخارج سلطة الجميع بل وإياك وان تسقط في قبضة ما هو اشد من البوليس، أنهم زمرة »المخبرين« الصحفيين فهؤلاء متى ما تناولوك فقل وداعا !. وبالرغم من ذلك تحاول بعض الأنظمة مداراة الفضيحة بالتحايل على القضاء والقانون بحجة »الحفاظ على الأمن القومي !« ولي عنق القانون مما يفقد الدولة أهم مرتكزات الشرعية وهو مصداقيتها أمام أعين الناس والمجتمع .
إن سرقات المال العام والانغماس بالفساد ( بصورة متناهية !!) مسألة لا تحتمل أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، فيما لو كان المجتمع يرتكز على مؤسسة شرعية كالحياة النيابية، ولكن الكارثة اكبر حينما يكون نائب الشعب فاسدا وهو الذي رفع شعار حملته الانتخابية »كافحوا الفساد« بل وأعلن من منصات تلك الحملة وبرنامجه الانتخابي : »إنني سأكافح الفساد وألاحقه في عقر داره« بينما كان نائبنا وزمرته في حضن الفساد ولياليه الراقصة . ترى لماذا نميز هنا درجة الفساد طالما ان السرقات والفساد أمر واحد ؟.
اعتقد أن لكل ظرف تاريخي أهمية مختلفة. فعندما يتم سرقة المال العام كانحدار أخلاقي في ظل لحظة تاريخية يمر فيها الوطن بكارثة كبرى، فان الوضع مختلف تماما. فالتلاعب بقوت الناس والتجارة في بضائع استراتيجية أثناء الحرب والمجاعة تقارب مستوى الخيانة العظمى. إذ يصبح كل قرش وكسرة خبز مهم لحياة الناس والدولة والمال العام .
الحالة الأولى حدثت ما بعد سقوط صدام، إذ تلاعبت أطراف في المال العام، وكان فيها الشعب العراقي وحكومته بحاجة ماسة لكل ورقة نقدية بل وكان فيها الناس في حالة معنوية صعبة وبائسة، فلا يجوز الضرب في جسد إنسان ينزف كان ابنا بارا للوطن. أما الحالة الثانية وجدناها في نموذج السلطة الفلسطينية، فإن السرقة تتم في سلطة لم تقف على قدميها بعد، وتتلقى المعونات الخارجية بالقطارة، بحيث امتدت يد الفاسدين إلى قوت الشعب ومست نفقات أساسية للمدرسة والخبز والمستشفى والدواء. تجاه ذلك النموذجين هناك نماذج عديدة لا يجوز أن يتجاوز الفرد فيها سقف القيم الكبرى في خيانة الوطن بصورة متوارية، ليس في تسليم نفسه للأعداء والشيطان، وإنما ممارسة هدم وطنه من الداخل . من هنا نميز الفرق بين دول في ظروف طبيعية تمارس فيها لعبة العمولات في أسواق حرة ومفتوحة »وشبه مشروعة ومبررة !!« طالما القيم السائدة هي قيم الرأسمالية »والفرص الذكية« »يا أخي خلك شاطر !«. فإذا كانت درجة السرقات للأموال العامة واحدة بسبب ملابساتها وظروفها فإن الردع والموقف الاجتماعي وردود فعله يكون منها اشد وطأة مثلما حدث في ألبانيا عندما تم سرقة أسهم وأوراق الناس ومدخراتهم. لماذا تكرس قيم أخلاقية بشعة اقرب لممارسات المافيات ؟ حيث يغيب الاستجواب والمساءلة في قضية عادلة وتحت مظلة دولة القانون ؟
مثل تلك الحوادث في عالم الفساد تجعلنا نعيد النظر في ظاهرة أعمق من الضروري تجنبها في المجتمعات الخليجية فهي تحمل في أحشائها ظواهر سلبية كتطلع شريحة من النخب الاجتماعية للثراء السريع بطرق سهلة وكسولة وملتوية، في ظل غياب القانون أو على اقل تقدير »استرخائه« الوظيفي وامتيازاته ورفاهيته . إذا نام القانون وغفلت الصحافة وصمت المجتمع المدني وتراجعت الدولة عن وظائفها استشرى كل أنواع النهش والغرف من المال العام وسرقته. لقد صار الفساد في منطقتنا »القطار المندفع بلا توقف ! وبات هناك كثر يرغبون الصعود إلى متن القطار. وبتعبير كريس باتن«، ربما يكون الفساد أكثر شيوعا في بعض الدول الآسيوية منه في الغرب، ومع ذلك علينا أن نكون حذرين من خداع أنفسنا بالتفكير في أن الفساد أمر غريب يحدث في أماكن أخرى وليس في باحة بيتنا الخلفية.
صحيفة الايام
5 اكتوبر 2008
الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (3)
واجهت الإدارةُ الجديدة بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد إمكانيتين للتطور، تتمثلُ الأولى في التوجه نحو إصلاح حقيقي واختيار طريق الانتخابات والتعددية الحقيقية، أو الاستمرار في النهج القديم، وقد حدثت خطواتٌ في الخيار الأول لكنه لم يستمرْ طويلاً، فيما عُرف بـ (ربيع دمشق)، فكان الخريف أقوى وعمت الاعتقالات وأُبقيت الجبهةُ الوطنية كديكور وذيل للسلطة، مما فرّغ تاريخاً طويلاً لهذه القوى المعارضة سابقاً من مضمونه ودوره في كشف الواقع ونشر ثقافة وطنية توقف هذا الانزلاق نحو التفتت الطائفي السريع، لتعارضِ هذا مع الملكيةِ العامة.
وكان أن استجابت الإدارةُ السورية الجديدة لكل شروط البنك الدولي في تغيير ملامح سوريا الاقتصادية، حيث الملكية العامة “وليدة” التضحيات وجهود العمال والقوى الشعبية على مدى أربعة عقود، وباعتها للرأسماليين. يقول أحدُ الباحثين السوريين: “ومن أهم سمات التحول هو انجاز السلطة لما يمكن أن نسميه “خصخصة” الطبقة المالكة السورية، ولاسيما الشق الأساسي منها وهو القسم البيروقراطي الذي راكم ثرواته من خلال النهب والفساد بفضل احتكاره للسلطة، وكان أقواها بفضل اضعافه للبرجوازية الخاصة، منذ تسلم البعث للسلطة عام 1963 ولغاية 1991، حيث بدأت بشكل خجول عملية تعزيز مواقع هذه البرجوازية الخاصة، من جديد من خلال قانون الاستثمار رقم 10، مما سمح له بضخ أمواله واستثمارها مجدداً في قطاعات التصنيع أو الخدمات أو التجارة”، (غياث نعيسة، بعض ملامح الصراع الطبقي في سوريا). هذا التحول وبيع الأملاك العامة وتأجير أجزاء من الموانئ ورفع الدعم عن الوقود وبعض المواد الغذائية وما ترتب على ذلك من غلاء وتدني الأجور وارتفاع التضخم، صعّد من ردود فعل العمال ولكن على نحو اقتصادي جزئي ومحدود فقد فقدت الطبقةُ العاملةُ أحزابَها المعبرة عنها، وكانت أدواتُ الوعي التقدمية مشلولةً لارتباطها بأجهزة الدولة ونتاجات مفاهيمها، في حين كان بعضُ المعارضة الليبرالية يتصاعد بشكل خائف ومُفتت ويعمل في ذات المفاهيم الطائفية. ففاتورة “الإصلاح” الاقتصادي وقعت على عاتق الجمهور الشعبي الذي رفع الملكية العامة بجهوده، وعليه الآن أن يدفع ثمن عملية الخصخصة كذلك، أي أن تخرج أملاك الموظفين من عتمة الدولة إلى النور الاقتصادي (الحر) من دون عقاب قانوني. رأت الوزاراتُ السوريةُ المتعاقبة والعديدة منذ التسعينيات في حملاتها المستمرة على الفساد الجوانب الشخصية الجزئية لهذه الظاهرة المركبة، فتركزت كعمليات تطهير وإبعاد كما توجهت الجهود نحو حلحلة هذه الملكية العامة من القيود البيروقراطية الكثيرة. جاء في تعليقٍ لصحيفة الحياة سنة 2000 حول عمليات التغيير الكثيرة التي تجرى في أجهزة السلطة. “اليوم في سوريا فساد لأن الدولة اعترفت بوجوده، فكيف يستأصلُ هذا الداء الوبيل؟ لقد جاءت حكومة عبدالرحمن خليفاوي عام 1971 فلم تستطع”، وتعدد الصحيفة الحكومات السورية في تلك الفترة مثل حكومة محمود الأيوبي ومحمد علي الحلبي وعبدالرؤوف الكسم ومحمود الزعبي، التي استمرت وسقطت كلها بشكل مدوٍ متوالٍ حتى نهاية القرن العشرين، من دون فائدة في حل مشكلة الفساد العميقة، ووصلت التجاوزات إلى مليارات الدولارات حتى أُقصي ضمن من أقصي رئيس المخابرات العامة الذي غُرم مليارا من الليرات. وكان التقييم الحكومي لمشكلات القطاع العام إجرائيا فنيا، مثلما رأتْ ذلك صحيفةُ تشرين الحكومية في تقييمها التنظيري لمشكلات سوريا الاقتصادية، وذلك في عددها يوم 25/12 سنة 1999 فرأت أن ضعف القطاع العام يعودُ إلى نقص سيولة الشركات العامة والخاصة وضعف أدائها وضآلة الصادرات وتراجع معدل النمو الاقتصادي، في حين رجح أحد الباحثين جذور ذلك في الاعتماد على المساعدات الخارجية، ووجود نظام الحماية العالية للصناعة، وغياب القطاع المصرفي المتطور (انتهى الاستشهاد). والسببان الأخيران مهمان لكونهما يعكسان أزمة تقنية وبيروقراطية القطاع العام. لكن ذلك يعود إلى غياب الديمقراطية في البلد، وعدم وجود منافسة للقطاع العام داخلية وخارجية، فهذه تجعله غير قادر على إنتاج سلع متقدمة، فتتكسد ويزداد تدهور قوى الإنتاج. يذكر أحد الباحثين الاقتصاديين الحكوميين ان ازدهار سوريا الاقتصادي في بعض السنوات نتاج المساعدات من دول الشرق ودول الخليج: “ويُعزى هذا النمو إلى معدلات استثمار عالية بلغت حوالي 25% إلى 30% من الدخل القومي، قام بمعظمها القطاعُ العام، مدعوماً بمساعدات سخية من دول الخليج العربي وبعضها من دول المعسكر الشرقي”، (الاصلاح الاقتصادي في سوريا، نبيل سكر). كان هذا النهج البراجماتي صالحاً في السياسة والاقتصاد، على المستويين الإقليمي والوطني، لفترةٍ قبل أن تستفحل مشكلات القطاع العام، وتتوجه الطبقة الحاكمة نحو حل بيعه للكبار الذين ظهروا عبر هذه الرأسمالية (السوداء).
صحيفة اخبار الخليج
5 اكتوبر 2008
الصراعُ الاجتماعي والمذهبية في سوريا (2)
كان حزبُ البعث العربي الاشتراكي يمثلُ النضال من أجل الحرية الوطنية والعلمانية في سوريا، لكن أخذت هذه الأهداف تتصدعُ مع تصاعد ملكية القطاع العام، أي رأسمالية الدولة التي تـُدار بطريقةٍ غير ديمقراطية. كان هذا يعني نمو القطاعات الاستغلالية في أجهزة الدولة المختلفة، وينعكسُ كذلك على الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع النظام البيروقراطي، وهو أمرٌ سوف يشهد التدهور الفكري لهذه القوى التي كانت يساريةً وانتقلتْ لصفوف اليمين. لم تعد المرتكزاتُ الفكريةُ اليسارية تسودُ في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهو قد مثّل ضربةً للجناح اليساري في هذا الحزب، وأكد دعم كبار التجار والرأسماليين الخائفين من تطرف جناح صلاح جديد، فلم تعدْ ركيزة الوقوف مع العاملين مهمة، بل صار لجم تطلعات هؤلاء العاملين للمزيد من رفع مستوى المعيشة، بدعوى المجابهة العسكرية القومية، وتراجعتْ الأحاديثُ عن الاشتراكية، لكن ذلك لم يحدث إلا بصورةٍ انزلاقيةٍ حذرة تبعاً للمهارة السياسية الكبيرة للأسد الأب، لعدمِ تصدع صفوف السلطة والجبهة الوطنية، والخوف من انفلات الجمهور العامل، فتم الحفاظ على مستوى دعم معين للمواد الغذائية ولخدمات القطاع العام وبعض مظاهر الدولة الأبوية.
كان عهد الأسد الأب هو عهد التوازنات بين اليمين واليسار، بين القطاع العام والقطاع الخاص، بين الشرق (الاشتراكي) والغرب الرأسمالي، بين عرب الثورة والجمهورية وعرب النفط والملكية. ولهذا فإن مسألةَ التخصيص لم تـُطرح بشكلٍ قوي وحاسم حينذاك، لكنها كانت تنمو على نارٍ هادئة، وقد رأينا في الحلقة السابقة كيف تجمدت ماكينة الدولة الاقتصادية. إن ذوبانَ وتآكلَ أيديولوجية الثورة العلمانية القومية كان لابد لهما من بديل، وفي ذلك الحين تفجرتْ الثورةُ الإيرانية ثم خطف رايتَها المحافظون الدينيون، وعمدتْ إلى تصعيد القطاع العام بذات الصورة السورية، لكن القطاع العام كان في سوريا يتجه إلى الانهيار، فليس تأثر سوريا بإيران لكونها شيعية بدرجة أولى بل لكونها ” محافظة ” شيعية بدرجة أساسية.
إن قيادةَ الدولة السورية الطالعة من الفئة العلوية هي فرعٌ من الفرق الشيعية الإمامية المتعددة، فوجدتْ إن غليانا مذهبيا يتصاعدُ في منطقة المشرق العربي بعد ظهور الجمهورية الإيرانية بذلك الشكل، وهذا الغليان راح يؤثر في مناطق مجاورة وملاصقة لسوريا، ويدخل في أحشاء السياسة السورية الداخلية، وسواء كان ذلك عبر تفاقم مشكلة العراق وتصاعد أعداد المهاجرين العراقيين الكثيرين المتوجهين لسوريا أو عبر استمرار نصف مليون مهاجر عراقي جنوبي يوجدون لحد الآن في سوريا.
إن الطبيعة القتالية وقتذاك لمسألة الصراع ضد السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية، كانت تتطلبُ مادةً سكانيةً بشريةً كبيرةً ضد السياسة الإسرائيلية خاصة، لمواجهتها في الجنوب اللبناني والجولان. كما أن قرارَ الارتباط مع السياسة الإيرانية أخذ يتمظهرُ داخليا على صعيد مواقع الوعي والمذاهب في الحياة السورية، فقد وجدت القيادةُ السوريةُ في السياسة الإيرانية مدداً وسنداً كبيرين يقعان على بعد أذرع من الخريطة السورية ويمكنهما أن يخترقا العديد من المواقع عبر جنوب العراق وشماله ثم يمتدان ويتوسعان في لبنان، مثلما أنهما يتماشيان مع تداعي بنائها العلماني الديمقراطي القومي وتوجهها نحو اليمين.
لكن كان موقع المذهبية العلوية مناوئاً لهذا التماثل المذهبي مع إيران، فالعلويون يختلفون بمذهبهم عن الاثني عشرية وكانوا مستقلين طوال قرون، ومن الصعب تغيير مذهب متجذر بأوامر حكومية. كما أن الطلب إلى العلويين أن يغيروا مذهبهم ويقاربوا مذهباً، هو أمرٌ يمتُ إلى السياسة الآلية وليس إلى تطور المذاهب الإسلامية العريقة. لكن رغم ذلك جرت محاولة تحريك بين المذهبين الاثني عشري والعلوي، وبدت كمحاولة سياسية من جهاز سياسي شمولي . بل لقد اتسعت هذه المحاولات لتشمل مذاهب قريبة كالإسماعيليين والدروز، ثم توجهت للسنة كذلك.
إن توظيفَ الدولة ورقة المذاهب في الصراعات السياسية كان شيئاً خطراً في تاريخ السياسة القومية السورية، التي عُرفت بقوة تحديثها وعلمانيتها، لكن أجهزة الدول العربية لا تقرأ عادة لا الخريطة المذهبية ولا خريطة الصراع الاجتماعي فهي توظف الاتجاهات الدينية المتصاعدة بشكل نفعي واستغلالي بعد أن وجدت هبوطاً في خضم الأفكار القومية والتقدمية التي كان يُطنطن بها من دون تطبيق. وتفاقم مثل هذه السياسة يؤدي إلى هجوم من القوى الطائفية المتطرفة الأخرى كما حدث في الهجوم على (مدرسة المدفعية في حلب سنة 1979 التي كان فيها 314 ضابطاً بينهم حوالي 294 ضابطاً ينتمون إلى الطائفة النصيرية الحاكمة في سوريا.. بينما توزع الضباط التسعة عشر على طوائف السنة والمسيحيين والإسماعيلية والدروز)، (أحمد موفق زيدان، مقال:سوريا بين كشف الطائفية وممارستها).
وبهذا فإنه في عهد الرئيس السابق بدأت سياسةٌ مذهبيةٌ مغايرة للتاريخ الفكري لحزب البعث، كما أن الحزب ككلٍ بدأ سياستين مذهبيتين على ضفتي الفرات، أي في العراق وسوريا، ولكن بشكلٍ مغاير. فأخذ الحزبُ يسهمُ في نشر الاثني عشرية في سوريا كما تتشكل حيثياتها في جماعات اليمين المحافظ الإقطاعي، بتوسيع مراكزها العبادية واتسع مثلا التشيع في سوريا، في مناطق الساحل والجزيرة (راجع الأرقام والحيثيات التي أعلنتها حركة العدالة والبناء الإسلامية السورية المعارضة). إن هذا التوجه المذهبي السياسي خطر ليس فقط لكسره ميراث حزب البعث ولكن أيضاً لاستعداء قوى مذهبية أخرى لها صراعات وثارات طويلة مع النظام، وبشكل خاص مع الجماعات السنية السياسية، ومن المعروف كيف جرت الأحداث الرهيبة في حماة وغيرها من المدن. يقول مؤلف «الصراع على السلطة في سوريا« فان دام: «إن الطوائف الإسلامية في سوريا تتكون بالشكل العددي التالي:7،68% هم من السنة، والعلويون 5،11 %، والدروز 3%، والإسماعيليون 5،1% “.
إذًا واجهت الطبقة الصغيرة الحاكمة التي تنتمي قمتها إلى طائفة صغيرة حراكا سياسيا مذهبيا واسعا مضادا، بعد أن بدأت قواعدُها الحديثةُ بالانفضاض عنها، نظراً إلى ما جرى في الملكية العامة كما سبق الذكر، ولم تتوجه تلك الطبقة الصغيرة نحو التحديث والديمقراطية والعلمانية وهي الشعارات التي رفعتها بل كونتْ دولةً مذهبيةً سياسية مغايرة لمنطلقاتها الفكرية، فكان ردُ الفعل الطبيعي أن تتوجه القوى الأخرى إلى النقيض المباشر، أي إلى التسيس المذهبي المعادي الممزق للنسيج الوطني، وليس أن تتجاوز ذلك وتعمل من أجل دولة علمانية المواطنون فيها سواء، والإسلام جذورٌ وتراثٌ وأحكامٌ فقهية في الحياة الاجتماعية. لكن السياسة انعكاسٌ طبقي وليست أعمالاً في الهواء، وطبقة وجدت نفسها في مأزق تاريخي لأنها شكلتْ نظاماً على أساسين عائلي وطائفي، لم تعد قادرة على نقده وتجاوزه، لأن هذا يتطلبُ أن تخلي الملكية العامة للعاملين وللشعب، وكان المسار تسليم الملكية العامة لكبار الموظفين والرأسماليين الطالعين من الأجهزة وعملياتها.
أخبار الخليج 4 أكتوبر 2008
هشام الشهابي
هشام الشهابي بالإضافة إلى انه كان يتعاطى السياسة من دون ثرثرة او “بوزات” كان متواضعاً إلى ابعد الحدود فهو لم يبتلِ بأمراض بعض النخب السياسية التي لا تزال تعاني منها إلى يومنا هذا كالتعالي و”النفخة” والمزايدات السياسية والركض وراء الألقاب والتنكر للماضي والى آخره من هذه الأمراض.
والحقيقة أن العارف بأخلاقيات “بو عمر” يدرك في الحال أن هذا الرجل بالرغم من حالته المادية الميسورة فان المال لم يدنسه ولم يغير من تواضعه ومن حبه وانفتاحه على العطاء الوطني.
حقيقة لم اعرف هشام معرفة جيدة ولكن بدأت معرفتي به عندما زارني مع كوكبة من الوطنيين الشرفاء بعد خروجي من السجن عام (١٩٩١) وازدادت هذه المعرفة وتوطدت عندما توظفت في جامعة الخليج في حينها كان هشام مديراً للشؤون الإدارية والمالية.
وقبول توظيفي بالجامعة عام (1994) سانده هشام مساندة قوية وللإنصاف بالفعل كان متحمساً لطلبي وخاصة في ذلك الوقت لم تكن فرص العمل متيسرة ولا سيما للذين لديهم قضايا سياسية.
حقيقة ما أن أخبرت هشام بأنني تقدمت بطلب وظيفة للجامعة حتى قال لي وفي هدوء عندي علم بذلك وكذلك “الربع” اخبروني بطلبك ولكن “اصبر خير”.
في الحال قفز إلى ذهني المناضل الوطني محمد جابر الصباح ولأن هذا الإنسان يحمل هموم الوطنيين والكادحين أينما كانوا أدركت أن “بو جمال” تحدث مع هشام عن رغبتي بالعمل في الجامعة وأدركت أيضا أن هشام تحدى كل المخاطر الأمنية آنذاك بشأن هذه الموافقة وخاصة إن الإجراءات الأمنية يومها والمتعلقة بالتوظيف وقفت حجر عثرة أمامي بمعنى إن جهاز الأمن السابق لم يوافق على التوظيف مما زاد قلقي ولكن “بو عمر” كان غير مكترث وبحكم منصبه الإداري الرفيع وافق في الحال وقال لي بكل ثقة! من الممكن العمل معنا وبعدها يحلها ألف حلال.
في ذلك الوقت كانت البلاد تمر بظروف سياسية وأمنية صعبة أساسها أحداث التسعينات التي من بين إفرازات التعصب الطائفي وازدياد حدة العنف والعنف المضاد والتبعية للقوى الدينية المتطرفة وفي ذلك الوقت أيضا كان هشام يدرك إنني احد المختلفين معه حول العديد من القضايا السياسية والفكرية ولكن للأمانة هشام لا يشبه أولئك السياسيين الذين لا يحترمون الرأي الآخر ولا أولئك الذين لا هَمّ لهم إلا إطلاق الشائعات على القوى الوطنية واليسارية ولا أولئك الطارئين على السياسة الذين لا زالوا يعتقدون إن أحداث التسعينات هي التاريخ السياسي للبحرين ومن دونها لا تاريخ لهذه البلاد التي عرفت منذ عقود بقواها الوطنية واليسارية والتقدمية وبشعبها المتحضر الذي لم يعرف الطائفية إلا منذ اندلاع الثورة الإيرانية ووجود طالبان وقوى الإرهاب بل كان من نوع آخر من النوع الذي يفرض احترامه عليك المحب للآخر لا تشوبه أية عقدة من تلك العقد التي ابتلي بها بعض المثقفين والسياسيين وعلى وجه الخصوص النرجسية والذاتية والشخصنة.
هذا هو جوهر هشام الحقيقي.. هشام الذي غادر الوطن فجأة.. نعم غادر الوطن في هدوء وقلبه مفعم بحب الوطن والحياة.
الأيام 4 أكتوبر 2008
” التوافق المجتمعي” واتفاقية سيداو .. المعنى والنتيجة
بتاريخ 3 أكتوبر 2008 سيتوجه إلى جنيف الوفد الحكومي والوفد الأهلي لمناقشة التقرير الوطني الأول والثاني حول اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة يوازيه التقرير الأهلي المعد من الجمعيات النسائية المنضوية تحت مظلة الاتحاد النسائي..
انضمت مملكة البحرين بموجب المرسوم بقانون رقم ٥ لسنة ٢٠٠٢ إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ” سيداو”. ولدى انضمام مملكة البحرين لهذه الاتفاقية تحفظت على بعض بنودها والتي تشمل المادة الثانية، والمادة التاسعة فقرة ٢ – والمادة 15 فقرة ٤ – والمادة 16 – والمادة 29 فقرة ١، ولقد جاء في مقدمة التقرير الحكومي والذي سيناقش في جنيف مع لجنة سيداو ما يلي ” باستثناء هذه المواد التي تم التحفظ عليها فإن انضمام المملكة إلى هذه الاتفاقية لهو دليل حازم على السعي الدؤوب من قبل المملكة نحو ترسيخ مبادئ المساواة بين الجنسين في اتجاه القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة “.
لا شك إن انضمام مملكة البحرين لهذه الاتفاقية يعتبر انجازا ونقلة مهمة في تعزيز قدرات المرأة وتبوئها لمواقع صنع القرار وحصولها على جميع حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ولا ريب إن الانضمام لاتفاقية سيداو وتقديم التقارير الدولية للجنة هيئة الأمم المتحدة ومحاسبة الدول الأطراف في مدى صدقيتها في التطبيق لمواد الاتفاقية على ارض الواقع هو لا ريب لصالح المرأة..
ونتمنى على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في إقرارها والانضمام للبروتوكول الاختياري والذي يعطي المرأة منفردة الحق في التظلم للجنة سيداو في حال عدم حصولها على حق من حقوقها من قبل الجهة المعنية.. وكذلك دراسة المواد المتحفظ عليها دراسة عصرية حيث جاء هذا التحفظ كعقبة كأداء في تطبيق مساواة المرأة بالرجل ورفع كافة التمييز ضدها.. فهذه التحفظات تفقد الاتفاقية المصداقية الفعلية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة.
أولا:
التحفظ على المادة الثانية وهي حسب الاتفاقية تتضمن إدماج مبدأ المساواة بين الجنسين في الدساتير الوطنية.. واتخاذ التدابير اللازمة من تشريعية وغير تشريعية لحظر التمييز.. وفرض حماية قانونية لحقوق المرأة.
طبعا من ضمنها إصدار قانون عصري للأحوال الشخصية وقد برر التقرير الحكومي هذا التحفظ بان هذه المادة تتعارض مع حدود أحكام الشريعة الإسلامية.. مع إن هذه المادة تعتبر هي جوهر الاتفاقية وعصبها فالتحفظ عليها هو إلغاء لجميع مواد الاتفاقية.
ثانيا:
وكذلك التحفظ على المادة التاسعة الفقرة ٢ الخاصة بإعطاء المرأة حقا مساويا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أولادها.. ألا يعتبر هذا التحفظ تمييزا ضد المرأة..؟ لماذا التمسك بقوانين عفا عليها الزمن؟ ، فالمرأة من حقها اختيار جنسية أولادها ولا يجب أن يكون هذا الحق حكرا على الرجل.. هناك لجنة أهلية تطالب بتشريع هذا الحق فعلى جميع مؤسسات المجتمع المدني وعلى رأسها المجلس الأعلى للمرأة والاتحاد النسائي البحريني أن يرفعوا الصوت بمطالبتهم تغيير قانون الجنسية المعمول به منذ عام 1926.
ثالثا:
كما جاء التحفظ على المادة 15 الفقرة الرابعة من الاتفاقية والتي تنص على أن تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحق فيها يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم “لماذا هذا التحفظ على هذا البند؟” إذ هو في الواقع العملي غير معمول به في بلدنا كما يقوم التقرير الحكومي بتبريره فقط لان في أحكام الشريعة الإسلامية لا تسمح للمرأة التحرك والتنقل إلا بإذن من زوجها..
ألا يعني هذا أن هناك نية مبيتة لشرعنة هذه الأحكام وتطبيقها في المستقبل من قبل بعض التيارات الدينية المتشددة والمهيمنة حالياً على جميع المؤسسات الحكومية والأهلية والتي لا زالت تنظر للمرأة نظرة دونية وخاصة في ظل غياب قانون عصري للأحوال الشخصية؟.
رابعاً:
نأتي إلى الطامة الكبرى وهي المادة “16” والمتحفظ على جميع بنودها المعنية بقانون الأحوال الشخصية هذا المشروع المغيب بسبب المصالح السياسية لدى جميع الأطراف والضحية هي الحلقة الأضعف في المعادلات ألا وهي المرأة.. الكل يتشدق انه لا يمكن إصدار قانون للأحوال الشخصية إلا بتوافق مجتمعي.. ماذا يعني لنا هذا التوافق!! ما هو تقييمنا لهذا التوافق؟ من الذي يحدد آفاق هذا التوافق؟
المجتمع بكل أطيافه المستنيرة هو الذي يحدد هذا التوافق وليس فئة متحكمة في رقاب العباد تسيرهم حسب مصالحها الفئوية ونظراتها الدونية للمرأة.. هل جميع القوانين والتشريعات المطبقة راعت هذا التوافق المجتمعي لماذا هذا القانون بالذات والتشبث بالتوافق المجتمعي! إلى متى نبقى أسرى لهذا التوافق المعطل بسبب أهواء شخصية وطائفية وسياسية.
إن هذه التحفظات على اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ما هو إلا تكريس لهذا التمييز.. وليست هناك نية صادقة لإلغاء كافة التمييز الواقع على المرأة والأسرة..
أليست القوانين المدنية والاقتصادية المعمول بها في المملكة تأخذ مجرى القوانين الوضعية ما عدا القوانين التي تخص المرأة والتي لم يتم تغييرها بحجة عدم التوافق المجتمعي؟.
خلال رصدنا لتطور حقوق المرأة في العالم العربي والإسلامي، نؤكد إن مقاومة الإصلاح في أوساط القوى المتشددة دينياً لم تتغير منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا.. فهم يبدؤون برفض كل جديد باسم الدين والحفاظ على الهوية الثقافية والعادات والتقاليد، وعندما ترتفع أصوات الإصلاحيين مطالبة بالتغيير والإصلاح فالجواب جاهز لديهم بان هذه الأفكار والإصلاحات ما هي إلا دخيلة على مجتمعاتنا ويبدؤون بمحاربتها.. لكنه في النهاية يخضعون لمنطق التاريخ وحركته.. كما حدث بالنسبة لتعليم البنات. والسفور والاختلاط بين الجنسين وخروج المرأة للعمل.. كما دعوا لعدم تدوين قوانين الأحوال الشخصية.. لكن اغلب البلدان العربية لديها قوانين الأحوال الشخصية.. حيث تناضل الحركات النسائية والقوى الديمقراطية لسنّ هذا القانون.. وقد حاربوا تمكين المرأة في الحياة العامة والمشاركة السياسية. ولكن الآن يستخدمون المرأة مطية لهم كناخبة وليس كمرشحة للاستفادة من صوتها.
إن ما نريد الوصول إليه هو القول أن جميع تدوين القوانين ما هي إلا فعل سياسي.. وجميع الفتاوئ التي تصدر من بعض رجال الدين كذلك فعل سياسي.. ولهذا نعتبر أن تدوين الأحوال الشخصية يعتبر فعلا سياسيا تضطلع به الدولة باعتبارها سلطة دنيوية مما يدل على أن عملية وضع القوانين شأن بشري قابل للتغيير والإصلاح وفق المصلحة الإنسانية ومقتضيات التحولات المجتمعية، فإذا كان هناك إجماع أممي حول قيم المساواة في الحقوق والإقرار بمواطنة النساء كقيم مشتركة تتجلى في المواثيق الدولية فمسألة تضمينها في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية أصبح امرأ ضروريا. ولا يمكن تجاهلها أو إبعادها باسم الخصوصية المجتمعية أو بحجة كونها مستوردة من الغرب… بل إن أمر تقنين حقوق المرأة وحقوق الطفل وصون كرامة المرأة أصبح مواكبا لمسار الديمقراطية وتفرض نفسها عالميا.
الأيام 4 أكتوبر 2008
نبذ العنف في السياسة… سلاح الشجعان
يوم أمس (2 أكتوبر/ تشرين الأول) احتفلت الأمم المتحدة باليوم العالمي للاعنف (أيضا يسمى اليوم الدولي لنبذ العنف)، وهذا اليوم هو عيد ميلاد المهاتما غاندي، الذي ولد قبل 139 سنة، واستطاع أن يقود حركة سلمية وأن يحصل – مع رفاقه – على استقلال الهند في العام 1947.
العنف السياسي هو استخدام وسائل العنف لتحقيق أغراض سياسية، وهو يتشابك في الوقت ذاته مع الإرهاب. فالإرهاب هو استخدام العنف لأغراض سياسية ولكن الأهداف تكون عشوائية وضد المدنيين والعزَّل وضد الجامعات وأماكن العبادة والمؤسسات والمباني وكل شيء. والعنف السياسي دائماً يتجه نحو الإرهاب في نهاية الأمر لأنه يقود إلى النتيجة ذاتها التي نراها في الإرهاب. نعم، إن الدَّولة من حقها أن تحتكر وسائل واستخدامات العنف، ولكن الدولة الدكتاتورية أو الاستعمارية قد تبطش بالشَّعب الذي يطالب بحقوقه، في حين أن الهدف من احتكار الدولة للعنف هو الحفاظ على أمن المواطنين من دون استلاب حقوقهم، وحماية الوطن من الاعتداءات الخارجية. والنتيجة التي توصل إليها الكثيرون هي أن نيل الحقوق يمكن أن يتم بالوسائل السلمية، وأن العمل السلمي أكثر نفعاً للجميع من العنف الذي لا يتوقف عند حد، إذ إن من استخدموا العنف في عملهم السياسي قتلوا بعضهم بعضاً بعد أن حققوا أهدافهم.
إن عدم اللجوء إلى العنف بديل قابل للتطبيق لحل معظم المشكلات التي يواجهها عالمنا اليوم، وقد قال غاندي: « إن اللاعنف في السياسة هو سلاح جديد في عملية التطور »، وعدم اللجوء إلى العنف فلسفة يجب أن تطول الجميع.
فالدَّولة التي من حقها أن تحتكر وسائل العنف يجب ألا تستخدمه بهدف سلب حقوق شعبها، والناشطون السياسيون يجب أن يحرِّموا استخدام العنف إذا كانوا يودون البقاء في ساحة العمل السياسي وليس في ساحات السجون والمحاكم بتهم جنائية بحتة. كما أن الأمن والاستقرار يجب أن يكون من أولويات المعارضة التي يهمها أن يأمن شعبها وينمو اقتصاد بلدها.
نعم إن لدينا في البحرين مشكلات سياسية كثيرة، ولكن يمكننا أن نعمل سلميّاً من أجل تحقيق بيئة سياسية – اقتصادية تقوم على أساس المساواة بين المواطنين والعدالة الاجتماعية. إن الفضاء المحلي مفتوح للعمل السياسي السلمي، وكذلك الفضاء الدَّولي مفتوح للنشاط الحقوقي إذا لم يتمكن المرء من النَّشاط داخل بلاده. وقد يكون غاندي مثاليّاً عندما قال: «إن الجبان يتخذ العنف وسيلة لتحقيق ما يناله، أما نبذ العنف فإنه يتطلب الكثير من الشجاعة»… ولكن مثاليته هي بالضبط ما نحتاج إليه في عالمنا اليوم.
الوسط 3 أكتوبر 2008
مدركات الفساد…!!
في فئة من 180 دولة منها 18دولة عربية وضعت منظمة الشفافية الدولية مملكة البحرين في المرتبة 43 عالمياً والرابعة إقليميا بعد قطر ودولة الإمارات وسلطنة عُمان في مؤشر مدركات الفساد لعام 2008.
ما هو مهم في مؤشر هذا العام أن البحرين تقدمت تقدماً طفيفاً مقارنة مع مؤشر عام 2007 حيث كان ترتيب البحرين في ذلك العام 46 عالمياً، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التقدم يشكل خطوة ايجابية من دون ريب.
وما هو مهم ثانياً في هذا المؤشر انه يقيّم ويرتب الدول طبقاً لدرجة وجود الفساد بين المسئولين والسياسيين في هذه الدول، وهو مؤشر مركب يعتمد على بيانات ذات صلة بالفساد تمّ جمعها عن طريق استقصاءات متخصصة قامت بها ١١ مؤسسة مختلفة ومستقلة وحسنة السمعة بالإضافة إلى رأي أصحاب الأعمال ومحللين واقتصاديين محليين ومن دول أخرى.
وما هو مهم ثالثاً أن الاستقصاءات التي أجريت شملت محاور عدة أبرزها مدى قدرة الحكومة على معاقبة المخالفين، وسوء استغلال المسؤول الحكومي للسلطة لتحقيق منافع أو مصالح خاصة، واحتمالية ضلوع المسئولين بالفساد بدءًا من الرشاوى الصغيرة للبيروقراطيين إلى الرشاوى الكبيرة للسياسيين، والفساد وتضارب المصالح، وإساءة استخدام الموارد العامة للمصالح الخاصة، والفساد من رشوة وزراء في الحكومات إلى حوافز أو إغراءات تدفع فيما يخص الصادرات والواردات، والخدمات العامة، والتعاقدات الحكومية، والأحكام القضائية، ومدى عجز الحكومات وجديتها في محاصرة الفساد إلى جانب ما يخص تطبيق القانون وفرض سيادته وحاكميته. وما إذا كان يطبق على الجميع من دون استثناء أم لا. بالإضافة إلى ما يتعلق باستثمار النفوذ، واستثمار المعلومات للتطاول على المال العام.
ذلك يعني بشكل عام أن منظمة الشفافية الدولية تثير من خلال مؤشر مدركات الفساد قضايا جوهرية لا يمكن تجاهل أهميتها بالنسبة لنا ولغيرنا من الدول حول موضوع الفساد الذي اعتبرته المنظمة كارثة إنسانية فتاكة لا يجوز السماح بها أو غض النظر عنها.
يعني ذلك بشكل خاص بالنسبة للبحرين أنه رغم التقدم الطفيف الذي أحرزته في مؤشر هذا العام والذي يعزي بشكل أساسي إلى التحسن المحرز على صعيد شفافية المناقصات الحكومية في خطوة ايجابية من دون شك إلا أن الضرورة والمصلحة يقتضيان أن يتحمل المعنيون مسؤولياتهم بمنتهى الجدية للبدء وعلى عجل بالأمر وبالإكراه أحياناً في مواجهة الفساد وتبني منهج يعزز جهود المواجهة من بين أهم مبادئه إرساء ثقافة تعني بالمساءلة والمحاسبة في الدولة والمجتمع. ولعل الإستراتيجية الوطنية السداسية للمملكة (2009 – 2014) التي أعدها مجلس التنمية الاقتصادية والحكومة والتي كشف النقاب قبل أيام عن ملامحها والتي وضعت تعزيز جهود الحكومة لمكافحة الفساد على مدى السنوات القادمة كأولوية، مقروناً بمشروع إنشاء فريق خاص متنقل ومتفرغ في ديوان الرقابة المالية للنظر في دعاوى الفساد والمحاباة لضمان إعطاء هذه المهمة الأولوية المطلقة، وبالإشارة بأن الفريق كما جاء في الإستراتيجية سوف يشكل الوجه الرسمي لمكافحة الفساد في البحرين، ونقطة الاتصال الأولى للإبلاغ عن الحالات وتقديم الشكاوى للتحقيق فيها، وان هذا الفريق سوف يتأكد في دلالة لافتة من ملاحقة أي شخص يرتكب مخالفة فساد مهما كان مستوى ذلك الشخص ومنصبه، مع العمل على تعزيز الشفافية والمساءلة في تقديم الخدمات الحكومية، وإشراك الجمهور بالتدابير المتخذة لمكافحة الفساد. لعل ذلك هو البداية السليمة المطلوبة التي انتظرناها من زمن طويل، ولكن تبقى العبرة في التطبيق والنتيجة.
صحيح أن مكافحة الفساد غدت قضية عصية وشديدة التعقيد، خاصة بعد أن بلغ الفساد حالاً لم يعد فيه الفاسد مداناً في أوساط المجتمع، بل بات بعضهم لا يطالهم نقد او إدانة حتى لا نقول محاسبة، وهي الحالة التي وصفها د. سليم الحص رئيس المنظمة العربية لمكافحة الفساد حينما قال بأنه لن تقوم لأمة قائمة مادام المذنب فيها لا يحاسب على ذنبه، والمجرم لا يعاقب على جرمه، فكيف يتسلق فيه المرتكب فوق كل ارتكاباته، لا بل فوق جثث ضحاياه إلى أعلى المراكز وابرز المواقع.
والصحيح أيضاً أننا نحتاج إلى مزيد من الجهود الحقيقية في مجال محاربة الفساد بما ينعكس بالنهاية على رأي المواطن وصاحب العمل والمستثمر الخارجي والمحلل الاقتصادي وكل من تستطلع رأيه منظمة الشفافية الدولية سواء في مؤشرها حول مدركات الفساد أو في تقريرها العالمي الشامل عن الفساد، أو في مؤشرها السنوي حول الرشوة.
ذلك الهدف يقتضي أن لا يقتصر الجانب المضيء فيما يخص الشفافية على المناقصات الحكومية، بل ويجب أن تكون الشفافية في كل مجالات ومواقع وقطاعات العمل العام، فشفافية أعمال أي دولة أصبحت اليوم ركيزة من ركائز الدولة الحديثة، فحينما تخضع الدولة كل مؤسساتها وأجهزتها وأنشطتها تحت سمع ونظر جميع من يعنيهم بشؤونها فهي تترجم إيمانها بأنه لم يعد هناك شيء من شؤون الشأن العام والمال العام يدار في الخفاء أو يقع في دائرة الشك والريبة.
أيضا يقتضي تحقيق المزيد من التقدم في مؤشر مدركات الفساد متطلبات عديدة من بينها المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد التي وقعت عليها البحرين في فبراير 2005، والى جانب ذلك انجاز عدد من مشاريع القوانين ومنها قانون مكافحة الفساد، وقوانين تتصل بحق الاطلاع على المعلومات، وتعارض المصالح وكشف الذمة المالية وحماية المبلغين عن قضايا الفساد وتسريع تعزيز الإصلاحات وإنشاء ديوان للرقابة الإدارية وتعزيز صلاحيات ديوان الرقابة المالية وتفعيل الدور الرقابي الحقيقي والمسؤول للمجلس النيابي، وتلك التي تعيق تقدم جهد حقيقي ملموس في مجال محاربة الفساد من قبل المجتمع المدني وقواه الفاعلة.
ذلك ممكن وضروري ومطلوب وصعب، لكنه ممكن، ولكي يصبح ممكناً علينا أن ننطلق من اقتناع بأن واقعنا الراهن ينبغي ان يتعامل مع الفساد كونه من اخطر واكبر التحديات التي تواجهنا، وتواجه المصلحة الوطنية وتمس حقوق المواطن الأساسية.
ثم وحتى يكون ممكناً علينا أن نؤمن بضرورة هذا الممكن، وندرك متطلباته، وان نلتزم التزاماً صادقاً بموجباته، وان نعي بأنه لم يعد بمقدورنا أن نغمض أعيننا عن الفاسد، أو أن نراهن على إمكانية تأجيل وترحيل إرادة مواجهة الفساد. وهذه مهمة جوهرية ينبغي أن تسبق كل المهام الأخرى لأنها تمس الحياة المعيشية للناس وتضرب طموحاتهم المشروعة في الصميم.
الأيام 3 أكتوبر 2008